الخميس، 20 يونيو 2013

المقاومة بالمنهج: طرق تفكير تلائم واقعنا



المقاومة بالمنهج: طرق تفكير تلائم واقعنا

د. عمار علي حسن·

يتوهم كثيرون أن المقاومة مرهونة فقط بالرصاص والدم، وأن القتال وخوض المعارك هو كل درجاتها وأشكالها، أو هو مبتدأها ومنتهاها، وأنها في كل الأحوال عمل عضلي سيده الجسد، وأن دور الذهن فيه يقف عند حدود جمع المعلومات عن العدو وتصنيفها وتحليلها، ووضع الحيل والتكتيكات الفنية للمعارك، أو استخدام أساليب الحرب النفسية في التأثير على الخصم، بالكيد له وقهره وإذلاله معنويا، تمهيدا للنيل منه في ميدان المعركة.
وفي زحام الاهتمام بالمقاومة، شكلا وموضوعا، أنتج البعض رؤى ومقولات وتصورات حول السياق الذي يحيط بها، والذي يعني في الأساس توافر الشروط الاجتماعية للفعل المقاوم، والتي تتحقق حين يحتضن المجتمع المقاومين، أو يتحول هو في لحظة تاريخية ما إلى "جماعة مقاومة"، ويعني أيضا وجود اقتصاد يتمتع بدرجة من الاستقلالية، ويقف على دعائم متينة من الرشد والترشيد، بما يقي الجماعة المقاومة من ذل العوز والاحتياج، ويحفظها من الانكسار والاستسلام.
لكن هذا الاهتمام لم يمتد بقدر كاف ومباشر إلي قضية "المنهج المقاوم"، التي تعني في المقام الأول امتلاك القدرة على التفكير المختلف، الذي يتسم بالتجدد ولا يقع في فخ النمطية أو التقليدية. فالمقاوم إن لم يحز مسلكا معرفيا مغايرا لما يجري في مجتمعه فلن يكون بوسعه أن يتشرب فكرة المقاومة ومقاصدها وغاياتها. وحتى إن انخرط في المقاومة من دون اقتناع بهذا المسلك المغاير، فإن فرص استمراره فيها قد تتضاءل إن قست الظروف، وترسخ إيمانه بها قد يتزعزع إن لم يأت النصر سريعا، أو وقعت نكسات في الطريق.
إن المقاومة في أصلها "فكرة" تختمر وتستنهض الهمم، فتتسابق الأيدي إلى البناء والتعمير، وإلى حمل السلاح في وجه المعتدين. ولأنها فكرة فهي من حيث المضمون منظومة من القيم النبيلة أو الإيجابية، لا تسقط على رؤوس الناس من عل، ولا تنبتها الأرض كالحشائش البرية، لكنها "عملية" تأتي نتيجة إشغال الذهن وإيقاظ المشاعر في اتجاه تحقيق هذه المنظومة. وتتضافر كل الموجودات أو المعطيات المتاحة أثناء جريان هذه العملية، فتمتزج تعاليم السماء السامية  بتاريخ وقائع البطولة والفداء ومتطلبات اللحظة الراهنة من أمن البلد ومصالحه، وحاجة الفرد إلى الشعور بالكرامة، واقتناعه بضرورة الذود عن العرض والشرف.
وهذه العملية لا يجب أن تكون عشوائية، ولا تدور في فراغ، بل تستند إلى ركائز واضحة المعالم من طرق التفكير وأساليبه، أولاها الاعتقاد الجازم في أن أول خطوة نحو حمل السلاح هي امتلاك أسلوب للتفكير، يتمتع بالمرونة على مستوى التفاصيل والجزئيات وثبات ووضوح في التصور العام الكلي. وهذا الأسلوب يكون بمثاب الحبل السري الذي يغذي فكرة المقاومة، ويحصنها ضد التراجع، فإن تراجعت فيحصنها ضد الموت، ويبقي في أحلك ساعات اليأس على بذرتها سليمة، حتى تنضج الظروف فتعود المقاومة إلى ممارسة فعلها النبيل.
وثاني هذه الركائز هي عدم التخلي عن "المثال" من دون إهمال الواقع أو نسيانه والقفز على حاله ومآله. فتفكير المقاوم إن خضع لما يجري واستسلم لما يدور ما تمكن من أن يسمو على الصغائر، ويؤمن بالتغيير، ويعتقد في أن الغد أفضل من اليوم، وأن النصر آت في نهاية المطاف، ليس فقط بمعنى قهر العدو وإجباره على الاستسلام أو دفعه إلى الانهيار، بل حتى بعدم تمكينه من تحقيق أهدافه، مهما صغرت درجتها أو بهت لونها. ويلملم المقاوم كل العناصر التي تزكي هذا المدخل الفكري، حتى تزيده صلابة وصمودا، من دون أن يقع في فخ الأوهام والالتباسات التي تصيب أصحاب الأفكار الجامدة، والأيديولوجيات المحنطة.
أما الركيزة الثالثة فتقوم على إيمان المقاوم بضرورة الاستفادة من المداخل والاقترابات والمناهج الفكرية المتاحة والسائدة، سواء التي أبدعها المجتمع الذي يعيش فيه المقاومون، أو أنتجها المجتمع الخارجي، بما في ذلك مجتمع العدو نفسه. فالمقاومة تخطئ حين تشعر بالامتلاء أو الاستغناء عما لدى الآخرين من أفكار تمتد من التكتيكات إلى الاستراتيجيات.
إن للمقاومة أشكال عدة، منها العسكري، ومنها السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي، وإن من الإنصاف أن نعتبر أن البحث عن منهج فكري ملائم لقضايانا، واقتراب علمي مناسب لدراسة مشاكلنا، وكشف التحيز ضدنا في مناهج الآخرين، هو من ألوان المقاومة، التي لا تقل أهمية عن أشكالها الأخرى.
