الخميس، 20 يونيو 2013

الأنماط الثقافية الغربية بين الفشل و التبني الجزئي في الجزائر



الأنماط الثقافية الغربية بين الفشل و التبني الجزئي في الجزائر
أ/ آخام مليكة
أ/ حداد العيد·
مقدمة
تعتبر إشكالية المدرسة أهم الإشكاليات التربوية المعاصرة بحكم مضمون الرسالة الخطيرة التي تحملها في عملية إعداد النشء لتحمل مسؤولية قيادة مجتمعها بجدارة و اقتدار. ليس عبثا أن صارت قضية المدرسة قضية عالمية تناقش على المستوى الدولي، وهذا بالنظر للوظيفة السوسيولوجية التي نالتها المدرسة في المجتمع، إذ أصبح الإصلاح الاجتماعي والتنمية الاجتماعية مرتبطان بالمدرسة، مما جعل المشروع التعليمي يتضمن بطريقة ضمنية أو صريحة تغيير المؤسسات الاجتماعية المختلفة، بما في ذلك أول مؤسسة اجتماعية في التاريخ الاجتماعي(الأسرة)، وحتى الاستعمار المعاصر لم يجد وسيلة أنجع من المدرسة لبسط سيطرته السياسية والثقافية ، لذلك، كثير من مشاريع الإصلاح التربوي في الدول الموصوفة بالمتخلفة أو النامية يصاحبها جدل حاد حول رسالة المشروع التربوي، كثيرا ما يثير حالة الشك تجاه مضامين إيديولوجية استعمارية تتخلل المشروع الإصلاحي.
أولت المجتمعات أهمية قصوى للمدرسة، ولمناهجها التعليمية، وصارت تتابع باستمرار ما يدور داخل هذه العلبة السوداء وبحذر شديد، من حيث الإصلاح والتحصين الإيديولوجي. خصوصيات المجتمعات من حيث المسار التاريخي المجسد في التراث الثقافي بكل ما يحمله من معنى، ومن حيث النمو الاجتماعي بكل تجلياته الاقتصادية والسياسية والتربوية مهدد بالزوال لأن هناك دول تحاول تصدير نمطها الثقافي عبر المشاريع التربوية لبسط نفوذها والحفاظ على هيمنتها على مجتمعات يمكن اعتبارها في مرحلة البحث عن ذاتها، خاصة إلى تلك التي تسعى جاهدة تحصين نفسها بالمحافظة على أنماطها الثقافية و يتم ذلك عبر قناة المدرسة.
تقع الجزائر ضمن الجغرافيا الاجتماعية المضطربة بسبب حالة التوتر الأمني التي تعيشها، إيمانها الراسخ أن المخرج من الأزمة يكمن في الإصلاح الذي يبدأ من المدرسة.
جاء الاستعمار الفرنسي، وارث قيم فلسفة الأنوار وحقوق الإنسان ومبادئ الثورة الفرنسية إلى الجزائر  حاملا رسالة تحضر و عصرنة الفرد الجزائري المتخلف الذي لا يعرف سواء الحرب و القرصنة، أغلقت المؤسسات التعليمية و الدينية و تحولت دور العبادة إلى كنائس فمنعت الشعائر الإسلامية وتقهقرت اللغة العربية إلى مرتبة دنيا تاركة المجال لقيم الحضارة  المسيحية و اللغة الفرنسية  و هذا لمدة 130 سنة، علما أن الاستعمار الفرنسي كان استعمارا استيطانيا بكل ما تحمله العبارة من معنى، إذ جلب معه مستوطنين من جنسيات متنوعة تنحدر من أوساط أقل ما يقال عنها أنها دنيئة، كل واحد يحمل في ذات كيانه مشروعا ثقافيا مغاير تماما لحقيقة الوضع التاريخي و الاجتماعي الجزائري.
كان المقصود من النوايا الاستعمارية هو القضاء على جوهر المقومات الأساسية للشخصية الجزائرية لانصهارها في الثقافة الفرنسية الغربية وسلخها كلية عن انتمائها الحضاري ألمغاربي و العربي و الإسلامي، حيث أضفت فرنسا على احتلالها بعدا ثقافيا و حضاريا لا يزولان بزوال السلطة السياسية و جلاء القوة العسكرية"[1] . سيطرة اللغة الفرنسية كوسيلة اتصال و تعبير كان عبارة عن الوعاء الثقافي الذي يكرس استمرارية النفوذ و الهيمنة.
 ارتكزت السياسة التعليمية  الاستعمارية على فرنسة و تنصير و إدماج الفرد الجزائري في منظومتها الحضارية لمحو هويته  و تغريبه في وطنه، فتم ذلك  بواسطة حملات التبشير المسيحية التي أنشأت لها فرنسا مدارس دينية خاصة بها لمحاربة اللغة العربية و المدارس القرآنية و الزوايا.   
انعكست هذه السياسة في الكتب المدرسية لتلك الفترة التي تصف الجزائري أنه " قاطع طريق و مجرم، بندقيته أو سيفه أو سكنه لا يفارقه أبدا، فهو الجاهل غير المنضبط " فيستوجب استعماره لتهذيبه و قتله كلما اقتضى الأمر لأنه يحارب الدين المسيحي. تقودنا المقاربة من جهة إلى القانون الممجد للاستعمار الصادر عن البرلمان الفرنسي في فيفري 2005 الذي يجد للاستدمار[2] مزايا على الشعوب المستعمرة بإدخال الحضارة عليها و شق الطرقات و المستشفيات... و من ناحية أخرى  إلى الصورة النمطية للمواطن الجزائري الحالي الذي يترادف بعد المأساة التي عاشتها الجزائر في التسعينات" الملتحي  الأصولي المسلم،الإرهابي القاتل"
تطور حركية التعليم في الجزائر
مرت حركة التعليم في الجزائر بعدة مراحل أساسية، تكونت خلالها المدرسة الجزائرية، وإن
كانت لا تختلف كثيرا من حيث الشكل عن ما يجري في المجتمعات الأخرى، إلا أن المشكلة الاستعمارية في الجزائر أعطت للمدرسة صبغة خاصة ، جعلت أولوية اهتمامها منصبا على التحرر من الهيمنة الثقافية الاستعمارية، وذلك بإعادة الصياغة التصورية للمدرسة الجزائرية بمقتضى الإصلاح الجذري الذي حدث في سنة 1976 و سبقته عدة إصلاحات متتالية هدفها كلها تعريب التعليم في جميع أطواره. الظروف الاقتصادية والسياسية التي مرت بها البلاد، فضلا عن غياب تصور جدي مستقبلي للمدرسة حال دون تطبيقه، فكان إصلاح 2003/2004 الذي اعتبره البعض أنه نوع من الردة لأنه عودة إلى عهد الازدواجية، وفرنسة التعليم.
واجهت الجزائر المستقلة إشكاليتان تمثلتا في انتشار واسع و تعميم للغة الفرنسية على كل الأصعدة و كذا الانسحاب الفوري للمعلمين الفرنسيين من النظام التربوي، فالرهان و التحدي صعب التحقيق لأن الحتمية التاريخية تفرض نفسها في الجزائر، لأن البيئة و الشارع و الأسرة و الإدارة يتسمون بطابع ازدواجية اللغة.
تحررا من قيود الهيمنة الفرنسية تجسدت أولى خطوات النظام في الجزائر في استرجاع أحد مقومات سيادتها الوطنية باعتبار اللغة الفرنسية لغة أجنبية. اختلفت الآراء بين تيارين متحيزين، فريق يطلق  على نفسه تسمية "التيار الوطني الإسلامي"(المعربين)  ساند التعريب الفوري لأن العربية هي اللغة الرسمية و القومية ولغة دين الشعب الجزائري، وفريق ينعت أنه يساري علماني يدعم الوضع القائم لأن اللغة الفرنسية(المفر نسين) لغة عالمية ولغة علم و نافدة على الثقافة الغربية. منذ الاستقلال و النقاش دائر لحد الساعة أي 40 سنة من الحرية لم يحسم الموضوع الذي لازال يثير دجالات ساخنة لأن كلما كانت هناك محاولة للانفتاح على اللغات في الجزائر إلا و ثارت ثائرة المعربين متهمين الطرف الآخر "بحزب فرنسا".
تميزت المنظومة التربوية في  الفترة التي أعقبت الاستقلال بإرادة تحقيق التمدرس الشامل ببعده الديمقراطي و الاشتراكي لإقامة نظام تربوي وطني يتماشى في مناهجه و بنائه مع منطلق الاستقلال.
لهذا الغرض تم طرح سياسة تربوية تقوم على القطيعة النهائية مع النظام الموروث"إذ ليس من المعقول أن يستمر بلد فتي مقبل على تحول شامل في المعاناة من نقائص نظام تربوي غريب عنه و يتعارض مع مطامحه المشروعة"[3]، فقامت الجزائر "بإصلاح النظام التربوي و تطويره و تكييفه وفق أوضاعها الاجتماعية و الاقتصادية بهدف التخفيف من حدة الضغوطات الأجنبية ...و إبراز قيمة الاستقلال و أبعاده الوطنية و التاريخية و الحضارية".[4] انعكست فلسفة الحزب الواحد و التفكير الواحد و اللغة الواحدة التي كان النظام السياسي قائما عليها على المدرسة حتى تمرد أبناؤها عليها في أحداث أكتوبر 1988التي أدخلت الجزائر عهدا جديدا تميز بأسلوب الانفتاح.
كرس دستور [5]1989المعدل في 1996[6] مبدأ التعددية الحزبية الذي أدى بالجمعيات السياسية والنخبة الفكرية بمختلف إيديولوجياتها إلى طرح انشغالاتها حول المدرسة التي تأسست في ظل نظام سياسي اشتراكي، فلاتجاه أصبح نحو ضرورة إعادة صياغة نظام تربوي يتماشى والتغيرات الجديدة في المجتمع الذي برزت فيه أنماط ثقافية تنادي بالتنوع الثقافي و تجسد فعلا ذلك بالاعتراف بالأمازيغية كأحد عناصر الهوية الوطنية، ومكون من مكونات الشخصية الوطنية الجزائرية[7]، ضيف إلى ذلك تحديات العصر الجديد الممثلة في ثورة المعلوماتية والتكنولوجيا، وعصر الهيمنة الثقافية.
تعاني المنظومة التربوية الجزائرية من عائق هو محل جدال بين النخبة الجزائرية مثمثل في قضية الهوية الوطنية، فمنهم من يحيل المشكلة إلى اختلال نسقي فقط يستدعي إصلاحا فنيا، ومنهم من يرى المشكلة أعمق تحتاج إلى إصلاح جذري. أفرزت السياسة التربوية المنتهجة اتجاهين متناحرين لحد اليوم ، أصحاب المدرسة القديمة المنادين للحفاظ على النمط التعليمي القديم الكلاسيكي، وأصحاب المدرسة الحديثة التي تعتمد في مسيرتها على أساليب و منهج النظم المتطورة قصد مواكبة العصرنة و التطور الحضاري. ومنذ الاستقلال تعددت مبادرات الإصلاح و تتابعت ولحد 2006 لم تجد المنظومة التربوية ضالتها، يرجع ذلك إلى أن الإصلاح لم يكيف للأوضاع السائدة و الواقع الاجتماعي المعاش، و لم ينع من أصالة الوطن بل خضع لمواقف ارتجالية نابعة من قرارات سياسة و خطابات إيديولوجية أثر على المردود العلمي و فعاليته في إنتاج نمط تغير جديد.
تعود المشكلات التربوية في الجزائر إلى أسباب بيداغوجية ومنهجية، وسياسية وإيديولوجية وثقافية، واقتصادية، نقتصر في دراستنا هذه على المشكلات الإيديولوجية والثقافية والسياسية :
المشكلات الإيديولوجية والثقافية والسياسية:
يمكن القول أن  الإشكاليات التي تعاني منها المنظومة التربوية تعود إلى الظروف التاريخية التي مر بها المجتمع الجزائري، فبالنظر للتركيبة العرقية له، هناك تمازج عربي أمازيغي إفريقي تبلور عبر مراحل زمنية، مكونا نسيجا اجتماعيا يعتبر الإسلام المركب الأساسي له إذ أنه، ولوقت طويل بقي العربي يعرف في الجزائر والمغرب العربي عموما بالمسلم، والمسلم بالعربي، ولم تطرح القضية على أساس انتساب الأمازيغي للقومية العربية، بل على أساس الانتساب الديني، فكل عربي في نظر الأمازيغي هو مسلم، والعكس صحيح، لذلك فالأمازيغي حين ينتسب للعربي هو يريد انتسابه للإسلام.
الذي يهم القضية التربوية في هذا الشأن ليس البحث عن الأصول العرقية للمجتمع الجزائري، بقدر ما هو تجاوز المشكلة الثقافية اللغوية التي أخذت أبعادا أقل ما يقال عنها أنها خطيرة،عادة ما تنسب  للرواسب التاريخية التي استغلها الاستعمار الفرنسي لفترة من الزمن، لتجد نفسها مؤطرة بصيغ مختلفة في الوقت الراهن، وتعتبر من الناحية السوسيولوجية مشكلة أيديولوجية وسياسية، تطورت على المستوى السياسي، خاصة بعد التحولات السياسية في المجتمع، وصارت موضوعا للمقايضة السياسية، والتموقع السلطوي.أما بالنسبة للصراع الثقافي فهو حصيلة موروث الفترة الاستعمارية، والذي دام 130 سنة، بإعادة صياغة وضع اجتماعي مغاير تماما، إلا أن رفض و مقاومة الشعب الجزائري للمشروع الاستعماري ساعد على صيانة شخصيته من كل سياسات الاندماج التي كان الاحتلال يسعى إليها. هذا لم يمنع من بروز تيارات ثقافية متمايزة في المجتمع تيار فرانكفوني تكون في المدارس الفرنسية، وتيار عربي قومي إسلامي تكون في المدارس الحرة العربية، والحاجز القائم داخل النخبة الجزائرية هو عائق اللغة، والذي تفرعت عنه كل الاختلافات، فالتيار الفرانكفوني يعتبر اللغة الفرنسية غنيمة[8] حرب لا ينبغي التفريط فيها، والتيار الآخر يرى فيها تجسيدا للهيمنة الثقافية الاستعمارية، والصراع لم يحسم بعد. ترجع معظم التحاليل الوضع إلى الصراع الإيديولوجي والسياسي الذي لا يتعلق بالثوابت الوطنية بقدر ما يتعلق بالمكتسبات السياسية والاجتماعية فالجدل الإيديولوجي بين النخب يطلق عليه بعض الباحثين اسم الثلاثية المفتعلة: الدين، واللغة، والعرق.
التحيز للتعليم العربي
الجزائر دولة عربية، دينها الإسلام، و العربية هي من مقومات شخصيتها الوطنية، فعليه فإن المدرسة تلعب دور تلقين الأجيال قيم العروبة و الإسلام. على هذا الأساس نشأت المدرسة الجزائرية التي لم يكن لها وجود لأن النظام التربوي و التعليمي كان فرنسيا محضا. يعتقد هذا التيار أنه باستقلال الجزائر استلمت المدرسة أصالتها و عروبتها بتعليم أبناء الوطن تاريخهم و لغتهم و دينهم و بقاء الفرنسية هو تهديد لوحدة الأمة وخضوع لهيمنة الفرانكفونية التي حاربها الأجداد بالنفس و النفيس، فهي خطر على المنظومة التربوية و الهوية القومية بل انسلاخ من الأصالة لأنه يؤدي إلى تغير  سمات وملامح المجتمع و هو ما يسميه التيار بالاستثناء الثقافي والأصالة الثقافية في الجزائر، أكثر من ذلك يعتبر أن الجيل الحالي لم يتلق في المدرسة قيم العروبة والإسلام بصفة كافية،. فيدعو إلى المحافظة على الثقافة السائدة في المجتمع وتراثه لنقلها للأجيال اللاحقة عن طريق:
-          جزأرة الإطارات
-          تعريب التعليم
-          ديمقراطية و إلزامية التعليم بإتاحة الفرصة لجميع أطفال الجزائر المقعد دراسي
-          عصرنة المناهج و تطويرها
-          تكوين مواطن صالح
-           
إلا أن نتائجها تعبر عن نفسها بتدهور المستوى التعليمي و اللغوي،و التسرب المدرسي المتواصل وهذا لا يرجع للنظرة الضيقة للتيارين إنما لأسباب متعددة منها ما هو مادي(نقص المنشآت المدرسية و اكتظاظ الأقسام)، ومنها ما هو متعلق بضعف في تشخيص العلل، و منه ما يتصل بأساليب و طرق التدريس و انتقاء المناهج و البرامج التي تتسم الحركية و عدم استقرار، ومنها ما هو مرتبط بالمتابعة و البحث و التقويم. و ما أزمة المنظومة التربوية إلا انعكاسا للتناقضات التي يعايشها المجتمع الذي دخل من نهاية الثمانيات  فترة لا أمن استهدف فيها الفرد في إنسانيته و تاريخه و ثقافته و هويته.
التحيز للتعليم الغربي
يصف الطرف المعارض هذا الاتجاه بالتحالف علماني لأنه يعتبر العربية لغة التخلف و العصور الوسطى لأن تعريب المدرسة الجزائرية بعد الاستقلال جعلها مصدرا لتخريج الإرهابيين الذين شكلوا الجماعات المسلحة التي تمارس العنف والتقتيل منذ عشر سنوات، لان مناهجها ذات طابع عتيق وديني بينما الفرنسية هي مصدر الحداثة والتنوير.
من ناحية أخرى تري أن الجيل الجزائري الحالي منكوب لان المدرسة الجزائرية بدل أن تكون هي رمز التغيير الاجتماعي لأنها تحمل راية التطور بحكم موقعها في المجتمع ودورها في إعداد الأجيال التي تقود وتتحمل مسؤولية شؤون بلادها و "لعل مجتمعنا  الحديث في هذه الفترة الحاسمة من التطور العلمي و التكنولوجي والتي يؤمن فيها بضرورة التغيير حتميته يلقي على المدرسة عبأ كبيرا في قيادة هذا التغيير"[9]، فإنها أنجبت أفرادا رفعوا السلاح ضد أمتهم.   
مناقشة الموضوع:
قضية في الجزائر ليست وليدة الصدفة، العربية /الفرنسية يعبران عن اتجاهان متناقضان يمثلان فئتين اجتماعيتين أين اللغة تؤدي أدوار اجتماعية،الأولى تتمسك بموروث السلف و الماضي بالحفاظ على الأصالة والدين، و الثانية تكرس النجاح الاجتماعي و الاقتصادي فالتغيير بالتطلع إلى  المستقبل.   
الوجه الثقافي للاستقلال يبرز أن العربية تعكس الهوية الوطنية المرتبطة بالهوية الإسلامية التي خاضت حربا تحريرية ضد المستعمر فهي تملك الشرعية التاريخية، أما الفرنسية فهي رمز للتطور و التنمية التي كانت من أحد أهداف الاستقلال، و كأن الهوية الوطنية لا تجد ملامحها إلا و هي متصارعة مع المحتل. يظهر أن الانفتاح الاقتصادي و الشراكة مع الاتحاد الأوروبي سيعمق الفجوة.
هذا يعني أن اللغة العربية في شكلها المحلي و اللغات الشعبية لا مكانة لها، فهي محل احتقار و عدم اهتمام لأنها في نظر السلطة ليس فقط لا تحفز على الحداثة إنما تغذي الجهوية و الانفصالية اللتان تعملان على اندثار مكونات الدولة، أدت مثل هذه التصرفات إلى نفي كلي للثقافات المحلية التي لم تستفد من أي دعم سياسي أو مالي الأمر الذي دفع بعض المفكرين إلى القول أنها مرحلة  التفقيرالتقافي[10].    
تعارض اللغتان إضافة للحسابات السياسية خلق قطيعة اجتماعية  بين الفئتين الاجتماعيتين لكل واحدة مرجعيتها الثقافية لأن أولويات السياسة المنتهجة في البلاد تنصب بالدرجة الأولى على الجانب المادي و الاقتصادي دون الجانب الثقافي الذي يعتبر روحيا يمكن المحافظة عليه في إطار القيم الدينية التي تصون الهوية الوطنية المختلفة عن الثقافة الغربية. يظهر أنه تم تناسي أن هذان الوجهان متلازمان بحكم أن الثقافة الموروثة مهما كانت عليها أن تنتقل إلى عصر الحداثة بفتح المجال لكل الأفراد التعبير عن ذاتهم و حقوقهم للعيش بخصوصياتهم العرقية و اللغوية و الثقافية،و لن يتأتى ذلك إلا في إطار ديمقراطي واسع يعترف و يؤكد على حقوق الأشخاص بدون استثناء، خاصة أن الواقع يشهد أن اللغة المحلية في الجزائر تتكيف مع التطور السريع للمجتمع.
الحقيقة هو أننا منذ الاستقلال نريد الالتحاق بالركب الحضاري و استدراك التأخر و ما فات ببناء مجتمع عصري هو في الواقع صورة من النمط الغربي المتقدم الراقي، لأنه المرجعية  و القدوة التي يجب إتباعها. النظم التربوية و التعليمية و محو الأمية التي تم إدراجها مستوحاة من العالم المتحضر و ليس من تراثنا الشعبي و الثقافي و رصيدنا الروحي الديني، فهي لا تلبي مطامح فئات المجتمع لأن المسئولين قاموا باستيراد حقائق الاجتماعية و اقتصادية و تكنولوجية لتطبيقها في وطن مغاير في القيم و المفاهيم. يكتسب المتعلم نوع من السلطة الاجتماعية و الثقافية و السياسية بحصوله على ترقية سريعة تلقيه في وسط يختلف كلية عن البيئة التي تربي فيها، فالممارسات في الشارع و محل العمل تختلف كلية عن التعاملات الأسرية، خاصة أن عصرنة الدولة تقوم على القدرة على إتقان اللغة الفرنسية، اللغة المهيمنة، على حساب اللغات المحلية، الوضعية التي زادت في تعميق الهوة بالتمرد على القواعد التقليدية و ظهور اختلالات اجتماعية،وهذا الجانب لم تقرأ له حساباته و قد يفسر ظاهرة التسرب المدرسي والنسب العالية في الرسوب، و سلسلة الإصلاحات ألا متناهية، فنحن كالغراب في مشيته أراد تقليد الحمامة فنسى كيف كان يمشي[11]، وما حرق المدارس و دور المكتبات و نهب التراث الثقافي في سنوات الجحيم إلا دليل على عمق الأزمة.
في 1962 كانت الجزائر دولة تتميز بطابع الخصوصية اللغوية بتواجد:
-    اللغة العربية المحلية، اللغة اليومية التي يتحدث بها عامة الشعب، استعمالها في الشكل المكتوب ممنوع سواء في وسائل الإعلام و المدرسة.
-          اللغة البربرية، لغة أقلية هامة مستعملة في منطقة القبائل، والأوراس، و ناحية الميزاب، و التوارق.
-          اللغة العربية الكلاسيكية، لغة القران و الأمة العربية
-          اللغة الفرنسية الأكثر انتشارا
استرجاع العربية و الإسلام مكانتهما كان للجزائر بمثابة تأكيد انتمائها للعالم العربي والإسلامي، مهملة في ذات الوقت مكونات الشخصية الجزائرية الأخرى النابعة من المجتمع. الأمر أدى  إلى رد فعل تميز بالتطرف و التعصب للأمازيغية كمقابل للتعصب للعروبة مازالت القضية قائمة إلى الآن بين الطرفين.
دعاة القومية العربية :
 يدعي أصحاب اتجاه القومية العربية  أنها اللغة الوحيدة للشعب الجزائري لأن تاريخها و حاضرها مرتبط بالعروبة، يعتقدون أن ما هي إلا لهجة عامية سوقية مستمدة من لهجات عربية قديمة   مصيرها الفناء و الزوال لتحل محلها العربية، فما على الأمازيغ إلا استبدال لغتهم باللغة العربية لأن لا فائدة من إحياءها.
يحاول دعاة هذا الاتجاه تدعيم مواقفهم بالرجوع إلى أفكار زعماء النهضة الإصلاحية في الجزائر. بينما الحقيقة غير ذلك، فدعوة المصلحين إلى الحفاظ على العربية كانت نابعة من واقع محاربة الاستعمار للعربية و الإسلام ، و لم يدعو يوما للقضاء على الامازيغية ، فأغلبهم و أبرزهم كانوا من الأمازيغ : الشيخ ابن باديس ، الشيخ بيوض ، الشيخ أبو اليقظان ، مولود قاسم نايت بلقاسم ، و غيرهم.
  دعاة الأمازيغية:
نشأت هذه الحركة كرد فعل على الحركة المذكورة أعلاه، يعتقدون أن الأمازيغية هي لغة الشعب الجزائري الأصلية لأنهم السكان الأصليون ، فلغتهم تستحق الاحترام، و الترقية، و الاعتبار.
تطرف البعض في مطالبه فدعا إلى تعميم اللغة الفرنسية كبديل للعربية و التعريب  وإلى طرد العرب باعتبارهم محتلين لبلاد الأمازيغ . مثل هذه المواقف ترتب عنها تسييس القضية لتأخذ منحى سياسيا خطيرا ابتعد كليا عن الحقوق الثقافية و الخاصية اللغوية، و ما أحداث القبائل في سنة 2001 إلا مأساة إضافية عاشتها الجزائر.

الخلاصة
التحيز لشكل من الثقافات يعد نفيا لثقافة الآخر لأن الصراعات التي تتخبط فيها الجزائر لا يستفيد منها أحد، ولم تساعد على النقاش الجدي و العلمي للإيجاد الحلول الناجعة حتى لا تبقى المنظومة التربوية محكا للتمايز الثقافي و العرقي. يبقى أن التلميذ الجزائري، رجل الغد، هو ضحية الجدال العقيم بسبب تدني مستوى التعليم، و عدم التحكم في اللغات بما فيها اللغة الأم العربية، و بلغنا ما سمه البعض بلا أمن اللغوي الذي ترتب عنه أزمة في الهوية لأن المدرسة الجزائرية لم تخلق نخبة من المثقفين بل أشخاص حاملين لشهادات.
لحد اليوم مسألة اللغات لم تتكفل بها السلطات العمومية بالجرأة الكافية، بل بقيت محل مساومات سياسية  وتطرفات متنوعة أدت إلى ضرب كيان الدولة و التهديد بزوالها. علينا تجاوز عقدة اللغة الفرنسية بدراسة الواقع المعاش الذي يؤكد أن جل البرامج التلفزيونية التي يلتقطها الجزائريون مصدرها فرنسا، نهيك عن الجلية المهاجرة الكبيرة التي لم تقطع الحبل السري  مع الوطن الأم. عدد كبير من الأساتذة درسوا إما بالفرنسية أو في فرنسا خاصة أن التعليم العالي بكل شعبه العلمية لا زال متفرنس. فضلا عن هذا فإن إدراج  الأمازيغية في وسائل الإعلام المرئية و تعليمها في المدارس سيساهم لا محالة في إعادة النظر في مكانة اللغات المحلية بالنسبة للغات الأخرى.   




· جامعة سعد دحلب البليدة- الجزائر- كلية الحقوق.
عباس المدني، مشكلات تربوية في البلاد الإسلامية دار الشهاب باتنة الجزائر ص11[1]
 عبارة استعملها المفكر الجزائري مولود قاسم نايت بالقاسم للتعبير عن الاستعمار الذي احتل الجزائر للتدمير و ليس التعمير [2]
عبد القادر فضيل المنظمة العربية للثقافة و العلوم خاص بالتعليم الأساسي وربطه بالتعليم الثانوي عربيا و عالميا تونس 1992 ص28[3]
 براجل علي ، اصلاح التعليم الثانوي في الجزائر، مجلة الرواسي العدد 10،1994، ص 77-78[4]
 المادة 40[5]
 المادة 42[6]
وفق ما أقره دستور 1996[7]
 كما سماها الكاتب الجزائري مولود معمري[8]
محمد لبيبالتجيحي، مقدمة في فلسفة التربية، دار النهضة العربية بيروت 1992، ص 54[9]
Mohamed Dahmani, l’occidentlisation des pays du tiers monde mythes et réalités, OPU, Paris 1983, p136[10]
 قول مأخوذ من الأمثال الشعبية [11]

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق