الخميس، 20 يونيو 2013

التحيز في العمل الأدبي: الفشل على طريق معبد بالنوايا الطيبة



التحيز في العمل الأدبي: الفشل على طريق معبد بالنوايا الطيبة
د/ صلاح حزين
جرت العادة على أن يستخدم المفكرون والكتاب والمثقفون عموما مصطلحي "التحيز" و"الانحياز" بمعنى واحد تقريبا هو التأييد والموافقة في الرأي والموقف. وهذا هو المعنى الذي تعطيه المعاجم العربية على أي حال. 
ولكنني أنطلق من فكرة أومن بها ترى أنه لا توجد كلمتان في لغة واحدة تعنيان الشيء نفسه مئة في المئة. وعليه فقد سمحت لنفسي أن أفرق بين مصطلحي "الانحياز" و"التحيز" اللذين يشتركان في الجذر اللغوي نفسه، منحيا المعنى اللغوي جانبا ومركزا على المعنى الاصطلاحي للكلمتين.
انطلاقا من هذا الفهم فإن الانحياز هو الاصطفاف التام مع طرف دون الطرف الآخر في نزاع ما، وبهذا المعنى فإن الانحياز يختلف عن التأييد الذي يعني الدعم المنطلق من موقع محايد، كما يختلف عن التحيز الذي يعني الدعم ولكنه دعم ينطلق من موقع المتضامن وليس من موقع المحايد أو موقع المنحاز.
التحيز إذن هو التضامن مع هذا الطرف أو ذاك من طرفي الصراع، وهو تضامن نابع من وشائج وعلاقات وارتباطات مشتركة بينه وبين الطرف الذي يتحيز له. والمتحيز، ينطلق في تحيزه من المربع الذي يقف هو، أي المتحيز، فيه، من دون الانتقال للاصطفاف إلى المربع الذي يقف عليه من يتحيز له. أما المنحاز فهو ينطلق في انحيازه من الأرضية نفسها التي يقف عليها الطرف الذي ينحاز إليه، ومن على هذه الأرضية نفسها ينطلق في دعمه وتضامنه. وقد يصل الانحياز إلى طرف ما حد القتال مع هذا الطرف انطلاقا من خندقه. بهذا المعنى فإن المنحاز غير مطالب بأن يبرر أسباب انحيازه فهو يقف هناك على الأرضية نفسها، أما المتحيز فهو يتضامن مع أحد طرفي النزاع أو الصراع من موقعه الخاص وفي سياق شروط وظروف خاصة به، وربما لو انتفت الظروف التي تقف وراء تحيزه لانتهى هذا التحيز وتغير الموقف بدرجات تقل أو تكثر بحسب تغير الشروط والظروف.
التحيز بهذا المعنى أقل درجة من الانحياز، ولكنه لا يقل عنه أهمية من حيث قوة الموقف، حيث أن المتحيز بوقوفه في موقع بعيد عن موقع الطرف الذي يتحيز له يبدو وكأنه يتخذ موقفا قائما على أساس موضوعي. ويساهم في هذا اللبس أن التحيز هنا ناتج عن تحليل لشروط الموقف وظروفه، وهو ما قد يضلل المراقب في كثير من الأحيان. كما أنه قد يعطي الموقف المتحيز قوة مضاعفة ربما تكون في كثير من الأحيان أكبر من حجمها الحقيقي. وفي ظروف خاصة وضمن شروط استثنائية قد يكون الموقف المتحيز أشد قوة وأكثر فاعلية من الموقف المنحاز، وفي بعض الأحيان قد يكون أقوى من موقف الطرف المعني بالصراع مياشرة.
انطلاقا من هذا الفهم لفكرة التحيز، تحاول هذه الورقة أن تدرس عددا من الأعمال الأدبية، وهي أعمال روائية أساسا، تناولت الصراع العربي الإسرائيلي كتبت في مراحل مختلفة وتعاملت مع الصراع على مستويات مختلفة من وجهة نظر متحيزة لهذا الطرف أو ذاك؛ للعرب أو الفلسطينيين من جانب وللإسرائيليين من جانب آخر، وأي أثر أحدثه التحيز في العمل الأدبي على المستوى الفني وعلى المستويات الأخرى ذات العلاقة بما في ذلك المستويات السياسية والفكرية والأيديولوجية التي يتضمنها العمل الأدبي بدرجة أو أخرى.
لقد كان فهمي السابق ذكره للتحيز هو الذي جعلني أقصر بحثي على درس أعمال أدبية كتبها روائيون أوربيون متحيزون لهذا الطرف أو ذاك فيما يتعلق بالصراع العربي الإسرائيلي، ولم أحاول درس أي عمل أدبي عربي يتناول هذا الصراع لأن الكاتب العربي ينطلق بالضرورة في كتابته الإبداعية من موقع "منحاز" للجانب الفلسطيني، فكلاهما يشتركان في أرضية الصراع نفسها التي يقفان عليها، كما أنهما يشتركان في اعتماد الرواية نفسها الخاصة بجذر الصراع العربي الإسرائيلي وتلك الخاصة بتطوراته اللاحقة. وعليه فحين يتعلق الأمر بالصراع العربي الإسرائيلي فإن الكاتب العربي يكون "منحازا" وليس "متحيزا" بالمعنى المشار إليه سابقا، ولا ينفي ذلك أن بعض الأعمال الأدبية الروائية والقصصية التي كتبت بأقلام كتاب عرب تناولوا الصراع العربي الإسرائيلي أو العربي الصهيوني، أهملت أبعادا جوهرية في ذلك الصرع، أو أنها وقعت في أخطاء أساسية فيما يتعلق بهذا الصراع. إن موقف الكاتب العربي "المنحاز" وليس "المتحيز" جعل الروايات العربية التي تتناول الصراع العربي الإسرائيلي خارج إطار هذه الورقة، لذا فإنني لم أتطرق إليه إلا بمقدار ماتستدعيه هذه الدراسة وبمقدار ما يغنيها ويثريها.
على مستوى ما من التبسيط، يمكن اعتبار الصراع العربي الإسرائيلي الذي بلغ إحدى ذرواته مع أقامة دولة إسرائيل على الجزء الأكبر من الأرض الفلسطينية عام 1948، صراعا بين الحركة الصهيونية وبين القومية العربية، وهو صراع يتداخل فيه ما هو أيديولوجي يتمثل في الصراع الفكري بين الحركة الصهيونية وبين القومية العربية، بما هو سياسي بين الدول العربية وإسرائيل، فهذا الصراع ذو البعد الأيديولوجي لا يدور في فراغ، بل يتمحور حول قطعة محددة من الأرض العربية هي الأرض الفلسطينية التي تمثل بؤرة الصراع المركزية وجوهره والجزء المادي الملموس منه. ولأن هذه البقعة الصغيرة من الأرض تضم مواقع ومدنا مقدسة لكل من المسلمين واليهود والمسيحيين وخاصة مدينة القدس، فقد كان طبيعيا أن يكون للصراع بعد ديني. وقد بدأ هذا البعد يكتسب قوة أكبر باكتساب التيار الديني زخما ملحوظا في الشارع السياسي الفلسطيني والعربي والإسلامي منذ مطالع الثمانينات من القرن الماضي. وقد جاء تحقيق حركة المقاومة الإسلامية (حماس) في فلسطين فوزا كاسحا في الانتخابات التشريعية التي جرت في مطلع العام 2006 وتشكيلها حكومة فلسطينية تطورا مفصليا في تاريخ الشعب الفلسطيني الذي بدل قيادته مع فوز حماس وتشكيلها الحكومة الفلسطينية من قيادة علمانية براغماتية تقبل بدولة فلسطينية في حدود العام 1967 ولا تمانع في الجمع بين أشكال متنوعة من النضال في طليعتها العمل المسلح والمفاوضات السلمية، إلى حركة لا تفتقر إلى البراغماتية. وهي حركة ترفع شعار تحرير فلسطين من البحر إلى النهر من خلال ما تسميه "المقاومة" وهو تعبير غامض في أحسن الأحوال، ولكن أهم ما جاءت به حماس هو تلك "الديباجات" الإسلامية بتعبير الدكتور عبد الوهاب المسيري، والتي ترى في إحداها أن "أرض فلسطين وقف إسلامي لا يحق لأحد التنازل عنها".
كما اتخذ الصراع بعدا إنسانيا، واضحا ناجما عن عدالة القضية الفلسطينية، وعن مدى الظلم الذي وقع على الجانب الفلسطيني الذي شرد الجزء الأعظم منه في المنافي القريبة والبعيدة وحرم من أبسط حقوقه في العيش على أرضه وإقامة دولة خاصة به، وتعرض إلى حد إنكار حقيقة وجوده (الفلسطينيون؟ لا يوجد شعب بهذا الاسم) مثلما قالت رئيسة وزراء إسرائيل غولدا مائير في مقابلة صحفية مع صحيفة بريطانية في العام 1969.
في هذا الإطار الإنساني كتبت الروائية البريطانية من أصل إيرلندي إثيل مانين روايتها "الطريق إلى بئر السبع" (1963) متحيزة للفلسطينيين، وكتبت مريم كوك الروائية والناقدة الأميركية رواية "حياتي" (2000) متحيزة للطرف نفسه.
وهنا لابد من الإشارة إلى ما يمكن تسميته البعد الإنساني الزائف الذي يركز على عذابات اليهود وعلى كون المحرقة هي ذروة الألم الإنساني، لتترتب على ذلك فكرة باطلة عن أحقية اليهود في أن تكون لهم دولة في فلسطين، وهو منطق يتبدى زيفه في حقيقة اقتصاره على رؤية جانب واحد من جوانب الألم الإنساني هو الجانب اليهودي والعمى عن رؤية الجانب الآخر وهو الجانب الفلسطيني الذي دفع ثمن جريمة لم يقترفها فهي حدثت في بلدان أخرى وفي قارة بعيدة هي أوروبا التي كانت مهدا لاضطهاد اليهود تاريخيا مثلما كنت مهدا للحركة الصهيونية التي سعت إلى إقامة دولة في فلسطين في الوقت نفسه.
وربما كان مفارقا أن يكون ما كتب في إطار هذا التيار الإنساني الزائف من أعمال روائية هو الغالب على الكتابات الأوروبية التي تناولت القضية الفلسطينية بوصفها لب الصراع العربي الإسرائيلي، وذلك انطلاقا من فكرة ترى أن اليهود بمن هم ضحايا المحرقة النازية هم مثال للمعاناة التي حاولوا إنهاءها بإقامة دولة لهم على الأرض الفلسطينية فتصدى لهم العرب محاولين منعهم من إقامة الدولة، وهو ما يعني وفق هذا المنطق المساهمة في استمرار معاناة اليهود الذين خرجوا من الحرب العالمية الثانية بوصفهم الضحية الأكبر والأكثر عذابا. ومن أبرز الأعمال الأدبية التي كتبت في هذا السياق رواية "الخروج" السابق ذكرها للروائي ليون أوريس (1924-2003) الذي أتبع روايته هذه روايات أخرى حول الصراع العربي الإسرائيلي مثل "الحاج" (1984) التي تتحدث عن العرب الفلسطينيين في إسرائيل في مرحلة ما بعد إقامة دولة إسرائيل عام 1948 من وجهة نظر عنصرية، ورواية "ممر متلا" (1988) التي كتبها مستعيدا تجربته مراسلا حربيا مع الجيش الإسرائيلي في أثناء العدوان الثلاثي على مصر عام 1956.
وهناك رواية "الينبوع" للروائي الأميركي جيمس ميشنر (1965) التي يتحدث عبر صفحاتها التي زادت على الألف عن عالم آثار أميركي يقوم برحلة إلى إسرائيل للتنقيب عن الآثار هناك، وتتحول رحلة التنقيب عن الآثار، والتي يقوم بها بمساعدة شاب عربي يعيش في إسرائيل، إلى رحلة في تاريخ الأراضي المقدسة كما يشير إلى أرض فلسطين التاريخية.
وهناك رواية القرصان (1974) للروائي الأميركي هارولد روبنز والتي تتحدث عن يهودي في إسرائيل يضطر إلى إعطاء ابنه لعربي، فيشب هذا اليهودي باعتباره عربيا ويصبح أحد زعماء المجتمع العربي في إسرائيل، ولكنه يبقي على علاقات جيدة مع اليهود حتى إنه يرفض تمويل عملية "إرهابية" ضد اليهود، ولكن ابنته تنضم إلى "الإرهابيين" العرب قبل أن ينقذها هو وأبوه الذي يخبره بحقيقة أنه يهودي، وذلك ضمن سلسلة أحداث مفتعلة على طريقة أفلام هوليوود التي عاش فيها المؤلف وكتب عنها ولها وتحول فيها عدد كبير من أعماله التي ناهزت العشرين رواية إلى أفلام ناجحة بمقياس شباك التذاكر وارتفاع الإيرادات.
ومن نافل القول إن هذه الروايات جميعا متحيزة للجانب الإسرائيلي وتكتب انطلاقا من إيمانها بالرواية الإسرائيلية الرسمية فيما يتعلق بجذر القضية الفلسطينية ومجريات الصراع العربي الإسرائيلي اللاحقة. ولكن ما يهمنا هنا هو أن هذه الروايات، وهي نماذج من عدد أكبر من الروايات التي تتناول الصراع العربي الإسرائيلي والتي كتبت بأقلام كتاب أوروبيين أو أميركيين، تنتمي إلى ذلك النوع من الروايات التي تندرج عادة تحت مسمى "الروايات الأكثر مبيعا" وذلك لكثرة ما تحقق من مبيعات وما تدره على المؤلف من إيرادات، ولكنه برغم النجاح الجماهيري الذي تحقه فإن هذا النوع من الأعمال الأدبية لا يحظى في العادة بتقدير النقاد الجادين، وذلك وانتشاره وتأثيره الكبير على القراء الذي يقبلون عادة على كتب من هذا النوع لما فيها من إثارة وتشويق حتى لو كان ثمن هذه الإثارة وذلك التشويق هو تشويه الحقائق واختراع حقائق جديدة أوخلق حقائق مناقضة لحقائق التاريخ. وكان هذا هو السبب الذي دعاني إلى إهمال أعمال من هذا النوع على رغم أنها كتبت من وجهة نظر متحيزة، بل إنها تعد أمثلة نموذجية على التحيز في أجلى صوره، فهي في النهاية روايات ربما لقيت رواجا تجاريا كبيرا ولكنها لا تمتلك الكثير من مقومات الأعمال الأدبية الجادة.
في العام 1983 أصدر الروائي الإنجليزي جون لو كاريه روايته "عازفة الطبلة الصغيرة" التي حاول فيه أن يرسم صورة موضوعية لكفاح الفلسطينيين ضد إسرائيل في المرحلة التي سبقت اجتياح إسرائيل لجنوب لبنان عام 1982 فقدم رواية لم يقبلها الفلسطينيون وهاجمها الإسرائيليون. ولكنني لم أدرجها في هذه الورقة، ليس لأنها حاولت أن تكون "متوازنة" في رؤيتها للصراع العربي الإسرائيلي بل لأنها هي أيضا تنتمي إلى نوع الرواية البوليسية الذي يحقق مبيعات كبيرة ومردودات مالية عالية ولكنه لا يحسب في عداد الأدب الجاد.
على المستوى الأيديولوجي، اتخذ الصراع العربي الصهيوني بعدا آخر من خلال ارتباط الحركة القومية العربية بالفكر التقدمي عموما، وهو فكر يحمل نزوعا نحو الاشتراكية، وهذا ما ربطه بالفكر الاشتراكي والتقدمي وبالتيارات التقدمية والاشتراكية التي كان لها نفوذ كبير في أنحاء العالم كافة في فترة صعود الفكر القومي في الخمسينات والستينات. وعلى المستوى السياسي ترجم هذا النزوع إلى ارتباط بدأ في أواسط الخمسينات بين قيادة الزعيم الراحل جمال عبد الناصر المصرية وبين المعسكر الاشتراكي آنذاك، وهي علاقة امتدت لتشمل بلدانا عربية أخرى مثل سوريا والعراق والسودان والجزائر وليبيا واليمن والتي يجمع بينها أنها اختارت خط القومية العربية ذات البعد الاشتراكي منهجا للبناء الاقتصادي المستقل في مراحل معينة على الأقل. وقد استمرت هذه العلاقة حتى سقوط المعسكر الاشتراكي وفشل أول تجربة في التاريخ لإقامة نظام اشتراكي في بلد أو بقعة من العالم.
وفي صورة أو أخرى فإن الصراع العربي الصهيوني دخل نطاق الحرب الباردة التي كانت قائمة بين المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي، وذلك على رغم أن معظم البلدان العربية كانت أعضاء في حركة "عدم الانحياز" وهو ما يعني بحسب المفهوم الذي قدمناه للانحياز أنها لا تقف على الأرضية نفسها التي تقف عليها البلدان الاشتراكية، ولكنها تتضامن معها من موقعها.
في هذا السياق يمكن إدراج رواية السوفياتي يوري كولسنيكوف "أرض الميعاد" (1979) بوصفها نموذجا لهذا النوع من الروايات "الأيديولوجية" التي يرتفع فيها صوت الأيديولوجيا على ما عداه من أصوات.
وعلى أي حال فربما كان من المهم القول إن أكثر من بعد من الأبعاد المتعددة للقضية الفلسطينية كثيرا ما كان موجودا في عمل أدبي واحد، ويعود ذلك إلى تداخل الأبعاد المشار إليها، فالبعد الإنساني بمعنى ما عادة ما يكون مضمنا في البعد الأيديولوجي تتساوى في ذلك الأيديولوجيا القومية والاشتراكية والدينية، حيث أن الأيديولوجيا تقدم نفسها بوصفها السبيل إلى خدمة الإنسان وإسعاد البشر، ولا يستثنى من ذلك ما أسميته البعد الإنساني الزائف الذي ينطلق من أن الإنسان بغض النظر عن لونه ودينه وعرقه هو الهدف الأسمى في الحياة.
وعلى رغم كل هذه الأبعاد، وعلى الرغم من تفاوت تأثيرها على مجرى الصراع فإن جوهر الصراع كان دائما الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وهذا الصراع تحديدا هو الذي استقطب كتابا وأدباء عالميين ليكتبوا عنه، فتناوله عدد كبير من الكتاب العرب الذين تداخلت قضاياهم الوطنية مع القضية الفلسطينية بوصفها "قضية العرب الأولى" كما كان التيار القومي يردد في الخمسينات والستينات والسبعينات. وقد كتبت روايات عديدة تتناول القضية الفلسطينية من خلال ارتباطها بالقضايا الوطنية في كل من سوريا ولبنان ومصر والأردن في صورة خاصة، وقد استثنيت من ورقتي هذه الروايات التي كتبت في هذا الإطار حيث تحضر القضية الفلسطينية بمقدار ما تؤثر على مجرى الحياة الاجتماعية أو السياسية في تلك البلدان العربية. ويمكننا أن نورد أسماء روايات عديدة كتبت في هذا السياق. ولكن هناك روايات كتبت عن القضية الفلسطينية تحديدا حيث الشخصيات فلسطينية والأحداث فلسطينية والإطار الاجتماعي فلسطيني والتاريخ فلسطيني. وربما كانت أول رواية كتبت في هذا السياق رواية "لاجئة" التي نشرها اللبناني جورج حنا عام 1952 وهي رواية على درجة كبيرة من السذاجة شأنها في ذلك شأن عدد كبير من الروايات العربية التي تناولت القضية الفلسطينية في الحقبة التي تفصل بين العام 1948، وهو عام النكبة الفلسطينية، و بين العام 1967 وهو عام النكسة العربية.
ولكن الأمر تغير كثيرا بعد العام 1967 حيث مثلت الهزيمة التي أسفرت عن احتلال أراض لدولتين عربيتين فضلا عن كل فلسطين ذروة التحدي للمشروع القومي العربي الذي كان يقوده جمال عبد الناصر، وذروة ارتباط القضية الفلسطينية بالقضايا الوطنية في البلدان العربية المختلفة، ولكن القضية الفلسطينية امتلكت خصوصية أكبر بالنسبة للبلدان العربية المحيطة بفلسطين والتي وجدت نفسها هدفا لعدوان إسرائيل المباشر، فصدرت أعمال ذات سوية عالية مثل رواية السوري أديب نحوي "عرس فلسطيني" ورواية "قارب الزمن الثقيل" لعبد النبي حجازي، وهو كاتب سوري آخر. ولكن رواية القضية الفلسطينية وصلت درجة عالية من النضج الفني في العقود المقبلة بصدور روايات مثل "أحمد وداود" التي صدرت عام 1989 للروائي الراحل فتحي غانم ورواية "باب الشمس" للروائي اللبناني "إلياس خوري" التي صدرت عن دار الآداب البيروتية عام 2001. وكما ذكرت سابقا فإن هذه الورقة تستثني الأعمال التي تتناول القضية الفلسطينية والتي كتبت بأقلام عربية لأنها "منحازة" مسبقا فالقضية الفلسطينية هي قضية هؤلاء الكتاب لكونها قضية قومية عربية أساسا ولتأثيرها الأكيد على القضايا الوطنية في البلدان العربية المجاورة لفلسطين في صورة خاصة.
ولكنني في هذا المجال لا بد أن أشير إلى بعض الأعمال الروائية التي كتبها روائيون وقاصون عرب وفلسطينيون تتبنى وجهة نظر مختلفة عن وجهة النظر السياسية والأيديولوجية التي كتبت فيها معظم روايات القضية الفلسطينية التي ترى في إسرائيل عدوا يهدد الوجود العربي فيبحث عن حلول للتصدي لهذا الخطر الوجودي الذي تمثله إسرائيل على البلدان العربية والذي تمثله الصهيونية على القومية العربية.
الروايات التي أشير إليها هنا لا تنظر إلى إسرائيل بوصفها عدوا بل بوصفها جارا قد يكون محايدا وقد يكون عدوانيا، ولكنه في النهاية جار وليس عدوا دائما يدور بينك وبينه "صراع وجود لا صراع حدود"، بحسب التعبير الأثير لأنصار التيار القومي العربي، وكذلك التيار الإسلامي، فهو لا يمثل خطرا وجوديا داهما تتطلب هزيمته حرب وجود. وقد بدأ صدور هذه الروايات في صورة خاصة بعد توقيع اتفاقيتي سلام كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل ووادي عربة بين إسرائيل والأردن. وغني عن القول أن روائيين فلسطينيين كانوا قد كتبوا عن إسرائيل من وجهة نظر مشابهة كما أن بعضهم كتب أعمالا باللغة العبرية، ولكن القضية هنا أكثر تعقيدا مما هي عليه بالنسبة للكتاب العرب، وهو ما يستحق دراسة مستقلة.
ونحن نتحدث عن أبعاد عديدة للصراع العربي الإسرائيلي نود أن نلفت النظر إلى أن البعد الإسلامي للصراع الذي تناولناه فيما سبق لم يتجسد على المستوى الأدبي إلى أعمال روائية وقصصية ذات مستوى مقبول ربما باستثناء رواية "الكابوس" التي كتبها الفلسطيني أمين شنار عقب هزيمة 1967. ولكن من الصعب العثور على رواية بمستواها في هذا المجال، ربما لأن التيار الإسلامي لم يقدم مبدعين ذوي شأن مثلما كان الأمر بالنسبة للتيارات الفكرية والأيديولوجية والسياسية الأخرى.
ولكن الأمر يختلف تماما حين ننظر إلى البعدين الأيديولوجي والإنساني، فقد أنجز في إطارهما عدد كبير من الأعمال الأدبية التي تتناول القضية الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلي في بؤرته الفلسطينية الإسرائيلية، وهي أعمال متحيزة إما للطرف العربي الفلسطيني أو للإسرائيلي. وقد كتب بعضها في إطار البعد الإنساني فيما كتب بعضها الآخر في إطار البعد الأيديولوجي،
ولكننا يمكن أن نجادل بالقول إن كل منطلق، مهما بدا محايدا ومهما بدا مجردا هو في النهاية أيديولوجي بما في ذلك الأفكار والفلسفات والمواقف التي تنسب نفسها إلى الصفة الإنسانية.
وعلى رغم أن البعد الأيديولوجي هو الغالب على تلك الأعمال فإن كثيرا منها يتدثر بالبعد لإنساني ليضفي عليها مسحة إنسانية يفترض أن البعد الأيديولوجي يتضمنها حينا أو ليضفي على العمل الأدبي مسحة موضوعية أو محايدة إبعادا لشبهة الموقف المسبق الذي يشير إليه التحيز البادي في العمل الروائي في أحيان أخرى.

تهدف هذه الورقة، ضمن ما تهدف إليه، إلى إبراز تلك المفارقة الناشئة عن أن التحيز الذي قد يكون مفيدا في مجالات السياسة والفكر والدبلوماسية وغير ذلك من جوانب الصراع العربي الإسرائيلي، يتحول إلى عامل سلبي حين يتعلق الأمر بالمجال الأبداعي، وأن هذا التحيز كثيرا ما يضعف العمل الأدبي الذي كتب أساسا من موقع التضامن معه، وينزل بالمستوى الفني لهذا العمل، أساسا بسبب التحيز.
ولا ينفي ذلك وجود تقييمات إيجابية للعمل الأدبي على مستويات أخرى ووفقا لمعيير أخرى؛ سياسية أو أيديولوجية مثلا، كما لاينفي أن بعض الاعمال المتحيزة التي تفتقد مستوى أدبيا رفيعا قد حققت نجاحات كبيرة على مستويات أخرى: المستوى التجاري لرواية اعتبرت الأكثر مبيعا، وهو مقياس مهم على المستوى التجاري كما هو الحال مع رواية "الخروج" التي كتبها عام 1958 الروائي الأميركي ليون أوريس والتي لقيت رواجا كبيرا لم تشهده رواية أميركية منذ رواية "ذهب مع الريح"، ثم تحولت بعد ذلك إلى فيلم لقي رواجا مماثلا حين أخرجه المخرج الأميركي الألماني الأصل أوتو بريمنجر عام 1960، أو لمسرحية لقيت رواجا جماهيريا واسعا، أو لفلم أو عمل أدبي تحول إلى عمل سينمائي كما هو الحال مع فيلم "الخروج" المشار إليه سابقا أو أفلام سينمائية عديدة لقيت نجاحا جماهيريا كبيرا من دون أن يكون لها نصيب كبير من النضج الفني المقبول.
إن هذا يعني أن ما أخرج هذه الأعمال من الدراسة ليس حقيقة أنها أعمال "متحيزة" مهما كانت درجة التحيز، بل لأنها تفتقد الشروط الفنية التي تجعلها جديرة بأن توضع إلى جانب أعمال روائية متحيزة قد تكون فيها كثير من العيوب، ولكنها في النهاية تمتلك مقومات الأعمال الأدبية حتى لوكانت تلك المقومات في حدها الأدنى. ولا ينفي ذلك أن تكون هناك أخطاء تاريخية وجغرافية ومعرفية وأخطاء في أسماء الأماكن والشخصيات وفي المكونات الموضوعية التي أسهمت في بناء هذه الشخصيات، وأخطاء في تصوير طبيعة العلاقات الاجتماعية في قطاع اجتماعي معين وفي سمات المجتمعات المحلية التي يتناولها العمل الروائي وربما في العلاقات بين الدول في منطقة جغرافية واحدة.
وفي الواقع فإن مثل هذه الأخطاء يمثل سمة عامة في الروايات التي تناولتها هذه الدراسة. وأود أن أذكر هنا أن مثل هذه الأخطاء موجود أيضا في الروايات العربية التي تتناول الصراع العربي الإسرائيلي أو القضية الفلسطينية التي أدرجناها في خانة الأعمال "المنحازة"، وهي أخطاء كثيرا ما تبرز حين يتعلق الأمر بالحديث عن المجتمع الإسرائيلي، أو المجتمع الاستيطاني في فلسطين قبل إقامة الدولة الصهيونية، وقد وقع في مثل هذه الأخطاء كاتب بحجم الراحل فتحي غانم في روايته "أحمد وداود".
المشكلة في مثل هذه الأخطاء هي أنها تؤثر سلبا على مسار الرواية وتبدد السمات النفسية والداخلية للشخصيات، كما أنها تؤثر على العلاقات بين شخوص الرواية وتحرف المسار الذي تتخذه حيوات هذه الشخوص وعلاقاتها ببعضها بعضا وتؤثر أيضا على القضايا التي يعملون من أجلها، وكذلك على علاقاتها بالمجال الذي تتحرك فيه. وقد افترضت أن الموقف المتحيز بما هو موقف مسبق هو المسؤول عن هذه الأخطاء فالموقف المتحيز يعطي الكاتب المجال لتنزيه بعض الشخصيات وإضفاء مسحة مثالية عليها، وفي الوقت نفسه فإنه يقوم بما يمكن أن نصفه بأنه "أبلسة" الشخصيات العدوة التي يقترض أنها تمثل جانب الشر الكامن في الإنسان.
مثل هذه الأخطاء وقعت فيها الروايات التي تتناولها الدراسة سواء تلك المتحيزة للجانب العربي أو الفلسطيني من الصراع أو الجانب الإسرائيلي منه، وفي هذه الحالة فإن التحيز للقضية التي يتناولها والذي قد يكون الدافع الأساسي لكتابة العمل الروائي أصلا يتحول إلى عبء على هذه القضية وحجة عليها بدلا من أن يكون حجة لها.
الأعمال الروائية التي آثرت تناولها في هذه الدراسة هي تلك التي كتبت بأقلام كتاب يمكن أن يصنفوا بأنهم كتاب جادون وتحظى أسماؤهم باحترام الأوساط الأدبية الجادة بسبب إسهاماتهم الأدبية ذات المستوى الجيد أو المقبول. وهذا ما ينطبق على الروائية الإيرلندية إثيل مانين التي كانت ذات حضور لافت ونشاط ملحوظ في واحدة من أحرج فترات التاريخ الأوروبي هي فترة العشرينات والثلاثينات، وهي استمرت في نشاطها حتى وفاتها عام 1984، هي المولودة عام 1900. ومن نافل القول إن بداية العشرينات من القرن الماضي قد شهدت ذروة النشاط بالنسبة لحركة التحرر الإيرلندية التي نشطت مانين في العمل من خلالها على رغم أنها إنجليزية المولد. ومن المعروف أن البعد الثقافي في هذه الحركة السياسية الهادفة إلى تحرير إيرلندا من النير البريطاني كان واضحا من خلال أسماء مثل المسرحي جون ملنتون سنغ والكاتب والمسرحي شون أوكيسي والشاعر وليام بتلر ييتس الذي ارتبطت به مانين بعلاقة عاطفية لفترة ما. وفي عقد الثلاثينات كانت مانين من أبرز الأسماء الأدبية الناشطة دفاعا عن الجمهورية الإسبانية وهجوما على الفاشية التي حققت انتصارا دمويا على خصومها الديمقراطيين والتقدميين الجمهوريين. وقد امتد هذه العداء ليشمل النازية التي مالبثت أن أحكمت سيطرتها على ألمانيا في الثلاثينات وقادت العالم إلى حرب عالمية ثانية في أواخر ذلك العقد. وانطلاقا من هذا التاريخ في العداء للنازية والفاشية والتعاطف مع حركات التحرر من وجهة نظر يسارية جاء عملها الروائي "الطريق إلى بئر السبع"
الطريق إلى بئر السبع
في إعلان واضح لتحيزها للفلسطينيين تهدي إثيل مانين رواية "الطريق إلى بئر السبع" (إثيل مانين، دار طلاس للترجمة والدراسات والنشر، ترجمة نظمي لوقا، دمشق 1985) "إلى اللاجئين الفلسطينيين ومن أجلهم. أولئك الذين قالوا في كل الأقطار العربية التي استضافتهم: لماذا لا تكتبين قصتنا نحن، قصة الخروج الآخر.. خروجنا نحن." وعلى الرغم من الخلفية العلمانية للكاتبة، وتناولها للصراع الفلسطيني الإسرائيلي بوصفه صراعا سياسا، فإنها تثبت في مطلع الرواية آية من التوراة تقول "وأعطيتكم أرضا لم تتعبوا عليها ومدنا لم تبنوها وتسكنون بها، ومن كروم زيتون لم تغرسوها تأكلون. يشوع:24: 13"، وهو ما يعني في صورة أو أخرى إضفاء بعد ديني للصراع الفلسطيني الإسرائيلي من جانب كاتبة عرفت بمواقفها اليسارية كما أسلفنا، وذلك على الرغم من أن الرواية تركز على البعد السياسي للأحداث ولا تعطي الجانب الديني أي اهتمام طوال صفحات الرواية. غير أن الرواية لا تخلو من إشارات قليلة عن البعد الديني للصراع: "وأخذ االكرى يداعب أجفان منى بعد التفكير قليلا في تلك الخواطر وفي العداوة التي ينقم بها اليهود على المسلمين والنصارى على السواء ما داموا عربا." (ص 105) وهي فقرة تشير إلى الصراع على فلسطين بوصفه صراعا بين اليهود من جهة وبين العرب مسلمين ومسيحيين من جهة أخرى، وذلك من دون أي ذكر للصهيونية وأهدافها وموقع فكرة الترانسفير في الأيديولوجيا الصهيونية. وهي أفكار كان من شأنها أن تضع الأحداث التي تتناولها الرواية في سياقها الصحيح بدلا من الحديث عن البعد الديني في الصراع العربي الإسرائيلي وهو في اعتقادي بعد هامشي.
صدرت الكاتبة روايتها بمقدمة تاريخية بدأت بها الرواية لتلقي ضوءا على الاحداث التي قد تكون مجهولة للقراء الأوروبيين تحديدا، ولكن المقدمة لم تعتمد أرقاما حقيقية (عدد اللاجئين الفلسطينيين وعدد المهاجرين اليهود، والنسبة الدقيقة للأرض المخصصة لليهود أو العرب بموجب قرار التقسيم مثلا) بل أرقاما تقريبية إلى حد كبير، وهو ما يعني أن الحقائق والارقام التي يجب أن تكون دقيقة في مثل هذه الأحوال كانت الضحية الأولى للتحيز الذي حرصت المؤلفة على إشهاره منذ البداية. وعلى الرغم من نبل المقصد الذي حكم كتابة الرواية فإن التحيز قد أوقع الروائية في أخطاء كان من الممكن تجنبها لو أنها قدمت الموضوعية على التحيز.                                                           
تدور رواية "الطريق إلى بئر السبع" حول عائلة منصور الفلسطينية المسيحية التي أخرجها الجيش الإسرائيلي عنوة من مدينة اللد الفلسطينية عام 1948، وتحديدا حول أنطون منصور الشاب ابن الثانية عشرة، وهو ابن بطرس الفلسطيني وماريان الإنجليزية إبنة روبرت وإليزابيث ملبي التي كانت تقول دائما إن فلسطين هي وطنها. ولكن بطرس الذي يفقد مدينته وثروته بخروجه من اللد لا يلبث أن يموت محطم القلب بعد وقت قصير من زيارة للحدود يشاهد عبرها مدينته وقد تحولت مدينة إسرائيلية، فيغادر أنطون ووالدته ماريان إلى لندن عند والديها: "ستظل إنجلترا لأنطون وأمه على السواء أرض المنفى ماداموا بعيدين عن الوطن الحقيقي..عن فلسطين." (ص258)
وقبل أن يغادر إلى إنجلترا يقوم وليد، صديق أنطون وأنطون برحلة إلى قرية الظاهرية الفلسطينية مع أقارب لوليد يقيمون في القرية القريبة من الخليل ويشاهد الجميع الطريق إلى بئر السبع بلدة وليد السليبة. وهناك يقول وليد "لا بد لي من قضاء عطلات كثيرة أخرى هنا أدرس فيها كل صخرة وكل مسلك، إلى أن يمسي في استطاعتي التعرف على طريقى في ليلة ظلماء لا قمر فيها. بل ينبغي أن آتي وأعيش وأعمل هنا حتى يألف جنود الحرس الوطني والبدو منظري ويصير في مقدوري أن أغدو وأروح من غير أن أثير ريبتهم أو فضولهم." "(ص 217)
في لندن تتخذ عائلة إليزابيث ملبي موقفا متعاطفا مع القضايا القومية العربية، فقد كان روبرت يحدث حفيده "عن الحركات الوطنية العربية في فلسطين قبل الحرب العالمية الثانية، وكيف نكث الإنجليز وعودهم التي قطعوها للعرب بأن يمنحوهم الاستقلال، إذا حاربوا الأتراك في الحرب العالمية الأولى، وكيف أن قصة إنجلترا مع العرب هي قصة الخيانة والخديعة على طول الخط." (ص 264)
هناك في المنفى الإنجليزي يجد أنطون نفسه في جو عائلي دافيء ومتعاطف مع الفلسطينيين، ولكنه ما أن يخرج من إطار العائلة حتى يكتشف جهل الإنجليز بمأساة الفلسطينيين؛ جهل زملائه في المدرسة، جهل امرأة بدينة صافحته معتقدة بأنه "لاجيء يهودي" وليس "لاجئا فلسطينيا"، في إشارة إلى مدى الخلط الذي يحيط بالقضية الفلسطينية لدى الرأي العام الأوروبي عموما وإنجلترا في صورة خاصة. وفي الوقت نفسه يكتشف مدى التعاطف الذي يبديه هؤلاء على اليهود وخاصة في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية التي تعرض اليهود خلالها إلى الاضطهاد على أيدي النازيين.
لذا فإن أنطون حين يتعرف على أصدقاء إنجليز مثل جيرالد جونز الذي يحل محل صديقه الفلسطيني وليد تقريبا، فإنه لا يفضي إليه "بحلمه المقدس حول طريق بئر السبع، طريق العودة، طريق النضال، فهذا سر بينه وبين وليد وليس من حقه أن يبوح به لأحد." (ص280).
في لندن يتعرف أنطون على فتاة يهودية تدعى روزا تخفي عنه هويتها الدينية الحقيقية. وتصف المؤلفة روزا بقولها "روزا! ما أحلاها، بشعرها الغزير الحالك السواد وعينيها السوداوين الواسعتين، والابتسامة التي تذكره كثيرا بابنة عمه نادية،" في جمع غريب ولكنه مقبول لصفات يشترك فيها اليهود والعرب من حيث المظهر الخارجي. (ص340)
وعقب إحدى جولات الجدال مع أمه ماريان التي تبدي عليه قلقا من أفكاره المتعلقة بتحرير فلسطين يعود أنطون إلى الأردن من لندن، وفور وصوله يلتقي وليد وصديقه طالب حمادي إبن بئر السبع الذي لا يثق كثيرا بأنطون في البداية، ويبدأ في الإعداد لتنفيذ خطته في تجنيد عرب مدينة بئر السبع الذين بقوا فيها ويرسم الخطة للعبور إلى بئر سبع.
ولكن أنطون يتردد في تنفيذ الخطة التي وضعها وليد وطالب للتسلل إلى بئر السبع ويعود إلى بيت لحم، ولكنه يراجع نفسه ويقرر اللحاق بهما أخيرا. وهو ما يجعله يحاول اقتفاء أثرهما ليلا في طريق لا يعرفها كما يعرفانها. ويضل أنطون الطريق فيتعرض لنيران دورية إسرائيلية ويسقط "شهيدا آخر، ولكن ليس الأخير في الطريق إلى بئر السبع." (ص 473)
ويمكن ملاحظة أن هذا الخط الأساسي للرواية نتاج طبيعي للمرحلة التي كتبت فيها الرواية،
وفي صورة أو أخرى يمكن اعتبار الأفكار الواردة في الرواية على ألسنة شخصياتها نماذج صادقة على نوعية الأفكار التي كانت سائدة بين العرب والفلسطينيين حول إسرائيل والصراع العربي الإسرائيلي مثل: "كيف يدخل  أحد الشك في زوال دولة ملفقة كإسرائيل، بحيث تتحرر فلسطين؟"(ص 270)، أو مثل قول ثريا خطيبة أنطون: "عامل الزمن في جانبنا" (ص 455) وهي فكرة كانت رائجة تماما آنذاك.
ولكن تلك الأفكار كانت بعيدة جدا عن تلك التي كانت سائدة بين الأوربيين على أي حال فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، وهو ما يجعل لندن ساحة للصراع بين وجهتي النظر العربية التي يمثلها أنطون منصور والشخصيات الإنجليزية العديدة التي يقابلها هناك ويخوض معها ما يمكن أن يسمى صراعا فكريا بين وجهتي النظر العربية والأوربية، ففي إحدى المناسبات يلتقي أنطون بديزموند الذي يسأل عن بحيرة طبريا بقوله: "- ماذا عن بحر الجليل؟" فقال لها زوجها  بحذلقة: - "بحر الجليل يوجد الآن في إسرائيل." فقال أنطون بحزم:- "بل في فلسطين المحتلة. فقال ديزموند بمزيد من الحذلقة :"إسرائيل أمر واقع سواء أحببنا هذا أم لم نحبه. والأولى أن نكون واقعيين." (ص381) ومثل هذا الحوار كان واقعيا تماما في تلك الفترة التي كانت فيها حرب المصطلحات ما تزال قائمة حول تعابير مثل فلسطين وإسرائيل، كما يشمل ذلك أسماء الأماكن والمدن والقرى والمناطق الفلسطينية التي أعطتها إسرائيل أسماء عبرية بعضها توراتي وبعضها الآخر جديد، فبحر الجليل الذي يدور حوله الحديث ليس سوى "بحيرة طبريا"، وهو ما لم تدركه المؤلفة فجعلت أنطون يحتج على اسم إسرائيل الذي حل محل فلسطين في حديث ديزموند ولكنه لم يقل له إن بحر الجليل هو في الواقع بحيرة طبريا.
كما تعكس الرواية نوعا آخر مما يمكن تسميته بالصراع الفكري الذي كان قائما آنذاك داخل المعسكر الفلسطيني العربي بين الفلسطينيين والعرب الساعين إلى تحرير فلسطين بالقوة وبين مواطني الدول الأوروبية الذين لم يكونوا يوافقون على هذه الفكرة ويدافعون بدلا من ذلك عن تحقيق العدالة للفلسطينيين من طريق الأمم المتحدة، أو من طريق  المقاومة السلمية على طريقة المهاتما غاندي. وفي هذا الإطار يمكن وضع هجوم وليد صديق أنطون على من يسميهم "الواقعيين والعمليين فنقبل الوضع الراهن، أي نقبل تحول ثلثي فلسطين العربية إلى دولة لقيطة اسمها إسرائيل." (ص412) وهي فكرة ما زالت أصداؤها تتردد حتى اليوم. ولكن هذه الفكرة تبدو واضحة في رأيين يصدران عن كل من بطرس والد أنطون منصور الذي يستسلم لليأس من العودة إلى فلسطين: "لم تكن في رأسه فكرة سوى أن فلسطين لن تتحرر وهو على قيد الحياة." (ص180) والرأي الثاني يمثله شقيقه فريد منصور الذي كان بطرس "يعجب لتحمسه واهتمامه البالغ بما يحدث وإصراره على أن فلسطين ستسترد حريتها واستقلالها." ولكن بطرس كان يجيبه قائلا: "لنواجه الواقع! لقد قضي على شعبنا بالتشتت. وإن كنت أحسدك على إيمانك الذي لا يتزعزع." (ص 190)
ولكن أبرز ما تكشفه الرواية في هذا السياق هو كم كانت فكرة تحرير فلسطين غائمة في أذهان ذلك الجيل، وكثيرا ما أوردت أفكارا كانت تتردد في صورة عبارات فيها من النبوءة أكثر مما فيها من الحقيقة مثل قولها على لسان وليد حسين صديق أنطون منصور: "إن الأوان لم يحن بعد لتنظيم المقاومة، فلا بد لها من استعداد. ولكن يومها أت لا ريب. فليس أمامنا من سبيل آخر لتحرير بلادنا بأيدينا كما هو واجبنا." (ص202)
كانت الأفكار حول تحرير فلسطين آنذاك مزيجا من الأفكار الممكنة التحقيق وتلك المستحيلة، ففي إحدى جولات النقاش التي يخوضها أنطون مع مواطنين إنجليز يقول أنطون: "- ستتحرر فلسطين على يد الفلسطينيين!" فارتسمت على وجه ديزموند علائم التفكه الممزوج بالتهكم، وقال وهو يكسر جفن إحدى عينيه:
-على يد جيش التحرير الفلسطيني؟
–أجل. وسيعمل هذا الجيش السري في داخل إسرائيل نفسها. سيكون لنا هناك طابور خامس!
-       أهو التسلل الجماعي؟
-        ليس جماعيا. بل تدريجيا. وقد يستغرق ذلك منا بضع سنين. (ص383)
تحت ضغط هذه الفكرة الغائمة وغير المتبلورة يتحدد مصير أنطون الذي يتابع فكرته هذه من خلال تطبيقها على بئر السبع، وهي مدينة فلسطينية لا يعرف أنطون إبن اللد جغرافيتها وتضاريسها، وحين يحاول التسلل إليها فإنه يلقى مصرعه على أيدي الجنود الإسرائيليين ليكون بداية لسلسة من الشهداء الذي يحملون من بعده راية تحرير فلسطين.
ولكن المؤلفة، وربما بدافع من شعورها بمدى الظلم الذي وقع على الفلسطينيين وهذا هو أساس تحيز المؤلفة لهم وبالتالي كتابة الرواية، اعتمدت فكرة تصميم العرب والفلسطينيين على "إلقاء اليهود في البحر"، وهي فكرة ألصقت بالعرب عقودا من الزمن واستغلت استغلالا بشعا للإشارة إلى مدى وحشية العرب وحقدهم على اليهود من دون أن يكون لها أي نصيب من الصحة، حتى وإن تداولتها بعض الكتابات السياسية غير المسؤولة والتي كانت تتردد كثيرا في ذلك الوقت، أو ربما سمعتها المؤلفة في بعض المجالس في أحد البلدان العربية التي زارت عددا منها في الستينات في صورة خاصة. ولكن الواقع يقرر أن مثل هذه الجملة لم ترد على لسان أي مسؤول عربي على الإطلاق، وهي كثيرا ما كانت تنسب إلى السيد أحمد الشقيري، أول رئيس لمنظمة التحرير الفلسطينية، ولكن الثابت أن الشقيري لم يتفوه أبدا بمثل هذه الجملة التي تتكرر على مدى صفحات الرواية أكثر من مرة.
ومن الطريف أن الروائية تمزج هذه الفكرة الخاطئة والباطلة في الوقت نفسه بأفكار أخرى تقحمها على ساحة الصراع الفكري التي أشرنا إليها على الرغم من أنها أوروبية الطابع تماما، فهي مأخوذة من التجربة الأوربية والتاريخ الأوربي أو العالمي وليس العربي، مثل فكرة تحرير فلسطين من طريق  المقاومة السلمية على طريقة المهاتما غاندي. (ص457). إلى جانب أفكارا من قبيل "-وهناك آخرون ينادون بأن دولة إسرائيل إنما هي مرحلة عابرة من مراحل التاريخ، وأن هذا الاحتلال الغاصب سينجاب عن فلسطين بصورة طبيعية، كما انجاب سلطان الإمبراطورية البريطانية" (ص413) وهي فكرة لم تكن مطروحة أبدا بين العرب والفلسطينيين آنذاك، فهي تنتمي إلى التاريخ الأوربي وليس التاريخ العربي والفلسطيني.
ولكن من الواضح أن الكاتبة المتحيزة للفلسطينيين في الرواية التي كتبتها إعلانا منها عن هذا التحيز، لا تعرف جغرافيا فلسطين جيدا، فهي تقول في وصف حالة الفلسطينيين الهاربين من الجيش الأسرائيلي الذي يطردهم من ديارهم: "وبرية الأردن الواسعة تغص بأناس معظمهم من النساء والأطفال وكأنهم الجيش المشتت يتعثر فوق الصخور ويشق له طريقا بين الحصى، يرتقي الروابي الرملية في إعياء وقد استنزف جهده العرق، يسقط ليقوم ليسقط مرة أخرى،" (ص24) فمن الناحية الجغرافية، يفصل بين فلسطين والأردن أو "برية الأردن" كما تقول الكاتبة، حد طبيعي هو نهر الأردن. ولكن من الواضح هنا أن الكاتبة تقصد بحديثها ذلك الجزء الذي لم تحتله إسرائيل من فلسطين والذي نزح إليه سكان مدينة اللد التي تتحدث الرواية عنها والذين نزح معظمهم في رحلة مأساوية معروفة إلى مدينة رام الله الواقعة شمال غربي القدس التي لم تحتلها إسرائيل عام 1948 مثل كثير من مدن وقرى فلسطين الواقعة فيما أصبح يسمى عام 1948 الضفة الغربية. وخلاصة القول إن ما تسميه الكاتبة "برية الأردن" كانت يوم كتابة الرواية (1963) جزءا من المملكة الأردنية الهاشمية، ولكنها لم تكن قد أصبحت كذلك في العام 1948 وهو العام الذي تدور فيه أحداث الرواية، إذ جاء قرار ضم الضفة الغربية إلى المملكة الأردنية الهائمية في العام 1951 بعد مؤتمر أريحا الذي انعقد في العام المذكور وقرر فيه قسم من وجهاء وقادة الفلسطينيين ضم ما تبقى من فلسطين إلى المملكة الأردنية الهاشمية.
وتعود الكاتبة إلى هذه الفكرة الخاطئة مرة أخرى حين تقول في وصف اللاجئين: "فهم الآن في الأردن، في أرض عربية، في ذلك الجزء من الأردن الذي كان يوما ما يسمى فلسطين، شأنه في ذلك تماما شأن الأرض التي إلى الغرب فيما بين ساحل البحر وصفوف التلال القاحلة." (ص77)
وحين يلتقي أنطون منصور بوليد حسين، وهو لاجيء من بئر السبع، يسأله أنطون عن عمل والده فيجيب وليد: "إنه يعمل مدرسا في المالحة." (ص 93) والمالحة قرية فلسطينية تقع قرب القدس، وقد احتلت في العام 1948، ما يجعل الجملة خاطئة تماما. وفي موضع آخر يقول وليد "ولا  أكتمك إني كنت أحلم أثناء زياراتي لوالدي في المالحة بأن القوات العراقية التي كنت أبصر معسكراتها خارج البلدة سوف تتحرك يوما للانقضاض على حدود الأرض المحتلة والقضاء على اليهود وتحرير الوطن." (ص 102)
وفي موضع آخر تقول الكاتبة "وفي ذلك الوقت كان الجيش المصري يدافع عن قطاع غزة أما الجيش العراقي فكان في شمال الأردن." (ص 131) وهي بالطبع تقصد شمال فلسطين وليس الأردن.
وطوال الرواية تتحدث الكاتبة عما تسميه الفيلق العربي، وهو الاسم الذي كان يطلق على الجيش الأردني الذي كان يقوده آنذاك الجنرال جون باغوت غلوب، أو غلوب باشا، كما كان يعرف قبل أن يتحول إلى "الجيش العربي" وهو الاسم الذي ما زال يعرف به.
إلى جانب هذه الأخطاء التاريخية والجغرافية والمعرفية، فإن المؤلفة مدفوعة بتحيزها تقع في خطأ فني هو المبالغة في رسم بعض مشاهد الرواية، وهو مايضعف من مستواها الفني والأدبي، فقد بالغت المؤلفة في تصوير قسوة مسيرة الهجرة الفلسطينية بجعل امرأة تقذف ابنتها في حفرة وتواصل مسيرها: "ورأى أنطون وهو في شبه دوار امرأة تلقي فجأة بالطفل الذي كانت تحمله إلى بطن حفرة حيث استقر صارخا، ومضت المرأة في طريقها قدما." (ص25) فإن كان التحيز من حيث المبدأ إيجابيا فإنه يتحول إلى عامل سالب من خلال المبالغة في إظهار قسوة العدو، ولا أقصد هنا أن العدو لم يكن قاسيا، بل كان أكثر قسوة بما لا يقاس، فليس هناك ما هو أقسى من التهجير القسري الجماعي لشعب بأكمله عن وطنه، ولكن المشكلة هي في اكتشاف جوهر القسوة الإسرائيلية، وجوهر القسوة الإسرائيلية يكمن في الإرهاب المنظم والمنهجي الذي اعتمدته إسرائيل في إخراج الفلسطينيين، فما كان مهما لدى القيادة الصهيونية هو إخراج الفلسطينيين من ديارهم مرة وإلى الأبد، وإغلاق الطريق أمام أي محاولة من جانبهم للعودة إلى مدنهم التي أخرجوا منها. إنها قسوة باردة تعتمد الحسابات الدقيقة لكل حركة وكل خطوة. وقد تكون امرأة فلسطينية فعلت ما فعلته المرأة الي ألقت بابنتها في حفرة، وهناك من فعلن أكثر من ذلك مما قرأناه في روايات عادية المستوى أو شاهدناه في كثير من الأفلام الرخيصة التي أنتجتها هوليوود، ولكن الحديث عن فلسطين وعن الإرهاب الإسرائيلي يتطلب أساسا الحديث عن جوهر هذا الإرهاب وليس إدماجه في أي إرهاب آخر، ففي ذلك تضليل عن جوهره.
والأمر نفسه ينطبق على مشهد اغتصاب نادية (ص34 و35) وهو مشهد يفتقد الواقعية تماما. عدا عن أن اليهودي المغتصب هو (أميركي لبناني)!!؟؟ وكذلك مشهد الجندي الإسرائيلي وهو يتبول أمام النساء الفلسطينيات (ص 38)، وإقدام "النساء والرجال على احتساء بولهم وبول أطفالهم" (ص40).
وكثيرا ما بدت الكاتبة وكأنها تنبهت إلى هذه الحقيقة، فهي تقول على لسان نصري زوج نادية الذي أسره اليهود لبعض الوقت قاصا جزءا من تجربته في الأسر: "لست أعتقد أنهم كانوا يبدون لنا الكراهية. حتى هذا كانوا لا يعتبروننا أهلا له، فهم المنتصرون وكل ما هنالك أنهم يحتقروننا."(ص 174). وفي موقع آخر يقول: "كان الحراس الإسرائيليون يشعرون بالسأم الشديد، مثلنا تماما، لأنهم لا يجدون ما يصنعونه. ولذا كانوا يتلهون بنا، فما نحن إلا شرذمة من العرب، أي الحثالة، ولسنا بشرا." (ص172). هذا هو جوهر الموقف الإسرائيلي من الفلسطينيين والعرب، وهو موقف عنصري يقوم على ازدراء العرب واحتقارهم، وفي مستواه يجب أن تكون مشاهد القسوة الإسرائيلية في معاملة الفلسطينيين.
وفي الإطار الفني نفسه نجد في الرواية جملا قصدت بها المؤلفة إظهار مدى تعاطفها مع الفلسطينيين من قبيل: "ولم يدرك الفلسطينيون على وجه التحقيق المدى الذي صمم مغتصبوا أرضهم على الوصول إليه في إذلالهم إلا بعد أن وجدوا أنفسهم في البرية. فهناك جرد هذا الشعب الأبي الكريم من كل خصائص الإنسانية." (ص40) وهي جملة إنشائية تفصح عن تحيز أكثر مما تكشف من حقائق.
وفي موقع من الرواية يصل التحيز بالمؤلفة، وهي علمانية كما ذكرنا، حدا كتبت معه عن اقتناع شخصيات مسيحية بصواب التعاليم الإسلامية التي تحرم الخمر، إذ يجد أنطون نفسه بعد ليلة شرب فيها الخمر وهو "يعاهد نفسه على ألا يقرب الخمر بعد ذلك سواء كانت شمبانيا أو غير شمبانيا. وأدرك صواب التعالم الإسلامية التي تحرم الخمر على المؤمنين بالإسلام."(ص 190)
وبالطبع فقد تؤدي حادثة بمسيحي يحل له شرب الخمر لأن يقرر ترك الشراب لأضراره وهي معروفة تماما على أي حال، ولكن هذا لا يؤدي إلى الاعتراف بصواب التعاليم الإسلامية التي تحرم الخمر.
إن أخطاء مثل هذه تشير إلى مدى الضرر الذي قد يلحقه التحيز بالقضية التي يتحيز لها المبدع إن لم يكن ذلك التحيز قائما على معرفة يقينية بالقضية التي يتحيز لها، بما في ذلك تفاصيلها الدقيقة التي قد لا تبدو مهمة أو ضرورية، ولكنها بالتأكيد على درجة كبيرة من الأهمية فأهمية التحيز في الأدب في اعتقادي هو كتابة عمل يكمن تحيزه فيما يحتويه من حقائق وصدقية في التفاصيل ودقة في رسم الشخصيات. في هذه الحالة فقط يخدم العمل الأدبي المتحيز القضية التي يتحيز لها وليس عبئا عليها.
لقد كتبت إثيل مانين هذه الرواية إعلانا منها عن موقفها المتحيز للقضية الفلسطينية، وهو ما لم يفعله سوى عدد قليل من الكتاب والمبدعين العالميين. ومن المؤكد أن تحيزها ذاك جاء على خلفية تعاطف إيجابي مع شعب وقع عليه ظلم فادح هو الشعب الفلسطيني، ولكن هذا يجب ألا يمنعنا من أن نوجه النقد للثغرات التي وقعت فيها المؤلفة من باب الصدق مع أنفسنا ومع المؤلفة في الوقت نفسه.
وما ذكرناه من أخطاء وقعت فيها الرواية الأشهر التي كتبت بدافع التحيز للقضية الفلسطينية، ينطبق بالطريقة نفسها على رواية "حياتي" (Syracuse University Press, Syracuse USA 2000) لمريم كوك، وهي كاتبة وناقدة وأكاديمية أميركية تتخذ موقفا متعاطفا، وبالتالي متحيزا مع الفلسطينيين.
 في روايتها هذه تحاول المؤلفة أن تكتب في صيغة رواية، تاريخ القضية الفلسطينية منذ أواسط الأربعينات وحتى غزو العراق للكويت عام 1990 من خلال عائلة تتوزع على فلسطين والضفة الغربية ولبنان والأردن والعراق والكويت. وقد كتبت المؤلفة الرواية من وجهة نظر متحيزة، ولكنها وقعت في عدد من الأخطاء في التاريخ والجغرافيا.
أرض الميعاد
وإن كانت رواية "الطريق إلى بئر السبع" قدمت نموذجا للرواية المتحيزة من وجهة نظر إنسانية أساسها التعاطف مع الشعب الفلسطيني الذي تعرض لظلم فادح على أيدي الإسرائيليين الذين أخرجوه من أرضه وأقاموا لهم دولة عليها، فإن رواية "أرض الميعاد" للروسي يوري كوليسنيكوف (دار التقدم، موسكو، الاتحاد السوفياتي 1979) تنطلق في تعاطفها مع القضية الفلسطينية من وجهة نظر أيديولوجية، فالكاتب السوفياتي ينطلق في روايته من وجهة نظر أيديولوجية كثيرا ما تتحول إلى وجهة نظر حزبية ضيقة، بحيث تبدو وكأنها كتبت وفق تعليمات الحزب الشيوعي السوفياتي السابق فيما يتعلق بالصراع العربي الإسرائيلي، فموقف الكاتب هو موقف الحزب الشيوعي السوفياتي من الحركة الصهيونية. ومن المعروف أن الحزب الشيوعي السوفياتي كان يعتبر الصهيونية حركة رجعية معادية للشيوعية. والأمر نفسه ينطبق على الرؤية التي ينطلق منها الكاتب في فهم التاريخ وحركة المجتمع، باعتبارها تاريخ صراع الطبقات، ولكن ليس بالمعنى المركب الذي قصده كارل ماركس عبر تحليل تاريخي واجتماعي معقد بل بأضيق المعاني وأكثرها مباشرة، فحتى هذا الفهم الضيق ترجمه الكاتب أدبيا في صورة ميكانيكية جعلت الرواية تبدو وكأنها تطبيق عملي للفهم الضيق المشار إليه سابقا كما سنرى.
تدور أحداث الرواية في كل من رومانيا وقبرص وفلسطين في الثلاثينات والأربعينات من القرن الما ضي، وتتناول تجربة حاييم فولديتير، وهو يهودي روماني على صلة بالشيوعيين الرومانيين وعلى اطلاع على نشاطهم الثوري من خلال منشوراتهم السرية التي تصله عبر أصدقاء وزملاء له ينتمون إلى الحزب الشيوعي الروماني. وبسبب هذه الصلة يدخل حاييم السجن نتيجة وشاية ضده من "ابن ثري يملك مطاحن ومعاصر زيتون ومخابز"، وذلك في تطبيق فج لمقولات حزبية تماهي بين الشخصية الروائية والطبقة التي ينتمي إليها.
وحين يخرج حاييم من السجن تبدأ الحكومة في تضييق سبل العيش أمامه بسبب موقفه السياسي، ويكون هتلر قد بدأ زحفه على بلدان شرق أوربا فيقرر الرحيل هربا من تلك الأوضاع التي سيكون فيها يهوديا في مواجهة النازية. وهو لا يحدد وجهة لرحيله في البداية ولكنه يقرر أخيرا الرحيل إلى فلسطين للنجاة بنفسه، فهو ليس مناضلا مثل إيليا توموف الشيوعي الصلب، وهو يعرف أيضا أن فلسطين "لن تكون جنة الله على الأرض" (ص15)، فيدير ظهره لمحاولات رفاقه إقناعه بالبقاء والنضال في سبيل شعبه الروماني ويحصل على تأشيرة دخول إلى فلسطين، وهكذا تبدأ الرحلة إلى "أرض الميعاد" وهو رحيل يلاحظ أنه لم يأت على خلفية اقتناع من جانب حاييم بالأفكار الصهيونية التي كانت آنذاك جادة في تشجيع الهجرة وتنظيمها إلى "أرض الميعاد" تمهيدا لتحويل فلسطين إلى وطن قومي لليهود، بل هربا من واقع مرير.
يغادر حاييم إلى فلسطين في سفينة، ولكنه يضطر إلى النزول في قبرص بسبب اعتلال صحته. وهناك يقيم عند الحاخام اليهودي بن صهيون هاجرا، وهو في واقع الأمر ممثل للحركة الصهيونية في قبرص. ومن موقعه هناك يعقد صفقات شراء الأسلحة للمنظمات اليهودية في فلسطين ويهرب اليهود سرا إلى أرض الميعاد. ويبقى فولديتر هناك حتى تتحسن صحته فينتقل بمساعدة الحاخام إلى فلسطين مع فتاة يونانية بكماء هاربة من ظلم الحاخام بن هاجرا ومن وراء ظهره، على أنها زوجة حاييم على ظهر السفينة "ترانس اتلانتيك"، وذلك من دون أن يعرف أحد أنها ليست يهودية. وعلى متن السفينة يكون هناك مهاجرون من أوروبا يمثلون نماذج واضحة المعالم؛ فهناك عازفة البيانو النمسوية الهاربة من النازية الصاعدة في بلادها، وهناك البولندي الثري السمين الذي يهرب من وارسو بعد أن وصلها هتلر، وهناك الجواهرجي الآتي تلبية لدعوة من أقاربه الذين سبقوه وهناك حاييم الذي كان يفكر في إحضار أهله بعد وصوله، وهناك بالطبع الصهاينة القادمون لتحقيق الهدف الصهيوني القاضي بإقامة دولة صهيونية على أرض فلسطين باعتبارها الأرض الموعود. وهناك أيضا سيمون سلمونسون الذي يعتبر الوصول إلى فلسطين البعيدة فرصة لتهريب رأسماله من رومانيا المضطربة التي تتوقع غزوا هتلريا.
وهناك أيضا بعض المتطوعين العسكريين من منظمة "الهاغاناه" والذين يتصرفون بفظاظة لافتة ويعلنون أنهم سوف يقومون باستعراض عسكري فور وصولهم إلى فلسطين. وقبل الوصول إلى فلسطين بيوم واحد تتعرض سفينتهم إلى مطاردة سفينة بريطانية ليتضح أن "ترانس أتلانتيك" لا تحمل ركابا متجهين إلى ميناء حيفا في فلسطين فقط، بل وتحمل أيضا شحنات من الأسلحة التشيكية الصنع مخبأة في أكياس إسمنت. ومهربوها هم المتطوعون من منظمة الهاغاناه.
ولدى وصول السفينة إلى شواطيء فلسطين يتضح أنها تهرب أعضاء منظمة الهاغاناه المحظورة من قبل السلطات البريطانية، وأن "مندوب المركز" هو المسؤول عن عملية التهريب هذه بالتنسيق مع الحاخام بن صهيون هاجرا. وبذلك تكون قد اجتمعت في السفينة أكثر من حيلة من حيل الحركة الصهيونية في آن واحد: فثمة سفينة غير شرعية تحمل ركابا غير شرعيين هم رجال الهاغاناه وتهرب أسلحة إلى فلسطين لتستخدمها الحركة الصهيونية ضد العرب والإنجليز، وفور وصولها إلى أرض الميعاد تنفجر السفينة  بفعل فاعل فيسقط العديد من الضحايا. والطريف في الأمر أن الحركة الصهيونية كانت تمارس كل هذه الأنواع من الاحتيال، فهي كانت تهرب المهاجرين اليهود إلى فلسطين، وكانت تهرب الأسلحة إلى العصابات الصهيونية هناك والتي كانت تعمل من أجل إقامة دولة يهودية في فلسطين. وقد حدث في العام 1944 أن فجر الصهاينة السفينة "باتريا" قبالة ميناء حيفا احتجاجا على عدم سماح الإنجليز لها بالرسو في الميناء. وكان تفجيرها يهدف إلى لفت أنظار العالم إلى "مأساة" اليهود الذين تطاردهم القوات النازية ويمنعهم الإنجليز من الدخول إلى "أرضهم الموعودة"، ولكن اجتماع كل هذه الأمور في سفينة واحدة كما في الرواية يحمل درجة من المبالغة الفنية غير المقبولة، كما يدل على موقف مسبق بإدانة الحركة الصهيونية. وقد أثرت هذه المبالغة على الرواية فهبطت بها فنيا إلى مرتبة الميلودراما بدلا من أن تدخل إلى جوهر العمل الصهيوني الذي نجح في تكوين مجتمع يهودي يبني ويقاتل ويقيم دولة  في فلسطين بعد أن هزم جيوش سبعة دول عربية دخلت الحرب ضدها عام 1948 بعد صدور قرار التقسيم.
تبدأ أول مظاهر خيبة الأمل لدى حاييم بعد أحاديث مطولة مع صديقه نوتسي الذي يلتقي به في حيفا صدفة بعد أن كان قد سبقه إلى فلسطين، يحاول من خلالها نوتسي إقناعه بأن فرص العمل متوفرة بكثرة لليهود، ولكنه يصب جام غضبه على اليهود المحليين، من خلال عموميات لا تشير إلى أن للكاتب كبير معرفة بهم وبأعدادهم وبكيفية عيشهم، كما يصب جام غضبه على العرب الذين "يترقبون نجاح اليهودي حتى ينهبوه،" وعن مدى حقدهم على اليهود "الذين يصنعون لهم كل الخيرات" (ص 136).
ولكن ما يكتشفه حاييم يزيد على ذلك بكثير فهو يكتشف ومن خلال مصادفات معظمها مفتعل،
العلاقة بين الزعيم الفاشي الإيطالي بنيتو موسوليني وبين الزعيم الصهيوني اليميني المتطرف فلاديمير جابوتنسكي وذلك من خلال نوتسي الذي يعمل عند سيمون سلمونسون، وهو زعيم صهيوني متطرف من منظمة الإرغون التي كان يتزعمها جابوتنسكي وذلك حين يصف نوتسي سلمونسون بأنه صديق شخصي لموسوليني. ولكن فكرة التعاون الفاشي الصهيوني هذه تتطور فيما بعد إلى فكرة مؤصلة على لسان "مندوب المركز"، أي المركز الصهيوني، وهو ينتمي إلى منظمة "بيتار" وهي منظمة صهيونية أخرى أسسها جابوتنسكي، يقول فيها خلال نقاش حضره عدد من الصهاينة، مثلما حضره حاييم دييتر، إن خطط هتلر تخدم الحركة الصهيونية، فهي مثل لدغة البعوضة تجبر الإنسان على الاستيقاظ. ولو كانت ممارسات هتلر لدغة بعوضة فإن نتيجتها هي يقظة إسرائيل، وبالتالي هجرة اليهود الذين لا نية لديهم في الهجرة إلى أرض الميعاد، فهؤلاء سوف يهاجرون بسبب ممارسات هتلر، لذا "لو لم يكن هذا الأدولف هتلر موجودا لكان علينا نحن البيتاريين أن نوجده." (ص39)
وفي مواضع آخر من الرواية يقوم مراسلان صحفيان ألمانيان بزيارة إلى فلسطين ويتجولان في تل أبيب وفي "حارات يافا الملتوية القذرة" على حد قول الكاتب الذي لا يعرف بالتأكيد أن مدينة يافا كانت في تلك الأيام عروس البحر الأبيض المتوسط فعلا، وأنها كانت من أكثر مدن فلسطين ازدهارا، بل وأكثر ازدهارا من تل أبيب نفسها. ويقول الكاتب إن أحد المراسلين كان يهدف من زيارته إلى فلسطين إلى الالتقاء برجال "أمين الحسيني مفتي القدس الذي كانت برلين تعلق عليه آمالا كبارا بمناسبة قرب تنشيط الطابور الخامس في هذه المنطقة." (ص 220) ثم نكتشف أن المراسل الصحفي المشار إليه لم يكن سوى أدولف آيخمان الذي كان صلة الوصل بين النازيين وزعماء الصهاينة، وهو الذي عقد أكثر من صفقة بين النازيين والصهاينة كان يرسل بموجبها إلى فلسطين اليهود الشبان من ألمانيا والمجر.
وتتوالي أحداث الرواية ويجد حاييم نفسه يستمع ومعه صديقه نوتسي إلى حوار خلف باب مغلق بين صهيوني واشتراكي قومي (نازي) يتحدث عن الأوجه العديدة للتشابه بين النازية والصهيونية سياسيا وأيديولوجيا ومصلحيا ومن حيث الهدف والنظرة العنصرية للشعوب الأخرى. ويدرك حاييم أن المتحدث في الغرفة المغلقة هو شتيرن زعيم عصابة شتيرن الصهيونية المتطرفة نفسه، وأن المتحدث الألماني هو في الواقع مبعوث من قبل جوزيف غوبلز وزير الدعاية النازي المعروف. وإن كان الخيال الروائي يتقبل مثل هذا اللقاء في عمل روائي فإن ما لا يقبله هو الحديث عن أسلحة ترسلها ألمانيا النازية إلى منظمة مثل شتيرن تحديدا وحديث آخر عن تحالف نازي صهيوني لطرد الإنجليز من المنطقة، خاصة وأن الرواية تلمح إلى أن لألمانيا النازية اتصالات مع رجال الحاج أمين الحسيني من أجل الهدف نفسه. وهذا يحتاج إلى تفسير أوضح من القول إن ألمانيا النازية يهمها في النهاية إخراج الإنجليز من المنطقة بأي ثمن حتى لو كان ذلك من خلال تحالفها مع كل من الحاج أمين الحسيني وشتيرن في الوقت نفسه، وهو ما لم يذكره أي مؤرخ على الإطلاق.
وفي أحد المشاهد، و(ص130) على خلفية خلاف بين مبعوث أميركي يهودي يدعى مايكل كنوخ وبين شتيرن وسلمونسون يحتد النقاش ويتحول إلى لكمات قبل أن ينتهي بإطلاق النار على مايكل من جانب شتيرن نفسه الذي يصمه بالخائن، وهو ما يذكر بالمشاهد التي اعتدنا مشاهدتها في الأفلام السينمائية والروايات البوليسية حين يحتدم النقاش بين زعماء العصابات ورجال المافيا، وهذا تبيسط مخل لصورة الحركة الصهيونية التي كانت منظمة تنظيما جيدا، وكذلك للنازية التي لم تكن حركة عابرة في حياة أوروبا والألمان.

حين يجد حاييم نفسه في خدمة سلمونسون الذي هو الآن من قادة منظمة "إرغون" فقد كان وسلمونسون أندادا في رومانيا في أثناء ما يسمى "الهاكشارا"، وهي أشبه بخدمة العلم اليهودية التي كانت تشرف عليها المنظمات الصهيونية في دول أوروبا الشرقية، يشعر حاييم بالقرف من وضعه. وتتنامى لديه مشاعر خيبة تتصاعد مع اكشافات أخرى للمجتمع الذي كانت تبنيه الحركة الصهيونية في فلسطين قبل إقامة الدولة. فهو يكتشف التشابه بين الشعار النازي "آين فولك، آين رايخ آين فوهرر-دويتشلاند"، أي شعب واحد، دولة واحدة زعيم واحد-ألمانيا"، وبين الشعار الصهيوني "شعب واحد أمة واحدة دولة واحدة – إسرائيل"، كما يكتشف أنه في الوقت الذي يسعى فيه النازيون إلى إقامة الرايخ الألماني الثالث، كانت الحركة الصهيونية تسعى لإقامة الدولة اليهودية الثالثة.
ويكتشف أيضا ذلك التماثل بين الصهيونية والنازية والفاشية من حيث اشتراكهما في احتقار الضعفاء وكبار السن، فهو يجعل "مندوب المركز" يستشهد بمقولة عنصرية لحاييم وايزمن يقول فيها "إن العجائز سوف يزولون من الوجود، إنهم غبار، غبار اقتصادي ومعنوي للدنيا الكبيرة. ولا يبقى إلا الجيل الجديد." (ص 42)
ولا تظهر النزعات الفاشية من خلال العلاقات بين الصهاينة والفاشست والنازيين فقط، بل وأيضا من خلال سلوكيات المهاجرين اليهود إلى فلسطين ففي لقطة رتبت بعناية بحيث يكتشف حاييم النظرة العنصرية التي يساوي فيها اليهود الأوروبيون بين الفلسطينيين العرب من سكان فلسطين الأصليين وبين اليهود الشرقيين، يسكب نوتسي لنفسه كأسا من العرق فتقول زوجته أتيليا "- إنك لا تدري أي مشروب هذا إذا كان البدو هم الذين يصنعونة." فتقول والدة زوجته العجوز بغضب: "- إنها فظاعة. معدتي تنقلب بمجرد أن أرى البدوي! أعوذ بالله! إنهم دائما قذرون، لا يستحمون ولا يمشطون شعورهم، وفيهم كل ما تشاء. أما هو فيشرب ولا يأبه! وكيف يشرب، آه لو رأيته يا للفظاعة إنها قذارة حقيقية." (ص128)
وحين يعلن نوتسي العامل عند سيمون سلمونسون أنه لا يختلط بالفاتيكيم، أي باليهود الفلسطينيين الأصليين، تشير والدة زوجة نوتسي إليهم بقولها "- هؤلاء ليسوا بشرا، ولا أعرف حتى كيف أسميهم. صدقوني إنهم أسوأ من العرب." (ص 131) هنا يلتقط حاييم طرف الخيط من الحوار الذي رتب بحيث يقود إلى نتيجته المتوقعة فيقول "وما هو الحسن هنا إذا كان لا بد من الحذر من العرب، وبين رجالنا عداء والمشاكل والصعوبات لا حصر لها." وتصل تساؤلات حاييم ذروتها حين يقول لنفسه: "هل كانت المسألة تستحق أن أجيء إلى أرض الميعاد؟"(ص 136)
ولكن ذروة خيبة أمل حاييم تأتي مع اكتشافه أنه يعمل مع عصابة شتيرن الصهيونية فيقول لنفسه "إننا قطاع طرق حقيقيون." ويتزامن ذلك مع معرفة رؤسائه في العمل وكذلك نوتسي أن أويا مسيحية يونانية وليست يهودية، فقد أبلغهم بذلك الحاخام بن صهيون هاجرا، وهو ما يجعلهم يطلبون من حاييم ترك أويا أو رفع حمايتهم عنه، ما يعني أن حياته أصبحت مهددة فالذين يعمل معهم أشبه بعصابة من المجرمين: "هنا في فلسطين كان وحيدا وسط أناس غرباء قساة من المتعصبين الدينيين الجشعين والوصوليين وأساتذة التهريب والابتزاز والاغتيالات. وكان مصيره وسعادته مع حبيبة قلبه يتوقفان على هؤلاء الأشخاص." (ص255)
وتتطور الأحداث فتطرد أويا من العمل لأنهم اكتشفوا حقيقتها. ويكون على حاييم أن يتدبر أمر نفسه وأمر أويا الحامل. ويبدأ حاييم رحلة البحث عن عمل فيلتقي عمالا عربا ويسمعهم يتحدثون عن العمال العرب واليهود وكيف أنهم يتكاتفون لمنع صاحب العمل من طرد العمال. وهذا حديث ليس خاطئا من منطلق أيديولوجي فقط بل خاطيء من حيث المعلومات، فالمؤلف لا يبدو أنه يعرف شيئا عن "العمل العبري" وهو مبدأ وضعته الحركة الصهيونية في فلسطين يقوم على ضرورة أن يشغل اليهود عمالا يهودا وليس عربا، ومن يخالف هذا المبدأ كان يعاقب بطريقة أو أخرى.
وينتقل حاييم وأويا إلى كيبوتس ليعيشا فيه، ولكن الحياة في الكيبوتس لم تكن بأحسن حالا، فهناك يشاهد حاييم التمييز ضد اليهود الشرقيين من خلال شخصية اليهودي اليمني عزرا الذي يلاقي الاضطهاد بسبب كونه يهوديا شرقيا من اليمن. وحين تلد أويا طفلا يكتشف أنه مشوه القلب ولا أمل من شفائه. ويموت الطفل ويرفض الحاخامات دفنه في مقابر اليهود فيدفنه هو وزوجته وعزرا في قبر خارج مقبرة اليهود، ثم تنتحر أويا من دون سبب مقنع، ربما لكي تصبح عودة حاييم إلى وطنه رومانيا ميسرة!!! وهكذا يصبح في إمكان حاييم العودة إلى عمله مع عصابة شتيرن، ولكن قبل أن يأتيه العرض بالعودة من صديقه نوتسي يكون قد قرأ عن تحرير بلده على أيدي القوات السوفياتية فيأخذه الحنين إليها ويقرر العودة إلى رومانيا. هنا يمكن الانتباه إلى أن هذا يعني أن حاييم اتخذ قرار مغادرة أرض الميعاد بعد أن ضاقت به السبل وليس بناء على موقف اتخذه حين اكتشف مدى لا أخلاقية المشروع الصهيوني على المستويات السياسية والأيديولوجية.
وينجح حاييم في مغادرة "أرض الميعاد" بمساعدة شيوعيين يهود وعرب في فلسطين بعد صعوبات ومطاردات من جانب أفراد عصابة شتيرن، فيستقل سفينة رومانية من ميناء حيفا عائدا إلى وطنه مخلفا وراءه تجربة مريرة في أرض الميعاد. ولنا أن نذكر هنا أن مغادرة فلسطين لم تكن في واقع الأمر على هذه الدرجة من الصعوبة فقد كانت فلسطين آنذاك تحت الانتداب الإنجليزي ولم تكن تحولت بعد إلى إسرائيل.
في روايته هذه وقع كوليسنيكوف في عدد من الأخطاء مثلما هو متوقع من كاتب يبدو أنه على معرفة جيدة بالتاريخ الأوروبي ولكنه يفتقر إلى مثل هذه المعرفة حين يتعلق الأمر بتاريخ الصراع العربي الإسرائيلي أو بالمجتمع الفلسطيني في تلك الفترة. فالكاتب يشير إلى أن العمال البدو "مستعدون للعمل لقاء بضعة قروش"(ص134) من دون يعرف أن البدو تحديدا يحتقرون العمل اليدوي، وأن فقراء الفلاحين هم الذين يقومون بأعمال يدوية غير ماهرة. والطريف أن المؤلف يشير إليهم بوصفهم من الصابرا، وهو خطأ آخر في الرواية فالصابرا تعبير يستخدم للدلالة على أبناء أوائل المهاجرين اليهود الذين ولدوا في فلسطين قبل إقامة الدولة اليهودية.
وثمة دليل آخر على جهل المؤلف بتفاصيل الحياة في المجتمع الفلسطيني حين يصف حافلة صباحية متجهة من بتاح تكفا إلى تل أبيب، وفيها فلاحون فلسطينيون يقول المؤلف إنهم كانوا يحملون "أكياسهم الطويلة الضيقة كالأوعية الفخارية والمصنوعة من قماش سميك منسوج يدويا والمملوءة بسلع زراعية يبدو أنهم يحملونها إلى المدينة ليبيعوها،" ثم يضيف "وكانت تنبعث منها رائحة بعر الجمال والماعز المنفرة لأبناء المدينة." (ص142) وبعيدا عن الصورة السلبية التي ترسم للعرب في هذا المشهد، فإن المؤلف ينسى حقيقة مهمة هي أن الفلاحات الفلسطينيات، وليس الرجال من الفلاحين، هن اللواتي كن يذهبن في الصباح الباكر إلى المدينة لبيع المنتجات الزراعية. وفي أحد المواضع يشير المؤلف إلى مركز للشرطة وفيه شرطي يهودي يضع على صدره النجمة السداسية، وهو أمر لم يكن مسموحا به في ذلك الوقت، فمن المعروف أن سلطاة الانتداب البريطاني هي التي كانت تشرف على المراكز الأمنية أو "المخافر" وأنها كانت تستخدم عربا ويهودا ولكنهم كانوا جميعا موظفين لدى سلطات الانتداب الإنجليزية.
وكما هو واضح فإن هذه الأخطاء أقل بكثير مما هو موجود في رواية "الطريق إلى بئر السبع" ولكن الأخطاء الكبرى التي وقع فيها هي الأخطاء التاريخية والسياسية، فالخطأ الأكبر هو ما يبدو من اقتناع المؤلف بأنه كان هناك حقا عداء بين الإنجليز واليهود، وهو أمر غير صحيح على إطلاقه على الأقل، إذ كانت بريطانيا راعية قيام الدولة العبرية كما هو معروف، ولكن هذا لا يمنع وجود حالات كان هناك فيها توتر بين الإنجليز واليهود، وخاصة في الفترة التي تلت الحرب العالمية الثانية.
ويوازي الخطأ السابق التركيز على تلك العلاقة التآمرية الخاصة التي يفترض المؤلف أنها كانت قائمة بين الحاج أمين الحسيني مفتي فلسطين، وبين ألمانيا الهتلرية والتي بالغ المؤلف كثيرا في إبرازها وإظهار أن المفتي كان في واقع الأمر "عميلا نازيا"، وهو أمر أكثر تعقيدا مما يبدو، فقد كانت غريبة ومعقدة تلك العلاقة التي نشأت بين بعض العرب وألمانيا خلال الحرب العالمية الثانية. فالصورة العامة التي ترسمها كتب التاريخ العربية التي تناولت تلك الفترة تشدد على أن تلك الحرب إنما كانت بين عدوين لدودين لا ناقة للعرب فيها ولا جمل، وقليلون فقط هم الذين تجاوزوا هذا التعميم إلى التخصيص ليشيروا إلى "تعاطف عام" من جانب قطاعات عربية واسعة تجاه دول المحور في حربها ضد الحلفاء، وهو تعاطف ناتج عن أن دول المحور المكونة من تحالف النازية الألمانية والفاشية الإيطالية والعسكرية اليابانية، إنما كانت تخوض حربا ضد أعداء العرب من الحلفاء، والحلفاء هم باستثناء الاتحاد السوفياتي الشيوعي آنذاك، مجموعة من الدول الاستعمارية وعلى رأسها بريطانيا وفرنسا اللتان كانتا تستعمران معظم الدول العربية. وهكذا فقد كانت دول المحور تقاتل "أعداء أعداء" العرب. وعلى هذه القاعدة قام التعاطف المذكور الذي قطع فيه مفتي فلسطين شوطا أبعد من الزعماء العرب الآخرين.
لقد كان المفتي يحاول الاستفادة من القوة النازية لوقف الطموحات الصهيونية في أقامة دولة لليهود في فلسطين ومن أجل استقلال فلسطين العربية، حتى لو كان ذلك من خلال التعاون مع النازيين، وهي فكرة قد تبدو ساذجة ولكن هذا ما حدث حقا. ويمكن الجزم بأن كثيرا من القوى الوطنية والقومية العربية كانت تتخذ الموقف نفسه، فقد كانت هناك قيادات مهمة ومؤثرة في مصر وسوريا والعراق تتمنى انتصار النازية على الحلفاء الذين كانوا يحتلون البلدان العربية وتحصل الدول العربية على استقلالها كما كانوا يأملون. غير أن هذا "التعاطف" من جانب الحاج أمين الحسيني مع دول المحور بولغ فيه حتى أصبح "تحالفا" بينه وبين ألمانيا النازية تحديدا، والتي كانت القوة الرئيسية بين دول المحور. وواقع الأمر أن التعاون العربي النازي كان أقرب في شكله إلى الارتجال والعفوية، كما كانت المصلحية فيه واضحة ومعلنة لدى الطرفين، وذلك بعكس التعاون النازي الصهيوني الذي كان مؤسسيا وموثقا في اتفاقيات واضحة ومعروفة التفاصيل.  وفي واقع الأمر أن التعاون النازي الصهيوني أمر ثابت تاريخيا، ولكن ما لم يدركه المؤلف هو أن البلدان العربية لم تكتو بنار النازية التي لم تكن معروفة على حقيقتها في العالم العربي الذي كان في تلك الفترة يسعى إلى التحرر من الاستعمار الفرنسي والإنجليزي، وكذلك من الصهيونية حتى لو تم لهم ذلك من خلال التعاون مع النازية. وعليه فإن صورة النازية في عالمنا العربي لم تكن على الدرجة نفسها من السلبية التي كانت عليها في أوروبا التي عانت الكثير منها. وهذه النظرة الأوربية أو الاستشراقية الناجمة عن جهل بالمنطقة وتاريخها ومجتمعها كانت عبئا على الرواية أكثر مما كانت ميزة لها.
لقد حاول الكاتب إبراز عنصرية وعدوانية وجشع المشروع الصهيوني من خلال ارتباطات لا أخلاقية بين الحركة الصهيونية وكل من النازية والفاشية، وكذلك من خلال أخلاقيات وممارسات المهاجرين الصهاينة بما يتميزون به من عنصرية وجشع وضلوع في الجريمة والقتل، ولكن الكاتب فشل في الكشف عن جوهر الخلل في المشروع الصهيوني الذي يفترض أنه علة الرواية نفسها. فالكراهية المتبادلة بين المهاجرين ليست السبب الجوهري للمشروع فمثل هذه الكراهية تبقى مشاعر إنسانية طالما أنها لم توضع في سياق يتعلق بجوهر الصهيونية القائم على الكراهية، وهو ما لم يثبته المؤلف على أي حال.
إن ما سبق من أفكار ربما كان حقيقيا تماما، ولكنها أتت في سياق الرواية في إطار نقاشات مملة تهز الخط الروائي وتبدد سياقه الذي يجب أن يكون متماسكا فنيا ومنطقيا وليس حقيقيا فقط.
إلى ذلك فإن الرواية التي تجري أحداثها في فلسطين لم تذكر شيئا عن المجتمع العربي الذي كان قائما هناك، والذي كان يشكل الغالبية العظمى من سكان فلسطين المسلمين والمسيحيين. فلم يكن هناك ذكر للعرب إلا بوصفهم عمالا أو فلاحين أو قرى بعيدة، علما بأن تاريخ الشعب الفلسطيني كان تاريخ ثورات وانتفاضات عظيمة. وحين يزور حاييم يافا فإنه يورد لها أوصافا عامة "لحاراتها المتوية القذرة" وشوارعها الضيقة، فمن المؤكد أن المؤلف لا يعرف أن مدينة يافا كانت في تلك الأيام عروس البحر الأبيض المتوسط فعلا، وأنها كانت من أكثر مدن فلسطين ازدهارا.
وهكذا حضر الصهاينة واليهود والإنجليز والألمان والنازيون والفاشيون في رواية عن فلسطين ولكن لم يظهر الفلسطينيون الذين أشار المؤلف إلى أحد زعمائهم، الحاج أمين الحسيني، بوصفه عميلا نازيا، وظهر البدو المستعدون للعمل لقاء قروش قليلة، كما ظهر الفلاحون الذين يحملون سلعهم الزراعية لكي يبيعوها، وأخيرا ظهروا شيوعيين يساعدون حاييم على الهرب، وهو ما أورث الرواية خللا كبيرا لم يساعد كثيرا في إبراز لا أخلاقية المشروع الصهيوني. ولذلك فإن حاييم فالديتر لم يعد إلى وطنه رومانيا نتيجة هذه الاكتشافات، بل لأنه فقد عمله مع نوتسي وسلمونسون، ومن خلال علاقته بهما اكتشف علاقاتهما وعلاقات الحركة الصهيونية بالفاشيين والنازيين، ولكن هذا أيضا لم يكن السبب في عودته، بل جاءت عودته بعد أن سدت فرص العمل أمامه ثم خسر زوجته وابنه، فلم يعد أمامه سوى العودة.
إن حاييم شخصية لا حدود لسلبيتها رغم ما ذكر المؤلف عن ماضيه الذي لم يكن بعيدا عن النشاط الثوري في رومانيا، فقد بدا غير مبال بشيء ويفتقد روح المبادرة ومسلوب الإرادة تماما فكل ما يقوم به ردود أفعال وليس أفعالا، فبدا في النهاية وكأنه موجود فقط ليكون ذريعة لاكتشاف كذب مقولة أرض الميعاد.
ولأن شخصية بهذه السمات شخصية غير كاشفة فإن المؤلف ركز على جعل حوار الرواية حوارا مسيسا إلى درجة كبيرة، وهكذا كانت الحوارات التي تدور بين شخصيات الرواية موجهة أيديولوجيا نحو هدف واحد هو فساد الفكرة الصهيونية وكشف حقيقة أن المجتمع اليهودي الذي يسعى الصهاينة إلى إقامته في فلسطين هو مجتمع يقوم على الكراهية والكراهية فقط. وكثيرا ما كانت الحوارات تفتقد الحس الدرامي المفترض في العمل الأدبي، ما كان يخرجه عن كونه حوارا ليصبح أقرب إلى المحاكمة الأيديولوجية والسياسية للصهيونية.
لقد كتب كولسنيكوف روايته هذه من وجهة نظر أيديولوجية كثيرا ما كانت تتحول إلى وجهة نظر حزبية تضيق حتى على الأيديولوجيا، وهو ما يعني في النهاية أن الموقف المتحيز للكاتب إنما كان في جوهره متحيزا لفكره الخاص المنطلق من الفكر الماركسي كما كان يعبر عنه الاتحاد السوفياتي والذي يرى في النازية الخطر الأكبر والشر المطلق بالنسبة له. وإن كان هذا صحيحا من وجهة النظر السوفياتية فإنه ليس بالضرورة كذلك بالنسبة للفلسطينيين أو العرب.




بوابة مندلباوم
ميورييل سبارك
رواية 1965

ولكن هذا لا يلغي حقيقة أن روائية بحجم ميورييل سبارك، وهي روائية وشاعرة إنجليزية من  أصول يهودية تحولت إلى الكاثوليكية قد كتبت اعتمادا على مثل هذا الجانب الإنساني الزائف رواية بعنوان "بوابة مندلبوم" التي صدرت عام 1965، وهي الرواية التي اخترت تناولها في هذه الدراسة بوصفها تجسيدا للتحيز انطلاقا من تعاطف إنساني زائف.
ميورييل سبارك، كاتبة وروائية وشاعرة بريطانية شهيرة ولدت لعائلة يهودية، ولكنها تحولت إلى الديانة الكاثوليكية عام 1954.
في "بوابة مندلبوم" (The Mandelbaum Gate, Penguin Books 1965)
كتبت سبارك رواية عن امرأة تشبهها هي باربارا فووان، وهي امرأة بريطانية يهودية الأم، ما يعني أنها يهودية بحسب الأعراف الدينية اليهودية، ولكنها ليست كذلك بحسب أعراف الآخرين، لذا فإنها تعتبر نفسها مسيحية كاثوليكية، أو نصف يهودية، كما تقدم نفسها في كثير من مواقف الرواية، مع ميل إلى إظهار الجانب اليهودي من نسبها، فهي ترى أن "الدم هو الدم وأنك ترثه من والدتك" (ص34) في إشارة إلى مدى تأثرها بالجانب اليهودي من نسبها، تماما مثل المؤلفة التي كتبت هذه الرواية تعبيرا عن تحيزها لليهود وإسرائيل كما سأوضح.
خلال زيارة لها إلى إسرائيل تتعرف باربارا فووان على فريدي هاملتون، وهو دبلوماسي بريطاني يعيش في القدس الغربية، وهو يكتب الشعر بوصفه هواية له، ولنتذكر هنا أن الكاتبة شاعرة أيضا. وهو بحكم وضعه الدبلوماسي يمتلك الحق في التنقل بين شطري القدس التي كانت في زمن كتابة الرواية مقسمة إلى شرقية وغربية، وهي بقيت كذلك حتى عام 1967 حين احتلت
إسرائيل الشطر الشرقي من القدس. ويتم انتقال هاملتون بين شطري المدينة المقدسة، شأنه في ذلك شأن الدبلوماسيين الآخرين، عبر بوابة مندلبوم التي أعطت الرواية اسمها.
تعرب فووان عن رغبتها في عبور بوابة مندلبوم إلى القدس الشرقية لزيارة الأماكن المسيحية المقدسة في الأردن كما تعلن، وكذلك للقاء صديقها هاري كليغ الذي يعمل في الجانب الأردني من منطقة البحر الميت، ولكنها تخشى أن يؤدي اكتشاف الجانب اليهودي من نسبها إلى عدم منحها تأشيرة دخول إلى الأردن وأن يثير لها ذلك مشاكل مع العرب، وهي خشية يضخمها لها بعض أصدقائها الإسرائيليين مثل سول إفراييم الذي يقول لها إن من الحكمة لها أن تقلل من الحديث عن كونها نصف يهودية. "هنا، أنت تخاطرين بالدخول في مشاجرة، أما هناك فقد يكلفك ذلك طلقة تطلق عليك." (ص 38)، وحين تذكر جوانا أن باربارا تحمل جواز سفر بريطانيا يخبرها شخص يدعى مات في معرض تحذيره لها أن "معظم الذين قبض عليهم بوصفهم جواسيس لإسرائيل كانوا يحملون جوازات سفر بريطانية." (ص69)
(ص143) وفي موقع آخر من الرواية يروي ألكساندروس، وهو اسم غريب لشخصية عربية حادثة عن خلاف نشب بين السفارة البريطانية وبين الحكومة الأردنية حول زجاجة من النبيذ الإسرائيلي دخلت الأردن وقد كتب عليها "صنع في إسرائيل" بعد أن أبلغ خدم السفارة البريطانية الأردنيين السلطات الأردنية عنها.
ويزيد الأمر تعقيدا، كما تقول الروائية، نشر صورة لباربارا مع ابن خالها اليهودي الذي يعمل خبيرا في قضية أدولف آيخمان الذي تدور أحداث الرواية في زمن محاكمته في إسرائيل بعد خطفه من الأرجنتين عام 1961، ومن ثم إعدامه.
أقوتشكل زيارة الأردن عقدة الرواية الأساسية إذ تصبح زيارة الأردن والعودة منه إلى القدس الغربية الفكرة الأبرز التي تتمحور حولها أحداث الرواية الأخرى، إذ تقع فووان تحت هاجس أن
الجميع يتعقبها لقتلها أو لاعتقالها بتهمة أنها نصف يهودية. لذا فإنها تلجأ إلى استصدار شهادة تثبت أنها تنتمي إلى الكنيسة الكاثوليكية.
هذا التهويل في شأن العبور بين شطري القدس، يقوم على جهل غير عادي بالأوضاع في الأردن في تلك الفترة وبطبيعة العلاقات بين الأردن وإسرائيل من جهة وبين الأردن وبريطانيا من جهة أخرى، وجهل آخر بإجراءات الانتقال بين شطري القدس، والذي كان محكوما باتفاقيات بين الحكومة الأردنية وبين كل من إسرائيل عبر الأمم المتحدة وبينها وبين بريطانيا التي كانت لها، وما تزال، علاقات خاصة مع الأردن منذ تأسيسه إمارة لشرق الأردن عام 1921 وحتى بعد أن تحول إلى المملكة الأردنية الهاشمية عام 1946، وبعد ضم الضفة الغربية عقب احتلال الشطر الأكبر من فلسطين عام 1951.
من الواضح أن المؤلفة لا تعرف شيئا عن طبيعة العلاقة التي كانت سائدة بين البلدان العربية وإسرائيل، وخصوصا بين الأردن وإسرائيل. فقد كانت هناك حالة حرب بين الطرفين قطعتها هدنة أعقبتم مفاوضات بين الطرفين عام 1949. ولأن إسرائيل لم تكن موجودة قبل 1948 فإنه لم تكن هناك أصلا علاقات بين الدول العربية وإسرائيل لتقطع بعد الحرب التي نشبت في ذلك العام. وعليه فإن قصة تأشيرة الدخول من الأردن إلى إسرائيل لم تكن مطروحة أساسا. وذكرها هنا هو نوع من الجهل المطبق من جانب المؤلفة للموضوع الذي تكتب عنه روايتها. وقد كان معروفا أن السلطات الأردنية لم تكن تدقق أبدا في ديانات الزوار القادمين إليه من أوروبا أو الولايات المتحدة التي لا تذكر شيئا أصلا عن ديانة الشخص في هويته أوجواز سفره.
فمن المعروف أن بوابة مندلبوم كانت تغص بالزوار المسيحيين من الفلسطينيين الذين بقوا في بلادهم بعد الحرب العربية الإسرائيلية الأولى عام 1948، وفي كل عام في موسم الأعياد المسيحية كان هؤلاء يعبرون بوابة مندلبوم لزيارة أقاربهم في الأردن، وذلك بموجب اتفاقات كانت مبرمة بين الأردن وإٍسرائيل. وكان المسلمون من فلسطينيي عام 1948 يعبرون البوابة في طريقهم إلى السعودية لتأدية فريضة الحج كل عام.
ولكن الروائية تحول ما لديها من أوهام في شأن العلاقة بين الأردن وإسرائيل، إلى أساس تبني عليها زيارة باربارا فووان إلى القدس الشرقية وأريحا، والتي تتخذ في ظل هذه الأجواء المتخيلة طابع المغامرة، وهي مغامرة تبدأ من "تدبير" عملية عبور باربارا لبوابة مندلبوم، وحضورها احتفالات دينية مسيحية في القدس الشرقية لتنتهي بعودتها عبر البوابة نفسها بعد أن اكتملت المغامرة الزيارة. 
ما أن تصل باربارا إلى القدس الشرقية عبر البوابة حتى يسألها فريدي الذي يفترض أنه يعرف تماما إجراءات العبور بين شطري المدينة التي يعمل فيها دبلوماسيا، عما جرى معها فتجيب إجابة مطولة تدور حول الاحتياطات التي اتخذتها ثم تختم حديثها قائلة: "طالما أنك لا تذكر إسرائيل فإن كل شيء يسير على ما يرام."
غير أن الخدم العرب الذين يعملون عند آل كارترايت والذين تحل باربارا ضيفة عليهم يبلغون الحكومة الأردنية عنها فتقع في مأزق إذ إنها تصبح "مطلوبة" بسبب الدم اليهودي الذي يجري في عروقها على الرغم من كونها كاثوليكية الأب، ثم ما تلبث الحكومة الأردنية أن تطلب من جو رامديز، هذه الشخصية العربية ذات الاسم العجيب، أن يأتيها بمعلومات عن جاسوسة يهودية باسم باربارا فووان فيبدأ في البحث عنها بسؤال ابنته سوزي، وهي، كما ترسمها الروائية فتاة متمردة زرقاء العينين تتحدث أربع لغات، وهي في الوقت نفسه عشيقة شخصية عربية أخرى ذات اسم لا يقل غرابة عن رامديز هو ألكساندروس.
ولأنها مطلوبة، وفي إطار المغامرة نفسها تختبيء باربارا عند سوزي التي تقترح عليها لإتمام مراسيم حجها إلى الأراضي المقدسة في القدس الشرقية، أن ترتدي نقابا وأن تتصرف باعتبارها خادمتها لكي تشارك في الطقوس المسيحية التي تمثل صلب السيد المسيح. وحين يرى بعض الحجاج المسيحيين الأوروبيين باربارا وهي ترتدي النقاب يقول أحدهم: "متى يمكن لهؤلاء العربيات المتحولات إلى المسيحية أن يفهمن أنه ليس عليهن أن يلبسن نقابا بل غطاء للرأس وكفى." (ص103)
وفي أثناء ممارسة الطقس المسيحي يخطب رجل دين إنجليزي في الحجاج المسيحيين قائلا: "لقد كان غريزيا بالنسبة للمسيحيين منذ القدم أن يشاهدوا القدس قبل أن يموتوا. كانت القدس محجا لليهود قبل المسيحية بقرون." (ص197). يقول هذا على الرغم من كل ما تحتويه الرواية من حديث عن مدى خطورة ذكر كلمة يهودي في هذا الوسط العربي المعادي، ناهيك عن وجود مادي لشخص نصف يهودي مثل باربارا.
وتحاول باربارا أن تهرب من ملاحقة رامديز لها والذي يفترض أنه يتعقبها بناء على أوامر  من الحكومة الأردنية، ولكنها بمساعدة من سوزي إبنة رامديز نفسه وفريدي هاملتون الذي يكتشف بمساعدة من ألكساندروس مكان وجود باربارا، تذهب الأخيرة إلى أريحا حيث حيث تقيم الزوجة السابقة لجو رامديز في محاولة من جانبها للهرب من الأردن عبر أريحا بمساعدة فريدي وسوزي.
ثم تلتقي مغامرة باربارا بمغامرة أخرى تتخذ طابعا جاسوسيا، إذ تتحدث الكاتبة عن مشروع إسرائيلي لنقل المياه من منطقة الجليل، حيث توجد بحيرة طبريا التي تسميها إسرائيل بحر الجليل، إلى النقب، وهي منطقة صحراوية في جنوب شرقي فلسطين "لكي تجعل الصحراء تزهر" (ص116) في تكرار ممل لفكرة أن الصحراء في فلسطين لم تزدهر إلا بفضل وجود اليهود الذين جاؤوا فعمروها بعد أن كانت قاحلة. وتقول المؤلفة إن هذا المشروع قد أثار حفيظة العرب وغيظهم لأنهم اعتبروا تلك الخطوة من جانب إسرائيل سرقة لمياههم وحرمانهم من حقهم فيها وهو ما يعادل قتلهم.(ص 118) وتنزل الكاتبة بالرواية إلى مستوى مبتذل حين تجعل جاسوسا عربيا يسرق بعض أنابيب المشروع ويضع بدلا منها أنابيب بقياسات مختلفة، وتتنبه إسرائيل إلى ذلك فتحاول تتبع الجاسوس العربي في الأردن من خلال جواسيسها هناك وتلتقي المغامرتان في إطار من الوهم المحلق، فمن الطريف أن نذكر أن أعوام مطلع الستينات شهدت محاولات إسرائيلية حقيقية وليست روائية، لحرمان الأردن تحديدا من إقامة سد قريب من نهر الأردن، فبدأت في قصف العاملين فيه يوميا حتى يقلع الأردن عن أقامته رغم أهميته بالنسبة للأردن، وهو ما تم لإسرائيل في النهاية. ولكن الحقيقة أيضا تقول إن إسرائيل حاولت تغيير مجرى نهر الأردن وحرمان الأردن منه و"الحرمان يعادل القتل" كما تقول الكاتبة، وأن العرب قد وقفوا ضد الفكرة وعلى هذه الخلفية كان انعقاد مؤتمر القمة العربي الأول عام 1964.
وفي خط روائي آخر تربط المؤلفة اختفاء باربارا بغيبوبة تداهم فريدي، وهو ما  تعتبره باربارا اختفاء، كما تربط المؤلفة هذا الاختفاء باختفاء كليغ صديق باربارا الذي يعمل في البحر الميت.
وبعد مغامرات يمكن وصفها بالكاريكاتيرية، تعود باربارا فوان إلى القدس الغربية بمساعدة كل من سوزي وأخيها عبد الرامديز الذي يفترض أنه يعيش في إسرائيل، ولكنه يأتي إلى القدس الشرقية ببساطة لا تعرف سرها سوى الكاتبة التي أقامت روايتها على أساس صعوبة الانتقال بين شطري مدينة القدس، فهي لا تعرف أن مقاطعة العرب للفلسطينيين الذين بقوا في أرضهم بعد العام 1948 كانت أقسى بكثير من مقاطعة الأجانب سواء كانوا يهودا أو نصف يهود. فقد كان هؤلاء محاصرون تماما ولاصلة لهم بأي شكل من الأشكال بأقاربهم الذين غادروا وطنهم، حيث كان الاتصال بهم شبه محرم إن لم يكن من خلال هيئات دولية مثل الصليب الأحمر والأمم المتحدة. ولم يرفع هذا الحصار، للمفارقة، إلا بعد احتلال إسرائيل لما تبقى من أرض فلسطين عام 1967.
وإن كانت مشكلة رواية مثل "الطريق إلى بئر السبع" و"أرض الميعاد" هي احتواؤهما على بعض الأخطاء التاريخية والجغرافية والسياسية والفكرية فإن مشكلة رواية "بوابة مندلبوم" هي الجهل التام بالمنطقة، وهو جهل يشمل: التاريخ والجغرافيا والوضع السياسي والاجتماعي وطبيعة النظام الأردني آنذاك وعلاقاته بالأطراف المختلفة من حوله، والأوضاع السياسية التي كانت سائدة في الفترة التي يفترض أن أحداث الرواية قد وقعت خلالها، أي عام 1961، أو في زمن نشر الرواية لأول مرة عام 1965، كما يشمل الجهل طبيعة العلاقات التي كانت قائمة بين إسرائيل والدول العربية عموما، والعلاقات بين كل من الأردن وإسرائيل وبينهما وبين البلدان العربية. كما يشمل جهل الكاتبة الأسماء العربية والعادات وطبيعة العلاقات الاجتماعية بين الناس في كل منها. وفي واقع الأمر فإن من المستحيل الحديث عن جميع الأخطاء التي وردت في الرواية لأن تصحيحها يحتاج إلى كتاب بحجم الرواية نفسها لكثرة ما فيها من أخطاء.
فالرواية مثلا تقدم شخصيات غريبة بأسماء عجيبة تشير إلى جهل أكبر من مجرد عدم معرفة بأسماء الناس في منطقة من العالم يفترض أنها تعرفها إلى درجة تمكنها من الكتابة عنها، فهناك شخص (أميركي من أصل عربي) يعيش في القدس الغربية ويعطي فريدي دروسا في اللغة العربية باسم عبد الرامديز!!! وعبد الرامديز هذا هو ابن جو رامديز الذي يعيش في القدس الشرقية. وهناك شخص يعيش في القدس الشرقية تقدمه المؤلفة باعتباره "أرثوذوكسيا من لبنان" باسم ألكساندروس. ويحدث أن يقابل فريدي هاملتون طبيبا يدعى الدكتور "رصيفة"، وهناك فتاة تمنحها المؤلفة اسم "كيرا"، ولا أحد يدري من أين أتت المؤلفة بهذه الأسماء لتعطيها لشخصياتها، وذلك على رغم الغنى الهائل في الأسماء العربية.
ومثلما هو متوقع فإن الأسماء الغريبة تشير إلى شخصيات روائية أكثر غرابة، فعبدالرامديز في الأصل أردني من مدينة مادبا في الضفة الشرقية لنهر الأردن، وهو يذهب إلى مصر للدراسة، وهناك يتعلق بفتاة مسيحية أرمنية ويتم تعميده بوصفه مسيحيا قبطيا!!! وفي العام 1948 تندلع المعارك بين العرب واليهود فيقفل عبد الرامديز محله في حيفا وينتقل إلى عكا بعد أن يطلب من راهب فرانسسكاني أن يعمده على دينه الجديد!!!
 أما كيرا، وهو اسم آخرغريب على البيئة العربية، فهي "قومية عربية".يقع عبد الرامديز المسيحي في حبها. وإن كان من غير الغريب أن يحب مسيحي مسلمة فإن من الغريب على قومية عربية مثلها أن ترفع شعار "وحدة المسلمين" (ص96) ما يعني أن الكاتبة لا تعرف الإسلام ولا القومية العربية ولا الفرق بينهما كتيارات فكرية وسياسية أو كعقيدتين لم تكونا دائما على وفاق، وخاصة في الفترة التي تدور أحداث الرواية المفترضة فيها.
ولكن الجهل بالأسماء ليس سوى جزء يسير من الجهل العام بالموضوع الذي تتناوله المؤلفة انطلاقا من تحيز تام لكل ما هو يهودي وإسرائيلي وأوروبي، وهو ما يجعل الشخصيات التي تتحدث عنها الرواية أكثر تشوها من أسمائها التي لا يعرف أحد من أين أتى بها فرامديز العربي الثري الذي يدعوه الجميع "العميل" تتضمن مصالحه وكالة للسفريات ووكالة للتأمين على الحياة ووكالة للتحريات!!! وتضيف المؤلفة قائلة بين مزدوجين" (ولا شك أنه كان عميلا سياسيا) مصدرة حكما عليه قبل أن تضيف "كان جو رامديز العجوز قدم نفسه في صورة مؤثرة لفريدي بوصفه كذابا رهيبا." (ص62)
ومن الطريف أيضا أنها تقدم المؤلفة كلا من عبد الرامديز ووالده جو رامديز بوصفهما ممثلين لشركة تأمين واحدة: الإبن في إسرائيل والأب في القدس الشرقية التي كانت أردنية آنذاك. ومن الواضح أن الكاتبة لم تكن تعرف شيئا عن كيفية عيش العرب في إسرائيل في زمن كتابة الرواية حيث كانوا جميع يخضعون لسلطة الحاكم العسكري ولا يحق لهم التنقل من قرية إلى قرية داخل فلسطين إلا بموجب تصريح منه، وهو، أي الحاكم العسكري، كان مكلفا حتى بحضور الأعراس التي كان يقيمها الفلسطينيون، وقد استمر هذا الوضع حتى العام 1966. وعليه فمن غير الممكن أن يكون الأب وابنه، في كل من الأردن وإسرائيل اللتين كانتا في قطيعة شبه تامة، حاصلان على حق تمثيل شركة تأمين واحدة حتى وإن كانا يعملان في صورة غير شرعية. كما يقول عبد الرامديز
وبعيدا عن الأسماء فإن الكاتبة تبدي منذ صفحات الرواية الأولى تحيزا واضحا لليهود الأوروبيين الذين تنحدر من صلبهم بحسب الأعراف اليهودية التي تعتبرها جوهرية، وهذا الموقف المتعاطف هو الدافع إلى تحيز الروائية في الصراع بين الجانبين اليهودي والعربي أو الفلسطيني في فلسطين، وهو تحيز يظهر على ألسنة الشخصيات المختلفة في الرواية، كما يظهر على لسان بطلة الرواية التي رسمتها على شاكلتها تقريبا. وإن كانت للموقف المتحيز مبرراته فإن التحيز لدى سبارك كثيرا ما يتحول إلى نوع من العنصرية، فالإسرائيليون في الرواية جادون، نشطون، متحضرون. وفي بداية رحلتها إلى إسرائيل يقول دليل سياحي إسرائيلي لباربارا: "أأب أنظري! كل هذا نما خلال ثلاث عشرة سنة،" (ص23) في إشارة إلى أنه مع نشوء الدولة الإسرائيلية عام 1948 اخضرت الأرض التي كانت جرداء وأزهرت الصحراء بفضل المهاجرين اليهود، وهذه فكرة متكررة في روايات من الدرجة الثالثة عن الصراع العربي الإسرائيلي، وفي الأفلام الهوليوودية التي تتناول هذا الصراع. ولكن كاتبا إسرائيليا جادا مثل يورام كانيوك يسخر من هذه الفكرة في روايته "اعترافات عربي صالح" بوصفها فكرة مبتذلة تتكرر بوصفها موضوعا للإنشاء يقترح على تلاميذ المدارس الإسرائيلية كتابته.
ويرافق باربارا دليل سياحي يهودي من أصل بولندي يلح في سؤالها عن هويتها وديانتها إلى أن يقول إنه يحب هذه البلاد (فلسطين) وأنه جاء إليها سباحة، ثم يستطرد قائلا إنه وصل إليها في سفينة تحمل مهاجرين يهودا غير شرعيين عام 1947 ما جعله يسبح نحو الشاطيء ليلا ليدخل البلاد. وهو قول لا تعلق الكاتبة عليه بشيء علما بأنه يشكل اعترافا بأنه دخل البلاد في صورة غير مشروعة مغادرا وطنه الأًًًصلي بولندا حيث كان الرهبان الكاثوليك هم الذين يحرضون على ارتكاب المجازر ضد اليهود كما يقول لها: "- في بولندا كان رجال الدين الكاثوليك هم الذين يقودون البوغرومز ضد اليهود" (ص 29)، والبوغرومز هو الاسم الذي يطلق على المجازر التي كانت ترتكب ضد اليهود في أوروبا الشرقية، وحين يخبرها الدليل السياحي البولندي الأصل بتلك المعلومة غير المؤكدة ترد قائلة: ما كان عليهم أن يفعلوا ذلك"(ص 29) وكأن تلك تهمة ثابتة عليهم.
وفي المقابل فإن العرب فلسطينيين كانوا أو غير فلسطينيين متخلفون وجهلة وعديمو المباديء والقيم، كما أن من السهل تجنيدهم جواسيس لخدمة أكثر من جهاز مخابرات، ففي أحد مشاهد الرواية تقول سوزي أخت عبد الرامديز التي تقع في حب شخص فرنسي" "أن تكون جاسوسا من نوع ما هو الشيء المحترم الوحيد الذي يمكن لأي عربي متعلم أن يفعله، حتى لو كان ذلك تجسس العرب على بعضهم بعضا." (ص 97) تقول سوزي ذلك من واقع معرفتها بأن والدها جو رامديز "كان مخبرا سياسيا للحكومة الأردنية، وكان يرسل معلومات استخبارية للجمهورية العربية المتحدة تتعلق بالأردن." (ص 208)، وهو قول غريب لا يعرف أن العلاقات بين الأردن والجمهورية العربية المتحدة كانت آنذاك على درجة كبيرة من التوتر والاتهامات المتبادلة.
ولكن جو رامديز ليس جاسوسا فقط، بل هو إلى جانب ذلك قواد يوزع العاهرات على الزبائن الراغبين، فالعرب كما تراهم المؤلفة متعطشون للجنس ولا يتورعون عن تحويله إلى تجارة مربحة، وحين  تطلب منه ابنته أن يغير نوع الفساد الذي يمارسه بأن يعمل قوادا للغلمان بدلا من النساء يرفض "لأن من واجبه تجاه شرف وطنه أن يقدم الفتيات." (ص233)
والعرب لدى المؤلفة كذابون، ففي أحد مشاهد الرواية يشير فريدي إلى جو رامديز بوصفه كذابا، فتحاول جوانا كارترايت، وهي إنجليزية تقيم في القدس الشرقية، أن تشرح له أنه على خطأ فتقول "إنهم يفكرون بالرموز" في إشارة إلى العرب. وتضيف "هذه هي الذهنية العربية." (ص 67) وهم أيضا مرتشون، ففي حوار بين فريدي وجوانا حول اختفاء باربارا يقول فريدي إنه بحث في أسماء المغادرين للأردن ولكنه لم يجد اسم باربارا بينهم، فترد جوانا إن ذلك ربما يكون قد تم عن طريق الرشوة "الكل هنا يرتشي." (ص128)
وهم لا يشكون نقص المعرفة والعلم فقط، بل ونقص التغذية أيضا: "وشعر بالأسف على الأطفال العرب في الجانب الآخر – الذين يعانون من نقص في التغذية، وهم يقودون حميرهم الجرباء، ناحلين بثيابهم الرثة. (ص11).
وتصف الكاتبة صبيا فلسطينيا بأنه "نحيل، يعاني من عاهة في رجليه،" (ص51)  ويتذكر فريدي الأطفال الإنجليز الذين كان يراهم في بلدته هاركاسل، ولكنه "كان يفضل  (الأطفال العرب) أولئك المفعمين لحيوية منهم في أزقة الأسواق الشعبية وهم يتشاجرون ويمارسون الخداع ويطلقون الكلمات العربية الملغزة على بعضهم بعضا في حضور غريب، أو يصرخون بالشتائم المرحة على أصدقائهم الصغار الذين كانوا يقودون باستمرار حميرهم الجرباء المحملة بأكثر مما تحتمل عبر الممرات الضيقة في القدس الأردنية." (ص53). وتصف المؤلفة النساء العربيات "المتسكعات" في شوارع القدس القديمة بأنهن "يعانين من مراحل مختلفة من سوء التغذية ومن التشوه الخلقي." (ص 184) وتشير إلى جندي أردني على أنه "من ناحية بيولوجية تقريبا لا يستطيع أن يلفظ كلمة إسرائيل" (ص11)
وتحاول الكاتبة أن تدعي لنفسها بعض الموضوعية فتقدم شخصية تدعى روث وهي إنجليزية منشقة إن جاز التعبير، ولكن أفكارها تحمل شيئا من العداء للسامية، فهي تعتقد أن الغرب وقع ضحية اليهود بما في ذلك بريطانيا والاتحاد السوفياتي، وهي تعتقد أن باربارا عضو في تنظيمها. والطريف أن هذا التنظيم هو "تنظيم قومي عربي مرتبط بالشيوعية ومقره القاهرة وله فروع في أميركا اللاتينية!!" (ص265) وهو ما يفضح جهلا لا نظير له لدى المؤلفة التي تجمع كل هذه الصفات المتناقضة مع بعضها بعضا في شخصية واحدة.
وفي صورة ما فإن الخلط الذي يتبدى في شخصية روث يذكرنا بحوار بين رامديز ووالده، يتحدث فيه الاثنان عن كل شيء: القوميين والصوفيين والشيوخ والسوريين واليمنيين والسامريين والإسرائيليين والفتيات العربيات(ص 89). وهي تشكيلة عجيبة حقا.
غير أن محاولات الموضوعية المزعومة تبلغ ذروتها في شخصية مندل إفراييم شقيق سول إفراييم الذي تنشأ صداقة بينه وبين عبد الرامديز إبن رامديز الذي يعيش في إسرائيل أساسها خيانة مندل لبلده وتعامله مع العرب على الجانب الآخر من الحدود مع إسرائيل التي يعيش الإثنان فيها، وكذلك على أساس من انتماء الاثنين إلى العرق السامي!!! فيصبح الاثنان نماذج ساطعة للعبث والتمرد المجاني على كل شيء. وترسم الروائية مشهدا عجائبيا لحفلة في قبو ديوان عبد الرامديز في مدينة عكا قوامه اللامعقولية والجهل من جانب المؤلفة بكل شيء تتحدث عنه. في ذلك المشهد هناك فتاة يهودية تعزف على الغيتار أغنية (جاز) معروفة في الأردن!!! وترقص على ألحانها فتاة عربية نحيلة رقصة ماجنة تقول الكاتبة إنها كانت معروفة في نوادي عمان الليلية!!! واسمها "أحب الحسين،" في إشارة إلى الملك الأردني الراحل، ويكون هناك أيضا مندل اليهودي وعبد الرامديز العربي المسيحي اللذان يرقصان مع الراقصة والمغنية ويتناول الجميع الحشيس والماريوانا وأنواعا أخرى من المخدرات.
ويغني عبدالرامديز "أغنية الحرية" التي كان الجميع يتسمر حين يسمعها. وتقول المؤلفة إن ألحانها هي ألحان طقوس قبطية سورية يونانية!!! وفي النهاية عبد الرامديز ويغني معه الجميع أغنية عجيبة أيضا تقول كلماتها:                              
"والدي يذهب بلاه... بلاه... بلاه من أجل حب الله" 
"والدي يدق بحظ سيء" يغني مندل إفراييم.                                         
"آيخمن قتل جميع أطفال إسرائيل"                                                
"محمد قتل جميع أطفال إسرائيل أيضا من أجل حب الله. وكان هناك دم"                
"أطفال إسرائيل اقتلعوا أتباع محمد المقدسيين. إنهم لاجئون. إنهم يبكون."              
"أنظر ماذا فعل الراعي الثري بسكان الكيبوتزات في 1946. لقد أطلق النار فقتل الشيخ ورجاله آمين."                                                                       
"أنظر ما ذا فعلت شتيرن في دير ياسين لقد قتلوا كثيرين وكان هناك دم."           
"أبي، يعيش بن غوريون، يعيش ناصر، يعيش الإسلام، يعيش كل رجال إسرائيل البدينين."
على هذا المنوال يستمر هذا المشهد العجيب الذي لا يشير إلا إلى الجهل المطبق للمؤلفة بالموضوع الذي تتناوله وبطبيعة الحياة في البلاد التي تكتب عنها وبجوهر الصراع الذي تحاول سبر غوره وبجواهر الشخصيات التي تحاول تقديمها بوصفها تكثيفا لحالة الصراع في المنطقة.
ولا شك أن مجرد رسم مثل هذا المشهد يعد دليلا على جهل مطبق بالطريقة التي كانت تسير بها الأمور ليس في الأردن فحسب، والذي لم يكن قد عرف النوادي الليلية ولا أغاني الجاز ولا الرقصات الماجنة، وجهل بالمنطقة بأكملها.
منطلقة من التحيز لإسرائيل في الصراع العربي الإسرائيلي كتبت ميورييل سبارك روايتها بوابة مندلبوم، ولكن لأن التحيز هو موقف مسبق، فقد ركزت المؤلفة على الأفكار ونسيت الوقائع والحقائق التي تفتقدها الرواية في صورة فاجعة، لقد قامت الرواية كلها على فكرة واهية لا أساس مقنعا لها: باربارا فووان الكاثوليكية من أم يهودية تزور إسرائيل. ومن هناك تقرر العبور إلى الأردن من خلال بوابة مندلبوم التي كانت قبل عام 1967 بوابة العبور بين إسرائيل والأردن، ولكن مخاوف وهمية لا أساس لها تحول الرحلة إلى مغامرة مفتعلة وتحول الرواية إلى تراكم من الأحداث التي تفتقد أساسا واقعيا تقوم عليه وتطورات لا تقل افتقارا إلى المنطق تقوم بها شخصيات لا معالم أو سمات واضحة لها تتحرك في محيط تجهله المؤلفة جهلا مطبقا.
أمر جدي واحد فقط قدمته الرواية هو مدى الضرر الفني والسياسي والفكري الذي يمكن أن يلحقه التحيز بعمل أدبي.
مراجع:
_ إثيل مانين، الطريق إلى بئر السبع، دار طلاس للترجمة والدراسات والنشر، ترجمة نظمي لوقا، دمشق، سوريا 1985.
_ يوري كوليسنيكوف، "أرض الميعاد"،  ترجمة دار التقدم، موسكو، الاتحاد السوفياتي 1979.
_, Muriel Spark  The Mandelbaum Gate, Penguin Books 1965
  Hayati, Syracuse Univesity Press, USA 2000 Miriam Cooke_











هناك تعليقان (2):