أولا: المشكلة وأسس التعامل معها
يعتقد المتعجلون والمغرضون من علمائنا وباحثينا أن مناهج العلوم الإنسانية وأدواتها الإجرائية والتجريبية هي "إرث بشري مشترك" على الإطلاق، ولا ينبغي علينا إلا أن ننصاع لمقولاته، ونرضخ لأساليبه، ولا نضيع وقتا في تفنيده أو الجدل حوله، خاصة إن كنا عاجزين عن الإتيان بمثله أو غيره.
ولدى هؤلاء ولع شديد بكل الاقترابات والنماذج الإرشادية والطرق البحثية التي أبدعها الغرب في السياسة والاجتماع والاقتصاد والأدب وعلم النفس والفلسفة... الخ. ولدى هؤلاء أيضا انصياع تام لفكرة "المركزية الأوروبية" ذات الطابع العنصري، والتي تزعم أن أوروبا تحتكر خط الحضارة والعلم منذ الإغريق وحتى اللحظة الراهنة، متنكرة لعطاء الحضارات الأخرى، ومتناسية حداثة التجربة الأوروبية إن أخذنا في الاعتبار التاريخ غير المكتوب للأمم السابقة، وإن أمعنا النظر في العطاء القوى النافذ للحضارات الفرعونية والبابلية والأشورية وحضارات بلاد الصين والهند، وحتى إن استشهدنا بآراء علماء غربيين منصفين مثل  مارتن بيرنال صاحب كتاب " أثينا السوداء: الجذور الأفروآسيوية للحضارة الكلاسيكية"، وجون إم. هوبسون مؤلف كتاب "الجذور الشرقية للحضارة الغربية".
وجراء هذا الولع وذلك الانصياع غصت جامعاتنا ومعاهدنا العلمية بكتابات منقولة حرفا، أو مستنسخة، تتحدث باستفاضة عن المنهج الوصفي والتحليلي والمقارن والبنيوي والتفكيكي، كلافتات عريضة، ومنها اقترابات مثل البنائي الوظيفي والتحليل الطبقي والنخبوي وتحليل النظم، وأدوات كالاستبيان والملاحظة بالمشاركة والمقابلة العابرة والمتعمقة، وتحليل المضمون الكمي والكيفي، ومقاييس الذكاء المعهودة مثل ويكسلر وكاتل وتريستون.
ومن دون شك فإن في هذه المناهج تحمل مستوى من العمومية لا يمكن نكرانه، وبها قدر من الانضباط العلمي لا يكفر به إلا جاهل أو متنطع، وهي في خاتمة المطاف اجتهادات بشرية عميقة، لدراسة الظواهر الإنسانية، التي هي أكثر تعقيدا وأصعب مراسا من الظواهر الطبيعية. وقد استفاد منتجو الأفكار في بلادنا كثيرا من هذه المناهج والاقترابات والأدوات، وتخرجت على أياديهم جيوش من الباحثين والكتاب والمدرسين، ومديري الأجهزة البيروقراطية، وأصحاب الأعمال الحرة. وبعض هؤلاء استمر في استعمال هذه المناهج المألوفة بوعي كامل وقصد جلي، مثل الباحثين، وبعضهم تماهت هذه المناهج في عقله، شعورا ولا شعورا، لتساعده على التعامل مع قضايا الحياة، بشتى تفاصيلها، ومختلف جوانبها.
لكن هناك مشكلتين رئيسيتين في التعامل مع هذه المناهج إن استخدمناها لتساعدنا على فهم الظواهر التي يموج بها مجتمعنا العربي، الأولى تتمثل في اختلاف البيئة الاجتماعية لدينا عن نظيرتها في الغرب، ولأن هذه المناهج لم تولد من فراغ، بل هي بنت الظروف التي أنجبتها، فإن أخذها كما هي، من دون نقد أو جرح أو تعديل، وتطبيقها على ما يجري في حياتنا، يؤدي إلى نتائج مضللة أو مشوهة في كثير من الأحيان، الأمر الذي يبعدنا عن وضع الحلول السليمة للمشاكل التي تعوقنا.
والمشكلة الثانية تتمثل في عدم مواكبة الحركة البحثية والعلمية العربية للجديد الذي تجود به قرائح علماء الغرب، ففي وقت يكون فيه منهج ما أو اقتراب ما قد أوسع نقدا حتى تهاوت أسسه، يكون لدينا من يستعمل هذا المنهج بعمي وصمم كاملين، ولا يدري شيئا عما طاله في البلاد التي أنجبته.
وقد حدث هذا الأمر بشكل ملء السمع والبصر للبنيوية والتفكيكية، فبينما كان العقل الغربي يراجعهما، ويوسعهما نقدا، كان نقادنا وباحثونا يستخدمونهما بإفراط في محاولة منهم لتقريب النصوص، خاصة الأدبية، وفي دراسة مختلف الظواهر الإنسانية. وفي وقت يقوم فيه الغرب بتجريح لاذع للحداثة ما وبعدها، لا يزال لدينا من يسهب في الحديث عنهما، مع أن مجتمعاتنا لم تصل إلى الحداثة بعد. وحتى يبرر هؤلاء ما يقولونه ويسوقونه ويتعيشون منه راحوا يتحدثون عن "حرق المراحل" بين المجتمعات، وهي مسألة جيدة وشيقة على المستوى النظري ، لكنها لا تمت بصلة إلى الواقع. وفي وقت بدأ فيه الغرب ينظر نظرة مختلفة إلى التداوي بالكيماويات ويفتح صدره لتفهم "الطب البديل" لا زلنا نحن نعب من الأدوية المحفوظة، سواء كانت سوائل ورذاذا أم أقراصا، مما يصدره لنا الغرب، أو وكلائه في بلادنا.
وفي وقت مبكر نبه محمود أمين العالم إلى الهوة الكبيرة بين قدرتنا على التنظير وبين احتياجات الواقع، عبر انتقاده إخفاق ثورة 1952 المصرية في القضاء على التشتت الفكري الذي كان يسبقها، وفي إبداع نظرية ثورية متكاملة، وهنا يقول: "تخلفت الدراسات الإنسانية في جامعاتنا عن احتياجاتنا الاجتماعية تخلفا بشعا، وجمدت عند نظريات وفلسفات عتيقة أو متخلفة، بل فقدت سمتها العلمية الواجبة، وفقدت بهذا فعاليتها الواجبة، وجفت روح البحث في مجال العلوم الإنسانية خاصة، وجفت معها روح النقد الموضوعي، ولم تنضج النظرة العلمية الشاملة لحركة الحياة من حولنا"[1].
ويطلق جلال أمين على هذه الحال مصطلح "التبعية الفكرية"، ويعزوها إلى التبعية في مختلف جوانب حياتنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ويقول: "نحن تابعون بكل معنى الكلمة في كل هذه الجوانب، ولو كان الأمر غير ذلك في حياتنا الفكرية، لكان موجبا للاستغراب الشديد، إذ كيف لمجتمع بلغ هذا الحد من فقدان الثقة بنفسه، ومن تسليم مقاليد الأمر إلى الأجنبي، ومن الانبهار بلا تحفظ بمنجزات الغرب التكنولوجية والفكرية على السواء، ومن التسليم بتفوق العقل الغربي والتنظيم الاجتماعي والسياسي الغربي، ومن التسليم باستحالة التنمية دون الاعتماد على رأس المال الغربي، كيف يمكن لمجتمع هذه حاله أن يكون مبدعا وخلاقا في الدراسات الاجتماعية. إن أقصى ما يمكن أن ننتظره من علماء الاجتماع لدينا، في مناخ اجتماعي هذه سماته، وهو إنتاج دراسات تطبيقية قد يتسم بعضها بالدقة والاستقصاء، ودراسات نظرية قد يتسم بعضها بالوضوح والاتساق، ولكنها جميعا تفتقر إلى الابتكار الحقيقي، سواء تعلق هذا الابتكار باتباع منهج جديد في البحث، أو بإثارة الشك في بعض المسلمات، أو بتقديم تفسير جديد لظاهرة اجتماعية معقدة"[2].
وهذا البحث "الاستكشافي" يحاول أن يرسم المعالم الرئيسية لهذا التفكير، منطلقا من نقد فكرة "مركزية" و"إطلاقية" أو عمومية مناهج البحث الغربية في العلوم الإنسانية، ليشدد على ضرورة إبداع اقترابات وأدوات علمية قادرة على دراسة الظواهر التي نعيشها.
وهناك ملاحظات أساسية يجب ذكرها قبل الدخول في صلب هذه الدراسة، وهي:
1 ـ البحث عن منهج علمي يلائم واقعنا لا يعني أبدا التحلل أو التنصل والهروب من الاشتراطات والسمات العامة للتفكير العلمي، والانحراف أو الميل إلى التفكير الخرافي والأسطوري أو الارتجالي. فالتفكير العلمي له سماته العامة،[3] التي تتعدى حدود الزمان والمكان، ومنها التراكمية والنسبية والتنظيم والتركيز على الأسباب التي تكمن وراء نشوء الظواهر، والشمولية، والدقة والتجريد.
2 ـ يجب ألا تكون عملية البحث عن هذا المنهج الملائم نابعة من رد الفعل النفسي حيال الغرب، حيث يقود الغضب من مواقفه السياسية إلى رفض أدائه وإنتاجه العلمي والمعرفي، والتعامل معه ككتلة واحدة، من دون تفريق بين السياسي والعلمي في سلوكياته، أو بين أداء الساسة وجهود العلماء.
3 ـ لا يجب أن تكون هذه العملية متكئة على أسس أيديولوجية صماء، تلبية للصراع السياسي الساخن بين الشرق والغرب، الذي حدا بالبعض إلى حديث عن "علم إسلامي" مقابل "علم غربي".[4]فإذا كان هناك من الإنتاج العلمي والطرق المنهجية الغربية ما هو منحاز ضدنا، فهناك أشكال ودرجات من التحيز بين الغربيين أنفسهم، ضد بعضهم البعض. فمن التحيز ما هو محلي، وما هو عابر للقارات.
4 ـ هذه العملية لا تعني رفض الوافد كلية، بل تسعى إلى وزن هذا "الوافد" بميزاننا الخاص. و"الإصرار على الإمساك بالميزان وعدم استيراده لا نأخذ موقفا غير علمي، فالعلم الطبيعي لا يتعامل مع الكليات أو المطلقات أو الغائيات، وإنما يتعامل مع الجزئيات والإجراءات، ويترك القيمة والصدق والغاية للإنسان يحددها كيفما تملي عليه معتقداته"[5]. ويمكن التعامل مع هذا الوافد بمنطق التعاطي مع "الحكمة"، التي تصل في أهميتها إلى درجة أن بعض المفكرين والفقهاء المسلمين يعتبرونها أصلا من "أصول الشريعة"[6]، مع القرآن الكريم بوصفه النص المؤسس، والسنة الصحيحة، والعقل والعرف.
5 ـ يجب إدراك مقدار التفاوت في درجة التحيز من حقل معرفي وعلمي إلى آخر،[7] فكلما كان العلم أو المعرفة أقرب إلى الهوية الحضارية كانت درجة التحيز كبيرة، والعكس صحيح. ومن ثم فإن أعلى درجة للتحيز تكون في مجال العقائد والأديان والعادات والتقاليد، وأقلها تكون في العلوم البحتة مثل الرياضيات والفيزياء والكيمياء .. الخ.[8]
6 ـ علينا أن نفرق بين التحيز والخطأ،[9] فالأول "عيب نسقي" في البحث العلمي، يقوم مقام التفاحة المعطوبة، التي تفسد كل التفاح السليم. أما الأخطاء فتأثيرها منعزل. ويمكن للعلماء والباحثين أن يتفقوا حول الخطأ فيصوبوه. أما الانحياز فهو مثير للجدل واللغط، إلى الحد الذي لا يمكن معه لأهل العلم أن يتفقوا على رأي، أو يتمكنوا من فض خلافاتهم واختلافاتهم، فما هو انحياز بالنسبة لباحث، يمكن أن يكون افتراضا صالحا أو منهجا بحثيا سليما بالنسبة إلى آخر. والخطأ ينجم عن سوء تقدير منهجي أما الانحياز فغالبا ما يكون نتيجة لجوانب سياسية واجتماعية واقتصادية، أو لصراع المصالح الذي ينشأ حين تتعارض المصالح الشخصية مع الالتزامات المهنية والوطنية. ومن ثم فإن درجة الالتزام الأخلاقي عند من يرتكب خطأ منهجيا أكبر بكثير منها عند المنحاز لأسباب غير علمية.
ثانيا: النقد الغربي لمزاعم "وحدة المنهج"
إلى جانب المتعصبين المؤمنين بالمركزية الأوروبية، هناك مقولات ناصعة في الغرب تؤكد قاعدة "الإرث البشري المشترك" في المعرفة، فهاهو  توماس جولدشتاين يتحدث في خاتمة كتابه الأثير "المقدمات التاريخية للعلم الحديث: من الإغريق القدماء إلى عصر النهضة" عما يسميها "شجرة المعرفة"[10]، التي نحيا تحت ظلالها الوارفة في الوقت الراهن، بفضل إسهام مختلف الحضارات الإنسانية والعقول البشرية، ويؤكد أن هناك افتراضا ضمنيا يبين أن العلم تطور بطريقة متسقة طوال التاريخ كله، لتبلغ مسيرته الصاعدة أعلى ذروة لها الآن، وليفتح المستقبل أفقا جديدا لمزيد من القمم الشامخة.
لكن هذا التصور المنصف في بنيته العامة ومقصده الرئيسي، ينطبق أكثر على "العلوم الطبيعية"، مع الأخذ في الاعتبار أنه ليس بوسع أحد أن يدعي حسما في هذا النوع من العلوم أيضا، أو ادعاء صارما بالكمال والاكتمال. وهنا يقول أينشتين في حديثه عن المحاولات التي تبحث عن كشف أسرار الطبيعة: "لا تزال القصة الغامضة الكبرى دون حل، بل إنه لا يمكن الجزم بوجود حل نهائي لها... لقد فسرت النظريات المبنية على التجربة كثيرا من الحقائق، ولكن لم يكتشف إلى الآن حل عام، يتفق مع جميع الأدلة المعروفة، وفي كثير من الأحيان بعد الاستزادة من القراءة يتضح فشل نظرية، كان يظن أنها كاملة كافية، وذلك لظهور حقائق جديدة تناقض النظرية أو يتعذر تفسيرها بها"[11].
أما العلوم الإنسانية فإن كانت قد استفادت من أي عطاء انصب على طرق التحليل والتناول والتصنيف والتبويب، ومحاولة الوصول إلى نتائج دقيقة، والتحقق من صدق المعلومات، لكنها احتفظت في كل مكان بالسمات الحضارية العامة، التي أثرت على مضمونها وشكلها معا. فطالما أننا في هذا الصنف من العلوم "ندرس السلوك الإنساني، فمن الضروري أن تكون الحالات الجزئية التي يبدأ منها التعميم هي أفراد الناس. ومهما كانت العينة التي نبدأ منها، متماثلة أو متشابهة في كثير من الخصائص العامة أو الكيفيات، إلا أن كل واحد منها يختلف عن غيره ـ مع ذلك ـ اختلافا، هو أساس التمييز بينه وبين غيره. ويستحيل أن يكون هناك تماثل كامل بين فرد وفرد آخر ينتميان إلى مجموعة معينة في سلوكهما، مهما كان التشابه بينهما، ومهما تعددت الصفات المشتركة بينهما"[12].
وقياسا على هذا يوجد في الغرب علماء لا يؤمنون بأن هناك منهجا علميا أو إطارا معرفيا يصلح لكل الناس في وقت واحد وأمكنة مختلفة وثقافات متباينة، فهاهو عالم وفيلسوف بقامة توماس كون يؤكد أن رؤية الإنسان للعالم من حوله نتاج ثقافي اجتماعي موروث، ويؤمن بأنه لا يوجد "نموذج إرشادي" صالح لدراسة الظواهر الإنسانية في كل المجتمعات. ويبني كون هنا على ما خلفته قريحة عالم اللغويات إدوار سابير الذي انتهى إلى أن أنساق اللغة المضمرة في الأذهان هي التي تحدد رؤيتنا للعالم، وأننا نحلل الطبيعة وفق خطوط حددتها لنا لغاتنا الوطنية. وبالطبع فإن اللغة هنا لا تعني الكلام فقط، بل هي الإيماءات والإشارات والرموز والتفكير الصامت أو التمعن، وهذا يتأسس على الموروثات الثقافية والظروف الاجتماعية المعقدة.
وفي كتابهما "العلم في منظوره الجديد" يرى روبرت م. أغروس وجورج ن. سانسيو أن "لكل حضارة من الحضارات تصور كوني للعالم، أي نظرة يفهم وفقا لها كل شيء ويقيم. والتصور السائد في حضارة ما هو الذي يحدد معالمها، ويشكل اللحمة بين عناصر معارفها، ويملي منهجيتها، ويوجه تربيتها. وهذا التصور يشكل إطار الاستزادة من المعرفة والمقياس الذي تقاس به. وتصورنا للعالم هو من الأهمية بحيث لا ندرك أن لدينا تصورا ما إلا حين نواجه تصورا بديلا، إما بسفرنا إلى حضارة أخرى، وإما بإطلاعنا على أخبار العصور الغابرة، وإما حين يكون تصور حضارتنا للعالم في طور التحول"[13].
والخلفية الحضارية أو الثقافية ـ الاجتماعية ليست هينة في تحديد الإطار العام للتفكير، وكما يقول كارل بوبر: "المناقشة العقلانية والمثمرة مستحيلة ما لم يتقاسم المساهمون فيها إطارا مشتركا من الافتراضات الأساسية، أو على الأقل، ما لم يتفقوا على مثل هذا الإطار، لكي تسير المناقشة ... وهذا الإطار ينبني على المبادئ الرئيسية وليس مجرد بعض التوجهات التي قد تكون بالفعل شروطا أولية للمناقشة، من قبيل الرغبة في الوصول إلى الصدق، أو الاقتراب منه، أو الاستعداد للتشارك في المشاكل، أو تفهم أهداف ومشاكل آخرين سوانا"[14].
فاختلاف السياقات والثقافات والخلفيات يفرض أمرين حيال العلم، الأول هو: القضاء على هذه الاختلافات تماما، أو تسويتها مؤقتا أو تنحيتها جانبا، ثم الاتفاق على مجموعة من المعايير والتصورات الموحدة لتساعدنا في حل الإشكاليات والإجابة الكافية الشافية على التساؤلات. أما الثاني فهو: تعدد الأطر المعرفية حسب تنوع بٌنى المجتمعات البشرية، واختلاف المشكلات التي تواجهها.
وبالطبع فإن تحقق الاحتمال الأول هو من ضروب المستحيل، إذ لا يمكن أبدا تنميط العالم برمته، أو جعله وحدة واحدة في طرائق العيش والتفكير وطبيعة المشكلات الحياتية وتذوق الفنون والآداب واختيار الأزياء ... الخ. أما الخيار الثاني فيحمل في باطنه قدرا كافيا من المنطقية تجعله قابلا للتحقق.


ثالثا: حاجات واقعية إلى منهج ملائم
حتى لا يكون الحديث عن منهج ملائم لواقعنا هو محض ادعاءات لا أساس لها، أو مجرد نوع من الترف الفكري الذي تمارسه بعض العقول لتزجية أوقات الفراغ، أو تجريد لا يقف على قدمين، فسأضرب أمثلة على ضرورة وجود نماذج إرشادية أو مناهج إنسانية وطرق تفكير نابعة من ظروف مجتمعنا.
فمقاييس الذكاء صممت على أساس بيئة اجتماعية معينة تحيط بطفل ينطق بلغة من وضع المقياس، وليس غيرها، ويتعرض لنمط تربية بعينه، ولخبرات وممارسات في اللعب والجد متبعة بمجتمعه. وهذه الاختبارات، فضلا عن تحيزها لمجتمع معين، فهي متحيزة للطبقة الوسطى ولأهل المدينة، ولنمط ثقافي يحدد سلفا ما هي معايير التفوق والتقدم.
ومناهج واقترابات علم الاجتماع الغربي تبدو عاجزة عن تفسير ما يجري في بلد شرقي مثل مصر، فالنماذج العلمية الإرشادية تقول إن ظروف المصريين الحالية تقودهم إما إلى ضغط عارم على السلطة أو إلي ثورة ضدها أو إلى انهيار وتفسخ كاملين. لكن شيئا من هذا لم يحدث ـ حتى الآن ـ رغم نضوج واكتمال العوامل المؤدية إليه. وحدا هذا بكثيرين إلى إزاحة السبب لـ "الثقافة السياسية" وهو سلوك معتاد من علماء السياسة والاجتماع حين يعجزون عن تفسير ظاهرة ما، لكنه سلوك هروبي وليس تفسيرا بديلا أو تجلية للغموض الذي يلف هذه الحال.
ولا تبدو التفسيرات المتكئة على مناهج الغرب مقنعة وهي تتصدى لمسألة استمرار الاستبداد في العالم العربي، رغم تداعيه في دول أقل مستوى في مجال التنمية مثل بلدان أفريقيا جنوب الصحراء، وفي دول كانت أشد صرامة وتسلطا مثل المنظومة الاشتراكية السابقة، التي انفرط عقدها بانهيار الاتحاد السوفيتي مطلع تسعينيات القرن المنصرم.
كما لا يمكن لطريقة "الاستبيان" و"الاستقصاء" كما تعلمناها من الغرب أن تأتي بنتائج دقيقة في مجتمع يعاني من الخوف والاستبداد والأمية، ولا يفرق بين "الباحث" و"المباحث"، ولذا يشكك بعض الباحثين في حصيلة هذه الأداة البحثية، ويتعامل معها آخرون من منطلق أنها مجرد "وسيلة ديمقراطية" في التعامل مع مجتمع البحث، أو العينة المبحوثة، لكنها غير كافية بمفردها، ولذا لا بد من أن تشفع وتستكمل بأداة بحثية أخرى.  
وهناك حال أشمل للبرهنة على ما تقدم، ترتبط بحقل معرفي وواقعي ذي حضور طاغ وكاسح في حياتنا، من زاوية تأثيره في كل شيء، مهما صغر حجمه أو شأنه، ألا وهو الاقتصاد. وسأضرب هنا مثلا مما يجري الآن وهنا. فرغم عدم جدوى أو واقعية اختلاف اثنين على أن الحافز الفردي ذا تأثير بالغ في إيقاظ الهمم الاقتصادية، وتشجيع الناس على العمل والإنتاج، فإن ترك هذه الحوافز تتصارع دون ضابط ولا رابط، أو عدم تبصيرها بما يجب أن يكون عليه السلوك الاقتصادي، يقود إلى نتائج عكسية، من قبيل شيوع الفساد والرشوة وتوحش الاحتكارات، والجنوح إلى المشروعات السطحية، التي تقبل على إنتاج سلع ترفيهية محدودة الأهمية، فتستعر شهوة المجتمع إلى الاستهلاك.
وما جرى في مصر مثلا لا يختلف كثيرا عن هذه الصورة، فبعد إفساد القطاع العام وتحويله إلى  تكايا للعاملين فيه و"عزب خاصة" لرؤساء مجالس الإدارات بمنحهم صلاحيات وسلطات شبه إلهية، واختيارهم من أهل الثقة، التي تخط حدودها المباحث وكتبة التقارير الرخيصة، وليس من أهل الخبرة والكفاءة، جاء الدور على التخلص من هذا القطاع المريض، من خلال خطط اقتصادية قائمة على "الخصخصة"، بزعم إحياء الحافز الفردي الذي قتله سدنة الحكومات الفاشلة، ومن ثم إعادة هيكلة الاقتصاد الوطني على أسس جديدة، تنسحب فيها الدولة من بعض مواقعها العتيدة، وتفسح المجال للأفراد كي يتنافسوا ويتزاحموا، فيدفع بعضهم بعضا إلى الأمام في طريق التنمية والرخاء.
وهذا هدف جيد في حد ذاته، إن سلمت الخطط، أو كانت تلائم واقعنا المعيش. لكن المشكلة أن المسؤولين عن التخطيط الاقتصادي في بلدنا، يطبقون نظريات وأفكار تتماشى مع اقتصادات قوية، أو بمعنى أكثر دقة، ينفذون خطط الاقتصادات الاستعمارية على الدول المستعمرة أو التابعة. وهذه آفة ليست بالجديدة، إذ إنها تعشش منذ زمن في عقول الكثير من الأكاديميين الاقتصاديين المصريين، ممن يعطون لتاريخ أوروبا وأمريكا الاقتصادي أولوية على تاريخنا نحن، ويتحمسون لتدريس نظريات عن "توازن المشروع في ظل المنافسة الحرة أو الاحتكارية" أكثر من تحمسهم لدراسة أفكار حول سبل تنظيم القطاع العام، وانتشاله من ورطته. وهؤلاء يتناولون بشغف نظريات الثمن والتوزيع والتوازن الكلي على حالها الذي وضعه مارشال أو كينز، مع أن هذين المفكرين الاقتصاديين كانا سيتوصلان إلى نتائج مغايرة لو وضعا هذه النظريات على أساس دراسة اقتصاد دول العالم الثالث التي ننتمي إليها.[15]
ويتم اقتطاع هذه النظريات والأفكار من سياقها لتدرس وتطبق في سياق مغاير، لكنها لن تفلح أبدا، فلا المشكلات التي تعاني منها حياتنا الاقتصادية هي المشكلات التي تعترض الغربيين، ولا الحلول التي تصلح لهم يمكن أن تنفعنا بصورتها المستوردة. فالخبرة الأوروبية اتكأت أساسا على الثورة الصناعية، التي فتحت الباب واسعا أمام بناء المصانع وتشييد المدن على حساب الاقتصاد التقليدي وحياة الريف البسيطة. وهذه الطريقة الأوروبية بدت لكثيرين منا هي النموذج الأوحد لتحقيق التنمية، وأن الوصول إلى المجتمع الصناعي المتقدم تقنيا لا يكون إلا بالقضاء على النسق الاجتماعي المرتبط بالزراعة. وينسى هؤلاء أن النمط الأوروبي يحتاج إلى تراكم رأسمالي، وهو ما تحقق من النهب الاستعماري، ويحتاج أيضا إلى تقدم تقني وهو ما وفرته الثورات العلمية المتعاقبة.[16] وكلا الشرطين لا يتوفران عندنا من الأساس.
ومن المنشأ ينظر الغربيون إلى الاقتصاد بوصفه "مخدوم" وليس "خادما"، بمعنى أن كل شيء يهون ويوظف في سبيل تعظيم الربح وتراكم الوفورات المالية، فهذا هو أهم معيار يقاس به نجاح الشركة أو المؤسسة، إن لم يكن المعيار الوحيد لدى كثيرين. ولا يلتفت هؤلاء إلى "روح الشرق" المستمدة من صحيح الأديان السماوية، والتي تنظر  إلى الاقتصاد بوصفه خادما، لأنها تؤمن بأن الإنسان له وظيفة في الحياة الدنيا أكبر بكثير من مجرد أن يأكل ويشرب ويتكاثر ويترفه، وتؤمن كذلك بالبعد الاجتماعي للمال، ففي الإسلام مثلا يقوم الاقتصاد على أصل ثابت مفاده أن "المال مال الله ونحن وكلائه"، ومن ثم شرعت الزكاة والصدقة، ورأى بعض الفقهاء أن الدولة يمكنها أن تقدم على التأميم إن اختلت الأمور، فامتلكت القلة الضئيلة كل شيء وحرمت الأغلبية العريضة من حيازة أدنى شيء.
 والنظريات الاقتصادية الغربية تصلح في بلدان حققت حدا معقولا من الكفاية لمواطنيها، أو تنفع بلادا تريد أن تمد أياديها الاقتصادية إلى خارج الحدود، باحثة عن أسواق رائجة وأماكن طيعة  للاستثمار. أما في بلد مثل مصر، فإن الأولوية يجب أن تعطى إلى توفير حد الكفاية للناس، من غذاء وكساء وإيواء ودواء وترفيه مناسب، وخلق طبقة وسطى تحافظ على القيم وتحفظ التماسك الاجتماعي، وإيجاد رأسمالية وطنية، تنخرط في "تعميق التصنيع" وتحرص على منافسة المنتج الأجنبي في بلادنا فتهزمه، ثم تسعى للمنافسة في الأسواق الخارجية، خاصة في العالم العربي وأفريقيا جنوب الصحراء.
 لكن الحاصل هو عملية ولادة قيصرية لطبقة مصطنعة من رجال الأعمال الذين يشيدون مشروعات وهمية على أكتاف وأجساد عشرات الملايين من الفقراء والمساكين، ويسعون إلى حيازة احتكارات واسعة بطرق غير مشروعة، ويلهثون وراء مصانع السلع الخفيفة من قبيل المسليات والحلوى والمرطبات، لأنها تدر عوائد سريعة. فإن وجد هؤلاء أن الاستيراد أجدى في تحصيل مال بلا تعب، فسيغلقون المصانع، ويتحولون إلى تجار، وفي أفضل الظروف إلى وكلاء في بلادنا للشركات الأجنبية الكبرى.
رابعا: تعديل أم تغيير: تصور مبدئي لطريقة تفكير ملائمة
تحكم السمات العامة للتفكير العلمي أي عملية ذهنية وتجريبية سليمة، تسير في خط مستقيم، هادفة إلى إيجاد حلول للمشكلات والمعضلات التي تواجهنا. وتلك السمات تحتل من التفكير ما تحتله مواد البناء من البناية، فعليها تنتصب الأعمدة وتقوم الجدران والأسقف والأرضيات، لكننا نمتلك الحرية كاملة في الشكل الذي تتخذه البناية، من حيث المنظر الخارجي وعدد الطوابق، ومساحة الشقق السكنية، والهيئة الداخلية التي ستكون عليها، والتي يمكن أن تكون فاخرة لأصحاب الدخول المرتفعة، وبسيطة لأصحاب الدخول المنخفضة.
والمثل السابق يعني أننا نكون مخيرين بعد امتلاك مواد البناء  بين طريقين، الأول هو أن نبدع الشكل المعماري الملائم لبيئتنا وظروفنا المادية والمعنوية، والثاني هو أن نقوم بإدخال تعديلات على رسوم هندسية معمارية متواجدة ومجربة في أماكن أخرى من العالم، حتى تتحقق هذه الملاءمة.
وبذلت جهود ملموسة من أجل تحقيق الخيار الثاني، إذ قام بعض علمائنا بإدخال تعديلات وإضافات إلى مناهج غربية لتلائم واقعنا، مثل ما قام به إسماعيل القباني من تعديل في مقياس الذكاء ( بالارد ) ليلائم البيئة المصرية، وما قام به الدكتور عبد الوهاب المسيري من حل مشكلتنا المعقدة مع العلمانية والدين مفرقا بين "العلمانية الجزئية" التي تقوم على فصل الدين عن السلطة و"العلمانية الكلية" التي تقوم على فصل الدين عن الحياة، محبذا الأولى، ورافضا الثانية بشكل قاطع، وكذلك ما أبدعه المسيري بالتعاون مع فريق من الباحثين المتميزين في "إشكالية التحيز"، وما حاوله حسن حنفي في "علم الاستغراب" وأنور عبد الملك في "ريح الشرق"، وجمال البنا في حديثه عن "النقابية الإسلامية"، وما أبدعه المهندس حسن فتحي في "عمارة الفقراء" التي تعتمد إلى إمكانيات البيئة التي تحيط بنا ونعايش ملامحها وأشكالها وتفاصيلها.
لكن هذه الجهود لا تزال ضئيلة ومتفرقة، وتحتاج إلى تكثيف بالغ، وإصرار على الاستمرار والترقي في الفهم والبناء والتراكم، حتى يمكن أن نحصل على طرق للتفكير تلائم واقعنا، وتجلي عقولنا فترى ما يجري حولها في بلادنا بتبصر وإنصاف، وهي بداية لمعالجة مشكلاتنا الحياتية في ضوء مناهج العلم، وليس تحت وطأة الدجل والخرافات أو الاستلاب للغير.
وفي ظني فإن البداية تكون بإبداع تصور نظري لمسار تفكيرنا، بما لا يقفز على الواقع ولا يستسلم لشروطه في آن، بمعنى أن يرمي التمعن في الواقع إلى فهمه وتطويره، لا تبريره والارتكان إليه.
وهناك تصوران معلنان لطريقة التفكير، الأول هو التفكير في خط مستقيم. ويوجد من يرى  أن مثل هذا اللون من التفكير يخص الغرب، ويصبغ مسيرته نحو التحديث والحداثة، وأن هناك لونا آخر يخص المجتمعات الشرقية وهو "التفكير الدائري". وهنا ينسب ريتشارد إي. نيسبت المتخصص في علم نفس المعرفة إلى تلميذ له من الصين قوله: "الفارق بيني وبينك أنني أرى العالم دائرة، وأنت تراه خطا مستقيما... يؤمن الصينيون بالتغير المطرد أبدا، لكن مع إيمان بأن الأشياء دائما وأبدا تتحرك مرتدة إلى حالة ما كانت في البدء. إنهم يولون اهتمامهم لنطاق واسع من الأحداث، يبحثون عن العلاقات بين الأشياء، ويظنون أن لا سبيل أمامهم إلى فهم الجزء من دون فهم الكل. هذا بينما يعيش الغربيون في عالم أبسط حالا وأقل خضوعا للحتمية. إنهم يركزون انتباههم على موضوعات أو أناس لهم وجودهم الفردي البارز دون الصورة الأكبر، ويظنون أن في وسعهم التحكم في الأحداث، لأنهم يعرفون القواعد والقوانين الحاكمة لسلوك الأشياء"[17].
وهناك من يقترح أن يأخذ تفكيرنا وسيرنا نحو التحديث والحداثة المتوائمة مع ظروفنا طريق الثعبان في السير، حيث يتلوى بجسده يسارا ويمينا، لكنه في كل الأحوال يندفع إلى الأمام.[18] وهناك تصور يبدو أكثر واقعية وملائمة لأوضاعنا، وهو في نظري يشبه الشكل الحلزوني المشدود، الذي تتابع حلقاته، تتقدم الحلقة منها ثم تعود إلى الوراء، لكنها تتسع وتكبر كلما اتجهنا إلى أعلى. هذه العودة تشكل الجذور الراسخة من الجوانب الإيجابية في قديمنا، الذي لا يمكن أن يموت كله، وعليها نؤسس طريقة عصرية في التفكير، تستفيد من عطاء الآخرين أو حكمتهم الأثيرة.













هـــوامش



·  مدير مركز أبحاث ودراسات الشرق الأوسط.


[1] محمود أمين العالم، "الثقافة والثورة: مقالات في النقد"، (بيروت: دار الآداب) الطبعة الأولى، 1970، ص: 77 ـ 85.   
[2]  د. جلال أمين، "تنمية أم تبعية اقتصادية وثقافية: خرافات شائعة عن التخلف والتنمية وعن الرخاء والرفاهية"، (القاهرة: مطبوعات القاهرة) الطبعة الأولى، 1983، ص: 91 ـ 92.
[3]  د. فؤاد زكريا، "التفكير العلمي"، (الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب)، سلسلة عالم المعرفة رقم (3) الطبعة الثالثة، 1988، ص: 17 ـ 55.
[4]  أنظر: افتتاحية مجلة "منبر الحوار" بعنوان "حول خطاب العلوم الاجتماعية وحقلها العربي الإسلامي"، العددان (32 ـ 33) ربيع وصيف 1994، ص: 5.
[5]  هشام جعفر، "فقه التحيز: دراسة في أسس التحيز في العلم الغربي"، مجلة "منبر الحوار"، السنة التاسعة، العددان (23 ـ 33) ربيع وصيف 1994، ص: 146.
[6][6]  جمال البنا، "أصول الشريعة"، (القاهرة: دار الفكر الإسلامي) الطبعة الأولى، ص: 109 ـ 116.
[7]  هشام جعفر، مرجع سابق، ص: 146 ـ 147.
[8]  لمزيد من التفاصيل حول هذه المسألة أنظر:
ـ د. عبد الوهاب المسيري (محرر)، "إشكالية التحيز: رؤية معرفية ودعوة إلى الاجتهاد/ المقدمة .. فقه التحيز" و "إشكالية التحيز: رؤية معرفية ودعوة للاجتهاد/ محور العلوم الاجتماعية". المعهد العالمي للفكر الإسلامي، الطبعة الثالثة، 1998.
[9] ديفيد ب. رزنيك، "أخلاقيات العلم: مدخل" ، 0الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب)، سلسلة "عالم المعرفة"، العدد (316) يونيو 2005، ص: 127 ـ 129.
[10]  توماس جولدشتاين، "المقدمات التاريخية للعلم الحديث: من الإغريق القدماء إلى عصر النهضة"، (الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب)، سلسلة عالم المعرفة، العدد رقم (296)، سبتمبر 2003، ص: 247 ـ 257.
[11]  ألبرت أينشتين وليوبولد إنفلد، "تطور علم الطبيعة"، ترجمة: محمد النادي وعطية عاشور، (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب) مكتبة الأسرة "سلسلة العلوم والتكنولوجيا، 2006، ص: 15 ـ 16.
[12]  د. عزمي إسلام، "في فلسفة العلوم الإنسانية"، مجلة "عالم الفكر"  المجلد الخامس عشر، العدد الثالث، أكتوبر ـ نوفمبر ـ ديسمبر 1983، ص: 257.
[13]  روبرت م. أغروس وجورج ن. ستانسيو، "العلم في منظوره الجديد"، ( الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب)، سلسلة عالم المعرفة، العدد رقم (134)، فبراير 1989، ص: 15.
[14] كارل ر. بوبر، "أسطورة الإطار: في دفاع عن العلم والعقلانية"، تحرير: مارك أ. نوترنو، ترجمة: د. يمنى طريف الخولي، ( الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب)، سلسلة عالم المعرفة، العدد رقم (292)، إبريل 2003، ص: 61.
[15]  د. جلال أمين، مرجع سابق، ص: 93.
[16] د. نصر محمد عارف، "التنمية من منظور متجدد"، (القاهرة: مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام)، الطبعة الأولى، 2002، ص: 50.
[17]  ريتشارد إي. نيسبت، "جغرافية الفكر"، (الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب)، سلسلة "عالم المعرفة"، العدد رقم (312) فبراير 2005، ص: 15.
[18] طرح هذه الفكرة الناقد والكاتب الدكتور جابر عصفور في محاضرة له مؤخرا خلال فعاليات ندوة "الثقافة بين التحديث والحداثة" التي عقدها المجلس الأعلى للثقافة بالتعاون مع الهيئة القبطية الإنجيلية للخدمات الاجتماعية في العين السخنة في الفترة المتراوحة بين 17 و19 يناير 2007.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق