الخميس، 20 يونيو 2013

وسائل الإعلام وتشكيل الصورة الذهنية .. قراءة في إشكالية التحيز الإعلامي




وسائل الإعلام وتشكيل الصورة الذهنية .. قراءة في إشكالية التحيز الإعلامي
د/ علاء الشامي ·
مقدمة
لم يكن يتوقع "والتر ليبمان" Walter Lippmann  ، الصحفي الأمريكي الشهير ، أن  يحظي مصطلح "الصورة الذهنية"Stereotype   ، الذي طرحه لأول مرة عام 1922 في كتابه "الرأي العام"، بهذا القدر من الاهتمام ، وأن يثير هذا الجدل الدائر علي صعيد الدراسات الإعلامية منذ تلك اللحظة وحتي الآن .
وقد أورد "ليبمان" هذا المصطلح في سياق حديثه حول إشكالية التأثير المحتمل لوسائل الإعلام علي الأفراد ، وهو الحقل المعرفي الذي شغل الباحثين لفترة طويلة ، ولا يزال ، ودارت مواقفهم إزاءه بين حدين متناقضين ؛ فريق يري أن لوسائل الإعلام تأثيراً قوياً ومباشراً وفورياً علي الجماهير ، في حين يري الفريق الآخر أن تأثيرها محدود ، مستندين في ذلك إلي القول بأن الجماهير ليست مجرد ذرات سلبية منفصلة تتحرك حيثما تأمرها وسائل الإعلام .
وكان علي أنصار كلا الفريقين أن يطور من النماذج والأطر النظرية ما يؤسس بها لوجهة نظره ، فظهرت تبعاً لذلك عدة نظريات منها علي سبيل المثال : الرسائل الإعلامية كطلقة سحريةMagic Bullet Theory  ، دوامة الصمت Spiral of Silence ، الغرس الثقافي Cultivation ، لتدعم وجهة نظر الفريق الأول . في حين ظهرت نظريات أخري كالاستخدامات والإشباعات Uses and Gratifications ، وتدفق الاتصال علي مرحلتين Tow Step Flow of Communication ، وانتشار المستحدثات                       of Innovations Diffusion لتدعم مواقف الفريق الثاني .
ولما كانت الصورة الذهنية ، كمفهوم وعملية ، مشبعة بالتحيز ، فإن التحري عن العوامل التي من شأنها أن تؤثر في تشكيل هذه الصورة يعد أمراً هاماً ، وهو ما دعا الباحث لكتابة هذه الورقة ، التي تنطلق من رؤية نقدية للمقولات السائدة حول دور وسائل الإعلام في تشكيل الصورة الذهنية . وتتلخص هذه الرؤية في أن المكون الإعلامي ليس العامل الوحيد الفاعل في تشكيل الصورة الذهنية ، كما تذهب كثير من الدراسات ، إذ إن ثمة عوامل أخري قد تكون أكثر أهمية ، منها علي سبيل المثال : المكون الديني ، التنشئة الاجتماعية ، الخبرة الشخصية ، السمات النفسية والاجتماعية (القابلية للانخداع ، الكسل العقلي ، الجهل ..إلخ) ، الدور الذي يقوم به دعاة الحداثة ووكلاء الغرب ، إضافة إلي عجز النموذج الإعلامي المحلي عن طرح البدائل بفعل تبعيته المطلقة للسلطة السياسية .
 ويري الباحث أن هذه العوامل تؤثر (جميعها) في تشكيل الصورة الذهنية علي نحو معين، وأن القول بغير ذلك يعد ، بدوره ، شكلاً من أشكال التحيز .
 وتجدر الإشارة إلي أن هذه الورقة لا تستهدف التوصل لنتائج واستنتاجات قاطعة حول إشكالية التحيز الإعلامي ، في حين تستهدف طرح ومناقشة مجموعة من الأفكار العامة تتمثل فيما يلي:
أولاً : وسائل الإعلام والقدرة علي خلق الواقع الافتراضي Virtual Reality.
ثانياً : وسائل الإعلام كأحد آليات تشكيل الصورة الذهنية .
ثالثاً : الغرب متحيز .. وماذا بعد ؟!.
رابعاً : التحيز الإعلامي علي الطريقة العربية .
خامساً : التحيز الإخباري .. الخطيئة التي تغتفر .
سادساً: الفرق بين التحيز والكذب والحول الإعلامي !.
سابعاً : دوافع التحيز الإعلامي .
ثامناً : خطورة التحيز .. هل التحيز مجرد إشكالية فلسفية ؟!
تاسعاً : كيف السبيل لدفع التحيز الإعلامي ؟ .. آليات التجاوز.
واسمحوا لي أن نناقش تلك المحاور ، بشيء من التفصيل ، علي النحو التالي :
أولاً : وسائل الإعلام والقدرة علي خلق الواقع الافتراضي
هل قمت بزيارة الولايات المتحدة الأمريكية أو ناميبيا من قبل ؟ إذا كانت الإجابة بنعم  وطلب منك ، ذات مرة ، التحدث عن طبيعة الاختلاف بين العادات والتقاليد والقيم السائدة في كل منهما ، فإنك تتحدث حينئذ عن خبراتك الشخصية المباشرة ، عن حقائق رأتها عيناك ، ومشاعر عايشتها عن قرب ، ومعلومات حقيقية لا مجال فيها للخداع (بشرط توافر النية المسبقة لذلك) ، إنك تتحدث إذن عن عالم حقيقيReal World  .
أما إذا كانت الإجابة بلا وأردت التحدث عن طبيعة تلك الاختلافات مستنداً إلي تقارير إخبارية مصورة مستقاة من وسائل الإعلام أو أفلام سينمائية سبق وأن شاهدتها ، فإنك تتحدث  ساعتها عما يسمي "بالواقع الافتراضي"  Virtual   Reality . الواقع الذي تشكل في مخيلتك بفعل وسائل الإعلام أو نقلاً عن خبرات آخرين ، إلي الدرجة التي تمكنك من وضع تصورات دقيقة لطبيعة التباينات في العادات والتقاليد والثقافات السائدة في أي من هاتين الدولتين ، بالرغم من عدم زيارتك لأي منهما من قبل علي الإطلاق .
ما الذي يعنيه ذلك ؟
إن ذلك يعني الكثير.. إذ يمكن أن ينطوي هذا الواقع الافتراضي علي تحيزات واضحة. إن كل ما يرد في ذهنك حال وصفك لهذا الواقع الافتراضي هو مجرد انطباعات قد لا تكون لها أية علاقة بالواقع الحقيقي . إنك بذلك (أو إنهم) تزيف الواقع بالفعل من خلال إطلاق مجموعة من الأحكام والتعميمات قد تبعد عن الحقيقة بمقدار بعد المسافة بينك وبين هذا الواقع .
ولكن ما الذي يعنيه ذلك أيضاً ؟
إن ذلك يعني أن لوسائل الإعلام القدرة علي تزييف الواقع (أو نقله كما هو) إن أرادت ، وذلك من خلال الانتقاء العمدي لبعض المشاهد والمفاهيم والكلمات والصور وتكرارها* ، واستبعاد أخري ، علي النحو الذي تظن معه أن كل ما تعرضه وسائل الإعلام هو مجرد انعكاس حقيقي للواقع .
وإذا كان لوسائل الإعلام القدرة علي أن تخلق ذلك الواقع الافتراضي "المشوه" فإنها الوحيدة القادرة علي إبقائه ماثلاً في أذهان الجماهير عبر توظيفها آليات : التكرار والملاحقة ، الحشد والتعبئة ، صناعة الخوف** من خلال الترهيب والترغيب ...إلخ .
ويزداد تأثير وسائل الإعلام في إطار المجتمعات الرأسمالية الاستهلاكية، التي أغرقتها تفاصيل الحياة اليومية، ولم تعد تملك الوقت الكافي ، أو "رفاهية" الموضوعية ، لتتحقق من صدقية ما يعرض في وسائل الإعلام ، ومن ثم ترتمي جماهير تلك المجتمعات ، مطمئنة ، في أحضان التحيز الإعلامي بوصفها العملية الأيسر والأقل تكلفة لتسلم طواعية بصحة المقولات التي ترددها وسائل الإعلام .
وهل وسائل الإعلام في حاجة إلي القيام بهذا الدور؟
تفيد أحد أهم القواعد الحاكمة في عالم المخابرات بأنه إذا أردت التوصل إلي الجاني فما عليك إلا أن تبحث عن المستفيد من ارتكاب الجريمة . والمستفيد في حالتنا تلك هو صاحب رأس المال ؛ مالك الوسيلة الإعلامية . ورأس المال لم يعد قاصراً ، في عصرنا الراهن كما هو معروف ، علي رجال الأعمال ، إذ دخل رجال السياسة وصناع القرار وواضعو الاستراتيجيات ومهندسو تدمير الحضارات إلي عالم المال والأعمال بقوة . وتقاربت المسافات بشدة بين السياسة والمال والدين والاقتصاد وتجارة المخدرات بشكل لم يسبق له مثيل من قبل .
ولعل المثال الواضح علي التداخل بين عدة مجالات لا يجمعها سياق واحد منطقي هو احتلال العراق ؛ إذ لم يعد هناك مجال للشك في أن جميع المبررات التي ساقتها الإدارة الأمريكية لاحتلال العراق ، ورددتها وسائل إعلامها ، كانت محض افتراء وكذب . وإلا فلماذا البقاء في العراق إذن بعد الإعلان الرسمي عن خلوه من أسلحة الدمار الشامل ، وبعد إسقاط نظامه السياسي السابق ، واقتياد رئيسه إلي المحاكمة وإعدامه بهذا الشكل علي الطريقة الأمريكية ولكن بأيد عراقية أو إيرانية كما يقول البعض!!.
إن إدراك العلاقة بين الثالوث المقدس : رأس المال ، السياسة ، الإعلام ، يشكل إذن مدخلاً أساسياً لفهم الكيفية التي تعمل بها وسائل الإعلام في مجتمعنا المعاصر ، وتحديداً في المجتمع الغربي . ولذا بات من الضروري أن نمعن النظر في كل ما تعرضه وسائل الإعلام ونعيد قراءة كل ما تقدمه ابتداءً بالصور والكلمات والأفلام السينمائية وانتهاءً بالمعلومات والأخبار والحقائق العلمية المجردة !.
ولمزيد من فهم طبيعة هذه العلاقة المركبة يكفي أن نشير ، مثلاً ، إلي حجم الإنفاق المالي الهائل الذي يوجه سنوياً في الإنتاج الإعلامي علي المستوي العالمي . "إن لك أن تعلم أن دخل فيلم مثل "جوراسك بارك" أو " تيتانك" قد بلغ أكثر من مليار دولار. وأن جريدة مثل "نيويورك تايمز" توزع أكثر من ثلاثة ملايين نسخة يومياً ، في حين توزع مجلة " تايم" أكثر من 7 ملايين نسخة أسبوعياً . وأن عدد مشاهدي "السوبر بول" على محطاتِ ABC أو CBS أو NBC  يزيد على 15 مليون شخص"([1]) . إننا نتحدث إذن عن صناعة تتكلف مليارات الدولارات وتجلب أضعافها كل عام .
ويصعب ، في هذا الإطار ، أن نسلم بمقولات تنفي عدم وجود استراتيجيات طويلة الأمد (بغض النظر عن مشروعيتها) وراء تلك الاستثمارات الضخمة ، وإلا تتحول الأمور بالقطع إلي عبث لا يمكن تخيله . ولعل ذلك ما يفسر الدوافع الكامنة وراء سعي اليهود الدائم للسيطرة علي وسائل الإعلام في العالم ، آملين بذلك تأمين مصالحهم العليا والضغط علي أنظمة وشعوب دول العالم المختلفة .
 إن الاستثمار في قطاع الإعلام لا يرتب أرباحاً مادية طائلة فقط ، ولكنه يرتب ، بالإضافة لذلك ، صوراً ذهنية معلبة تجوب أنحاء العالم المختلفة لتحقيق مصالح بعينها . وتزداد الحاجة لمثل هذه الصور الذهنية في وقت الأزمات والحروب ، تلك الأوقات التي تغلب عليها مشاعر التوتر والقلق ، ويبحث الجميع خلالها عن أي فاعل ، بغض النظر عن كونه حقيقياً أم وهمياً .
وقد قامت وسائل الإعلام بهذا الدور، علي أكمل وجه ، عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر، إذ أعادت بث صور وتصريحات "لبن لادن" مئات المرات ، وملأت أسماع الدنيا بمصطلحات من قبيل : تنظيم القاعدة ، الإرهاب الإسلامي ، الإسلام ، المسلمين ..إلخ ، لتضع الجميع أمام البديل"الجاهز"، الفاعل الأسهل المتاح في كل وقت وحين .
وقد نجح هذا الضجيج الإعلامي، بالفعل، في أن يقنع الجميع: الشعوب، الحكومات، الأنظمة السياسية، المسلمين أنفسهم ، بأننا الفاعل الحقيقي "الوحيد" لتلك الأحداث . وبتنا نخاف من مجرد الإفصاح عن هويتنا العربية أو الإسلامية مخافة الاتهام بالإرهاب ! ، ونجحنا ، كعادتنا ، في أن نقوم بدور الضحية ، وأن نقع ، كعادتنا ، في فخ الدفاع عن النفس .
 ولو سلمنا "جدلاً" بأن فئة من المسلمين (تتكون من تسعة عشر شخصاً كما قيل) هي التي نفذت هجمات سبتمبر ، بالرغم من عدم تصديقي ذلك علي الإطلاق ، فهل يعد ذلك مبرراً كافياً لإطلاق الأحكام علي جميع مسلمي العالم بأنهم إرهابيون ؟! . إذا كان الإجابة بنعم ، فهل نمتلك الشجاعة الكافية ، إذن ، لمحاسبة الغرب علي الإرهاب الحقيقي الذي ارتكبه أسلافهم في حقنا خلال الحقبة الاستعمارية التي أهلكوا خلالها الحرث والنسل ، أو نمتلك تلك الشجاعة لمحاسبتهم هم أنفسهم اليوم علي الجرائم البشعة التي يرتكبونها في حق الشعوب العربية والإسلامية ؟! .
ثانياً : وسائل الإعلام كأحد آليات تشكيل الصورة الذهنية.
علي الرغم من التسليم بأهمية المكون الإعلامي في تشكيل الصورة الذهنية ، إلا إنه ، وعلي عكس الاتجاه السائد في نتائج بحوث الإعلام ، لا يعد المكون الوحيد الفاعل في هذا الصدد ، إذ إن ثمة عوامل أخري قد تكون أكثر أهمية . وأزعم أن القول بغير ذلك يعد بدوره شكلاً من أشكال التحيز.
ويمكن توضيح طبيعة العلاقة الجدلية بين الصورة الذهنية ووسائل الإعلام في إطار نموذجين ؛ الأول أسميه بالنموذج التقليدي (السائد) ، في حين أسمي الثاني بالنموذج البديل (المتكامل) ، وهو ما يتضح في الشكلين التاليين:












الشكل التوضيحي الأول
النموذج التقليدي لفهم الطريقة التي تتشكل بها الصورة الذهنية
Oval:   
الصورة الذهنية
(Response) 

Oval: وسائل الإعلام 
(Stimulus)   
 



 


الشكل التوضيحي الثاني
 النموذج البديل لفهم الطريقة التي تتشكل بها الصورة الذهنية


 
















يفيد الشكل الأول بأن المكون الإعلامي  يعد المكون الوحيد (المثير) الفاعل في تشكيل الصورة الذهنية (الاستجابة) ، في حين يشير الشكل الثاني إلي أن ثمة عوامل أخري عديدة تتفاعل مجتمعة لتشكيل الصورة الذهنية علي نحو معين ، ولنضرب مثالاً علي ذلك :
اعتدنا منذ الصغر أن نتعرض في وسائل الإعلام المختلفة لما يسمي بقضية الوحدة الوطنية بين مسلمي وأقباط مصر، وقيل لنا في هذا الإطار إن هذه الوحدة لا يوجد مثيل لها في العالم ، وأنها الضامن الوحيد لوحدة مصر وسلامة أراضيها ، وكان من المتوقع وفقاً لتلك المقولات السائدة التي اعتادت وسائل الإعلام تكرارها أن تتشكل صورة ذهنية إيجابية لدي كل من المسلمين والأقباط عن الآخر، وأن يفضي تكرار تلك المقولات إلي ترشيد التحيزات الشخصية لدي أتباع كلا الفريقين ، لكن الواقع يكذب ذلك ، وحسبنا في هذا الصدد الإشارة إلي
الأمثلة التالية*: أحداث قرية الكشح ، دعاوي الأقباط المتكررة بتعرض بناتهن للاختطاف والاغتصاب علي أيدي جماعات منظمة من المسلمين ، عرض إحدي الكنائس (في الإسكندرية) فيلماً سينمائياً يتضمن مشاهد مسيئة للرسول ، المظاهرات التي قام بها المسلمون عقب عرض هذا الفيلم والتي اعتدي خلالها علي بعض ممتلكات المسيحيين ، قضية إسلام "وفاء قسطنطين" ، المظاهرات التي خرجت من الكنيسة الأرثوذكسية الأم (في العباسة) بهدف الضغط علي المسئولين لتسليم "وفاء" إلي الكنيسة وهو ما حدث بعد ذلك بالفعل ، وقد شهدت هذه المظاهرات اعتداء بعض الشباب المسيحي علي بعض القيادات الأمنية الرفيعة ...إلخ.
يمكن القول ، في ضوء الأمثلة القليلة السابقة ، بأن النموذج التقليدي (الذي يقرر بتفرد المكون الإعلامي في تشكيل الصورة الذهنية) لا يمكن الاعتماد عليه مطلقاً حال الرغبة في تفسير مثل هذه الحوادث ، في حين يمكن الاعتماد علي النموذج البديل الذي يطرح العديد من العوامل . فنجد البعض ، مثلاً ، يتصرف في مثل هذه الأوقات في ضوء المكون الديني ، الذي يسوقهم إلي أدلة تفضي لتكفير الآخر . في حين ستجد آخرين يستندون إلي مقولات مجتمعية متوارثة من قبيل : "أنا وأخوي علي ابن عمي وانا وابن عمي علي الغريب" ، وذلك بغض النظر عن طبيعة الموضوع  ومن هو الظالم ومن المظلوم ! ، كما يمكن أن تجد آخرين يرسلون برسالة خاصة من خلال هذه الأزمات ليخاطبوا بها الغرب ، وهكذا .
ولعل الاعتماد علي النموذج البديل (المتكامل) يمنعنا في هذه الحالة ، علي الأقل ، من الوقوع أسري للتفسير الزائف لمختلف الوقائع والأحداث الاجتماعية والسياسية التي اعتادت وسائل الإعلام أن تطرحه علي الرأي العام ، ما كان من شأنه أن يحجب العقل الجمعي للأمة ، طوال الخمسة عقود الماضية ، عن رؤية حقيقة الأمراض (القابلة للعلاج) التي اعترت العلاقة بين المسلمين والأقباط ، ما أضاع بدوره الكثير من الوقت في علاج وهمي للعرض لا المرض!.
ثالثاً : الغرب متحيز .. وماذا بعد؟!
الغرب متحيز ضد العرب والمسلمين .. مقولة نرددها صباح مساء حتي صارت وكأنها حقيقة علمية . وعلي الرغم من التسليم بصحتها إلا أننا لم نتجاوزها بعد إلي الآن ، إذ لا تزال محاولات الكشف عن مظاهر هذا التحيز جارية علي قدم وساق بين الباحثين والمثقفين ، إذ يسعون جميعاً لاستكشافها وإلقاء الضوء عليها ليأتي آخرون ليعيدوا إلقاء الضوء علي الضوء الأول ، وينتهي الأمر ، للأسف ، عند هذا الحد !.
إن الغرب أيها السادة متحيز ، ولكن ماذا بعد ؟! ألا تلاحظون معي أننا شغلنا أنفسنا كثيراً بتحليل رؤية الغرب ورصد مواقفه تجاهنا وتجاه قضايانا ، ونسينا أنفسنا . نسينا أننا ندور في حلقة مفرغة ، منذ فترة طويلة ، نتخلف بعد يوم . في حين يتقدم الغرب ، الذي نصر علي انتقاده ، يوماً بعد يوم .
 وفي ظل هذا الانشغال "السلبي" تزيغ الأعين عن رؤية الحقيقة ، عن رؤية الأخطاء التي ارتكبناها في حق الثقافة والتاريخ والحضارة العربية والإسلامية . وتلك في رأيي هي القضية الحقيقية التي تستحق بذل الجهد والوقت . إن هذا التحيز الغربي سينتهي حتماً حال استعادة الحضارة العربية والإسلامية من جديد ، إذ سينشغل الغرب ساعتها بالتعرف علي الجديد الذي تقدمه تلك الحضارة ليبني عليه ، كما فعل إبان الازدهار الأول للحضارة العربية والإسلامية أيام كان يعيش هو في عصر الظلمات .
وفي إطار الفهم السابق يصعب عليّ أن أقع بدوري أسيراً لتلك الحالة السلبية وأقوم بدوري بانتقاد الغرب*، وهي العملية الأسهل في رأيي ، في حين أتجه مباشرة لانتقاد الذات من خلال إلقاء الضوء علي بعض مظاهر التحيز العربي ؛ أحد أهم الثمرات المنطقية للوهن العربي بشكل عام .





رابعاً : التحيز علي الطريقة العربية
 في إطار الكشف عن بعض ملامح التحيزات العربية ، الإعلامية أو ما كان منها كردود أفعال علي القضايا والأحداث المثارة ، تجدر الإشارة إلي الأمثلة الثلاثة التالية :
المثال الأول : مصطلح العمليات الاستشهادية
كانت المحاضرة عن القيم الإخبارية التي ينبغي أن يلتزم بها الصحفيون والمحررون  حال كتابة أو تحرير الأخبار ، وجئت بمصطلح "العمليات الاستشهادية" بوصفه مصطلحاً "إخبارياً" فضفاضاً يختلف استخدامه باختلاف طبيعة الوسيلة الإعلامية ومرجعيتها السياسية . وأوضحت أن وسائل الإعلام المصرية ، مثلاً ، تميل لاستخدام هذا المصطلح عندما يكون ثمة وفاق يسود العلاقة بين القيادتين المصرية والفلسطينية (أو فصائل المقاومة) ، في حين يختلف الأمر حال توتر هذه العلاقة من ناحية ، أو حال وقوع القضية الفلسطينية علي حدود متماسة بين المصالح المصرية والأمريكية من ناحية أخري . وأكدت علي ضرورة الابتعاد بمثل هذه "المصطلحات الإخبارية المحايدة" عن احتمالية التوظيف . وأدركت ، وأنا أقول ذلك للطلبة ، أن مصطلح العمليات الاستشهادية ليس مصطلحاً إخبارياً محايداً في المطلق كما قلت ، فهو منحاز للثقافة العربية والإسلامية بالطبع ، وهو ما لا ينبغي استخدامه في عالم الأخبار . واتفقنا ، بعد مناقشة مطولة ، علي أن استخدام هذا المصطلح ينطوي علي تحيز واضح حال استخدامه في عالم الأخبار ، وأن علينا استبداله بمصطلح وصفي آخر بحيث يكون أكثر حيادية ، كالعمليات التفجيرية علي سبيل المثال .
لقد أردت بهذا المثال التأكيد علي ضرورة التفرقة بين الخبر والرأي ؛ القاعدة الأولي التي يتعلمها أي دارس أو ممارس للإعلام ، حتي ولو ضاق صدرنا بذلك . أردت ألا نقع في فخ التحيز الإخباري ، الخطيئة التي تغتفر .
إذا كان من حقي ككاتب أو محرر أن أعبر عن مواقفي الشخصية تجاه الأحداث والأشخاص والقضايا كما أشاء ، فإن ذلك محله برامج الرأي لا البرامج الإخبارية .
 ويحق للبعض أن يتساءل : وما فائدة أن يلتزم إعلامنا العربي بتلك القواعد الصارمة ، في الوقت التي يمتلئ فيه الإعلام الغربي بالادعاءات والمعلومات والمعالجات المغلوطة لمختلف الأحداث والقضايا المثارة في العالم العربي؟!.
وتبدو الإجابة علي هذا السؤال مهمة سهلة لسببين : أولهما أن دفع التحيز الإخباري في الإعلام العربي يعد المخرج الأساسي لإعادة المصداقية لأخبارنا ؛ الخطوة الأولي كي يصدقنا الآخرون . أما السبب الثاني فيشير إلي أن دفع التحيز الغربي ينبغي أن يكون ابتداءً بدفع مثيله العربي ، إذ ليس من المقبول أن ندفع التحيز الغربي بمزيد من التحيز العربي ، ولعلي أشير هنا إلي أن تقليد أخطاء الغير لا يندرج ضمن الفضائل التي نحث أبناءنا علي تعلمها ! .
المثال الثاني : مصطلح الجهاد
لاحظت ، خلال الحرب الإسرائيلية الأخيرة علي لبنان ، أن مصطلح الجهاد ؛  جهاد العدو الصهويني ، كان المصطلح الأكثر بروزاً واستخداماً في الأخبار والنشرات الإخبارية العربية . وهو مصطلح مشبع ، كسابقه ، بالتحيز عند استخدامه في عالم الأخبار . إذ إن  الوصف الدقيق "إخباريا" لما فعله جنود "حزب الله" هو فعل "القتال" ، أما مصطلح "الجهاد" فينطوي علي قيم خاصة "منحازة" للثقافة العربية والإسلامية . ولعلي أستشهد هنا بالنص القرآني ذاته الذي فرق بين معنيين مختلفين : الأول يشير إلي فعل "القتال" حال وصفه تبارك وتعالي لما كان يدور في أرض المعركة : "وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا" ، "كتب عليكم القتال وهو كره لكم"، "أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله علي نصرهم لقدير" ، "إن الله اشتري من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة ، يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون"، "فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم" ، "قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم" ، "وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة"...إلخ . أما المعني الثاني فيشير إلي "الجهاد" ، وهو المعني الواسع الذي يتعدد ليشمل : القتال ، التضحية بالنفس والمال والولد والوقت في سبيل الله: "انفروا خفافاً وثقالاً وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله" ، "لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم" ، "فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله " ... إلخ .* 
المثال الثالث : ردود الأفعال العربية تجاه الرسوم المسيئة للرسول
يصعب عادة خلال أوقات الأزمات التوقف للتأمل ومحاسبة النفس والتعلم من الأخطاء ، إذ إن مشاعر التخبط والعشوائية تكون هي الغالبة علي الموقف برمته ، لذا فأعتقد أن ممارسة فضيلة التأمل الآن ـ وبعد انتهاء أزمة الرسوم المسيئة للرسول وعودة الأوضاع إلي ما كانت عليه ـ تعد أمراً هاماً .
ولعلي أستعرض بعضاً من مظاهر ردود الأفعال العربية المتحيزة خلال تلك الأزمة من خلال النقاط التالية :
1ـ المبالغة
شهدت هذه الأزمة اندلاع انتفاضة شعبية ورسمية أري أنه لا محل لها من الإعراب ، إذ إن ما شاهدناه جميعاً من اعتداء بعض الشباب العربي ، بدافع من الانتقام ، علي بعض مقار السفارات الغربية يدخل في باب المراهقة السياسية ، كما يعد عملاً همجياً أضر أكثر مما نفع ، إضافة إلي مخالفته لقواعد الدين الإسلامي المستقرة التي تحرم الاعتداء علي المستأمن .
ويدخل ضمن هذه المبالغات أيضاً تلك الأصوات التي تعالت ، وللمرة الأولي ، في مجلس الشعب المصري تدافع عن الدين الإسلامي وعن رسوله الكريم ، في الوقت الذي تختفي فيه  تلك الأصوات تماماً عندما تنتهك أعراض الصحفيات "المسلمات" علي سلالم نقابة الصحفيين!، أو عندما تنتهك أعراض الرجال "المسلمين" في السجون الأمريكية أو المصرية !، أو عندما تغتصب إرادة أمة "مسلمة" بأكملها وتزيف إرادتها السياسية في جميع الانتخابات البرلمانية أو الرئاسية التي جرت علي أرض مصر"المسلمة"!.
ثم تعالوا لنسأل أنفسنا سؤالاً واضحاً : هل سيكون رد فعل الرسول (صلي الله عليه وسلم)  مماثلاً لردود أفعالنا إذا كان بين ظهرانينا الآن ؟. للإجابة علي هذا السؤال تعالوا نسأل أنفسنا الأسئلة التالية : ألم يسب الرسول ويهاجم من أول يوم أعلن فيه عن الدين الجديد ؟! ، ألم يتحول إلي ساحر وشاعر وكاذب بعد أن كان في قومه الصادق الأمين ؟! ، ألم تلاحقه الصبية وأنصاف الرجال يلقونه بالحجارة لدي عودته من الطائف ؟! ألم تكسر رباعيته دفاعاً عن الإسلام في غزوة أحد ؟! ، ألم يطله وأصحابه الأذي والعذاب علي أيدي كفار مكة حتي أخرجوه وأصحابه عنوة من أحب بلاد الله إلي قلبه ؟! ، أخرج رد فعله عن الدعاء لقومه بالهداية حيث إنهم لا يعلمون ؟! ، ألم يأمر أصحابه بالصبر حتي يأتي أمر الله ؟! ، وحتي بعد أن عاد إلي مكة فاتحاً منتصراً أقال لقومه غير : "إذهبوا فأنتم الطلقاء" ؟!.
في ضوء الإجابة علي الأسئلة السابقة وبسابق علمي برحمته (صلي الله عليه وسلم) أحسب أن رد فعله إزاء تلك الرسوم المسيئة لم يكن ليخرج عن الدعاء لراسمها بالهداية ، كونه لا يعلم !.
ألم يكن من الأجدي ، إذن ، تجاهل تلك الرسوم الفنية الرديئة ، التي راجت عالمياً وبيعت الصحف التي نشرتها بملايين الدولارات نتيجة رد فعلنا المبالغ فيه ؟!.
2ـ ضبابية الرؤية
لقد نسينا ، في خضم الأحداث ، أن حرية التعبير عن الرأي تعد أحد القواعد الحاكمة المستقرة في الوجدان الغربي ، وتدخل حرية التعبير تلك ضمن سياق أعم وأشمل من الحرية غير المنضبطة بأية قواعد سياسية أو دينية أو اجتماعية . وبمقتضي هذه الحرية يسيئون هم أنفسهم ، في بعض أفلامهم السينمائية ، إلي المسيحية وإلي المسيح (عليه السلام) ذاته*.
 لقد تغافلنا ـ بدوافع شخصية لحظية ـ عن ضرورة ربط الجزء بالكل ، ولم نتفاعل مع القضية في سياقها الأشمل ، وتخيلنا ساعتها أن الدين الإسلامي بات في خطر شديد بفعل تلك الرسوم الرديئة !.
  إطلاق الأحكام والعموميات
سمعنا عقب نشر هذه الرسوم أحكاماً تفيد بأن الغرب كله كافر ، وسرت دعوات متشنجة لمقاطعة كافة المنتجات الغربية ، وتحديداً الدنمركية ،وحسبنا بذلك أننا نتقرب إلي الله عز وجل. لقد زالت المسافات ساعتها بين التجارة والسياسية والدين ، ورأينا كبار التجار (بغض النظر عن دينهم) يمولون ، بشكل غير مباشر، حملات المقاطعة الاقتصادية للمنتجات الغربية لإفساح المجال ، ولو لبعض الوقت ، لمنتجاتهم المماثلة الرديئة بوصفها منتجات "إسلامية" . ورأيت بعيني رأسي لافتة كبيرة علقت في مدخل أحد المحلات الشهيرة تقول : "تقرب إلي الله عز وجل وقاطع المنتجات الدنمركية ، نحن لا نبيع منتجات دنمركية ، منتجاتنا عربية وإسلامية ، إلا أنت يا رسول الله !.
تذكرنا ساعتها فقط رسول الله ، كما اعتدنا أن نتذكره دائماً يوم الاحتفال الرسمي بمولده الشريف فقط ، في حين نغيبه تماماً عن أخلاقنا وحياتنا وتعاملاتنا اليومية !.
لقد تغافلنا عن عدم وجود أية علاقة بين من رسم ونشر تلك الرسوم في صحيفة  "يلاندزـ بوستن" الدنمركية وبين بقية الشعب الدنمركي أو الأوروبي . وإذا كان يمكنني تفهم طبيعة الدعوة لمقاطعة الصحف التي نشرت تلك الرسوم ، فلا يمكنني ، بالقطع ، تفهم الدعوة لمقاطعة جميع البضائع المستوردة من الدنمرك أو من بقية الدول الأوروبية ، اللهم إلا إذا كان ثمة حاجة في نفس يعقوب !.
 وثمة تساؤل آخر ، ألا تلاحظون معي أن دعوات المقاطعة كانت ستحقق أهدافها إذا توافرت المنتجات العربية والإسلامية البديلة في الأسواق ؟! ، وإلا فما تفسيرنا لهدوء العاصفة الآن وعودة الأمور إلي ما كانت عليه ، وكأن الأمر لم يكن سوي زوبعة في فنجان "مستورد"!.
  الوعي الزائف
إن ثمة وعياً زائفاً سائداً في ثقافتنا العربية يفيد بأن الغرب كله ملة واحدة ، لا فرق هناك بين الشعوب والأنظمة الحاكمة . ونسينا في هذا الصدد ، علي سبيل المثال ، أن أضخم مظاهرة في العالم ناهضت الحرب الأمريكية علي العراق قد خرجت من شوارع لندن "الكافرة" ، ولم تخرج من أي من عواصم : القاهرة ، أو الرياض ، أو مكة المكرمة (مهد الدعوة الإسلامية) أو أية عاصمة أخري من عواصم الإمارات الخليجية "الإسلامية" !.
لقد نسينا أن الجماهير القليلة الغاضبة التي خرجت في شوارع القاهرة ، قد نالت نصيبها الوافر من الضرب والسحل علي أيدي وأقدام ضباط وجنود قوات الأمن المركزي"المسلمين" !.
لقد نسينا أن النائب البريطاني (المسيحي) المعارض "جورج جالوي" يجوب الأراضي العربية بحثاً عن أعوان لمناهضة الحرب علي العراق ولم يجد العون الكافي بعد ، بل إنه منع من دخول الأراضي المصرية للمشاركة في إحدي الندوات التي أعلن عنها لمناقشة التداعيات الإقليمية لاحتلال العراق بعد أن تم إيقافه عدة ساعات في مطار القاهرة ، وكأنه أحد المتهمين المطلوبين للعدالة !.
لقد نسينا أن الغرب"الكافر" هو الذي يحتضن قيادات الجماعات "الإسلامية" الذين فروا بدينهم وأنفسهم هرباً من الجحيم الذي كان ينتظرهم إذا بقوا في ديارهم "الإسلامية"، بل ونراهم يهاجمون أنظمة الدول التي تستضيفهم عبر شاشات الفضائيات العربية والعالمية دون أن يطالهم الأذي.
لقد نسينا (أو جهلنا) أن الدين الإسلامي هو الدين الثاني في الدنمرك بعد الديانة البروتستانتية المسيحية ، وأن ما يقرب من مائتي ألف مسلم ، يشكلون 3 % من إجمالي سكان الدانمرك ، ينعمون بالحرية والديمقراطية المنعدمة في دولهم "الإسلامية" ، وأن ثلاثة مسلمين ، من أصول تركية وسورية وباكستانية ، قد تم انتخابهم في البرلمان الدنمركي ، يمارسون كامل حقهم الدستوري في مناقشة كافة القوانين والتشريعات الدنمركية ، في الوقت الذي خلت فيه قوائم كل من إخوان الحزب الوطني الحاكم والإخوان المسلمين في الانتخابات البرلمانية الأخيرة من الأقباط والنساء ، اللهم إلا عدد قليل لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة !.
5ـ الاستغراق في التفاصيل وتجاهل الرؤية الكلية الشاملة
إن جوهر المشكلة بين الإسلام والغرب ليس مرده مجرد كلمات هنا أو رسوم ومقولات هناك . إن جوهر المشكلة ، في زعمي ، يكمن في أننا لم نعد الأمة التي أراد الله عز وجل لها أن تكون . إننا لم نعد خير أمة أخرجت للناس . هذه هي أزمة المسلمين ، وبالتبعية أزمة الإسلام المعاصر.
لقد أحسن محمد (صلي الله عليه وسلم) البلاغ عن ربه ، وهو عين ما فعله الصحابة ، لذا فقد سادوا الدنيا بقيمهم وأخلاقهم . أما نحن فقد أسأنا إليهم وإلي الإسلام الأول الحق . وأرجو ألا أكون مبالغاً إذا قلت إن جل ما نتعاطاه الآن من إسلام  يبتعد كثيراً عن جوهر الإسلام الأول الذي أنزل علي محمد . لقد بدلنا وغيرنا كثيراً حتي أضعنا ملامح الإسلام الأول ، واستبدلنا به إسلاماً محلياً غير قادر علي التعاطي مع العالم المعاصر !.
لقد صدرنا بأفعالنا تلك إسلاماً مخيفاً للغرب ، إسلام مستعل لا يسع الآخر ، ويضيق لمجرد الاختلاف مع الآخر في الرأي فما بالنا بالاختلاف معه في العقيدة ؟! ، إسلام يسهل معه إخراج الآخر (الديني ، المختلف في الرأي) من الملة ويصعب إدخاله فيه مرة أخري حال توبته، وذلك علي الرغم من علمنا اليقيني بأنه : "لا إكراه في الدين" ، وبأنه : "من شاء فيلؤمن ومن شاء فليكفر" ، وبأنه : "ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً ، أفأنت تكره الناس حتي يكونوا مؤمنين" ، وبأنه : "لكم دينكم ولي دين" ، وبأنه : "وإنا أو إياكم لعلي هدي أو في ضلال مبين" ، وبأنه : "الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم ، لا حجة بيننا وبينكم ، الله يجمع بيننا وإليه المصير" ، وبأنه : "إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصاري والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة" ، وبأنه و بأنه !.
 لقد تحولت تلك المسلمات التي أقرها ربنا تبارك وتعالي في الإسلام الأول الحق إلي مقولات نظرية نرددها ونذرف الدمع فقط  حال تلاوتها ، دون أن تتحول إلي ممارسات عملية في حياتنا اليومية .
لقد حولنا الإسلام الأول الذي جاء ليعلي من شأن الحرية ؛ ابتداءً بحرية العقيدة وانتهاءً بحرية الموؤدة ، إلي إسلام يضيق حتي باختلاف الآراء بين أنصاره ومعتنقيه . إسلام يقصي الآخر الديني والعرقي واللوني ، إسلام تتحول الحياة في ظله إلي دوائر من القهر ،  يقهر الجميع بمقتضاها بعضهم بعضاً ؛ الرئيس يقهر الشعب ، والشعب  يقهر بعضه . الغني يقهر الفقير ، والفقير يقهر الأفقر . الرجل يقهر المرأة والزوج يقهر الزوجة (أو العكس) ، والزوجة بدورها تقهر الأبناء . الكبير يقهر الصغير والأخ يقهر الأخت . حتي إن المتدين يقهر العاصي. دوائر لا متناهية من القهر باسم الدين ، والطريف أنك تجد الجميع بعد ذلك يهرعون لإقامة الصلاة ومحاذاة الصفوف ووضع الأقدام في الأقدام ، وتراهم يختلفون حول مشروعية وضع اليد اليمني علي اليسري في الصلاة ، ويتفرقون حول مشروعية البسملة سراً أو جهراً ، ويبكون بكاءً شديداً خلف الدعاة وقراء القرآن الجدد الذين أفسحوا مجالاً واسعاً للدين في عالم "البزنس" والتجارة ورنات المحمول !.
كما تجدهم يتهافتون لأداء العمرة والحج كل عام ، وينفقون في هذا الإطار مليارات الجنيهات (أو العملات الأخرى) ، ولا عزاء للإخوة المحتلة أرضهم في العراق أو فلسطين أو أفغانستان أو ما يستجد من الدول الإسلامية !.
لقد تحولت أمة "إقرأ"، في ضوء هذه التفاصيل والجزئيات ، إلي أمة جاهلة تبلغ معدلات الأمية فيها أعلي معدلات في العالم ، وفق إحصاءات المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم(الألكسو) التي أعلنت مؤخراً أن عدد الأميين في العالم العربي قد بلغ 70 مليون أمي ، وهو ما يعادل 25% من إجمالي المواطنين العرب([2]).
لقد تحولنا ، يا سادة ، إلي أمة عالة علي باقي الأمم في كل شيء ؛ في التجارة والزراعة والصناعة ...إلخ . وبتنا نستورد كل شيئ حتي المسبحة وسجادة الصلاة . ولا تعجب بعد ذلك إذا شاهدت فيضاً من الإعلانات علي شاشات التلفاز (وتحديداً علي شاشات إحدي الفضائيات "الإسلامية") تدعوك لشراء التليفون الإسلامي!! نعم التليفون الإسلامي الذي يوقظك وقت الصلوات !، التليفون الإسلامي المصنوع بأياد صينية "مسيحية" في أحسن الأحوال أو "ملحدة" في أسوأها ! ، ولا تعجب ، كذلك ، تحين تسمع في قادم الأيام عن المنبه "الإسلامي" والستارة "الإسلامية" والمكنسة "الإسلامية" والسيفون "الإسلامي"!!.
 أيحق لنا بعد هذا الانهيار الحضاري والأخلاقي أن نثور لمثل تلك الرسوم الفنية الرديئة المسيئة للرسول وأن نستدرج لخلافات وانقسامات ومناقشات لا معني لها ؟! وتتحول القضية برمتها لتكون علي النحو التالي : هل يجوز شرعاً أن يسافر بعض الدعاة في هذا التوقيت إلي الدنمرك لتصحيح صورة الإسلام والمسلمين ؟!. ونستغرق في هذا الإطار في مناقشات عقيمة حول مسائل فقهية خلافية لا معني لها ، وينهض الأتباع والمقلدون والمتأسلمون الجدد لسب علماء الأمة الأجلاء*، ويحسبون أنهم بذلك يجاهدون في سبيل الله !.
ألا يحق للغرب ، في ضوء ذلك الهراء ، أن يفعل بنا ما يشاء وأن يتقول علينا بما يشاء؟، هل من المنطقي أن نطلب من الغرب أن يفرق بين الإسلام الأول الحق                 (الإسلام الذي نزل علي محمد) وبين الإسلام المعاصر الذي يبشر به "بن لادن" و"الظواهري" و"محمد عطا" وأنصارهم ؟!.
إن تلك هي جوهر المشكلة الحقيقي ، المشكلة كامنة فينا نحن العرب والمسلمين المعاصرين . ولن يكتب النجاح لأي حوار إسلامي مسيحي إلا إذا استعدنا مجدنا وحضارتنا التي أضعناها بأيدينا عبر تثوير القرآن وتفعيل الإسلام الأول والكشف عن المسكوت عنه في الخطاب الديني المعاصر . إن الحوار المتكافئ المجدي لا يكون إلا بين أنداد ، أما الضعفاء أمثالنا فليس عليهم سوي الانتظار لتلقي التعليمات !*.
6ـ عدم وضوح الأولويات
لعل من أهم مظاهر التحيز في ردود أفعالنا علي تلك الرسوم هو عدم وضوح الأولويات ، إننا لم نعد قادرين علي التفرقة بين المهم والأقل أهمية . إن رسوماً رديئة كتلك التي نشرتها صحيفة أوروبية مجهولة تسيل دونها الدماء أنهاراً وتقوم لها الدنيا ولا تقعد ، في حين أزعم أن من ارتكبت في حقه (صلي الله عليه وسلم) يئن في قبره حزناً علي احتلال العراق وفلسطين وأفغانستان وتفرق الأمة الإسلامية حتي غدت دماء شعوبها أرخص الدماء ، إن هذا ما يؤلم الرسول حقاً أيها الأعزاء ولا يؤلمه رسم هنا أو سب هناك .
إن غياب الأولويات في الثقافة الإسلامية المعاصرة قد أفضي بنا إلي المساواة بين القشر واللباب ، بين المظهر والجوهر ، بين الأصل والفرع ، بين العادة والعبادة ، بين النص (القرآن المحكم) والتاريخ (التفسير وأقوال الفقهاء والمحدثين المتغيرة) .
إن عدم القدرة علي التمييز بين الثابت والمتغير قد أضاع ملامح الإسلام الأول ، وعلينا جميعاً ؛ علماء ومقلدين، خاصة وعامة ، بذل المزيد من الجهد كي نخرج من هذا المستنقع الذي نعيش فيه الآن وإلا فلا علينا إلا أن ننتظر تحقق وعيد ربنا تبارك وتعالي حين قال : "وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ، ثم لا يكونوا أمثالكم" .
خامساً : التحيز الإخباري .. الخطيئة التي تغتفر!
علي مدار ما يقرب من خمسة عشر عاماً ، منذ أن بدأت علاقتي الرسمية بحقل الإعلام وحتي الآن، وأنا أبحث عن نتائج دراسة علمية واحدة ، باللغة العربية أو الأجنبية ، تشير إلي أن التحيز يعد أحد القيم الإخبارية الواجب اتباعها عند كتابة أو تحرير الأخبار . غير أني وللأسف قد فشلت في تحقيق هذا الهدف هذه اللحظة !.
ولعل الدافع وراء بذلي هذا الجهد المضني هو ذلك الفيض الهائل من التحيزات الإعلامية وتحديداً الإخبارية التي تملاً البرامج والقصص الإخبارية العربية منها أو الأجنبية .
وإذا كان من الممكن أن نبرر، أحياناً ، بعض التحيزات الكامنة في الرأي كونه يعبر بالضرورة عن رؤية متحيزة ، فليس مقبولاً علي الإطلاق تبرير التحيز الإخباري ، الذي كاد أن يصبح القاعدة في الوقت الذي يتحول الحياد والموضوعية إلي مجرد حالة استثنائية !.
سادساً: الفرق بين التحيز والكذب والحول الإعلامي !!
لعل من الأهمية بمكان ، ونحن نتحدث عن إشكالية التحيز الإعلامي ، أن نفرق  بين ثلاثة مصطلحات رئيسية هي :
§   التحيز الإعلامي : ويحدث عندما تنحاز وسائل الإعلام لوجهة نظر معينة وتطرحها علي الرأي العام بوصفها وجهة نظر موضوعية محايدة .
§   الكذب الإعلامي : ويحدث عندما تتعمد وسائل الإعلام نشر أخبار أو معلومات تعلم مسبقاً أنها خاطئة مستهدفة بذلك تضليل الرأي العام .
§   أما المصطلح الثالث فهو ما أسميه بالحول الإعلامي : وهو منتج محلي الصنع ، ويحدث عندما تروج وسائل الإعلام لآراء وأخبار تعلم مسبقاً أنها تعبر فقط عن وجهة نظر السلطة السياسية ، وتصورها علي أنها تعكس وجهة نظر الأغلبية مفترضة بذلك غباء المتلقين وعدم نضجهم السياسي !.
ويمتلأ إعلامنا المصري الرسمي بالكثير من هذا الحول الإعلامي ، ولعل ما حدث في الانتخابات البرلمانية الأخيرة أقرب مثال علي ذلك ، إذ لاحظ المتابعون أن وسائل الإعلام الحكومية كانت تغطي بكل حرية ونزاهة أجواء انتخابات ، ولكنها انتخابات تجري في دولة أخري !، حيث ادعت أن الانتخابات قد جرت في جو ديمقراطي لم تشبه شائبة ، ولم تشهد أية مظاهر للعنف اللهم إلا ما قامت به قلة قليلة منحرفة من أعداء الديمقراطية الذين اعتدوا علي ضباط الشرطة وممتلكات الدولة مما عكر صفو العملية الانتخابية في بعض اللجان ، إلا أنه بفضل الله أولاً ثم بفضل الحكمة والوعي الذي تعاطت به قوات الشرطة البواسل مع هذا الشغب حقنت دماء المسلمين في هذه المعركة ، ويحتسب قوات الشرطة الأجر في ذلك عند الله تبارك وتعالي !.
 يحدث ذلك في الوقت الذي كانت تنقل فيه جميع صحف المعارضة والصحف الأجنبية ومراسلو الفضائيات العربية ومجتمع المدونات علي شبكة الإنترنت بالصوت وبالصورة وقائع التزوير العلني ومحاصرة قوات الشرطة لكثير من اللجان ومنعها الناخبين والمرشحين أنفسهم من ممارسة حقهم الانتخابي ، فضلاًً عن الصور الحية لأعمال البلطجة التي أرهبت الناخبين والتي جرت علي أعين قوات الشرطة التي لم تحرك ساكناً ، وهو ما أسفر في نهاية المعركة الانتخابية "المقدسة" بمراحلها الثلاث عن مقتل وإصابة العشرات !.
سابعاً : دوافع التحيز
يعد إدراك الدوافع الكامنة وراء التحيزات الإعلامية والإخبارية أولي المراحل لدفعها ، ولعلي أجمل هذه الدوافع في النقاط التالية :
1ـ تبعية النظام الإعلامي للنظام السياسي
اعتادت جميع الأنظمة السياسية في عالمنا العربي أن تحكم السيطرة علي كل شيئ ؛ علي البشر والحجر ، علي كل ساكن قد يتحرك يوماً ما بما يقلق راحة بال هذه الأنظمة . وقد خضعت وسائل الإعلام منذ وقت مبكر لتلك السيطرة ، وانحصر دور وسائل الإعلام في هذا الإطار إلي مجرد بوق دعائي لتلك الأنظمة السياسية ، لا تري إلا ما تراه ، ولا تعكس أي وجهة نظر معارضة ، فالمعارضة من وجهة نظرها ، ومن ثم وجهة نظر الأنظمة السياسية ، فئة ضالة تريد أن تلحق الضرر بالبلاد والعباد ، وتريد أن ترجعنا إلي العصور الوسطي ، في الوقت الذي يتعاطي فيه الخارج (أي خارج) مع المعارضة بوصفها ضلعاً ثابتاً من أضلاع الديمقراطية وحقاً مشروعاً أصيلاً للجميع .
2ـ سيادة منطق الإعلامي الموظف لا المحترف
الحرية للإعلامي كالماء والهواء ، وعندما لا ينعم الإعلام والإعلاميون بنسيم الحرية ينعدم الإبداع ، ويركن الجميع إلي التعاطي مع الرسالة الإعلامية بمنطق الموظف لا المحترف، الموظف الذي يؤدي عمله ـ يومياً ـ علي أحسن وجه ولكن دون رغبة منه ، فهو يعلم مسبقاً أن لا جدوي من هذا العمل ، فلا أحد يقرأ أو يسمع أو يشاهد منتجه الإعلامي ، وإن حدث ذلك فلن يصدقه أحد . وفي تلك الأجواء تحل العقلية الناقلة محل العقلية الناقدة ، وتذهب ساعتها مجمل النفقات (التي تقدر بالملايين) والطاقات البشرية والمادية الموجهة في قطاع الإعلام أدراج الرياح .
3ـ الجهل المركب
يعد الجهل المركب نتيجة منطقية للنقطتين السابقتين ، فإذا كان ثمة وصاية مطلقة من النظام السياسي علي النظام الإعلامي ، وهو ما يدفع إلي سيادة منطق الإعلامي الموظف لا المحترف ، فلماذا إذن يضيع الإعلامي بعضاً من وقته "الثمين" في القراءة والاطلاع ؟ لماذا يبذل الجهد في صنع رسالة إعلامية يعلم مسبقاً أنها قد تهبط عليه من قبل جهات سيادية عليا في أية لحظة ؟.
وتجدر الإشارة هنا إلي أن الجهل هنا ليس جهلاً أحادي الاتجاه بل هو جهل مركب يتعدي قدرة الإعلامي علي قراءة ما بين السطور ليشمل افتقاده القدرة علي التحليل والتفسير ، والنفاذ إلي الأسباب الحقيقية الكامنة وراء الأحداث ، فضلاً عن جهله باستخدام تكنولوجيا الاتصال الحديثة التي تتيح الاطلاع علي أطنان من المعلومات والحقائق التي تحاول الأنظمة السياسية ، عبثاً ، إخفاءها عن شعوبها ... إلخ.
ثامناً : خطورة التحيز .. هل التحيز مجرد إشكالية فلسفية؟!
علي الرغم من أن إشكالية التحيز تبدو من وجهة نظر الكثيرين مجرد إشكالية فلسفية ، تفضي ، علي أسوأ الظروف ، إلي تشويه الصورة وقلب الحقائق ، إلا أن الأمر أعقد من ذلك بكثير . حيث يمكن أن يترتب علي هذا التحيز مشكلات جمة لها علاقة مباشرة بالواقع المعاش، ولعلي ألقي الضوء علي ما يمكن أن يفضي إليه ذلك التحيز من نتائج كارثية قد تلحق الضرر بالمجتمع ككل من خلال استعراض المثالين التاليين :
المثال الأول يتعلق بما شاهدناه جميعاً علي شاشات التلفاز خلال وقائع إعدام الرئيس السابق "صدام حسين" ، إذ دفع التحيز الديني الأعمي بعض الشيعة ممن شهدوا تلك اللحظة لمخاطبة "صدام" بقوله : "إلي جهنم إن شاء الله"، في حين دفع آخرين للهتاف بأصوات مرتفعة فرحة باسم بعض المراجع الشيعية.
 وبغض النظر عن خلفيات الأحداث ومدي اختلاف الرؤي حول تقييم فترة حكم الرئيس العراقي السابق ، إلا أن ما يعنيني في هذا المشهد أن ذلك التحيز الديني الأعمي قد أنسي هؤلاء جميعاً ـ أولاً ـ أنهم بهذه المواقف سيثيرون حفيظة السنة في العالم* بلا شك ، كما أنهم قد يثيرون بها حفيظة كثير من الشيعة المعتدلين . كما أنساهم هذا التحيز ـ ثانياً ـ أن التشفي ليس من شيم العرب ، حتي خلال العصور الجاهلية . وأنساهم هذا التحيز ـ ثالثا ًـ أنه لا بالرجال أن يتصرفوا علي هذا النحو وتحديداً خلال تلك اللحظات المهيبة التي يساق فيها العبد (سواء كان طائعاً أم عاصياً) إلي ربه . كما أنساهم التحيزـ أخيراً ـ  أنهم يستدرجوننا جميعاً؛ سنة وشيعة ، بمثل هذه المواقف  لحروب وفتن داخلية تنسي الجميع جوهر المشكلة الحقيقي ، وهي أن ثمة احتلالاً أمريكياً لبلد عربي مسلم ، وهو عين ما يريده المحتل في كل وقت وحين .
المثال الثاني : أدعوك خلاله أن نقلب سوياً صفحات من السير الذاتية للحكام المستبدين ؛ الأحياء منهم والأموات ، العرب منهم والعجم ، لننظر كيف أعماهم ويعميهم التحيز الشخصي وعبادة النفس والهوي عن رؤية الحق ، عن الاستماع لوجهات النظر المعارضة ، عن التوصل لكلمة سواء ، عن تصحيح المسار إن كان ثمة اعوجاجاً . ولكن للأسف يأبي التحيز إلا أن يصم آذانهم ويعمي أبصارهم وبصيرتهم ، وكأنهم يقلدون بذلك جدهم الأكبر؛ فرعون ، وهو يخاطب قومه قائلاً : "ما أريكم إلا ما أري وما أهديكم إلا سبيل الرشاد" .
وتكمن المفارقة هنا في أن الرياح تأتي غالباً بما تشتهي السفن ، تأتي علي عكس ما يتوقعه هؤلاء الطغاة ، فإما القتل أو الانتحار أو لعنة التاريخ ، وما أقساها . وليت الأمر يتوقف عند هذا الحد بل تحل بشعوبهم بعد رحليهم المآسي والأهوال ، حيث أضحي الاستبداد والقهر السياسي الداخلي الآن باباً خلفياً مشروعاً للتدخل الخارجي ، لعودة الاستعمار في العالم من جديد عبر آليات الضربات الاستباقية ، الفوضي الخلاقة ، الحرب النظيفة ، محور الشر ، محاورة الإرهاب ، من ليس معنا فهو علينا .. إلخ !!. ألا تري معي ، بعد ذلك ، أن التحيز لا يعد مجرد إشكالية فلسفية؟!.
تاسعاً : هل من سبيل لدفع التحيز؟..آليات التجاوز
 هل يفضي قولنا السابق إلي نتيجة حتمية تفيد بأن التحيز الإعلامي والإخباري بات قدراً لا يمكن دفعه ؟. أعتقد أن الإجابة علي ذلك ستكون بالنفي القاطع ، حيث أتاحت تكنولوجيا الاتصال الحديثة آليات من داخل النظام الإعلامي ذاته يمكنها دفع التحيز الإعلامي والإخباري علي حد سواء .
إن أحد أهم مسببات التحيز ، كما سبقت الإشارة ، يتمثل في احتكار وسائل الإعلام ، الاحتكار الذي يمنع بمقتضاه صاحب السلطة المادية أو السياسية ما يشاء ويدع ما يشاء . وقد ظلت هذه هي الحالة السائدة طوال السنوات الماضية ، إلي أن استطاعت تكنولوجيا الاتصال الحديثة وللمرة الأولي كسر هذا الاحتكار إذ سمحت للأفراد العاديين بالمشاركة في صنع الرسالة الإعلامية وذلك من خلال شبكة الإنترنت ، وتحديداً من خلال ما بات يعرف بالمدونات (Blogs) ، والمدونين (Bloggers) وهو الأمر الذي لم تستوعبه بعد الأنظمة الحاكمة التي اعتادت أن تتعاطي مع كل شيئ من خلال الرؤية الأمنية الضيقة وحسب.
وتتمثل أهم هذه الآليات فيما يلي :
1ـ التدفق الحر للحقائق والمعلومات من كل الاتجاهات
حيث بات في مقدور أي مواطن عادي ، بفضل تكنولوجيا الاتصال الحديثة ، أن يتحول في أي لحظة إلي إعلامي متجول يصل إلي ما لا يستطيع الإعلامي المحترف الوصول إليه ، ما أدي بدوره إلي حالة من التدفق الحر للحقائق والمعلومات المدعمة بالصور تجاه مختلف القضايا والأحداث المثارة داخلياً وخارجياً ، وهو ما وضع الأنظمة السياسية المستبدة في وضع لا تحسد عليه ، إذ بات كل ما تحاول إخفاءه ، عبر أبواقها الإعلامية المتحيزة ، مكشوفاً أمام الرأي العام المحلي والعالمي . ولم يعد أمامها ، وفق رؤيتها الأمنية الضيقة ، إلا الزج بأصحاب تلك المدونات في غياهب السجون حتي صرنا أضحوكة العالم ! ، فكيف يضيق صدر نظام سياسي ، يدعي الديمقراطية ، بمجرد آراء شخصية يعبر عنها شباب علي صفحات الإنترنت وليس علي صفحات الجرائد أو علي شاشات التليفزيون !.
2ـ مراقبة أداء وسائل الإعلام وفضح تحيزاتها
أتاحت تكنولوجيا الاتصال الحديثة إمكانية مراقبة أداء وسائل الإعلام وفضح تحيزاتها بواسطة الأفراد العاديين الذين يمكنهم الآن التحقق من مدي صدقية الأخبار والمعلومات التي تبثها وسائل الإعلام المنحازة بسهولة عن طريق نشر المعلومات المناقضة مدعمة بالأرقام والصور عبر شبكة الإنترنت .
ويحضرني في هذا السياق المثالان التاليان :
الأول يتعلق بالأدلة التي نشرتها إحدى المدونات الأجنبية علي شبكة الإنترنت والتي أكد صاحبها علي أن الوثائق والمستندات التي عرضتها شبكةCBS  التليفزيونية الأمريكية خلال حملة الرئاسة الأمريكية لعام 2004 والمتعلقة بتاريخ التجنيد العسكري للرئيس الأمريكي بوش كانت مستندات مزورة ، ونشر في مدونته من الوثائق ما يفيد بذلك ، وهو ما أثار جدلاً واسعاً بين مجتمع المدونات وانتقل هذا الجدل بدوره لوسائل الإعلام التقليدية مما سبب حرجاً بالغاً لشبكة CBS ودفعها لنفي ما تردده وسائل الإعلام دون أن تتحقق من ذلك . وبعد فترة قصيرة تبين لها صدق ما ذهبت إليه تلك الأنباء ما اضطرها في النهاية إلي تقديم اعتذار رسمي علني لمشاهديها في كل أنحاء العالم ، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد ، بل قامت الشبكة بفصل منتجة أخبار تدعى (Mary Mapes)، كما طالبت بعضاً من كبار المحررين والمسئولين التنفيذيين بتقديم استقالاتهم ، وهو ما حدث بعد ذلك بالفعل*.
المثال الثاني يرتبط بأوضاعنا الداخلية ، حيث تناقلت وكالات الأنباء وشاشات التلفزة العربية مشاهد حية (نقلاً عن مواقع مدونات مصرية نشرت علي شبكة الإنترنت) للتجاوزات التي شابت الانتخابات البرلمانية الأخيرة ، والتي تنوعت لتشمل : ضرب وسحل أنصار مرشحي المعارضة ، محاصرة قوات الأمن لمراكز الاقتراع ، تسلق الناخبات سلالم خشبية للإدلاء بأصواتهن في سابقة هي الأولي من نوعها العالم ، مشاهد البلطجة التي روعت الناخبين..إلخ.
 ويرجع الفضل في التقاط وتداول هذه الصور علي شبكة الإنترنت إلي شباب عادي ، وليس إلي مصوري الفضائيات ووكالات الأنباء ، الذين منعوا بالطبع من تغطية هذه الأحداث الدامية. ومما لا شك فيه أن نشر تلك الأدلة كان من شأنه فضح تحيزات وسائل الإعلام الحكومية التي ادعت نزاهة هذه الانتخابات .
3ـ خلق مجتمع إعلامي عالمي افتراضي خالِ من التحيز
يخيل إلي أن تكنولوجيا الاتصال الحديثة يمكنها في المستقبل القريب خلق مجتمع إعلامي افتراضي عالمي ، تمنح فيه العضوية وفق شروط معينة لأفراد بعينهم يؤمنون بالموضوعية ويخلعون رداء التحيز بكل أنواعه ، ويتبادل الجميع في إطار هذا المجتمع الإعلامي الافتراضي وجهات النظر المختلفة بهدوء وموضوعية دون تحيزات مسبقة ، وبهذه الطريقة يغدو الالتحاق بعضوية هذا المجتمع الافتراضي شرف يسعي إليه الجميع فضلاً عن أنه يشكل نواة مستقبلية نحو إقامة مجتمع عالمي ينبذ التحيز بكل أشكاله .
وفي الختام أرجو ألا تكون تلك الكلمات الأخيرة ، التي تعمدت أن أنهي بها ورقتي ، مجرد أوهام عن عالم أخلاقي افتراضي يذكرنا "بالمدينة الفاضلة" وحسب ، في حين تأبي ضغوط الواقع وتشابك المصالح العالمية أن يزاحمها مثل هذا الواقع الافتراضي "اليوتوبي" ، وإذا كان الأمر كذلك فحسبنا أن البعض منا سينعم بالعيش الدائم في ظل هذا الواقع الافتراضي في "الفردوس الأعلي" إن شاء الله .
                                                                  والله أعلم



·  مدرس الإعلام بكلية البنات، جامعة عين شمس.

* يعد الكذب أحد أهم آليات الدعاية السوداء التي وضعها "جوزيف جوبلز" . و"جوزيف جوبلز" هو وزير الدعاية للحزب النازي الألماني ، وأحد أهم مؤسسي علم الدعاية في العالم . صاغ وجدان وثقافة الشعب الألماني لمدة 12 عاماً خلال حكم "هتلر". وهو صاحب مدرسة في الدعاية تقوم علي الكذب المخلوط بشيئ من الحقيقة ، وصاحب مقولة "اكذب وكرر الكذب حتي تصدق نفسك ومن ثم سيصدقك الآخرون" . أنهي "جوبلز" حياته بنفسه حيث وجد منتحراً  في 1 مايو 1945!.
** يلاحظ المتابع لمجريات الحرب في العراق أنه كلما زادت خسائر القوات الأمريكية وتصاعدت وتيرة الضغوط  الداخلية علي الإدارة الأمريكية للخروج من هذا المستنقع في أسرع وقت ممكن وبأقل خسائر ممكنة ، يخرج علينا وزير العدل الأمريكي ، أو أحد مسئولي البيت الأبيض ، معلناً عبر وسائل الإعلام عن رفع حالة الطوارئ إلي أعلي معدلاتها ، محذراً الشعب الأمريكي من احتمالات وقوع عمل إرهابي ضخم وذلك في مناورة إعلامية لتحويل انتباه الرأي العام . إذ من الطبيعي أن تتراجع ، بمقتضي تلك التصريحات ، التغطية الإخبارية ليوميات الحرب في العراق لتحل محلها تفاصيل تلك الأخبار السلبية الجديدة ! . وبهذه الطريقة يمكن أن توظف وسائل الإعلام (سلباً) ، في كثير من الأحيان ، "لصناعة الخوف" أو لاختلاق عدو وهمي أو لتشويه الصورة ...إلخ.

 (1)] On Line [ Available at: http://www.alhodaif.com/rtcl_stry.php?wrtng_id=62.
* علي الرغم من تسليمي بأن الأمثلة السابقة تشير إلي حوادث فردية متناثرة لا يجمعها سياق واحد ، ولا تعبر عن الاتجاه العام ، إلا أن معدلات حدوثها من ناحية ، وما تشير إليه دلالاتها من ناحية ثانية ، وطرق  معالجتها الخاطئة من جميع الأطراف الفاعلة (الدولة ، الكنيسة ، المؤسسة الدينية الإسلامية) من ناحية ثالثة ، ودخول قضية العلاقة بين المسلمين والأقباط ذاتها ضمن حالة الاستقطاب العالمية السائدة من ناحية رابعة ، يؤكد كل ذلك علي أن ثمة تغيرات جوهرية طرأت علي طبيعة هذه العلاقة خلال السنوات الأخيرة . إن ثمة احتقاناً حقيقياً يعاني منه الجميع ، وهو ما يستلزم ضرورة إعادة طرح ومناقشة مسألة الوحدة بين المسلمين والأقباط من جديد ، ولكن بشكل هادئ وموضوعي وعلي جميع المستويات ، وهو السبيل الوحيد لتحقيق الوحدة الوطنية علي أسس موضوعية . أما تبادل الزيارات والبرقيات والمآدب والحفلات الطقوسية التي نراها من حين لآخر فلا تقدم وإن كانت تؤخر، ويمكن التعاطي معها فقط من باب ذر الرماد في العيون ، غير أنه رماد يزيد من ضعف العيون ويصيبها بالعمي علي المدي الطويل!!.
* يكفي الإشارة في هذا الصدد إلي أن الصورة الشهيرة التي تناقلتها وكالات الأنباء لمقتل الطفل الفلسطيني "محمد الدرة" بين يدي والده بدم إسرائيلي بارد، قد تم تشويهها بفعل الدعاية الصهيونية التي تزعم أن الفلسطينيين اعتادوا أن يعّرضوا أبناءهم لاحتمالات القتل حتي يحصلوا علي الأموال التي تتدفق علي أسر الشهداء والجرحي ، وبهذه الحجج البلهاء خرج هذا المشهد المروع لينقع كثيراً من المشاهدين وخاصة في العالم الغربي المنحاز بطبعه ، أو الجاهل بحقيقة الأوضاع علي أرض الواقع !!. أبعد هذا المثال يحق لنا أن نضيع مزيداً من الوقت في سرد باقي التحيزات الإعلامية الغربية ؟!.
* حتي لا يقع القارئ الكريم ، بدوره ، في فخ التحيز ويصدر أحكاماً شخصية ضدي أود التأكيد علي أنني لا أروج ، من خلال ذكر المثالين السابقين ، لاتجاهات معارضة للعمليات الاستشهادية أو للجهاد بالنفس للدفاع عن الأرض والمقدسات ، ولكني فقط أعارض استخدام مثل هذه المصطلحات "المتحيزة" في عالم الأخبار ، إذ تتضمن قيماً وأحكاماً شخصية محلها برامج الرأي أو المحادثات الشخصية لا الأخبار أو النشرات الإخبارية.
* أنظر علي سبيل المثل لا الحصر إلي الانتقادات العنيفة التي وجهت للكنيسة الكاثوليكية  في روما ، عقب استضافتها العرض الأول لفيلم "قصة ميلاد المسيح" ، والذي أسند دور البطولة فيه للممثلة الشابة "كيشا  كاسل هيوز"(16 سنة)  والتي قامت  بدور السيدة مريم ، وذلك علي الرغم من أنها تنتظر في الربيع القادم مولودها  الأول "غير الشرعي" من صديقها في المدرسة (19سنة)! ، لمزيد من التفاصيل أنظر الموقع الإلكتروني التالي : http://deedat.wordpress.com
 (1)] On Lline [ Available at: http://www.asharqalawsat.com
* أشير بذلك إلي الضجة الإعلامية التي أعقبت الزيارة التي قام بها مجموعة من الدعاة ، وعلي رأسهم الداعية "عمرو خالد" إلي الدنمرك لتوضيح معالم الدين الإسلامي السمح ، وما أعقب ذلك من تصريحات العلامة الدكتور "يوسف القرضاوي" التي أعرب خلالها عن رفضه القيام بمثل هذه الزيارات في هذا التوقيت . وبغض النظر عن هذا الاختلاف في وجهات النظر ، إلا أن ما أذهلني حقاً هو اندفاع كثير من الشباب "المتأسلم" ، من أتباع "عمرو خالد" ، لتوزيع الاتهامات والسباب والتخوين لكل من عارض هذه الخطوة ، وعلي رأسهم الدكتور "القرضاوي" ، علي صفحات الإنترنت، فضلاً عما أضاعوه في هذا الإطار من وقت وجهد ومال في القيام باستفتاءات واستطلاعات للرأي تسأل الناس عن رأيهم في هذه الزيارة المقدسة التي أعادت القدس وعاصمة الرشيد إلي المسلمين !.
* لاحظ أننا نقع في ذات التحيزات عقب كل أزمة تقع في الداخل أو الخارج ، وكأننا لن نتعلم أبداً من أخطائنا . حدث ذلك عقب تصريحات بابا الفاتيكان الأخيرة ، وعقب تصريحات وزير الثقافة المصري حول الحجاب ، وعقب نشر رواية ضعيفة ركيكة (وليمة لأعشاب البحر) ، وعقب نشر أبحاث أو كتب علمية تحمل وجهات نظر مغايرة ... إلخ.
* تلقيت ، بعد بث هذه المشاهد ، رسالة علي هاتفي المحمول تقول : عاجل ؛ ميليشيات الصدر والحكيم تتأهب لتهجير كل السنة من بغداد ويخططون لتشتيت إخواننا وطردهم وإذلالهم وسلب حقوقهم . السنة يستغيثون ويناشدون الدول العربية التدخل لوقف المذبحة والتهجير والإبادة . أدعو الله أن ينصر إخواننا في العراق وأن يهزم ويذل كلاب أمريكا في العراق، الصفويين الإيرانيين ، عملاء بوش وبلير والصهاينة الذين يذبحون إخواننا السنة في العراق . انشر لنصرة إخواننا".
تبدو تلك الرسالة المتحيزة للسنة الطبع ، والتي تسوي بين إيران "المسلمة" وبين بوش وبلير والصهاينة ، تبدو منطقية خاصة إذا تعاملنا معها في إطار كونها رد فعل علي ما شاهدناه جميعاً ، وتفتح المجال في الوقت نفسه لسلسة متتالية من التحيزات الشخصية والدينية التي توقعنا جميعاً في فتنة لا تبقي ولا تذر ، فتنة حذرنا الله عز وجل منها حين قال :   "واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب".
* لمزيد من المعلومات حول هذه القضية يرجي الاطلاع علي الموقع التالي : http://en.wikipedia.org/wiki/CBS_documents_controversy  

هناك تعليق واحد:

  1. دكتور علاء اشكر حضرتك جدا علشان احنا بنستفيد من كتابات حضرتك المتميزة و شرحك المختلف

    ردحذف