بين التعين والتحيز
مقاصد المعرفة ومستويات الوجود
د/ أبو يعرب المرزوقي
تمهيد:
إذا
ما استثنينا معنيين حدين قد لا يكونان من مقاصد الندوة أعني المعنى العامي
للانحياز[1] والمعنى الفلسفي في المناظرية[2] المطلقة[3]-والأول انحياز قصدي إلى
موقف معين والثاني موقف مناظري ينفي كل إمكانية لتخلص الذات العارفة من ذاتيتها في
المعرفة- فأخرجناهما من مطالب المحاولة انحصر البحث في مدخلين جديين يوجدان
بينهما وكلاهما ينتسب إلى نظرية المعرفة في علاقتها بنظرية الوجود المتحررة من
هذين المعنيين العامي والمناظري. لذلك فعليهما دون سواهما سأقصر قولي الموجب مبقيا
على الدور السالب للمعنيين المستثنيين بوصفهما حدين خارجيين يحيطان بمحاولتي قبل
بدايتها وبعد غايتها.
فالمعنيان
اللذان ينحصر عملي فيهما يمكن أن يفهمانا المقصود بتحيز المعرفة الذاتي لها من حيث
هي معرفة أعني بمقتضى محدديها الجوهريين- بمقتضى تعينها علاجا ومراحل تراكم
معرفي أولا وبمقتضى تعين الذات فردا كانت أو جماعة والموضوع طبيعيا كان أو تاريخيا
ثانيا- حتى لو سلمنا بتعالي المقاصد العلمية التي يعقل (=أي يسمك فيوحد تحت
معنى مشترك تتحدد به الأعيان) الكلي المعلوم منها تلك الأعيان سعيا إلى غاية
يكون فيها بتحققه شاملا لها فوق عينيتها وتاريخيتها وبذلك يتجاوز التحيز بالمعنى
التاريخاني النافي بإطلاق لانفصال النظرية عن حيزيها الذاتي والموضوعي كما في
المناظرية المطلقة:
المعنى الأول:
وأول
هذين المعنيين هو التحيز كما يفهمه جمهور المثقفين وهو يشير إلى دواعي التحير التي
يتمثل العلم الحقيقي في السعي إلى تخليص العلم من تأثيرها قدر المستطاع[4]. ويتميز هذا الموقف بشيء من
السذاجة لظنه أن الموضوعية العلمية تقتضي نفي الذاتية بإطلاق وهو بصورة ما نظير
المناظرية الإيجابي: أي إنه يتصور الموضوعية المطلقة أمرا ممكنا وبها يعرف العلم.
المعنى الثاني:
وثانيهما
هو التحيز عند العلماء وهو يشير إلى وجه الإشكال في الفضالة الذاتية أو فضالة حضور
الذات العالمة في علمها Residual subjectivity والتي لا يمكن التخلص منها خلال
السعي نحو الكلية الموضوعية التي تعد مثال العلم الأعلى. ويتميز هذا الموقف بشيء
من الاقتصاد والنقد تسليما بحدود الموضوعية التي هي نسبية إلى التجهيز العلمي
الرمزي (الجهاز التصوري وهو رياضي في الأغلب) والتقني (والجهاز المخبري
وهو أدوات تحقق من توقعات النظرية في الأغلب).
والهدف
من هذه المحاولة هو مناقشة نظرية التحيز عنوانا لدور الظرفي في البنيوي (بلغة
الفلسفة الحديثة والمعاصرة) أو العرضي في المقوم (بلغة الفلسفة القديمة
والوسيطة) والعيني في الكلي (بلغة جامعة بين الاصطلاحين). وليس القصد
علاج مسألة دور الإيديولوجيا في العلمي لأن هذا من مباحث الحد الأول الذي يطلب
الموضوعية المطلقة وقد استثنياه ولا هو علاج مسألة دور المناظر في العلم لأن هذا
من مباحث الحد الثاني الذي ينفي الموضوعية بإطلاق وقد استثنيناه كذلك. إنما الهدف
هو فهم ما يعود إلى تأثير محددات فعل النظر من حيث فعل نظر محدداته الصادرة عن
تاريخ تجهيزيه اللذين أشرنا إليهما وعن تاريخ تمظهر موضوعه بفضل ذينك التجهيزين
ولنجمع بين الوجهين بعبارة تأثير واقع[5] النظرية تجهيزا وموضوعا
حاصلين في فعل التنظير خلال مجراه الذي يشبه مغامرة السباحة الاستكشافية في مجاهل محيط الظلمات
الذي يمثله ذلك الواقع الواصل والفاصل بين الذات والموضوع المفروضين حدين غايتين
لا تدركان إدراكا فعليا رغم التسليم بهما بهذه الصفة الحدية لفهم المقابلة بين
واقع الموضوع المدرَك وواقع التجهيز المدرك.
وسبيلنا
لتحقيق هذا الهدف هي الموازنة بين نوعي العلوم الغايتين (المنطق والتاريخ وهما
الأصل في واقع التجهيز المدرك) ونوعي الوجود الغايتين معلومين لهما (الكلي
والشخصي وهما الأصل في واقع الموضوع المدرك) وتفاعل الغايتين العلميتين في ما
بينهما وفي الاتجاهين والوجوديتين في ما بينهما وفي الاتجاهين ثم في ما بين
البينين وفي الاتجاهين نفاذا إلى النوع الخامس الذي هو أصل الأنواع جميعا.
وإذن فالمحاولة تتألف من خمس مسائل:
اثنتان فلسفيتان إحداهما
تاريخية والثانية منطقية (=تصورية خالصة تهتم بالتصورات وليس بالأعيان التي يمكن
أن تصدق عليها تلك التصورات).
وإثنتان دينيتان إحداهما تاريخية والثانية منطقية (=تصورية خالصة
تهتم بالتصورات وليس بالأعيان التي يمكن أن تصدق عليها تلك التصورات).
والأخيرة تجمع بين القسمين للتشاجن بين الديني والفلسفي في الفكر
الإنساني بحيث يعد كل فكر بالطبع وبدون قصد من صاحبه مراوحا بين القطبين المنطقي
والتاريخي ومن جيئة وذهابا في نفس الساحة وإن بمنظورين أحدهما ديني يغلب عليه
التاريخ والثاني فلسفي يغلب عليه المنطق.
لذلك
فهذه المسألة الأخيرة تجمع المسائل كلها بمستوييها الفلسفي والديني
لإرجاعها جميعا إلى قضية واحدة هي قضية الإنسان المشدود إلى قطببي وجوده قطب
الزمان وقطب الدهر أو اللازمان[6] وبين القطبين تتحدد مساحة
أفعال العباد في صلتها بأفعال رب العباد رمزا إليها بمفهوم القضاء والقدر[7]. فتكون الخطة مؤلفة من
قسمين فلسفي وديني كلاهما مضاعف وقسم مفرد يلتوهما فيجمع بين العلاجين الفلسفي
والديني:
القسم الفلسفي:
المسألة الأولى:
المدخل التاريخي الفلسفي
المسألة الثانية:
المدخل التصوري الفلسفي
القسم الديني:
المسألة الثالثة:
المدخل التصوري الديني
المسألة الرابعة:
المدخل التاريخي الديني
القسم الجامع:
المسألة الأخيرة:
إشكالية العلاقة بين النظريتين الفلسفية والدينية.
المسألة الأولى
المدخل التاريخي
الفلسفي
أشرنا
إلى المدخلين اللذين يستحقان البحث بعد أن استثنينا المدخلين الحدين اللذين يخرجان
عن كل علاج علمي أولهما لعاميته والثاني لنفيه المسألة من الأساس. وفي الحقيقة
فالمدخلان المستثنيان هما كما أشرنا من طينة واحدة: فالعامي يتكلم في الذاتيه
كلاما نقديا ومطلبه الموضوعية المطلقة التي يتصورها قابلة للتحقيق بالتخلص المطلق
من الذاتية والمناظري يتكلم في الموضوعية كلاما نقديا ومطلبه المناظرية المطلقة
التي يتصورها قابلة للتحقيق بالتخلص المطلق من الموضوعية. كلاهما يغفل عن
طبيعة العلم ما هي. فهي عين التضايف الذاتي والموضوعي حدين مقومين إذ التضايف
متقدم على حديه ومتعال عليهما. ولا يمكن تصور العلم الذي هو هذا التضايف نفسه من
دون وجودهما معه وفيه رغم أن وجوده متقدم عليهما لكونه مقوم وجودهما المنفصل (يوجدان
منفصلين في التجريد لأن العلم هو الذي يفصل بين ما ينتسب إلى كل منهما بصورة
تجريدية ومنهجية حتى يدقق معلوماته) ووجودهما المتصل (يوجدان متصلين في
التجرد من التجريد أي في الأعيان لأن الصلة بينهما في الوجود هي القوانين التي
يتألف منها العلم سواء علمت أو لم تعلم).
أما المدخلان اللذان أبقينا عليهما فيعتمدان على
هذا الفهم الذي يقبل بالتضايف بين الحدين ويحاول أن يميز بين التضايف المقبول
والعدول عنه إلى إطلاق أحد الحدين لإلغاء التضايف عدولا يفسد قيام المعرفة التي لا
تكون معرفة إلا بهذا التضايف المتعالي على حديه تعالي إيجاد أو شرط إمكان بالمعنى
الكنطي للكلمة. وهذا التضايف المتعالي على الحدين والذي هو موضوع المعرفة العلمية
يمكن الدخول إليه من المدخلين اللذين اخترنا وكلاهما مضاعف: والمدخل الأول
ينطلق من موقف جمهور المثقفين والثاني ينطلق من موقف العلماء.
فأما المدخل الجمهوري فتيعلق بدواعي القول بالتحيز:
وفرعه الأول هو: مدخل ما درج الجمهور على تسميته بتأثير الواقع
العامي (=ما له أثر في الإدراك الحسي الغفل وليس ما له أثر في كون الشيء ما هو
في النظرية العلمية) في المعرفة العامية (=فينومينولوجيا الوعي الغفل
الخالي من النظرية العلمية والفلسفية). ومثاله ما يكثر الكلام عليه بين
الفقهاء في جدل تحديث الفقه أو بين نجوم المثقفين في جدل تحديث التراث أو بين
التنويريين المزيفين في جدل تفسير القرآن بأسباب النزول. فليس لهذا الكلام أساس
حقيقي وإنما هو ناتج عن غلو أصحاب هذا الموقف في ما يزعمونه من تأثير للمجالات
التي تنطبق عليها النظرية فيها بما يخلطون بينها وبين تطبيقاتها.
فلكأن
هؤلاء المثقفين بأصنافهم الثلاثة من جنس من يزعم الكلام في نظرية العلم وهو لا
يميز بين فن الطب وعلم الحياة مثلا فيتكلم على الثاني كلامه على الأول. فعندهم أن كون
أحد الأمراض أكثر بروزا في مكان معين أو في زمن معين بسبب اختلاف نظام الغذاء أو
المناخ يمكن أن يغير من كليات علم الحياة وليس فقط تطبيقاته في مجال الطب. لكن
أليست آلية العدوى وآلية تأثير الغذاء وآلية تأثير الدواء وآلية الوراثة وقوانينها
جميعا خاضعة لنظام كلي يتحدد بصفات الكائن الحي من حيث هو كائن حي وللفواعل
الكيماوية التي تنتظم بها الظاهرات الحية تحديدا غير مطلق دون شك لكنه هو الوحيد
الممكن علميا ؟ وحتى عندما يثبت أن أهل
منطقة معينة أكثر من غيرهم حصانة-كما في ما يمكن أن يعد من التناسب بين البيئة
وقوانين الظاهرة الحية- أليس التفسير يبقى كليا لكونه يعود إلى نوع من الانتخاب
الطبيعي يعمل بحسب قوانين الوراثة في صلتها بما يحدده العلم من تأثير للبيئة فيها
فتبقى كما هي قوانين رياضية ومن ثم فهي تعد أمرا كليا لا يتأثر بمثل هذه الاختلاف
في الظرف إلا تأثرا قابلا للتحديد العلمي الكلي بالقدر الذي يقبل في التحديد
العلمي؟
وفرعه الثاني هو: مدخل ما يسمى بأثر الخصوصيات الحضارية أو اختلاف
الثقافات في مبدعاتها. وإذا كان الفرع الأول مصدره موضوع العلم وتأثيره في النظرية
فإن الفرع الثاني مرده إلى ثقافة العلماء وتأثيرها في نظرياتهم. ومثاله ما يكثر
الكلام عليه في إيديولوجيات البعث الحضاري الذي ينبني على ما يشبه نفي النفي من
أجل استعاده ما محاه الاستعمار : فهو قد هدم هوية المستعمرين الأصيلة وفرض
عليهم هوية مشوهة والاستقلال يحاول أن يستعيد الهوية الأولى. لكن ثمرة السعي الاستردادي الذي خلط بين
اختلاف الهويات ومناهج علاجها آل إلى هوية أكثر تشويها من التي فرضها الاستعمار.
لذلك فالكلام عن علوم متغيرة بمفعول الظرف
ليس له أساس حقيقي ومرده إلى غلو القول بالخصوصية إلى زعم تأسيس علم عربي للاجتماع
خلطا بين أعيان مضمون النظرية الاجتماعية-وهي الظاهرات الاجتماعية التي يؤدي
فيها الثقافي دورا أساسيا ويمكن عندئذ أن نسمى علم الاجتماع بأسماء خصوصية قاصدين
تعيين مجال الانطباق لا العلمية- وصورتها العلمية التي لا تكون علمية إلا
كونها كلية أو إلى المقابلة بين معرفة إسلامية ومعرفة غربية تحت شعار أسلمة
المعرفة رافعين الاختلاف الثقافي في عقائد العلماء -وهو اختلاف لا ينكره أحد
لكنه لا يقابل بين ثقافة وثقافة بل بين موقف شخصي وموقف شخصي من المعتقدات حتى في
نفس الثقافة- إلى درجة التأثير في المحددات الشكلية التي يتقوم بها العلم من
حيث علميته[8] ؟
فيكون أصحاب هذا الموقف ممن لا يميز بين النسبة
إلى مضمون العلم من حيث علاقته بثقافة العالم (علم اجتماع عربي يعني أن موضوعه
المجتمع العربي لا غير) والنسبة إلى العلم من حيث محدداته الشكلية (كون
العلم علم اجتماع لا يؤثر فيه موضوعه إلا من حيث هو كلي أي المجتمع الإنساني من
حيث هو مجتمع إنساني) في الحالة الأولى ولا يميزون بين النسبة إلى المنظور
الأسلوبي في الحياة المؤثر في تكوين المدارس الفكرية (أسلوب العرب أو الألمان
في التقاليد المعرفية تدوينا وتوثيقا وتعليما وتنظيرا وما بعد ذلك كله) وخصائص
العلم من حيث هو علم بمحدديه اللذين وصفنا سابقا (المحدد الجهازي والمحدد
الموضوعي) في الحالة الثانية: فهل حاجة النظرية الاجتماعية أو الاقتصادية
للعبارات الرياضية لصوغ القوانين وكيفيات استعمالها مثلا يتغيران بتغير أعيان
المضمون إذا كان الأمر متعلقا بنوع واحد
من الظاهرات (اقتصادية أو ديموغرافية مثلا )؟
المدخل العلمي : فضالة التحيز في كل كلي معرفي ما المشكل فيها:
فهل
نظرية الكلية والصورة تتنافى مع التحيزين المشروعين الذين نتكلم فيهما أم إنها على
العكس تلغي التحيزين الزائفين أعني التحيز الذي يقول به العامة والتحيز المطلق
الذي تقول به الفلسفة المناظرية النافية للتمييز بين المقوم والعرضي أو بين الصورة
والمادة بسبب إطلاق التاريخانية في الظاهرات الإنسانية بتأثير من التطورية في
الظاهرات العضوية ؟
الفرع الأول: حديث وقد بلغ الذروة في شكله المعاصر. وترمز
نظرية التحيز فيه إلى محددات تعين النظرية العلمية من خلال المقابلة بين البنيوي
والظرفي بتأثير المكان والزمان في مقابل الكلية أو بما يتلو عليهما[9].
ومثاله المقابلة بين القوانين الرياضية والطبيعية التي يعمل بها الحاسوب والشكل
الخارجي للجهاز. لكن هذه المقابلة لا تحسم الأمر. فينبغي أن نسلم كذلك بأن الشكل
الخارجي ليس كله من نفس الطبيعة. ومن ثم فقد لا يكون كله عديم التأثير دائما.
والمشكل هو كيف نفصل بين هذا النوع من الشكل الخارجي الذي قد يكون له تأثير لا
ينكر وخاصة في العلوم الرخوة أو التي لها صلة مباشرة بالتاريخيات والإنسانيات التي
لا يزال شكلها العلمي قريبا من مضمونها ولم ينفصل عنه بسلسلة طويلة من الوسائط
التصورية التي تعد غايتها صيرورة العلم رياضي اللسان والشكل الخارجي من مادة
الظاهرات الطبيعية التي قد يصح تأثيرها حتى على العلوم الطبيعية في بداياتها وفي
لحظات الثورات فيها عند تراكم الظاهرات الشاذة التي تستعصي على النظرية.
لا
شك أن العلم يقترب مما يمكن أن نسميه كليات إنسانية بمقدار ما يبتعد عن الخصوصيات
الثقافية أو بعبارة أكثر دقة يمكن القول إن إثبات كلية العلم تقتضي التسليم بوجود
كليات ثقافية تتجاوز الخصوصيات لأن العلم من عناصر الثقافة. فلا يعقل ألا يكون
الكلي في الإنسان ثقافيا لأن معنى ذلك حصر كلي الشأن الإنساني في ما يستمده
الإنسان من كيانه العضوي فحسب. فلا يكون بين الناس كلي مشترك إلا عند النظر إليهم
من حيث التاريخ الطبيعي فيقتصر تاريخهم الحضاري على الخصوصيات. لذلك فينبغي أن
نسلم بأن الثقافة فيها إلى جانب الخصوصيات كليات ومنها العلوم.
وما
من أحد يمكن أن يشك في أن العلوم من كليات الثقافة الإنسانية. فيسر انتقالها من
ثقافة إلى ثقافة ويسر ترجمتها يدلان على كليتها وانتسابها إلى الثقافة في آن. وهي
تتعالى على الألسن القومية لأن دورها فيها مقصور على ترجمة ما بعد لغوية بلسان قوم
من الأقوام في التعليم أو التقريب الجمهوري ترجمة للغة العلم الكونية أي اللغة
التي يتكلمها العلماء متجاوزين الحدود المكانية والزمانية. فهي تمتاز بالعودة إلى
الرمز العام أو ما أشرنا إليه في كتابنا عن الشعر ومقالنا في الترجمة أعني أصل
اللسان المؤلف من الرسم والموسيقى أو قوانين المكان وقوانين الزمان الرياضية
حاملين للمعاني التي يراد إيصالها للآخرين. التعبير باللسان ينتسب إلى الخصوصي
الثقافي والتعبير بالرسم والموسيقى أي ببنى المكان والزمان ينتسب إلى الكلي
الثقافي ولغة العلم توجد بين الحدين: فلغته الفنية من هذا وهي صلته بموضوعه
وترجمته اللسانية من ذاك وهي صلته بالجماعة غير العلمية. والجماعة العلمية هي
الجماعة القادرة على الكلام بالرمزين.
الفرع الثاني: قديم وقد بلغ الذروة في شكله الوسيط. وترمز
نظرية التحيز إلى محددات تعين موضوع النظرية العلمية. وقد كانت هذه المقابلة تسمى
في الفلسفة القديمة والوسيطة بالمقابلة بين الذاتي والعرضي بمقتضى تأثير الصورة في
المادة وتأثير المادة في الصورة. وهي علة ونتيجة لإدخال التاريخية الموضوعية في
تحديد مضمونات العلم ومقومات الوجود. لكن ألا يكون تراكم المتغيرات التطبيقية
وخاصة إذا أخذت شكل الشذوذ بالقياس إلى النظرية في انطباقها ألا يكون هذا التراكم أحيانا
مصدر ثورة نظرية بسبب ما يدفع إليه من ضرورة ملاءمة النظرية مع الظاهرات التي يراد
تطبيقها عليها أو التي لأجلها وضعت النظرية؟
ألا يكون تأثير الواقع عندئذ كبير الأهمية
فيعتبر التحيز الذي يمثله الانطباق المتعين في شواذ الظاهرات أهم مصادر نمو
النظريات وتطورها إما بالتعديل والإصلاح النسبي أو حتى بالثورات والانقلابات التي
يصبح فيها شذوذ الوقائع أهم مصادر المراجعة لمسلمات النظرية أو لأصولها الموضوعة
فيكون حالها حال النظام العضوي في الظاهرات الحية خلال سلسلة التطور بالشذوذ الذي
يحفظ لنفعه فيحقق الانتخاب الطبيعي بفاعليته في التنافس الوجودي إن صحت النظرية؟
وجوديا:
فهل
فشلت نظرية المقابلة بين الذاتي والبنيوي من جهة والعرضي والظرفي من جهة ثانية
بحيث يكون كل شيء عرضيا ولا يختلف ما كان يظن ذاتيا عما كان يظن عرضيا إلا
بالإيقاع الزماني فيكون أحدهما تغيره أقل سرعة من تغير الآخر لا أكثر ؟ يبدو أن
الجواب بنعم هو السائد في الفلسفة الحديثة والمعاصرة كما تتعين في:
أ- مجال نظرية التطور العضوي
ب- وفي مجال التاريخ
الإنساني.
ولكن
بأي معنى يكون الجواب بنعم؟ فهل يدل التطور في الحياة والتاريخ على نفي الضرورة
والكلية فلا يبقي إلا على الصدفة والجزئية أم إن الأمر يتعلق بتصاحب ضربين من
الظاهرات من جنس تصاحب قوانين الرياضيات الخالصة وتطبيقاتها في الطبيعة أو في
الحياة؟ وليكن مثالنا نظرية الصدفة في الموقف اللاديني الذي سابقة أن ناقشنا
أصحابه بالصورة التالية المناسبة لمبحثنا هنا فنوردها نصا. فأصحاب هذا الموقف: "طيقولون
بفواعل حمسة هي: 1- بالضرورة 2- وبالصدفة 3- وبفعل الضرورة في الصدفة 4- وبفعل
الصدفة في الضرورة 5- وبخروج النظام
اللاحق من اللانظام السابق بفعل وحدة الفواعل الأربعة وحدتها التي هي غيرها ومن ثم
فهي فاعل خامس من طبقة أرقى (وإذا اعتبرنا التفاعلين راجعين إلى المبدأين الأولين
كان هذا الموقف جنيس التثليث المسيحي الذي يبني عليه هيجل كل فلسفته في التاريخ
فضلا عن منطقه الذي هو ميتافيزيقاه). ولما كنا نشك في قدرة الغافلين من
اللادينيين على فهم هذا النوع من المجردات سنضرب مثال نظرية التطور التي هي الأساس
الذي تنبني عليه الدهرية الحديثة كما فهمها العلامة جمال الدين الافغاني في رده
على الطبعانية:
1- فالضرورة هنا هي قوانين الوراثة الرياضية ذات التحقق الفعلي.
2- والصدفة هي الطفرة التكيفية ذات الأثر الفعلي.
3- وأثر الضرورة في الصدفة هو ثبات الخاصية المطفورة في الطافر وفناء
غير الطافرين.
4- وأثر الصدفة في الضرورة هو تكيف الطافر وعدم تكيف غير الطافر.
5- وجملة المؤثرات هي التطور العضوي للانواع التي تصبح سلسلة واحدة
تشملها النقلة من عدم النظام إلى النظام أو من قدر أصغر من النظام إلى قدر أكبر
يحقق التكيف الافضل ليكون البقاء للاصلح في صراع الصدف.
لكن
ذلك يصبح غائية عامة للظاهرات العضوية حتى لو أنكر أصحابها القول بالغائية الخاصة
بالأنواع التي دخلت في السيلان الأبدي للتطور. وهم ينكرون ذلك لغفلتهم أو
لسذاجتهم. إذ ما معنى الوراثة إن لم تكن
قانونا ينقل الخاصيات بحسب قوانين ثابتة ويحافظ عليها بحسب تلك القوانين ؟ وكيف
تكون الطفرة تكيفية إذا لم يكن بين الطفرة والبيئة (التي تخضع هي بدورها
لضرورتين طبيعية وعضوية بمقتضى مقوميها المادي والعضوي) تلاق يقتضي-حتى وإن لم
يكن مقصودا قبليا-حصولا بعديا للتوافق بين المحددات؟ وأي معنى لثبات الخاصية
المطفورة المحققة للتكيف بالقضاء على الخاصيات التي لا تحقق التكيف إذا لم يكن ذلك
من التوافق بين توافقين إيجابي هو السابق وسلبي هو عكسه لغير الطافرين ؟ إلخ.
وفي
الجملة فإن نفي اللادينيين للإعجاز الذي احتاج إليه الدين مرة واحدة لتفسير النظام
في الكون بعقل ناظم وخالق (=فعل الخلق الأول فعل حر ومفعوله ثابت عند المؤمن
ويمكن أن يوصف بكونه صدفة من منظور لا ديني) ينتهي إلى تعميم الإعجاز في كل
صغيرة وكبيرة فيصبح كل شيء يحصل في الوجود الطبيعي والتاريخي يحصل بمعجزة يسمونها
الصدفة: أليس ذلك هو عين أسطرة العالم كله أسطرة مطلقة وعودة إلى العقلية
السحرية التي يرمز إليها الدين بالوثنية يعني بتعدد الخالقين ومعجزات الخلق بهذه
الفواعل الخمسة ؟ ! ".
معرفيا:
وهل
فشلت المقابلة بين الصورة والمادة بحيث تكون الصورة غير قابلة للفصل عن المادة أي
إنها مجرد مادة مصورة تصير صيرورة المادة فيشمل السيلان الأبدي الأمرين معا؟ قد
نسلم بفشل نظرية التفسير التي تقابل بين الصورة والمادة قياسا على فشل التفسير الذي
يقابل بين التحليلي والتركيبي في ابستمولوجية كواين[10]. لكن كلا الحكمين بفشل
التفسيرين يؤديان إلى أن العالم كله في سيلان أبدي ولا يمكن أن نفصل فيه عناصر
قابلة للتحديد بل الكل متوالج في الكل ولا يفسر شيء إلا بالكل: الوحدة
التحليلية الوحيدة هي العالم كله والمعرفة كلها[11].
ويمكن أن نضرب مثالا عن التواصل والتفاصل بين الصورة والمادة في ظاهرتين متطابقتين
من حيث الصفات:
الأولى هي ظاهرة القراءة والكتابة في عمل الفكر. فلما نقرأ نصا
يكون الدال متقدم الوجود على المدلول إذ إن القارئ ينطلق من دال النص إلى مدلوله: تقدم
إضافي إلى القارئ على الأقل. وعندما نكتب نصا يكون المدلول متقدم الوجود على
الدال إذ الكاتب ينطلق مدلول النص إلى داله الذي سيصاغ في الكتابة: تقدم إضافي
إلى الكاتب على الأقل.
الثانية هي ظاهرة العلاقة بالماضي والمستقبل في عمل التاريخ.
فلما نتذكر الماضي تكون مادة الحدث متقدمة على صورته أي على معناه عند الذاكر وهو
لا يفهمه إلا بتذكر المعنى مع الحدث لكأن الحدث مادة خام والمعنى صورة تصوره لاحقا
فتجعله مفهوما: تقدم إضافي إلى مترجم الإنجاز التاريخي الماضي الحاصل إلى تصور
تأويلي. ولما نتوقع المستقبل يكون معنى الحدث المقبل أو صورته متقدمة على
مادته لكأن الحدث صورة عارية عن التعين المادي الذي تتعين فيه الصورة لاحقا: تقدم
أضافي إلى مترجم التصور التأويلي للمستقبل الممكن إلى إنجاز فعلي.
لكن لما ننظر إلى
فعلي الكتابة والقراءة (عملية عقل) وإلى فعلي التذكر والتوقع (عملية
إرادة) فإننا نجد فيهما لحظة وسطى يكون فيها الفعلان متحاضرين في شكل تراء
متساوق أو متزامن والتناظر يكون بالإضافة إلى العقل والإرادة معا اللذين يكونان
كالمرآة بمناظر ليست بالضرورة مباشرة بل هي قد تكون بزوايا انعكاس وانعطاف لا
متناهية. وهذا الفعل الوسط بين الكتابة والقراءة وبين التذكر والتوقع هو لحظة
الوعي القارئ والكاتب نظريا والمتذكر والمتوقع عمليا لحظته الواصلة بين هذه
الأبعاد الأربعة بوصفها أصلها جميعا أصلها الذي لا تتميز فيه المادة عن الصورة بل
هي فعل التصوير والتمديد نظريا وعمليا معا ومن حيث هما مجريان سائلان لا يتوقفان
ولامتناهيان. وهما زويا المناظر لذلك فقل أن تكون الرؤية مباشرة بل هي منعكسة أو
منعطفة بحسب منظور القارئ أو الكاتب أو المتذكر أو المتوقع: وكل ذلك أحياز
مختلفة لفعل الإدراك ومن ثم فهو تحيز للمدركات. ما يمكن قوله هو إن الوظيفة في
علاقتها بالعضو أو الصورة بالمادة في مجال الحياة هي من هذا الجنس.
المسألة الثانية
المدخل التصوري
الفلسفي
وبذلك
نصل إلى حدين متقابلين لا يمكن صوغ الإشكال الفلسفي الذي بينا صيغه التاريخية إلا
بنموذج تصوري هو موضوع هذا الفصل وهو نموذج سيحررنا من المناظرية من وجهين:
فهو
أولا يبين أن الفصل بين ما يقبل العلم وما لايقبله فصل غير مناظري أي إن هذا الفصل
ذاتي لفعل العلم نفسه في صلته بالموضوع: كل اللامتناهيات التي سنكتشفها هي لا محددات
وليست لا متناهيات قابلة للصوغ العلمي. إنها من جنس ما لا يقبل التحديد ولا البت
فيه بالمعنى المنطقي للكلمة: Indecidable.
وهو ثانيا يبين أن القول المناظرية المطلقة متناقض لأنه
يفترض أن علمه بفعل الذات من كونه مناظريا علم مطلق ثم ينفي أن يكون بوسع العلم أن
يتحرر من المناظرية: فهو قد تحرر منها بمجرد أن أطلق قوله بها.
ولنذكر الآن ما توصلنا إليه من نتائج مفيدة في تحديد صيغة
الإشكالية لكي نقدم النموذج الذي بفضله ستقترب الفلسفة من الدين ويصبح إدراك حدود
الإدراك جوهر الفكرين اللذين يتحولان إلى فكرين اجتهاديين في النظر (معيارهما
هو التواصي بالحق بين الناظرين) وجهاديين في العمل (معيارهما التواصي
بالصبر بين العاملين) كما سنرى. وذلكما هما سبيلا الإنسان للحد من التحيز
لحصره في الفضالة التي لا بد منها من حيث هي علامة الإضافة إلى تناهي الإنسان لا
إلى انحيازه والعلم بهذا التناهي هو الذي يحرره من التحيز بمعناه الخلقي: فبمجرد
أن يعلم الإنسان إن فوق كل ذي علم عليم يصبح أكثر تواضعا ويفقد ما به من فضاضة
وغلظة فيلين للآخرين.
وقد توصلنا إلى الحدين المفيدين في صوغ مسألة التحديد
المتبادل بين صورة الموجودات ومادتها صوغا يقبل العلاج الفلسفي والديني لانتسابه
إلى الإنسان سواء تقدم عنده النظر والعالم الطبيعي على العمل والعالم التاريخي كما
هو شأن الفكر الفلسفي أو تقدم عنده العمل والعالم التاريخي على النظر والعالم الطبيعي كما هو شأن الفكر الديني. ولعل
الجمع الجدلي بين هذين الموقفين قد أصبح
مشتركا بين الفكرين وخاصة في الفكر المعاصر:
1-
الحد الأول:
فقد
وصل القول بنظرية الصورة إلى غايته عندما أصبحت الصورة عددية في فكر لايبنتس بعد
أن كانت مقصورة على رتبة النوع.
2-
الحد الثاني:
وقد
وصل القول بنفيها إلى غايته عندما أصبحت الصورة شاملة لنظام الفكر عامة في صلته
بالعالم (كواين): نفي التناظر بين الوقائع الجزئية وعناصر النظرية في مستوى
المفردات والجمل ورفع التناظر إلى مستوى العلم كله.
ومن
مفارقات هذه المقابلة التناقض بين نسبة الذاتي (essential) إلى الصورة والعرضي (accidental) إلى المادة ثم نسبة التعيين في
الوجود الطبيعي إلى المادة ونسبة الفعلية فيه إلى الصورة بغلة الفلسفة القديمة
والوسيطة. ولما كان تعين الشيء هو عينه فعليته حصلت المفارقة: وتلك هي العلة في
ذهاب لايبنتس إلى القول بالصورة العينية أي إن الصورة لا تقف عند وحدة النوع بل
تذهب إلى وحدة العدد. ولكن عندئذ كيف يمكن أن أعلم صورة سقراط التي هي وحدته
العددية وراء الوحدة النوع التي للإنسان فيه ؟ ماذا يمكن أن تكون سقراطية سقراط
وراء انسانيته ؟
اعتقد
أن هذه المفارقة هي التي أدت إلى نظرية التطور في العضويات ونظرية التاريخ في
الفلسفيات فكان التخلص من ثبات الأنواع في
العضويات بشيرا بالتخلص من الميتاقيزيقات في الفلسفيات: فإذا كان التعيين راجعا
إلى المادة وكان التعيين هو الفعلية الحقيقية للصور باتت الصور متغيرة بتغير
المواد وذلك هو مفهوم التطور الذي يعني في الحقيقة أن الفرق بين المادة والصورة
فرق إجرائي يزول بمجرد أن نتكلم في الصور التي لا تفارق كما هو شأن الصور بمعناها
الطبيعي منذ أرسطو: فالفطوسة هي تحديث الأنف وليست مجرد التحديب ومن ثم فهي صورة
متعينة وتعينها من مادتها أعني أن الأمر لا يتعلق بتحديب في الأنف بل بأنف محدب.
والفرق بين. فالدائرة من حيث هي دائرة لا تحل في أي مادة.
والحال
في المواد مما يمكن أن يوصف بكونه دوائر ليس دوائر بل مواده مدورة بتدوير يقرب من
الدائرية دون أن يتصف بصفاتها ممتنعة التعين في المواد غير الرياضية (=المادة
الرياضية هي مجال تمايز الأشكال بعضها عن بعض ومجال علاقاتها بعضها ببعض وربما
مجال تحولها بعضها إلى بعض من دون أن تكون حالة في أي مادة): إذ ليس من شروط
الدائرة أن يكون شعاعها محدد الكم بل يكفي أن يبقى واحدا بالقياس إلى جميع نقاط
المحيط في نسبتها إلى المركز. وما أن يتحدد الشعاع حتى يصبح ممتنع التعين بهذه
الصفة إلا تحديدا تقريبيا وهو ما يتنافى مع الرياضي من حيث هو رياضي. وكل فنيات
التقريب الرياضي أتت من ملاحظة هذه الظاهرة.
وبذلك
فقد أصبحت الرياضيات النظرية تبحث عن سبل الاستفادة من تجويد فنيات الرياضيات
التطبيقية إلى أن تم اكتشاف حساب الأشكال المتعينة بالإضافة إلى وصف الأشكال من
حيث هو أشكال دون تعيين: وعندئذ باتت الحركة وهي جوهر الموضوع الطبيعي قابلة
للعلم فتأسست الطبيعيات العلمية. فإذا عينت طول شعاع الدائرة مثلا فإن كلامي
لن يبقى كلاما في الدائرة من حيث هي دائرة فحسب بل فيها وفي تعينها لذلك فستنطبق
عليها قوانين الدائرة المعينة في مادة رياضية هي الكم الخالص وعندئذ أكون قد
انتقلت من رياضيات المواضع ونسب الإشكال بعضها إلى بعض إلى رياضيات القيس والترتيب
دون أن أنزل إلى الحلول في مادة فعلية من جنس المادة الطبيعية. والبقاء في المقدار
المجرد لا يؤثر في الشكل المجرد حتى بعد
أن صار ذا مقدار معين.
ولكن
بمجرد أن تصبح المادة معينة وذات وجود فعلي وراء المادة العقلية التي يعمل فيها
الرياضي حتى بالتعيين المكمم فأرسم دائرة في الخشب أو على الورق فإن الرسم يؤثر
بمادته سواء كان القصد بالمادة المادة التي يحل فيها الشكل أو فعل إحلال الشكل في
المادة لأن فعل الإحلال هو أيضا جزء من المادة أو لنقل إنه تشكيل مادي. فيتدخل
البركار بدقته وتتدخل المادة التي يرسم عليها الشكل وفعل الرسم نفسه إلخ.. وذلك هو
دور المادة في الظاهرات الحية وفي كل العلوم التي لها موضوعات حقيقية وراء مجرد
الفرضيات الذهنية التي يعالج بها العلم موضوعاته.
ولكي
نصوغ المسألة صوغا واضحا يبين أبعادها التي يمكن أن تحدد مقاصد المعرفة ومستوياتها
سننطلق من تحليل مثال سهل هو مثال لعبة الشطرنج وضروب العمليات الفكرية الجارية
فيها خلال مجرى مقابلة بين لاعبين تمييزا بين المقوم من العناصر التي سنفردها والعرضي منها:
1- المحدد التعريفي:
وتمثله
عناصر لعبة الشطرنج (القطع) وقواعد عملها فعلا وانفعالا (قواعد حركات
القطع وعملها فعلا وانفعالا) وعدم أهمية مادة العناصر التي يمكن أن تتعين في
أي مادة اتفق وبأي شكل شئنا. تعريف القطع وقواعد اللعب موضوعه في لعبة الشطرنج. أما
ما يناظر حدود القطع وقواعد اللعب في الوجود فهي أمور لا تقبل الوضع المتقدم إلا
فرضيا ومن ثم فهي مجهولة الحقيقة بإطلاق وكل ما نفترضه لتعريفها يبقى فرضيا مهما
نجحت التطبيقات التي تستمد من النظريات التي بنيت على تلك الحدود الفرضية. ولهذه
العلة فكل معرفة ميتافيزقية مستحيلة لأنها تفترض الممتنع بالذات: أن يكون تحديد
الموضوعات مطابقا للموضوعات فتكون الماهية هي عين الجوهر.
لكن
الإنسان لا يمكن أن يتعامل مع الأشياء إلا بحسب فرضياته حولها ومن ثم فهو يغمر
دائما في التعامل معها بشيء من المخاطرة تماما كما يفعل من يجوع في البادية فيأكل
النبات المتوفر بالاعتماد على فرضيات وقياسات ما لايعلم على ما يعلم لئلا يموت
جوعا وقد يموت بأكل ما ظنه سادا لحاجته. لذلك فالعلم الإنساني يمكن أن يعرف بكونه
سعيا إلى غاية نظرية تكون فيها عناصر الوجود وقوانينها من جنس حدود قطع الشطرنج
وقواعد اللعب فيه. هذه الفرضية هي عقيدة
العلم والعمل الضمنية: فمن دونها لا يمكن للعمل ولا للعلم أن يكونا ممكننين. وهي
إذن عقيدة العلم العقلي والعمل الديني. والفرق الوحيد هو أن العلم يتظاهر
بالاقتصار على افتراضها بمبدأ "لكأن" في حين أن الدين لا يكتفي
بالافتراض بل هو يؤمن.
وليست
العلة إلا لأن العلم علم والدين عمل فحسب رغم أن لهذا الفرق دورا. لكن العلم لا
يكتفي بمجرد الافتراض إذ لا بد فيه من الالتزام الفعلي بما يفترض ليكون ذلك دافعا
للفعل وهو لا يكون دافعا إلا إذا أصبح إيمانا لا يتزحزح ليس بنظرية بعينها بل
بغاية السعي النظري: أي أن العلم لا يكون ممكنا إلا بفضل عقيدة شبه دينية تقول إن
العالم قابل للعلم ومن ثم فهي تفترض العقيدة الدينية القائلة بأن العالم ليس وليد
الصدف المتضافرة بل هو ثمرة عقل حكيم فتكون غاية العلم الحقيقية هي محاولة الاطلاع
على سر هذا العلم الحكيم ومن ثم فهو عبادة.
2- المحدد الصوري:
خطة
اللاعبين بحسب العلمين النظري الخالص (أي الذي يمكن أن يستنتج من تعريف القطع
وقواعد حركتها) والتجريبي المنظر (أي ما حصل من خبرة خلال المقابلات التي
حصلت بالفعل بين اللاعبين): دور علم اللاعبين بقواعد اللعبة وبالتجربة الخاصلة
خلال المقابلات السابقة. وقد اعتبرنا هذا المحدد صوريا ولكن ليس بإطلاق بل بالقياس
إلى مجرى المقابلات: فما يحدد مجرى المقابلة بصورة ضرورية هو طبعا المحدد التعريفي
لكنه يبدو محددا لا يصور اللعبة الحاصلة فعلا إلى من حيث هو محدد للمكن من اللعبات
وهو ينتسب إلى التحديد الضروري لا إلى التحديد الذي ينسب إلى الحرية والاختيار في
اجتهادات اللاعبين واستراتيجياتهم.
3- المحدد
المادي:
الحال
البدنية والنفسية والعقلية لكلا اللاعبين خلال مجرى الشوط: خطة اللاعبين وانجازها
لا يتحددان بالعاملين السابقين فحسب بل إن صفات اللاعبين تتدخل خلال اللعب بحالها
البدنية والنفيسة والعقلية. وقد سمينا هذا المحدد بالمحدد المادي لأنه يحدد قدرة
المحدد الصورى على التحديد ومن ثم فهو من جنس مقاومة المادة للصورة: لكن المادة
المقاومة هنا ليست مادة اللعبة بل مادة اللاعب. ومن جنس هذا المحدد المادي المحدد
التعريفي فهو مادي بمعنى ما لا يستطيع اللاعب الخروج عنه إلا إذا غير قواعد اللعبة
فلم يعد لاعب شطرنج بل لاعب شيء آخر. وهذا التحديد هو في الحقيقة جامع لصفات
التحديد الصوري والتحديد المادي: فمن حيث هو اختيار للعبة قطعا وقواعد فهو منتسب
إلى الحرية المبدعة للعبة نفسها ومن حيث تحوله إلى ضرورة لا يمكن الخروج عنها يصبح
التحديد التعريفي شيئا مقاوما للحرية وإن كان خضوعها إليه بإرادتها: وكل المؤسسات
الإنسانية هي من هذا الجنس فهي اختيارية من حيث فعل تأسيسها ولكنها اضطرارية بعد
ذلك أي إن الإنسان لا يمكن أن يخرج عنها من دون أن ينقضها ويعوضها بغيرها.
4- المحدد
الفعلي:
مجرى
اللعبة نفسها من حيث هو حصيلة التنافس بين الخطتين والتفاوت بين التجربتين وحال
اللاعبين خلال اللعب: وهذا أيضا أمر مستقل عن الأمور الثلاثة السابقة لأنه هو
الحقيقة الفعلية للعب ذاته من حيث هو حدث تاريخي يجري في الوجود الفعلي محكوما
بالعناصر الثلاثة السابقة وبدور النقل السابقة والنقل المتوفعة في النقل
الحاضرة التي هي الحدث الفعلي وفيه تكون
النقل السابقة والنقل اللاحقة مثل علاقة الماضي والمستقبل بالحاضر في كل فعل
انساني فرديا كان أو جماعيا: ذلك أن الفعل الفردي تحضر فيه الجماعة بحضورها في
الفرد ممثلا بالعناصر الثلاثة المتقدمة والفعل الجماعي يحضر فيه الفرد بكونه السهم
الحاملة لأفعالها وإن بمنطق علم النفس الجماعي أعني مع زوال فعل الروية التي يتميز
بها فعل الفرد منفردا.
5- المحدد
الوجودي:
وهو
المحدد الأهم في مسألتنا لأنه يتمثل في اللامتناهيات الخمسة النابعة من هذه
المعادلة التصورية لما أطلقنا عليه اسم مقاصد المعرفة ومستويات الوجود وكل هذه
اللامتناهيات نابعة من أصلها جميعا أعني
هذه القدرة التي يمكن أن تعمل داخل هذه المحددات وأن تعمل من حيث هو أصل التحديد
في ما هو من وضعها (كلعبة الشطرنج) وخاضعة لتحديد مجهول الطبيعة (كلعبة
الوجود نفسه). وإذا كان التحدد المطلق في العناصر السابقة ممتنعا في مثل هذا
الحالة التي من ابداع الإنسان فكيف باللعبة الوجودية التي لا علم لنا بمن أبدعها
ولا كيف ابدعها. وتتبين الاستحالة في هذا المثال من خلال عدون التحديد التالية:
-- عدم التحدد الأول:
هو
امتناع تحديد كل النقل الممكنة للقطع لأن الممكن بعد نقل كل أي قطعة ينبغي أن يضرب
في الممكن بعد النقلة الموالية التي اختيرت من الممكن الأول. فمن تواليف عناصر
اللعبة بعد كل نقلة يمكن أن نحدد النقل الممكنة كلها لكن اختيار أي نقلة بمقتضى ما
يمكن أن يحصل بفضلها من إمكانات تسليما باستثناء النقل التي لا تنتج عنها إمكانات
خصبة بداهة يبقى رهين تجربة اللاعبين وليس قابلا للتحديد بمقتضى قواعد اللعبة
وحدها فضلا عن كون حصول الاختيار الواحد يلغي في المقابلة الاختيارات الأخرى.
-- عدم التحدد الثاني:
هو
لا تحدد توقعات كلا اللاعبين لنوايا ملاعبه. ويمكن من خطة اللاعبين بحسب علمهما
النظري وتجربتهما المنظرة أن نتوقع في كل نقل لقطعة من قطع الرقعة ما في خطة
اللاعب بصورة شبه منطقية بحسب التجارب السابقة تسليما بأن المقابل يحلل الوضعية
نفس التحليل الذي نقوم به وأنه لم يفعل بخلاف ما نتوقع ليغالطنا لكن التعاند بين
خطتي اللاعبين يجعل ذلك يتضاعف فلا يكون الأمر محكوما بالتجارب والقواعد وحدهما بل
بما يتخيله كلا اللاعبين في نوايا الملاعب وبما يدبره من حيل لمغالطته وإفساد توقعاته.
-- عدم التحدد الثالث:
هو
أن الحال النفسية لكلا اللاعبين تتدخل في حساب خطة اللاعب فتكون من جنس ما يسمى
بمعنويات اللاعب في الرياضة وبمعنويات المحارب في القتال. وهذا اللامتناهي هو أكثر
اللامتناهيات خروجا عن قابلية التحديد العملي.
-- عدم التحدد الرابع:
هو
مجرى اللعبة نفسها أو حصيلة الصراع بين الخطتين. ففي كل لحظة من لحظات اللعب أو
بعد كل نقلة للقطع على الرقعة يحصل صراع قوى تحكمه اللامتناهيات الثلاث السابقة
فيضع اللاعبين في وضعية موضوعية هي ما تحتمه عليهما من خيارات محدودة العدد لكنها
لا محدودة النتائج بحسب دورها في الخطتين.
-- عدم التحدد
الأخير:
اجتماع
عدوم التحدد السابقة في اللاتحدد الوجودي أو في عدم قابلية الوجود للرد إلى
الماهية (بلغة ابن سينا) أو إلى الإدراك (بلغة ابن خلدون) أو الحدث
إلى التصور أو الفعل إلى العقل أو التاريخ إلى المنطق وكل ذلك ترجمات تقريبية
لجوهر المقابلة الدينية بين الشهادة والغيب.
المسألة الثالثة
المدخل التصوري
الديني أو اللامحددات الدالة على الغيب
وكان
بالوسع الاستغناء عن المدخل الديني التصوري لو مكننا الفصلان السابقان من تحقيق شرطين عجز دونهما العلاج الفلسفي
تاريخيا كان أو تصوريا فأصبح بهذا العجز أميل إلى الاقتراب من العلاج الديني
تاريخيا وتصوريا:
الأول هو محدودية الصوغ العلمي:
هو
حدود الصوغ العقلي للموجود: الصوغ الصوري للمعلوم اقتراب منه لا يتناهي. فصار
العلم بأسلوب علاجه ومن حيث هو علم وعيا حادا باللامتناهي واللامحدود ومن ثم بالتعالي
أفقا يحدد كل الآفاق المحدودة. فيصبح العمل العملي نفسه ومن حيث الوجه الذي تبرز
فيه فاعلية الإنسان المقصودة عملا يبين حدود هذه الفاعلية واقتصارها على ما يسميه
الدين بعالم الشهادة الذي يحفه الغيب من كل جانب دون أن نعلم طبيعة الغيب ما
هي. ومعنى ذلك أن ظهور ما يمكن أن يسمى
هما دينيا سلبي خالص: أي إن وهم معرفة بديلة من هذا العلم الذي أدرك حدوده تسمى
معرفة دينية خرافة. الهم الديني هو هذا العلم بحدود العلم لا غير وليس علما
إيجابيا بأي حال. لذلك فالنبي نفسه يسلم بأنه محجوب عن الغيب: والإيمان يظهر
بالقول إن الغيب يعلمه الله وأن الإنسان في رعايته من آثار الغيب فضلا عن آثار
الشهادة.
والثاني هو محدودية الموضوعية:
هو
التخلص من حضور الذات في العلم: فضالة الذاتية لا تتناهي مهما صغرت. فصار العلم
بمعيار علاجه ومن حيث هو علم وعيا حادا بحدود إحاطته بموضوعه مهما كانت مقومات
الموضوعية فيه أعني مهما كان بعيدا عن الذات نفسها. فلم تعد المسافة بين ما يسمى
بالعلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية كيفية بل تبين أنها كمية لا غير: كلاهما لا
يخلو من الذاتية كيفيا لكن الطبيعي يبدو أكثر قابلية للتحرر من أكبر قدر منها.
وبهذا الشرط الثاني نبدأ تحليل الحاجة إلى
الوصل بين الفكرين الفلسفي والديني الحاجة التي تظهر فيهما كليهما بصورة ليس منها
بد. وهو يصح أن يكون البداية لأنه الأكثر وضوحا وقابلية للتسليم به من الجميع بعد
أن أقرت به كل العلوم في حين أن الشرط الأول يبدو غير مقبول بسبب الحكم المسبق حول
قدرة العلم المطلقة على حل كل الألغاز أعني وهم الشفيف الوجودي المطلق عند
التنويريين المزيفين:
الشرط الثاني:
ففضالة
الذاتية في العلم الإنساني تقرب علوم الطبيعة من العلوم الإنسانية بما تبينه من
نسبية الحتمية النسبية التي اقتضت اللجوء إلى معادلات الريب في الصيغ الرياضية
التي يعبر بها العلم عن الظاهرات الطبيعية ومن ثم أظهرت أن الهوة بين العلوم
الإنسانية والعلوم الطبيعية لا يحد منها بتقريب العلوم الإنسانية من العلوم
الطبيعية فحسب بل وكذلك بتقريب العلوم الطبيعية من العلوم الإنسانية. فإذا كانت
العلوم الإنسانية تسعى إلى الاقتراب من المثال التحليلي الطبيعي فإن العلوم
الطبيعية ينبغي أن تسعى هي بدورها إلى الاقتراب من المثال التأويلي التاريخي وقد
يلتقيان في حيز يجمع بين التحليل والتأويل.
فيكون
العلم بعدته النظرية الخالصة قبل الانطباق على مضمون معين تحليليا بصرف النظر عن
الموضوع الذي يمكن أن يطبق عليه ويكون علاج الموضوع بتلك العدة النظرية الخالصة
خلال الانطباق على مضمون معين تأويليا بمعنيين:
معنى المطابقة بين الحدود التصورية للنظرية والحدود الوجودية للموضوع
في تصور أولي يشرح الموضوع وكأنه وحدة حية ذات مكونات أو أعضاء هي ما يعرف ليكون
الحدود التي تنتسج بينها العلاقات الشبيهة بوظائف مكونات الموضوع أو أعضائه.
وبمعنى التوازي التام بين النحو المعرفي الرابط بين الحدود التصورية
في النظرية والنحو الوجودي الرابط بين الحدود الوجودية بنسبة من التوازي المقبول
عمليا لامتناع التطابق المطلق.
ولكن
لا المطابقة بين الحدود من النوعين (أي الحدود التصورية والحدود أو بصورة أدق
المحدودات الوجودية) بالأمر التام بل هي تأويل من جنس التأويل الفقهي
والقانوني عند تطبيق حكم على نازلة ولا التوازي بين النحوين (نحو النسق العلمي
ونحو موضوعه) تام بل هما من جنس الأباديع الأدبية في علاقتها بالتاريخ
الإنساني من حيث هو فعل الإنسان الحاصل فعلا والأدب هو فعله الممكن ليس توهما فحسب
بل وكذلك عقلا.
الشرط الأول:
لو
كان الصوغ العقلي كافيا للامساك بال"ما هو موجود" بحيث
يرد الموجود إلى الإدراك كما يقول ابن خلدون داحضا كل الفكر الفلسفي المستند إلى
هذه المسلمة التي بدأت مع بارمينيدس الذي صاغها في الشذرة الخامسة. ف"الماهو"
فيه ما يحصل حصولا لا يحيط به العلم مهما تقدم العلم وتحدد. والعلم الوحيد المحيط
به هو ما نسميه علما إلهيا لكوننا إيمانا أو افتراضا. فهو عند الجميع من آمن به أو
من افترضه عقلا لفهم حدود العلم متقدم على المعلوم إذ هو التقدير الذي خلق عليه
حسب المعتقد الديني أو يمكن أن يفترض خاضعا له حسب الفرض العقلي مفهوما حدا. لكن
نفي المسافة بين العلم والمعلوم لا بد فيه سعيا إلى تجاوز معضلة هذه اللامتناهيات
وبالإضافة إلى هذه المسلمة مسملة ثانية تفترض القدرة الإلهية على تحقيق كل ما
تتصور قدرة مطلقة ليكون الإنجاز مطابقا للتصور.
ويبدو
في هذا شيء من الكفر بالحكمة الإلهية بمجرد اعتبار العقل الإنساني مقياسا للوجود
ثمرة للوحدة بينه وبين العقل. فكل الموجود مراد لله وإذا كان عقلنا مقياسا للموجود
لم يبق نقص الموجود وعيوبه مقصورا على العالم بل يتعداه إلى الحكمة الإلهية في
التصور والإنجاز اللذين يتبينان ناقصين ما داما متطابقين. لذلك فاللامحددات التي
أشرنا إليها في تحليل لعبة الشطرنج تنتج أمرين مترابطين أولهما يلزم عنه الثاني
والأول هو أصل الفكر الفلسفي ولذلك فسيكون بداية المحاولة والثاني هو أصل الفكر
الديني ولذلك فهو سيكون غايتها:
الأول هو اعتبار العقل مقياسا للوجود ليس حقيقة أولية بل هو خيار
ناتج عن عدم التمييز بين الشهادة والغيب بسبب اغفال المسافة اللامتناهية بين
الوجود والإدراك الإنساني: فيكون مضمون عدم الإيمان هو هذا الإدراك من القوة
الأولى أي عدم ادارك حدود الإدراك والاكتفاء بالمنطق.
الثاني هو اكتشاف مفهوم الحرية الوجودية المطلقة أعني اكتشاف أن
الإيمان خيار بسبب عدم إغفال المسافة اللامتناهية بين الوجود والإدراك الإنساني.
فيكون مضمون الإيمان هو هذا الإدراك ذو القوة الثانية: إدراك حدود الإدراك ومن ثم
تجاوز المنطق إلى التاريخ.
وكلا
الموقفين يمكن أن يشترك فيه الفكر الفلسفي والفكر الديني رغم غلبة الأول من
الموقفين على الأول من الفكرين والثاني على الثاني. وفي الموقف الثاني لا بد من تسليم
صاحبه بإحدى الصيغتين التاليتين منفصلتين أو متصلتين والإيمان بهما أسلوبين
يلتقيان في الرسالة الخاتمة وآلت إليه الفلسفات والأديان جميعا في عصرنا: موقف
يتعالى على حصر الوجود في الإدراك الطبيعي فرقانيا (غاية الدين الطبيعي العقلي)
أو موقف يتعالى على حصر الوجود في الإدراك الخلقي وجدانيا (غاية الدين
المنزل الفطري بالمعنى القرآني للكلمة). وكلاهما ينبغي ألا يتجمد
في أنساق بل من الواجب أن يبقيا دعوة مفتوحة إلى التأمل والتدبر من جنس الخطاب
القرآني المشدود بين التصوير المتناهي شرطا للعلم الإنساني والوهب اللامتناهي شرطا
لموضوعه.
فإذا
اصطلحنا فسمينا فعل الإرادة بالسياسة أو العمل والوعي به أو إدراكه بالتاريخ وسمينا
فعل العقل بالرياضة أو النظر والوعي به أو إدراكه بالمنطق وافترضنا أن لكل هذه
العناصر الأربعة (السياسيات والتاريخ والرياضيات والمنطق) مستويين فعلي
ورمزي أمكن لنا أن نستخلص النتائج المفيدة التالية:
العناصر البسيطة من فعل الإرادة:
ففعل
الإرادة هو حقيقته مجرى حياة الإنسان نفسها بشرط أن نفهم من الإرادة وحدة كل عناصر
الفاعلية في الذات الإنسانية وليس مجرد قسيم الكراهة: أي طاقة الفعل أو عزم
الأمر من حيث هو حصيلة التوحد بين الشوق والعقل سلبا (كراهة قسيمة إرادة) وإيجابا
(إرادة قسيمة كراهة). لكن هذا الفعل ليس هو دائما على هذا النحو من الوجود بل
هو مؤلف من مرحلتين متطابقتين أو غير متطابقتين إحداهما يغلب عليها التصور
والثانية يغلب عليها الإنجاز مع تقديم أو تأخير. فيكون التصور متقدما على الإنجاز
أو لاحقا له وبه. ولنسم المستوى الأول الجاري في المستوى الرمزي (التصور سواء تقدم
أو تأخر) بالفعل الرمزي والثاني بالجاري في المستوى المادي بالفعل المادي (الإنجاز).
وفعل
الإرادة الرمزي هو كل ما يدور في خلد الإنسان قبل فعل الإرادة الفعلي أو خلاله أو
بعده كإمكانات يتمنى وجودها إيجابا أو يتمنى عدمها سلبا. وهي ما يمكن أن يعتبر
مادة للإداع الأدبي إذا جعلت هذا الأمر بديلا من الأمر الأول في مستوى رمزي يخلق
شخوصا تجعل منه وكأنه فعل إرادتها الفعلي في مجرى حياتها الحقيقية رغم كونها من
خيال المبدع.
والوعي
بفعل الإرادة الفعلي المصحوب بالنقد العلمي هو فن التاريخ الذي ينتقل من جنس الأدب
إلى جنس العلم.
والوعي
بفعل الإرادة الرمزي المصحوب بمعرفة الفواعل في التاريخ هو أصل الإبداع الأدبي
المصور لإمكانات الإرادة من منطلق العلم بالنفس البشرية في قيامها الجميع وفي
قيامها الفردي.
العناصر البسيطة من فعل العقل:
وفعل
العقل الفعلي هو مجرى العلم نفسه أيا كان موضوعه. وقد نميل إلى تصور التطابق بين
الفعل والموضوع ممكنا عندما يكون المعلوم هو فعل العقل نفسه كما هي الحال في
العلوم التي يكون موضوعها من وضع العالم وليس ظاهرة ذات وجود مستقل عن فعل الوضع
كما هو الشأن في مثال الشطرنج.لكننا بين استحالة ذلك: فمجرد وضع الحدود يفترض أن
تكون قابلة لإمكان الاشتراك في الوجود معا. وهذا حد أول.ثم يليه حد ثان هو قواعد
التأليف بين أدوار الحدود. ثم حد ثالث هو التنافي بين الأفعال المتناقضة أو
المتنافية أو المتلاغية. وهذا حتى قبل تطبيق هذا العلم التصوري على موضوع معين.
وفعل
العقل الرمزي هو العلم الخيالي الذي تكون نسبته إلى العلم الفعلي عين نسبة الإبداع
الأدبي إلى فن التاريخ. وهذا ممكن بالحد الذي ينتج عن التخلي عن الضوابط التي التي يخضع لها الخيال العلمي لكي يكون إبداعا
للنظريات. فهو يفتح باب الإمكان شبه المطلق لكنه يبقى في كل الأحوال خاضعا لما يعد
في عصر من العصور ما يقبل التصديق Vraisemblable.
والوعي
العلمي بشروط تناسق الأول هو علم المنطق الذي هو بالقياس إلى فعل العقل الفعلي كفن
التاريخ بالقياس إلى فعل الإرادة.
الوعي
العلمي بالثاني هو النظرية الأدبية المصورة لإمكانات العقل ويكون بالقياس إلى فعل
العقل الرمزي كفن الأدب بالقياس إلى إمكانات الإرادة.
العناصر المؤلفة بين بسائط فعل الإرادة:
من
البين بنفسه أن العناصر الأربعة البسيطة من فعل الإرادة متفاعلة فلا يوجد أحد لا
يتألف فعل وجوده الفعلي من كل هذه العناصر. ومن ثم فالموجود الفعلي من فعل الإرادة
هو العنصر الخامس المؤلف بين العناصر الأربعة وهو الوحيد الموجود بحق فيها جميعا
حتى عندما ينظر إليها بمعزل عن البقية في التصور المجرد.
العناصر المؤلفة بين بسائط فعل العقل:
نفس
الملاحظة التي وردت في المستوى الأول تقال عن المستوى الثاني: فعل العقل هو وحدة
العناصر البسيطة الأربعة التي ذكرنا.
عناصر التأليف بين التأليفين:
وجود
الإنسان الفعلي الذي سنحاول وصفه في المسألة الأخيرة هو وجوده المؤلف من هذين
التأليفين فيكون مخمسا في مستواه الفعلي ومخمسا في مستواه الرمزي كذلك مع تطابق
بين المستويين الفعلي والرمزي في الحاضر الوجودي المتحرك على خط الوجود الذاتي مع
انفصال مضاعف يتقدم في أحدهما الفعلي على الرمزي عند الالتفات إلى الماضي فيكون
موضوع تأويله ويتقدم في الثاني الرمزي على الفعلي عند الالتفات إلى المستقبل فيكون
استراتيجية تحقيقه أو تصوره قبل انجازه. وهذا الوجود الفعلي الذي هو الحاضر من
التاريخ يمثل الأرضية التي ينتأ عليها كل
عنصر من العناصر البسيطة المؤلفة. فكل واحد منها يتضمنها جميعا لكنها توجد فيه
وجود الأرضية في الصورة البارزة عليها وتكون أكمل كلما كانت الأرضية مقومة للصورة.
وأفضل
مثال على ذلك الإبداع الأدبي التام الذي يكاد يكون مستقبل هذا الوجود الفعلي أو هو
صورة منه تكاد تكون إياه قبل حصوله. وتلك هي علة تقدم الرمزي على الفعلي في
التاريخ الإنساني رغم أن هذا التقدم أضافي دائما إلى التأخر بالقياس إلى تأويل
الفعلي منه تأويلا يجعله نقاط ارتكاز للمكن المرسوم فيه رسم النتائج في المقدمات (إذ
يعتبر مقدما لتال بالمعنى الشرطي للعلاقة) ورسم نقيض المقدمات في نقيض النتائج
(إذ يعتبر نقيض تال تال لنقيض مقدم بنفس المعنى الشرطي).
وهذا
هو سر العلاقة بين التاريخي والمنطقي. فإذا ربط التاريخي بفعل الإنسان الحر أمكن
التعبير عنه بالقول الشرطي لا الخبري فتترابط فيه الأحداث ترابط الكلام عليها.
والكلام الشرطي يحافظ على التلازم المفروض أو المستقرأ بين الشرط والمشروط من خلال
التلازم بين المقدم والتالي إيجابا (إذا صدق المقدم صدق التالي) وسلبا (إذا
كذب التالي كذب المقدم). وهذه العلاقة بوجهيها هي التي ينبني عليها العلم
والعمل لكونهما يستمدان منها التوفيق بين الحرية التي يحتاجها العمل أصلا شرطا
لإمكانه والضرورة التي يحتاجها العلم شرطا لإمكانه ومن ثم قابلية العلم والعمل
للتجديد وتجاوز الذات.
والقرآن
الكريم معجز بهذا المعنى لأنه الصورة الأتم من تأليف التأليفين بمنطق الشرطيات
سلبا وإيجابا وهو من ثم هذا الوجود الفعلي الجامع بين كل العناصر بسائطها ومؤلفها
جمعا لا يوجد له نظير: وتلك هي العلة في كونه يتكلم عن المستقبل بصيغ الماضي
لأنه فوق الزمان وفي كونه لا يضاهيه أي إبداع أدبي وذلك هو معنى التحدي القرآني.
المسألة الرابعة
المدخل الديني
التاريخي
كيف
عالج القرآن الكريم مسألة العلاقة بين الكلي (جوهر العلاج المنطقي) والعيني
(جوهر العلاج التاريخي) أو كيف تتحيز الفطرة الكلية في تاريخية الرسالات
تعبيرا متعينا عن الفطرة من حيث هي من عقد كتب في "اللوح المحفوظ"
وسجل في ذرية الظهور كما تشير إليه الآيتان 172- 173 من الأعراف
عقدا كليا مصحوبا باعتراض يحرر من حجتي التحلل منه ؟ الدين لا يطرح المسألة من
منظور نظرية العلم وإذن فهي ليست قضية إبستمولوجية بل هو يطرحها من منظور نظرية
العمل وإذن فهي قضية أكسيولوجية. ولما كان العمل المقصود هو العمل على علم والعلم
المقصود هو العلم بالعمل بات الابستمولوجي غير قابل للفصل عن الأكسيولوجي
والأكسيولوجي غير قابل للفصل عن الابستمولوجي.
ومن
ثم فليس مناط البحث نظرية النظرية بل هو النفاذ إلى شرطها أعني نظرية القيمة وقيمة
النظرية[12]. لذلك فلا بد من تحليل
علاج المسألة من خلال مثال العلاقة بين العلم
والقيم الخمس[13] للفعل الجامع بين البعدين
العلمي والعملي لبيان العلاقة بين التاريخي وما بعد التاريخي في كل منها: وخمستها
تمثل الفطرة التي يستند إليها الدبن الكلي في جميع الأديان العينية من المنظور القرآني.
فكيف تتعالى القيم الكلية على تعيناتها التاريخية وكيف نعلم هذا التعالي تأسيسا لمعنى الفطرة
القرآني ؟
سبق
فأشرنا إلى أن معنى القضاء والقدر ليس معنى مزدوج البنية بالصدفة بل هو كذلك لأنه
يتألف من فعلين أحدهما يمثل فعل الإرادة الموجدة إذ يقضي الله أن يكون
كذا والثاني يمثل فعل العقل المقدر. فلا بد من عقل مطلق وحر يختار
من الإمكانات اللامتناهية واحدة يرجحها على ما عداها لعلة تنتسب إلى ما في القضاء
والقدر من غيب. لذلك فالقدر يحدد الماهية أعني تقدير صورة الشيء الذي أراده القضاء
ليحقق وجوده أعني إيجاد الصورة المقدرة التي تكون عليها شيئية الموجود مطابقة
لمشيئة الموجد. وبين الحدين المجردين وغير القابلين للفصل إلا ذهنيا بين فعل
القضاء من حيث هو مشيئة وفعل القدر من حيث هو تقدير لشروط تحقق المشيئة على ما
تريده نجد وحدة فعل الإرادة على علم أو الحكمة الإلهية التي من دون التسليم بها
إيمانا أو فرضا لا يكون العلم فلا عن العمل ذا معنى: فأي معنى لطلب قوانين في
الوجود إذا كنا نعتقد أنه فوضى بلا نظام؟ والنظرية هي غاية الصوغ العلمي
والقيمة هي غاية الإنجاز الإرادي من نفس الفعل بافتراض التناسق البنيوي أو النظام
الرياضي والتكامل وراء الماهيات والتناغم الغائي أو التعارف والتسالم وراء
الوجودات.
ولهذا
التناسق البنيوي الذي يجعل التقويم نفسه يتعالى على الذاتيات في مجالاته الخمسة:
قيم الرزق وقيم الذوق وقيم رعاية الرزق أو السلطة الزمانية وقيم رعاية الذوق أو
السلطة الروحية ثم القيم الوجودية التي
تمثل مثال التعالي الحقيقي الكامن فيها جميعا (بوجهيه النظري والعملي):
مثال التساوي في التعاوض:
في
مجال الرزق وعلاقة ذلك بمسألة المكاييل التي مهما اختلفت أعيانها يبقى الكلي فيها
واحدا. والكلي المتعالي على التحيز التاريخي والثقافي في هذا المجال هو طلب العدل
في التعاوض. وإنه لمن مفارقات الفكر القاصر ألا يدرك القائلون بالنسبوية كيف أن
حساب النسب في التعاوض هو نفسه صادر عن التعالي على النسبوية. فلو لم يكن الناس
محكومين بوعي منهم أو بغير وعي بضرورة التعالي على النسبوية في معايير التبادل
سعيا إلى تحقيق التساوي في التعاوض لما
وجدت المعايير ومحاولات تدقيقها إلى حدود يرضى فيها المتبادلان بما يمكن التغاضي
عنه دون شعور بالغبن. ومقدار التغاضي أضافي إلى قيمة موضوع التبادل والتعاوض.
ولهذه العلة يعتبر الميزان مثال العدل في التساوي بين المتبادلين من خلال التساوي
بين الكفتين اللتين صارتا رمزا على هذا التساوي المقبول طوعا بين الناس.
مثال التشارك في الذوق السليم:
في
مجال الذوق وعلاقة ذلك بالمعالم الرمزية التي توحد الأمة روحيا ورمزيا. إذا كان
التعالي في مجال الرزق يمثله السعي إلى التساوي في التعاوض سعيا يخلصه من التنافس
الذي يحول الرزق إلى مصدر التناكر بدل من أن يكون كما حدده القرآن مصدر التعارف
فإن التعالي في مجال الذوق يمثله السعي إلى التشارك في المذوق سعيا يخلص الذوق من
التنافس الذي يحول الذوق إلى مصدر التناكر بدل التعاراف: والمذوق المشترك هو كل
قيم الجماعة التي للجميع فيها نفس الحق وهي بالأساس ما في الدين والفن من معالم
وطقوس مشتركة. ذلك أن كل ذائق بمجرد أن يكون ذائقا حقا يكون في غنى عن المقارنة
التي تؤدي إلى التنافس.
والتساوي
في الذوق مستحيل إلا بمعنى شعور الذائق بالإشباع الذوقي كلا حسب حاجته فيكون
التساوي بمعنى أن الذائقين مهما اختلفوا يجدون المعيار في الإشباع الذوقي الإضافي
إلى ذائقته لا في مساواة المقارنة الكمية بين الأذواق. ومع ذلك فالمقارنة بين
الأذواق تحصل فتولد التنافس الذي لا يحرر منه إلا التشارك الذي أشرنا إليه: فتكون
الممارسات الروحية والفنية الجماعية التي تحقق المشاركة بديلا من المساواة خاصة
والمقصود بالذوق ليس الذوق العضوي بل الذوق المعنوي. وهذا المشترك من حيث هو ما
يرتفع إليه إدراك الجماعة هو مثال من تحقق الكلي في العيني أعني في المعالم
الثقافية التي تتحقق فيها ذائقة الجماعة.
مثال التفاهم في العقل السليم:
في مجال العلم وعلاقة ذلك بمنظومة الحقائق التي
ينتظم بها الوجود الجمعي من حيث هو أداة ذاته والتي يفعل بها الوجود الجمعي في
ذاته وفي محيطه. والكلي المتعالي على التحيز التاريخي والثقافي في هذا المجال هو
طلب تهذيب العلم الخيالي بالخيال العلمي. فالعلم الخيالي يفسد على الإنسان سعيه
نحو الحقيقة ومن ثم نحو تحقيق شروط الاستخلاف أو إرث الأرض كما يسميه القرآن
الكريم. لكن الخيال العلمي يحرر الفكر مع الإبقاء على مقومات فاعليته أعني ضوابط
الخيال التي تجعله قوة فاعلة يبدع النظريات المتسامية بالتدريج نحو فهم ما يقبل
الفهم من الوجود. وهذا هو المعنى السليم من السلطة الروحية التي ترعى شروط التشارك
والتساوي والتفاهم والتعادل في المستوى الرمزي أعني من حيث هي منظومة معان يعتقدها
الناس.أما معناها السقيم فهو سطلة العلم الخيالي.
مثال التعادل في مجال العمل:
وعلاقة
ذلك بمنظومة القيم التي ينتظم بها الوجود الجمعي من حيث هو غاية ذاته. والكلي
المتعالي على التحيز التاريخي والثقافي في هذا المجال هو طلب الاحتكام إلى طرف
ثالث يعد وجوده المحايد قدر المستطاع شرط الوجود الجمعي نفسه. وهذا هو أصل السلطة الزمانية في معناها
السوي أي السلطة التي ترعى شروط التساوي والتشارك والتفاهم والتعادل في المستوى
الفعلي. أما معناها السقيم فهو تبرير عدم التساوي وعدم التشارك وعدم التفاهم وعدم
التعادل أعين السلطة غير المحايدة أو الرافضة للمتعاليات التي وصفنا.
مثال التنافس في التعالي:
وعلاقة
ذلك بالمطلق في مجال الوجود وعلاقة ذلك بالخيار بين الفاضل والمفضول في المجالات
السابقة جميعا. والكلي المتعالي على التحيز التاريخي والثقافي في هذا المجال هو
أصل المتعاليات الأربعة السابقة أو ما يسميه القرآن الكريم بالفطرة التي فطر الناس
عليها: المفاضلة هي جوهر الوجود الإنساني الذي يدرك ذاته علاقة بين قيامه المتناهي
ومثال قيامه اللامتناهي وذلك هو جوهر العلاقة بين الفاني والباقي وبين الإنسان
وربه العلاقة التي تجعله هو ذاته متعاليا على العالم المخلوق ومشرئيا إلى وجه
الخالق: وذلك هو التنافس الوحيد الذي يشجع عليه القرآن الكريم "وفي ذلك
فيتنافس المتنافسون".
وقد
حددت الآيات السبع 22- 28 من
المطففين طبيعة هذا التنافس بصورة تجعل الكلام عن الشرب رمزا إلى هذا التنافس إلى
التعالي تذكيرا بمعيار الرتب الوحيد عند الله أعني التقوى التي هي سلم هذا
التعالي. فالكلام واضح سلبا (المقابلة مع كتاب الفجاز في سجين) وإيجابا (كتاب
الأبرار في عليين). وهو يتعلق بالنعيم الذي هو حال المقربين الخالدة حالهم
التي يجتمع فيها الإدراك التام (الآية 22) بدليل الرمز إلى كل الحواس بدءا
باللمس ويرمز إليه الجلوس على الأرائك (الآية 23) ثم النظر (الآية 23 كذلك) و يرمز إليه
النظر إلى وجه الله نظرا (الكمال في المنظور إليه) يحقق نضرة النعيم (انعكاس
جمال المنظور على الناظر هو النضرة) (الآية 24) ثم حاسة الذوق التي
يرمز إليها الشرب من الرحيق المختوم (الآية 25) وحاسة الشم التي يرمز إليها
المسك الخاتم (الآية 26) وحاسة السمع التي يرمز إليها خرير الماء من تسنيم (الآيتان
27 و28).
وليس
هذا التعالي الذي يتنافس في الناس تنافسا مشروعا بالأمر الاتفاقي فهو عين مستند
إلى طبيعة العلاقة التعاقدية بين حرية الإنسان التي تؤسس التكليف والقضاء والقدر
الذي يصل بين الشهادة الغيب كما أسلفنا فالآيتان 172 و173 تنصان:" وإذ
أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم: ألست بربكم ؟ قالوا بلى
شهدنا. أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين* أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا
من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون؟".
والحجتان
اللتان تدحضهما الآيتان قبليا هما الحجتان
اللتان يتفصى بهما الكافر من المسؤولية هما:
1- اللاوعي بالفطرة التي رسم فيها الإيمان
بالله
2- ومسؤولية المربين من
الآباء على كفر الأبناء.
وبلغتنا
الحالية فالحجتان هما عدم العلم بالإيمان المرتسم في الإرث العضوي وتأثير الثقافة
والتربية في خيارات الفرد العقدية. لذلك اعترضت الآية على الحجتين بالشهادة
الشخصية لكل فرد إنساني أي إن الله لم يكتف بأن يرسم الإيمان الفطري في الذرية بل
أشهدها على ذلك فردا فردا. والمهم بالنسبة إلينا أن الآيتين يمكن أن تقرآ قراءة
أخرى تطابق هذا الفهم لدور التاريخ. فلا تكون الأخذ من الظهور أمرا عضويا بمعنى
النسل الموجود في الظهر بل أمرا تاريخيا بمعنى الظهور الفعلي في التاريخ: فتكون
الشهادة بهذا المعنى شهود التاريخ الذي تحصل منه الشهادة بهذا العقد ومن ثم
بالاعتراض الداحض للحجتين.
لكن
لمذا نسب الظهور إلى الآباء لو كان القصد المصدر من ظهر وليس الجمع من ظهر ؟
الجواب المنطقي هو أن الظهور التاريخي المؤثر هو بالأساس الماضي وهو ما يرمز إليه
الآباء. والأبناء يؤخذون من هذا الظهور التاريخي ويسألون هذا السؤال ليبين لهم
الله أن التاريخ لا يمكن أن يلغي الفطرة التي فطر الناس عليها. وهذه القراءة أكثر
منطقية ومطابقة لدلالة النص: فلو كان الأخذ من الظهر المعنى العضوي هو المقصود
لكان القيام بذلك مع آدم وحواء أفضل وأيسر وأكثر دلالة. فآدم وحواء موجودان حسب
رمز الخلق والاستخلاف فعلا في حين أن أبناءهما لا يوجدون إلا بالتعاقب. والأخذ هنا
إذا فهم بمعناه العضوي يلغي حقيقة التعاقب فيكون المتعاقبون قد برمجوا منذ البداية
وليس لتاريخهم في رقيم إلى الإيمان أدنى دور. فلم يبق إلا أن نعتبر الأخذ من بني
آدم في ظهورهم آبائهم المتعاقب أي من تاريخهم ومن ثم فالله يجدد العقد مع كل إنسان
ولا يكتفي بالعقد مع آدم تجديدا يحصل بمجرد تأمل التاريخ المطلوب في القرآن
والمعتمد في تحقيق التعالي الخلقي. والدليل الأكثر حجية هو اعتراض على الآيتين على
الحجتين. فلو كان العقد قد حصل عضويا وليس تاريخيا لكانت الحجة الثانية التي يحتج
بها من يغفل عن العقد غير قابلة للدحض. إذ حصول الغفلة نفسه يصبح غير مفهوم والرد
عليه بالشهادة مستحيل لأن الذي يغفل يكون ممن لم يشهد بمعنى الشهود وبالتالي
الشهادة.
والحجة
الدامغة هي تواتر الأديان سواء ما كان منها مستمدا من التجربة الإنسانية أو ما كان
منزلا أو جامعا بين الضربين كما هو شأن القرآن الذي هو نص منزل يتحتج بالتجربة
الروحية في التاريخي الخلقي للإنسانية. فلو كان الأخذ من الظهور أمرا عضويا وكانت
الشهادة المطلوبة قد حصلت فعلا في المرة الأولى لاستغنينا عن الأديان عامة وعن
الرسالات المنزلة خاصة فضلا عن القول إن الله لا يعذب إلا حتى يبعث رسولا. وهذا
الجمع العجيب بين التنزيل والاحتجاج بالتحربة الروحية الخلقية والاستغناء عن
الاعجاز بالمعنى الموجود في الأديان السابقة واستبدالها بمعجزة وجود النظام بدل
خرقه كل ذلك يجعل القرآن فريد نوعه في علاج مسألتنا: الجمع بين الكلي المنطقي
والعيني التاريخي منهجين لعلاج تعالي الإنسان العلمي والعملي رغم القول بالمقابلة
بين الشهادة والغيب: الإدراك وإدراك حدود الإدراك ذلك هو مفهوم الدين القيم.
ومع
ذلك فالمسلم يجد نفسه أمام معضلة ختم النبوة أو معضلة القول بالوحي النهائي. فكيف
يمكن فهم هذه المعضلة إذا كان لا بد أن يتواصل الاستشهاد أي طلب الشهادة والأخذ من
الظهور بمعنى التاريخ ؟ تلك هي أعوص مسألة في فهم الإسلام فهما متناسقا يجمع بين
القول بالحاجة إلى الوحي والحاجة إلى ختمه. والجواب المقترح هو ما يمكن أن نفهم به
وظيفة القرآن وأسلوبه. فالقرآن الكريم نص قصصي جدلي يدحض الحجة الأولى دحضا يفيد
بأنه يستعمل "الظهور" مصدرا لفعل ظهر وليس جمعا لاسم ظهر
ومن ثم فهو يستعمله بمعنى التاريخ الذي يمكن أن يصبح بديلا من تواصل الوحي.
أما
معنى جمع الظهر فإنه لا يغني عن التاريخ فسحب بل ويغني عن الرسالات كذلك سواء كانت
منزلة أو طبيعية: إذ لو كان الإيمان وراثيا لكان من الأفضل أن يحصل ذلك مرة
واحدة مع آدم وحواء ولاستغنت القصة الرمزية للعقد الإيماني عن الأخذ من الظهور. فيكون
القرآن هو التوعية الدائمة الموجهه لما يمكن أن يكون بديلا من الوحي وإن بهدي منه
أعني درس الكون من حيث هو آية طبيعية والتاريخ من حيث آية خلقية وأهم في هذه
الشهادة الخلقية هو هذه الشهادة للعقد مع بني آدم في ظهورهم التاريخي. ولذلك كان
القرآن قصا دائما وتوجيها للوعي نحو الظهورين الطبيعي والتاريخي الخارجيين وفي
النفس وفي القرآن.
المسألة الأخيرة
المحددات الجوهرية
لدور التحيز
مبدأ المسألة الفلسفي:
ما
طبيعة القيام الوجودي هل هي المكان (اسم ظرف المكان أو الأين ومصدر ميمي من كان
وهو القيام المتعين في حيز محدد) فيكون القيام أمرا مكانيا يفهمنا كيف يتعدد
الواحد بالتخارج وكيف يتوحد المتعدد المتخارج بالتعين حتى إن المصطلح الفلسفي
القديم كان يميز الوجود العيني الحقيقي بمفهوم المفارقة المكانية ؟ فكل الأسماء
والضمائر وأسماء الإشارة في وظيفتها المرجعية تجعل القيام متمثلا في المشار إليه
بالتحيز المكاني وحتى الزمان فإنه لا يتصور إلى نموذج الزمان ومن ثم فهو يبدو أقدم
منه وأكثر أصالة رغم أن المدة المقومة للزمان والامتداد المقوم للمكان كلاهما مشتق من المدد الذي هو من طبيعة
مختلفة عنهما لكونه يعني التزويد بالمادة
المقيمة من مصدر يصب في القائم الذي يصبح قيامه مستمدا من كونه مصبا للمدد. لكن
مفهوم المدد فيه حركة المادة من مصدر إلي مورد: وحركة المادة من مصدر إلى مورد
فيها معنى الطاقة ومعنى التزويد الذي ينقل الزاد الوجودي من أصل إلى فرع.
مبدأ المسألة الديني:
ما طبيعة القيام الوجداني هل هو الزمان فيكون
البقاء أمرا زمانيا يفهمنا كيف يبقى الموجود بفعل حيوي له بداية وغاية فيكون
البقاء المدة الفاصلة والواصلة بين بداية الموجود وغايته وصلا حقيقيا أم إن ذلك
مجرد نتيجة للوعي بالزمان ؟ هل الزمان مجرد مستوى ذهني يفتت بقاء الباقي في الحاضر
فيفصله إلى مستقبل بالإضافة إلى لحظة تسمى حاضرا وتتصور سابقة عليه لتكون علاقته
به من جنس علاقه هذه اللحظة أو الحاضر الذي كان مستقبلا بالإضافة إلى المذكور مما
فات أو الماضي ؟ ألا يكون المستقبل هو مجرد قلب للعلاقة الفعلية والذهنية التي بين
الحاضر والماضي لجعلها علاقة ذهنية وفعلية تكون بين الحاضر وما يسمى مستقبلا فيكون
المجرى الفعلي الوحيد للزمان هو حركة الوجود الذاتي بين بداية ما يذكر وغايته وتلك
هي مساحة لحظته الراهنة لحظته التي هي متقدمة على التصورين الذهنيين الماضي
والمستقبل تقدم الشرط على المشروط؟ ألا يذكر هذا بفعل التزويد الذي وصفنا في
الفقرة السابقة؟ أيكون الزمان حركة المادة من حيث هي مدد ذو مدة أو طاقة غير باقية
بقاء مطلقا إلا بالعود الأبدي لنفس الحركة ؟
ولنقس
الأمر على رجل يحمل مصباحا في الظلام ولنتصور هالة النور الخارجة من المصباح هي ما
يحصل للرجل من خبرته بحركته في الظلام ومن ثم شعاع دائرة الهالة متناسبا مع هذه
الخبرة. فيمكن أن نعتبر الهالة نظيرا للوعي الذي للرجل بمجرى وجوده. وطبيعة
العلاقة بين حركة هذا المجرى وامتداد الهالة وتقدمها في الظلام ما تزال أمرا عسير
التحديد. فهل ما في الهالة منها أم إن ما فيها ليس منها بل هو من حركة الرجل في
الظلام حركته التي هي مجرى وجوده الفعلي حركته التي ليس لها مستقبل قابل للتحديد
المسبق بل هي دائما متقدمة على حركة الهالة تقدم الشرط على المشروط؟
وإذا
كان القرآن الكريم يسلم بالثنائية بين الحركة والهالة فإنه لا يحمل الإنسان
مسؤولية ما ليس معلوما له من الفرق بينهما. ما يتهمه القرآن ليس هو عدم مطابقة
الهالة للحركة[14]
بل عدم المطابقة بين ما للمرء من علم بوجوده أعني وعيه الساذج أو المتروي والعمل
بهذا العلم: وذلك هو الكذب الحقيقي (لأن عدم التطابق بين العلم والموضوع أمر
طبيعي وزعم حصول التطابق هو الوهم الذي يوحد بين الوجود والإدراك) لأن المرء يختار الفصل بين علمه وعمله فصلا يعرفه القرآن
بمفهوم ديني هو مفهوم النفاق عند الإنسان العادي وبمفهوم الغواية عند الشعراء.
فهل
يمكن أن يعد مفهوم التطابق بين العلم والعمل نقيض النفاق أيا كانت صفتهما الخيرة
أو الشريرة إذ حتى في حالة الشر يكون صاحبه بالتطابق بين ما يعلم من مجرى وجوده
أووعيه به وعمله مبينا طبيعته ومن ثم فهو أقرب إلى الصدق من المنافق ؟ لعل ما قيل
في الشعراء قابلا للقراءة في الاتجاهين: فما يعاب عليهم هو قول ما لا يفعلون
وهو يعني كذلك فعل ما لايقولون فيكون الأول نفاق الوعد الكاذب أو العجز عن تحقيق
الوعد والثاني نفاق الخداع أو الخبث للغدر بالمخاطب. ويمكن للتيسير النظري:
1- أن نفترض الهالة جوهر الوجود المعرفي فتكون النظر الخالص المنفصل
بالتجريد عن صلته بالمجرى الفعلي لصاحبه. فتكون الهالة فيه مجرى فعليا لوجود مقصور
على الهالة من حيث هي عين المجرى الوجودي: وتلك هي ذروة النظر الذي يتضمن كل الفعل
بالسلب فيكون عين الفعل الناظر.
2- وأن نفترض المجرى الوجودي جوهر الوجود فيكون العلم الخالص هو
العلم المنفصل بالتجرد عن صلته بوعي صاحبه. ويكون المجرى الفعلي للوجود مقصورا على
الفعل من حيث هو عين المجرى الوجودي: وتلك هي ذروة العمل الذي يتضمن النظر بالسلب
فيكون عين النظر الفاعل.
المشكل الأساسي:
وإذن
فالمشكل الأساسي هو كيف يتبادل نور الهالة التأثير والتأثر مع حركة وجود حاملها
فضلا عن وحدة طبيعة الأمرين أو اختلافها. هل الوعي وحركة صاحبه من طبيعة مشتركة ؟
أم إن لهما مبدأ متقدم عليهما ؟ وكيف تؤثر الحركة في الوعي؟ وكيف يعود الحاصل من تجربة
الحركة في الظلام على الحركة فيؤثر فيها؟ وما طبيعة هذين التأثيرين ؟ وكيف يتوسع
هذا النور أو يطول شعاع دائرته من خلال الجدل بين حركة الحامل وتواسع الهالة ؟
الشرط الأول لحصول التأثير هو افتراض الظلام المقبل الذي ستجري فيه
الحركة أو بصورة أدق الظلام الذي لم تجر فيه الحركة بعد من جنس الظلام السابق أو
بصورة أدق الظلام الذي جرت فيه الحركة إلى حد الآن.
الشرط الثاني لحصول التأثير هو افتراض الهالة التي حصلت مكنت
من رؤية محيط النقطة التي وصلت إليها الحركة إلى حد الآن بحيث يمكن تصورها قادرة
على تمكين حاملها من رؤية ما كان ينبغي أن يراه ومن ثم فهي قابلة لأن تحقق رؤية ما
يمكن أن نحتاج لرؤيته في الظلام الذي لم نقطعه بعد.
الشرط الثالث: أثر الافتراض الأول في الافتراض الثاني أو أثر
الشرط الوجودي لحصول الجدلية في الشرط المعرفي لحصولها: إنه دور مسلمة نظام الوجود
ومن ثم القول بشيء من الحتمية.
الشرط الرابع: أثر الافتراض الثاني في الافتراض الأول أو أثر
الشرط المعرفي لحصول الجدلية في الشرط الوجودي لحصولها: إنه دور مسلمة معلومية
النظام ومن ثم القول بشيء من المعقولية المعقولية.
الشرط الخامس هو العقلانية المؤمنة: أو شرط الشروط أعني
الإيمان بالقضاء والقدر أو القول بأن على الإنسان أن يعمل بما يعلم وأن يقبل
بأن علمه المحدود لا ينفي الحزم في العزم أو ما يسميه القرآن الكريم عزم الأمور بل
هو يجعله يقدم على العمل فيعمل بحذر منطلقا من عالم الشهادة دون نكران عالم الغيب:
وذلك هو المعنى العميق لمفهوم الاجتهاد القرآني المطابق للإيمان بالقضاء والقدر
في معناه الإيجابي أو التوكل في "إذا عزمت فتوكل".
والمعلوم
أن "القضاء والقدر" يقبل التحليل إلى خمس معان لم تدرك معانيها
في فكرنا إلى الآن بسبب رفض علمائنا التقليديين والمحدثين التعمق النظري الذي يتصورونه
فضولا وتكلفا لا فائدة منه ميلا منهم إلى الهوس العملي الذي يرمي في عماية. لكن
الفكر الفلسفي الغربي الحديث بدأ علاج القضية بصورة نسقية. ولعل أفضل من حاول
البحث فيها بصورة منتظمة مع ربطها بالأديان ومنها الإسلام هو لايبنتس مميزا ثلاث
معان هي الجبرية الطبيعية القضاء والقدر المحمدي والقضاء والقدر المسيحي.
لكننا
نزيد الأمر تعميقا فنبرز المعاني الخمسة من منطلق تأليف المفهوم من حدين هما
القضاء وهو حكم إرادة عملية حزمت أمرها للفعل والقدر وهو حكم عقل يتصور الفعل
ويقدر شروطه ومقوماته. لذلك فالقول بالقضاء والقدر له حدان أقصى وأدنى ثم أثر الحد
الأول في الحد الثاني واثر الحد الثاني في الحد الأول وأصل الجميع.
1- ولنبدأ بالحد الأقصى: فهو هذا الذي أشرنا إليه أعني
نفي دور الإنسان في التاريخ نفيا مطلقا كما في نظرية وحدة الوجود الأكبرية التي
تؤدي إلى القول بأن الله يتعين في شخص ليفعل فعلَ "وما رميت"
فيكون فرعون هو الله في الأرض أي حصر التاريخ الخلقي في التاريخ الطبيعي الخاضع
لمبدأ القوة لا غير.
2- والحد الأدنى هو النفي المقابل أو نفي دور الله وحصر الأمر في
الإرادة الإنسانية. ويمكن أن نمثل لذلك بالحل الاعتزالي القائل بخلق العباد
لأفعالهم فعلَ "إذ رميت".
وبين
الحدين يوجد حلان أوسطان بحسب الميل إلى هذا الحد أو إلى ذاك:
3- والميل إلى الحد الأول هو الحل الأشعري الذي يقول بالكسب أي
إن جهد الإنسان له أثر لكنه كسب لما يقدره الله فيكون الجهد ليس كافيا للفعل لغلبة
التصور الجبري على التصور القدري فيكون فعل الإنسان فعلَ "إذ رميت ولكن
الله رمى".
4- والميل إلى الثاني هو الحل الحنبلي في صيغته التيمية التي تنقد الكسب
بسبب الميل الأشعري إلى الحل الجبري مفضلا الحل القدري دون الوقوع فيه فيكون فعل
الإنسان فعل"رميت إذ رميت بحسب أحكام الرماية التي حددها الله فكأنهما
الله هو الذي رمى".
5-
أما الأصل فهو علة الحاجة إلى الإيمان بالقضاء والقدر وهو الحل الذي لم ينتبه إليه
أصحاب هذه الحلول جميعا إلى حد الآن رغم أنه عين مضمون الآية التي قرئت على نمط
"ويل للمصلين" في كل هذه الحالات: وحدة الرماية (حدث وجودي) تتحقق
بتعال وجودي مستند إلى نظام الضرورة المنطقية (قوانين لعبة الشطرنح أو المنطق)
وإلى نظام الحرية التاريخية (تجارب المقابلات التي تمت فعلا) ولتفاعلهما (فعل
المنطق في التاريخ وفعل التاريخ في المنطق) تماما كما رأينا عند الكلام في مثال
الشطرنج.
وقد
حاول ديكارت أن يفسر هذه الظاهرة عند الإنسان بالمقابلة بين محدودية عقله ولا
محدودية إرادته منتبها إلى الأصل الذاتي (في النسبة بين صفتين من صفات الإنسان
رغم خطئه إذ استنتج من التفاوت بين الإرادة العقل لا تنهاهيها وتناهيه) ومغفلا
الأصل الموضوعي (النسبة بين صفتين من صفات المجرى الوجودي والمجرى المعرفي في
المستوى الميتافيزيقي والديني. وكلاهما يتحدد بنسبة معينة للزمن الذاتي لوجود
الموجد في مستواه الفعلي وفي مستواه الرمزي). وهذا الأصل الموضوعي هو طبيعة
العلاقة بين مجرى العمل الذي لا يقبل الانفصال عن مجرى زمان الوجود الفعلي ومجرى
النظر الذي يقبل الانفصال عنه ليحصل في زمن الوجود الرمزي (ورمزها تعليم آدم
الأسماء): الفكر ممكن قبل الفعل وهو فعل مؤجل وفيه يمكن ألا أبالي بزمن الفعل
المؤجل لأني أفعله في التصور قبل فعله في الإنجاز. لكن الفعل في الإنجاز ليس فيه
إمكانية للتراخي: فهو لا يمهل وكل ما ليس ماثلا خلال الفعل لا يمكن استعماله إلا
في خيال العدو الذي يجهل أنه غير ماثل ويتصوره قابل للمثول فيعمل بمثوله الممكن في
تقدير العدو. لذلك كان الكتمان من شروط العمل بين البشر وأصبح الاستعلام على
العدو أهم الأسلحة في الحروب.
فالعمل
ظرفه يقتضي أنه لا يقبل التأجيل لأن مجراه هو عين وجود صاحبه في المجرى الفعلي
لعلاج الشأن الفعلي في حين أن النظر يشبه الانفصال عن مجرى الوجود والتجرد من
المجرى الفعلي لعلاج الشأن الفعلي بتصوره في مستوى رمزي نظير للمستوى الفعلي منه
وذلك قبل الفعل استعدادا له أو بعد الفعل لمراجعته أو خلاله وعيا به متفاعلا معه.
ومثاله: التخطيط الاستراتيجي في الحرب ومجرى المعارك فيها. ففي التخطيط
الاستراتيجي قبل المعركة أو بعدها يمكن للقائد أن يأخذ وقته لتنظيم المعلومات
والأدوات ولفحص الفرضيات على مهل ومكث.
لكنه
في المعركة لا يستطيع أن يؤجل القرار بالقدر الذي يقتضيه فعل الفكر المحلل فضلا عن
فعله الجامع للمعلومات. فعليه أن يحسم في الحين بما عنده من ذلك وبما تفرضه
المعطيات المباشرة في المعركة نفسها: فالعمل بخلاف النظر لا يمهل. ويمكن
القول إن نسبة النظر إلى العمل من حيث العلاقة بالأزوف الوجودي هي عين نسبة
التمرين الذي يقوم به التلميذ خلال التعلم وممارسة اختصاصه خلال العمل لما يصبح
مسؤولا في خطة ما: ليس لأخطاء التقدير في التمرين عبء كبير في حياته إلا في حالة
الامتحانات النهائية في حين أن خطأ ما في حياته المهنية قد ينهيها.
قائد
المعركة مضطر للعمل بمقتضي الحاصل لديه من العلم ولا يستطيع انتظار استكمال
المعلومات أو تعقب فرضيات التحليل والتثبت منها مهما تقدمت أدوات التوثيق والتحليل
كما وكيفا. والمعلوم أن الفعل الرمزي أو المعرفي في الحروب والتنافس الاقتصادي قد
تقدم تقدما بلغ درجة جعلته يكاد يكون جاريا في نفس زمان الفعل الفعلي أو المادي.
ومع ذلك يبقى العمل محكوما بالعلم المحدود لأن ما يتدخل فيه من المحددات غير محدود
فضلا عن كونه غير معلوم. وفي الجملة فإن النظرية مهما بلغت من التعقيد والقرب من
أعيان موضوعاتها تكتفي بصورة مثالية مجردة من الظاهرة لأنها لا تستطيع أن تعتبر كل
المحددات العرضية فضلا عن استحالة حصرها. وهذه المسافة بين اللامحدود المؤثر في
العمل والفعل وما يعتبره العلم والنظر والذي هو دائما محدود مهما تراكمت معلوماته
حول موضوعه هذه المسافة هي الشرط الذي يحدد مقومات هذه المسألة ويفهمنا القصد
بالحزم الذي يعزم الأمور ملتزما بما يعلم من الشاهد ومتوكلا في ما لا يعلم من
الغائب.
ويصف
القرآن هذه الوضعية الموضوعية للعلاقة بين محددات العمل ومحددات النظر في تحديدها
للوجود الإنساني في علاقته بالوجود الكوني بمصطلحات دينية أهمها مصطلح الغيب. أما
دور العلاقة بين الشهود والغيب في أفعال العباد فيطلق عليه مفهوم الإيمان بالغيب
المفهوم الذي يحرر الإنسان من الوهمين القاتلين وهم حصر الوجود في الدنيوي حصرا
يرجعه إلى التاريخ الطبيعي ويخرجه من التاريخ الخلقي ووهم حصره في المعلوم حصرا
يصيبه بالاكتئاب الدائم الذي يمكن ضرب الموقف الوجودي مثالا منه سواء في شكله
الفلسفي المؤدي إلى الفوضوية الحياتية أو في شكله الصوفي المؤدي إلى العدمية ونفي
النفي أي نفي الدنيا التي حصر الوجود فيها للتلذذ بالنيرفانا العدمية. راجع في ذلك
محاورتنا مع الأستاذ حنفي حول النظر والعمل.
الخاتمة
نختم
هذه المحاولة بأمر تسلمناه فيها ولم نعلله. فلم قدمنا في علاجنا لمشكلة التحيز
الفلسفي على الديني؟ ولم قدمنا التاريخي في الفلسفي وأخرنا فيه التصوري ولم قدمنا
التصوري في الديني وأخرنا التاريخي فيه ؟ هل لذلك صلة إضافية لخطة البحث أم له صلة
بجوهر العلاقة بين الديني والفلسفي في آن لأن الأمرين واحد؟ بنينا خطتنا على تقديم الفلسفي عامة على الديني
وعامة وعلى تقديم التاريخي على التصوري في الأول والعكس في الثاني لأن هذه العلاقة
هي كما بينا في المحاولة مرآه الصلة الجوهرية بين الفكرين الفلسفي والديني وبين
العلاجين التصوري والتاريخي. فالفكر الفلسفي لا يدرك حقيقته إلا بالنزول إلى
التاريخ والفكر الديني لا يدرك حقيقته إلا بالصعود إلى التصور. ذلك أن التصور يخرج
الدين من الأسطوري والتاريخ يخرج الفلسفة من الميتافزيقي. فيكون التصور الديني
جوهر الحقائق التي يسعى إليها التصور الفلسفي.
وإذن
فهما يلتقيان بما يبدو متناقضا رغم كونه واحدا: فما يعجز عنه التصور الفلسفي هو
اللامتناهيات التي سنكتشف وذلك هو أصل التصور الديني الذي يتصدى للتاريخي الكاشف
عن الصيرورة التي تصل بين التصورات المتناهية بالوشائج اللامتناهية: فيتحدد
مسار العلم بين قطبين غايتين (الدهر والزمان) يسعى إليهما بسبل تجمع بين القص
التأويلي والاقتصاص التحليلي. وبذلك يصبح التاريخ جوهر البرزخ الواصل بين
العلاجين الديني والفلسفي. ومعنى ذلك أن الفلسفة لا تكتشف "اللامعقول"
أو "اللامتناهي" الواعيين
فتتحرر من المعقول والمتناهي الساذجين إلا باكتشاف مجرة التاريخ وذلك هو جوهر
التصور الديني عندما يخرج من الأسطورة فيخرج الفلسفة من الميتافيزيقا.
وهذا
التلاقي بين نزول الفلسفة إلى التاريخ وصعود الدين إلى التصور ليس مجرد تلاق
اتفاقي بل معلول بخاصية ذاتية لكلا الفكرين. فالنزول الفلسفي سببه الصعود الديني (وذلك
هو تأثير الفكر الديني في الفكر الفلسفي) والصعود الديني سببه النزول الفلسفي (وذلك
هو تأثير الفكر الفلسفي المتدين في الفكر الديني). ومن ثم فهما في الحقيقة
متطابقان في كل لحظة وإن اختلف منهما الاتجاه: ونقطة اللقاء في كل لحظات تاريخهما
هي ما في النفس البشرية نقطة التوازن في انشدادها
إلى الأفقين المنطقي المهيمن على علمها والتاريخي المهيمن على عملها.
والحدان أعني التفلسف الناظر والتدين العامل وتبادل التأثير بينهما أعني تفلسف
التدين وتدين التفلسف ووحدة المناظير الأربعة في منظور متعال عليها ذلك كله هو
جوهر الخطاب الذي هو فوق التدين والتفلسف بمعناهما التقليدي أعني القرآن الكريم.
فالقول
بالتحيز المناظري النافي لتعالي الغيب وتأليه الإنسان الناتج عن هذا القول والقول
بالتحير العامي النافي لتنافس البشر في الاشرئباب إلى التعالي كلاهما يخرجنا من
دائرة التصورين الجوهريين اللذين بنى عليهما القرآن وجود الإنسان الخليفة. أما
القول بالتحير بالمعنيين اللذين حللنا بوصفهما ما يوجد بين هذين الحدين من التحيز
فإنه يحررنا من هذين الوهمين ويرجعنا إلى حلي القرآن العلمي (الاجتهاد) والعملي
(الجهاد) لمعضلة العلاقة بين المنطق والتاريخ:
فالاجتهاد بمعيار التواصي بالحق يحررنا من معيار المطابقة
العلمية مع الواقع. ذلك أن هذا التطابق مستحيل لتجاهله المسافة بين الشهادة والغيب
المعرفيين ومن ثم لاشتراطه التطابق بين عالم الخلق والعقل الإنساني رفعا لتقدير
الإنسان إلى مرتبة القدر الإلهي إيمانا أو افتراضا: العلم الوحيد الممكن للإنسان
هو العلم الاجتهادي ومعياره هو تواصي الجماعة العلمية بالحق وطلبها إياه بالتعاون.
والجهاد بمعيار التواصي بالصبر يحررنا من معيار المطابقة
العملية مع المثال. ذلك أن هذا التطابق مستحيل لتجاهلة المسافة بين الشهادة والغيب
القيميين ومن ثم لاشتراطه التطابق بين عالم الأمر والإرادة الإنسانية رفعا لقضاء
الإنسان إلى مرتبة القضاء الإلهي إيمانا أو افتراضا: معيار العمل الوحيد الممكن
للإنسان هو العمل الجهادي ومعياره هو تواصي الجماعة العملية بالصبر وطلبها إياه بالتعاون.
[1] وليس لها من يمثلها إيجابا
بل يمثلها سلبا عكسها أعني موقف الداعين إلى اللامنظورية المطلقة دعوة إلى
الموضوعية وعدم الانحياز
[2] نستعير مصطلح "مناظر"
من ابن الهيثم في معنى علمه في المناظر والقصد في استعمالنا إفادة خضوع الرؤية
للشروط التي تحددها المناظر بصورة لا محيد عنها ما يجعلها تتغير كلما تغيرت زاوية
النظر ولا تكون الرؤية حتى عندما تكون على استقامة إلا من جنس الرؤية المنعكسة أو المنعطفة لتعذر
الاستقامة بمعناها الهندسي الخالص ولأن محل الرائي والشفيف الناقل والنور المضيء
للمرئي متعدد المحددات فلا ينحصر ولا يحاط به علما فيتخلص من حوائل الرؤية
المزعومة موضوعية أي متطابق فيها الرؤية
الإضافية إلى الرائي والمرئي في ذاته. وقس
عليه جميع الحواس ومن ثم العلم سواء كان تثمليا أو تصوريا أو تأويليا.
[3] وأفضل ممثليها نيتشة الذي يقول
بما يمكن وصفه بالمناظرية المطلقة Absolute perspectivism . والمناظرية ضربان مضاعفان: أولهما يقول بالذاتية الفردية سواء
كانت نفسيه ثقافية (حسب تاريخ تكونه الفردي في مقابل جماعته) أو نفسية عضوية (حسب
بنيته النفسية في مقابل البشر الآخرين) والثاني يقول بالذاتية الجماعية سواء كانت
جماعية ثقافية (انغلاق الثقافات ونسبية المعاني إليها في مقابل الثقافات الأخرى)
أو جماعية عضوية (المعرفة أضافية إلى انتساب الإنسان على نوعه الحيواني في مقابل
الموجودات الأخرى وخاصة موضوعات علمه).
[4] و من علاماته في العلم
الحديث المقابلة الكلاسيكية بين الأوائل من الخواص وهي رياضية وكمية والثواني منها
وهي كل الخصائص الكيفية التي لا تقبل الصوغ الكمي في العلم الرياضي الطبيعي
الحديث.
[5] استعمل واقع بمعناها اللغوي الخالص أي ما له وقع
ومن ثم ما هو فاعل بالفعل وأقصد بها ما يقابل معنى كلمة Wirklichkeit
الألمانية أي ما له قيام فعلي يثبت بما له من
وقع وتلك هي فعاليته. ولا استعمل كملة الحقيقة لأنها لا تؤدي هذا المعنى بنفس
الدقة. فإن أخذت بمعنى الحق الوجودي وينبغي أن يجمع على حقائق كانت متضمنة للغيب
والشهادة معا ولا تنطبق إلا على الله وعلى علمه لذلك فهي غير معلومة للإنسان وإن
أخذت بمعنى الحق الشرعي أو القانوني وينبغي أن تجمع على حقوق كانت دالة على إثبات
ملكية أمر حاصل أو منزوع ويراد استرداده. والحقيقة يمكن أن تعتبر مستوى معرفيا من
الأول فتكون العلم المطابق لموضوعه أو مستوى قيمي من الثاني فتكون العمل المطابق
لقيمته.
[6] هل الوجود اللازماني مجرد مفهوم سلبي علته نفي الزمانية أم إن له
وجودا حقيقيا ؟ ألا يكون ما يعد لازمانا زمانا ذا إيقاع أبطأ كأن نقيس زمانية
التاريخي الحضاري بزمانية التاريحي الطبيعي أو زمانية التاريحي الطبيعي بزمانية
الطبعية المادية إلخ...فتكون غاية لامتناهي الكبر في الايقاع الزماني نفي الزمان
بإطلاق وتكون غاية لامتناهي الصغر فيه نفي الثبات بإطلاق فلا يبقى إلا السيلان
الأبدي.
[7] عند من يؤمن بالقضاء
والقدر. أما من لا يؤمن به فهو بمقابلة بين عالم الحرية والفعل القصدي وعالم
الضرورة والحركة غير القصدية في الوجود.
[8] انظر أبو يعرب
المرزوقي العرض النقدي لكتاب لؤي الصافي The foundation of Knowledge مجلة المعهد العالمي للفكر الإسلامي عدد 14.
[9] مثال من تخلص نظريات المعرفة من التحيز
بهذا المعنى: ما ينفيه ديكارت من دور للثقافي في العلمي حتى وإن كان لا ينكر تأثير
الثقافي في الموقف المداري عند الفيلسوف مثلما يفعل عند المقابلة بين الأخلاق
المؤقتة والأخلاق التي يطلبها في فلسفته.
[10] وقد سبق فترجمنا مقاله الأساسي في هذا المجال
وهو المقال الثاني من كتابه في المحاولات المنطقية بعنوان Two dogmas
of empiricism.
[11] وهذا هو الموقف الموصوف بHolism أي الموقف القائل بأن النظرية العلمية غير
قابلة للفصل عن الثقافة كلها أو على الأقل على منظومة العلوم كلها أو ما يسميه
كواين بالنظام التصوري الذي يندرج فيه العلم من حيث هو نظام رمزي سيال مع نظام
العالم السيال دون أن نستطيع الفصل بين ما يعود للتصورات واللغة وما يعود
للمتصورات والأشياء. ومن هنا تأتي نظريته في استحالة الترجمة إلى بصورة جملية دون
مقابلات محددة. ما يوجد هو إذن شبه تناظر غير محدد العناصر في كلا النظامين
المتناظرين: النظام المفهومي أو التصوري والنظام المتصوري أو نظام التجربة التي
توجد على أطراف النظام التصوري ولا تتدخل فيه إلا بالقدر الذي يحفظ فيه تناسقه
وتدخلها قد يغيره عندما يكون من المفيد أن نحدث تغييرا طفيفا فيه لكي يصبح أبسط في
تحقيق هذا التناظر النسبي.
[12] ابن تيمية ينفي أن يكون الكلي موجودا في الطبيعة. لكنه يسلم به في
الشريعة لكونه يعني عنده القانون الكلي الذي يضعه الشرع للسلوك الإنساني.
[13] شرح نظرية القيم الخمس
فلسفيا (من خلال شرط القيم الثلاث المعهودة وشرط شرطها) ودينيا من خلال مضمون
القصص القرآن من خلال شرط نظرية القيم المعهودة (في نظرية العمل مادة للقصص
القرآني عامة) وشرط شرطها (في نظرية العمل
التام في مثال القصص الأحسن أو سورة يوسف عليه السلام).
[14] وهذا هو التأسيس الديني للمفهومين الجوهريين في
القرآن: فلم يعد العلم إحاطة بالحركة بل اجتهاد للحصول على الممكن من العلم بها
ويعد العمل مطابقة تامة مع الحركة بل مع الاجتهاد ولذلك فهو مثله جهاد وكسب للمكن
له أي للشهادة من الموضوع دون زعم البلوغ إلى الحقيقة النظرية أو العملية كما هما
في الغيب لامتناع ذلك على غير الله.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق