السبت، 26 يناير 2013

الحياة الاجتماعية في الاندلس

الحيـاة الإجتماعية في الأندلس إعداد أ. إنعـام إبراهيم الشريف آدم مقدمة ... رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَسورة النمل: الآيـة 19 تناول هذا الكتاب الحياة الاجتماعية في الأندلس منذ الفتح الإسلامي حتى نهاية القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي. وتعتبر هذه الفترة من أهم فترات التاريخ الأندلسي حيث تشكل فيه المجتمع الأندلسي المسلم، وظهرت ملامحه بصورة جلية واضحة وتميزت فيه الشخصية الأندلسية. و بدأ الكتاب بمدخل عن الفتح الإسلامي للأندلس حتى نهاية القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي. تناولت الالكاتبة العناصر السكانية المكونة للمجتمع من مسلمين ومسيحيين ويهود وصقالبة وقد عاشت هذه العناصر جميعا جنباً إلى جنب وتصاهرت وتزاوجت وتداخلت فيما بينها. وفي ذلك دلالة على مدى التسامح الذي ساد هذا المجتمع وأنه كان متقبلاً للآخر. وقد أقبل الأندلسيون على الحياة ببهجة وسعادة يشاركون بعضهم البعض احتفالاتهم الدينية وأعيادهم وأفراحهم ومناسباتهم المختلفة، وتميزوا بحبهم للنظافة والتأنق في المظهر واهتموا اهتماماً بالغاً بأزيائهم وملابسهم. واشتهرت عدة مدن أندلسية بصناعة النسيج لتوفر مقومات الصناعة، وكان لكل فصل من فصول السنة زيّه الخاص به مما يدل على الرقي الحضاري الذي وصلت إليه الأندلس. كما أن الموسيقي والغناء قد مثّلا عنصراً مهماً في الحياة الاجتماعية الأندلسية على الرغم من تشدد فقهائهم في منع آلات اللهو والطرب والموسيقي باعتبارها أموراً منكرة في الدين. وكان الأندلسيون يجدون متعة كبيرة في الاستمتاع بجمال طبيعة بلادهم وسحرها فكانوا يخرجون إلى المتنزهات والحدائق العامة المنتشرة في كل مدنهم طلباً للراحة والاستجمام، ويمارسون هوايات عديدة كالصيد ولعب الشطرنج وغيرها من وسائل اللهو والتسلية. ولعل من أبرز مميزات هذا المجتمع أن المرأة تمتعت فيه بحرية كبيرة واستقلالية وجرأة. وكانت لها مساهماتها المقدرة في الآداب والفنون والعلوم والاقتصاد. كما تميز هذا المجتمع أيضاً بإنشاء مؤسسات رقابية مهمة مثل مؤسسة الحسبة ومؤسسة الشرطة وذلك لضمان سلام المجتمع وبسط الأمن والطمأنينة فيه. بعد أن أكمل المسلمون فتح بلاد المغرب وترسَّخت أقدامهم فيها ودخل الناس في دين الله أفواجاً، اتجهت أنظارهم بعد ذلك لفتح بلاد الأندلس لنشر رسالة الإسلام، وتبليغ الدعوة الإسلامية بين أهلها، ولتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا هي السفلى. هذا من جانب، ومن جانب آخر، لتأمين حدودهم في بلاد المغرب من هجمات الصليبيين في أسبانيا. تأكد المسلمون من قدرتهم على فتح بلاد الأندلس بعد إرسالهم لبعض الحملات الاستكشافية التي جاءت مشجعة لهم على المضي قدماً في الفتح، ومن ثمّ خرجت طلائع الجيوش الإسلامية الفاتحة من بلاد المغرب في عدد قليل من المراكب، واجتازت البحر المتوسط ونزلوا بالبر الأندلسي ليخوضوا معارك ضارية وشرسة مع الأسبان. واستشهد عدد كبير منهم في الأرض الأندلسية التي رووها بدمائهم الغالية الزكية إلى أن تمكنوا من فتح بلاد الأندلس بصورة نهائية في عام 94هـ وصارت هذه الرقعة من أوربا جزءاً من أملاك الدولة الإسلامية. وقد أبدى المسلمون تسامحاً كبيراً في تعاملهم مع أهلها، ولم يكرهوا أحداً منهم على الدخول في الإسلام. وبفضل هذه السماحة التي وجدها أهل البلاد المفتوحة من قِبلِ المسلمين دخل عدد كبير منهم في دين الله عن رضا واقتناع. وتزاوجوا وانصهروا مع الفاتحين المسلمين، وشكَّلوا جميعاً المجتمع الأندلسي الذي يضم بين جنباته المسلمين، والنصارى، واليهود. واستمر عطاء المسلمين في الأندلس ثمانية قرون تقلبت فيها الدولة الإسلامية الأندلسية بين الضعف والقوة، والأخذ والعطاء. تتجاذبهم الفتن والأهواء والمؤامرات. ولكن ذلك لم يمنعهم من الإسهام بتقديم قدر حضاري إسلامي وافر في كافة مجالات الحياة، في العلوم والآداب والفنون والهندسة والعمران ونظم الحكم، وفي الحياة الاجتماعية والفكرية والاقتصادية. تكمن أهمية هذا الكتاب في أنه يتناول التاريخ الاجتماعي للأندلس منذ استقرار المسلمين فيها حتى نهاية القرن الخامس الهجري. وتشتمل هذه الفترة على عصر الولاة، وعصر الأمارة والخلافة الأموية، ودول ملوك الطوائف. وقد برزت ملامح المجتمع الإسلامي في عصر الولاة ثم تطورت وتبلورت بشكل واضح في العصور اللاحقة. و كذلك يسلط هذا الكتاب الأضواء على جوانب مشرقة للمجتمع الأندلسي المسلم كما يشير كذلك إلى بعض الجوانب السالبة التي أسهمت في إنهاء الوجود الإسلامي في شبه الجزيرة الأسبانية. والتاريخ الأندلسي كما هو معلوم مليء بالدروس والعظات والعبر. وقد فرَّط المسلمون في الأندلس نتيجة لتهاونهم وتقاعسهم وانشغالهم بأنفسهم والعدو يتربص بهم، ويحيط بهم من كل جانب، كما فرَّطوا في كثير من بقاع الأرض الإسلامية اليوم، فضاعت منهم. وقد بكوها من قبل دماً ودمعاً. بكاها الشعراء والأدباء والكتاب قديماً وحديثاً، بكاها أمير الشعراء أحمد شوقي، وبكاها الشاعر السوداني المرحوم محمد أحمد المحجوب الذي نزل عند شطها ولهاناً بعد ما لقي فيها من التبريح ألواناً. ولا يزال اسم الأندلس يجرى على كل لسان فهناك شيء ما في وجدان المسلمين يشدهم إليها. ولذلك وقع اختيار الكاتبة على هذا الموضوع، وكان هذا الاختيار نابعاً من ذلك الوجدان والحزن والأسى على الفردوس المفقود، ولعلها تكون مساهمة متواضعة لإثراء المكتبة السودانية بهذا النوع من الدراسات، ولعلها تضيف شيئاً إلى جهود الباحثين في هذا المجال. تمهيـد الفتح الإسلامي للأندلس كانت الأندلس التي تشمل شبه الجزيرة الأيبيرية (أسبانيا والبرتغال) تابعة لروما، إلى أن تمكن القوط* الذين أتوا إليها في هجرات متتالية من الاستيلاء عليها. ومصطلح الأندلس مأخوذ من قبائل الوندال (Vandals) التي تعود إلى أصل جرماني وكانت قد احتلت شبه الجزيرة الأيبيرية منذ القرن الثالث حتى القرن الخامس الميلادي، وسميت باسمها: فاندلسيا، أي بلاد الوندال ثم سماها العرب بلاد الأندلس(1). ظل الوندال يحكمون الأندلس، إلى أن هاجمهم القوط الغربيون وتمكنوا من طردهم إلى الشمال الأفريقي سنة 456م، واستطاعوا بسط سلطانهم على الأندلس كلها في نهاية القرن الخامس الميلادي. وقد اتخذ القوط طليطلة عاصمة لملكهم. وتأثروا بالحضارة والأنظمة الرومانية، في قوانينهم ونظمهم. واعتنقوا المسيحية وظلوا يحكمون الأندلس إلى أن قدم المسلمون إلى الأندلس وتغلبوا عليهم سنة 92هـ - 711م(2). استبد القوط بالحكم في أسبانيا قبيل الفتح الإسلامي. وبسوء سياستهم ساءت حالة أسبانيا واضطربت حياة سكانها. فانتشرت الفوضى، وعاش كثير من الناس في شقاء لسوء الأحوال المعاشية ولسياسة الاستغلال. فكان الشعب يستغل لحساب الطبقة الحاكمة والمترفة وأصحاب المصالح، يضاف إلى ذلك الصراع الذي وجد بين الطبقات والحاكمين، وفيما بين الحاكمين أنفسهم(3). وكان الشعب مقسم إلى طبقات عديدة هضمت حقوقها، مع وجود الفوارق الطبقية. فلا يحظى بالعيش الهنيء إلا طبقة معينة حصلت على امتيازات. والأسرة المالكة بيدها كل شيء دون سواد الشعب الذي يلاقى الإهمال والظلم فتفرض عليه الضرائب والتكاليف. وقد انقسم المجتمع إلى عدة طبقات أولها طبقة النبلاء، ومنها الطبقة الحاكمة. ثم طبقة رجال الكنيسة، التي تشارك النبلاء في حكم البلاد والاستمتاع بخيراتها، ثم طبقة التجار والزراع والملاك الصغار، الذين يتحملون الضرائب المختلفة، وطبقة عبيد الأرض الذين يتبعون مالكها وينتقلون مع ملكيتها من سيد إلى آخر. وطبقة العبيد التي تكونت من أسرى الحرب، ويتصرف فيهم بيعاً وشراءً، ولم تعط لهم ولا لسابقيهم الحقوق التي يستحقون، فلم ينالوا تكريماً(4). وإلى جانب الطبقات السابقة كانت توجد طبقة اليهود الذين تواجدوا بأعداد كبيرة في المجتمع الأسباني يعملون في المجال الاقتصادي، ولكنهم كانوا موضع البغض والتعصب والتحامل، يعانون أشد ألوان الجور والاضطهاد. وكانت الكنيسة منذ أن اشتد ساعدها ونفوذها تحاول تنصير اليهود، وتتوسل إلى تحقيق غايتها بالعنف والمطاردة فأجبروا على اعتناق النصرانية، أو النفي من البلاد أو المصادرة، فاعتنق النصرانية عدد منهم كرهاً ورياءً. ولما اشتدت الضغوط على اليهود حاولوا أن يدبروا مؤامرة للقضاء على الحكم القائم إلا أن المؤامرة اكتشفت فزاد الضغط على اليهود، وانتزعت أملاكهم في سائر الولايات الأسبانية، وشردوا وقضى عليهم بالرق الأبدي للنصارى، وأن ينزع أبناؤهم منذ السابعة ويربون على النصرانية(5). إنَّ وضعاً كهذا لا يوفر دون شك استقراراً ولا عدالة اجتماعية ومن هنا كانت الطبقات المنتجة في المجتمع محرومة من كثير من حقوقها، في حين أنها تؤدى المسؤوليات والتكاليف. ولا ينتظر من مثل هذه الطبقات أن تقدم إخلاصها وافياً، وتدافع بحرارة عن ذلك النظام الذي حرمها الحقوق، ولو أن ذلك لا يمنع من دفاعها عن بلدها(6). وبينما كانت الأندلس تعيش في هذا الوضع المضطرب، سياسياً واجتماعياً واقتصادياً، ويضيق معظم سكانها من الذل والهوان، الذي يلقونه من حكامهم، فهم يعملون، ولكن لا ينالون من نتيجة عملهم شيئاً، ولا يعرفون للحرية طعماً، ولا للكرامة الإنسانية مذاقاً، نجد السكان على الشاطئ المقابل لهم في بلاد المغرب يعيشون في حرية وعزة وكرامة في ظل الهداية الإسلامية، التي ارتفعت راياتها على أرضهم، يسودهم الإخاء والمحبة والعدل الاجتماعي، الذي سوى بين البربري والعربي، ويرنون بأبصارهم إلى الأندلس، هادفين إلى غرس بذور الهداية وإقامة مشاعلها، التي ستنقذها مما تردت فيه، وتجعلها المنبع لبعث الحضارة الأوربية الحديثة(7). مقدمات الفتح كان الفتح الإسلامي لشبه الجزيرة الأيبيرية (أسبانيا والبرتغال) أمراً طبيعياً حسب الخطة التي اتبعها المسلمون أثناء فتوحاتهم، وهي تأمين حدودهم ونشر دعوتهم. وذلك بالمضي في جهادهم إلى ما وراء تلك الحدود، لنشر العقيدة الإسلامية التي تقتضى أن يستمر المد الإسلامي ما دامت فيه القوة على الإستمرار. ولما وصل تيار الفتح الإسلامي إلى شمال أفريقية، كان طبيعياً أن تتجه أنظار المسلمين إلى فتح بلاد الأندلس(8). وقد تضافرت عوامل عديدة مهدت وساعدت المسلمين على فتح الأندلس منها(9): - ثبات قدم المسلمين في أفريقيا، واعتناق البربر للإسلام، وحماستهم لحمل الدعوة، وبذلهم أرواحهم بسخاء في سبيل ذلك، ورغبتهم في أن يكون لهم من الجهود في سبيل دعوة الإسلام مثل ما للعرب المسلمين. - اليقظة والحذر، الذي اتصف به المسلمون، بمحاولة التعرف على حال البلاد، عملياً بتوجيه بعض الحملات الخفيفة السريعة، التي تعرف بها طبيعة البلاد، وحالة أهلها وتعجم عودهم، وتعطى للمسلمين جسارة على مواجهة عدوهم. - تعريف مقر الخلافة بخطة الفتح، وإحاطتها بمجريات الأمور، لتكون على أهبة الاستعداد على تقديم العون، وإرسال المدد إذا لم تنجح خطة الفتح، وذلك يعطى للحملة صفة الشرعية المستمدة من مقر الخلافة، الساهرة على الإسلام، وتعاليمه، وتبليغها للعالمين. - بذل المسلمين كل جهودهم الممكنة لتكوين ترسانة بحرية وأسطول بحري في الشمال الأفريقي. ابتدأه حسان بن النعمان، وواصل موسى بن نصير(10) في تكوين الأسطول فقد أخذ في عمل السفن حتى صار عنده منها عدة كثيرة(11). كل ذلك وغيره من الأمور ساعد المسلمين على فتح بلاد الأندلس. بعد أن أتم موسى بن نصير فتح بلاد المغرب وثبت أقدام المسلمين فيها، كتب إلى أمير المؤمنين الوليد بن عبد الملك يستأذنه في فتحها، فأشار عليه الوليد بأن يختبرها بالسرايا ولا يغرر بالمسلمين في بحر شديد الأهوال. فراجعه موسى وقال له: "إنه ليس ببحر، وإنما هو خليج يتبين للناظر، وراءه، فكتب إليه الوليد: وإن كان فلا بد من اختباره بالسرايا(12). وتنفيذاً لتوجيهات الخليفة الوليد الذي كان لا يريد أن يرمى بالمسلمين في مغامرة غير مأمونة العواقب، قام موسى، باستدعاء أحد رجاله ويسمي طريف، ويكنى بأبي زُرْعة وأمره بالعبور إلى الأندلس ومعه مائة فارس، وأربعمائة راجل، فعبر طريف ورجاله البحر في أربعة مراكب، ونزلوا الساحل الأندلسي فيما يحاذي طنجة في المكان الذي عرف بجزيرة طريف فيما بعد، وأغار منها إلى ما يليها إلى جهة الجزيرة الخضراء، وأصاب سبياً ومالاً كثيراً، ورجع سالماً، وكان ذلك في رمضان سنة 91هـ/ 709م(13). بعد أن تأكد لموسى بن نصير قدرة المسلمين على فتح بلاد الأندلس بعد اختبارها بسرية طريف، استدعي مولاه طارق بن زياد، وعقد له على رأس جيشٍ قوامه اثني عشر ألفاً من العرب والبربر وأمرهم بالعبور إلى بلاد الأندلس، يعاونهم يليان الوالي النصراني على سبته الذي لم يكن على وفاق مع لذريق صاحب الأندلس، وكان حاقداً عليه، وانضم إليه كذلك خلق كثير من المتطوعين، ومضى طارق إلى سبته، وعبر البحر في مراكبه إلى أن وصل إلى جبل بالساحل الأندلسي، فأرسى فيه في سنة 92هـ/ 710م وأطلق عليه اسمه "جبل طارق"(14). وجد طارق مقاومة من قبل القوط الذين تجمعوا في الموضع الذي أراد النزول فيه، فمنعوه من النزول، مما اضطره إلى الذهاب إلى موضع آخر نزله ليلاً، ومن ثم استطاع أن يقضى على فلول القوط الذين تجمعوا لقتاله وصده عن النزول. وكان ملك الأندلس عند نزول طارق ببلده يغزو عدواً له وقد استخلف أحد رجاله ويدعي "تُدْمير" الذي كتب إليه قائلاً إنه نزل بأرضنا قوم لا ندرى أمن السماء نزلوا أم من الأرض خرجوا(15). فلما وصل الخبر إلى لذريق وعلم أن المسلمين قد اقتحموا ساحل الأندلس عظم عليه الأمر، وأقبل مسرعاً لتنظيم صفوفه، ومواجهة جيوش المسلمين، فأعد جيشاً قوامه مائة ألف مقاتل ذوى عدد وعُدة، فكتب طارق إلى موسى يستمده ويُعرِّفه أنه فتح الجزيرة الخضراء، وملك المجاز إليها، واستولي على أعمالها، وأن لذريق زحف إليه بما لا قبل له به، إلا أن يشاء الله، ويطلب منه المدد. وكان موسى منذ أن وجه طارق إلى بلاد الأندلس قد جدّ في عمل السفن وحمل إلى طارق فيها خمسة آلاف من المسلمين مدداً له(16). أقبل لذريق ملك الأندلس في عدته وعتاده على طارق. ولم يكن لذريق من بيت الملك ولا بصحيح النسب في القوط – كما ذكرت المصادر – وإنما كان أحد عمال الملك غيطشة آخر ملوك القوط بالأندلس. وكان قد تآمر عليه وقتله وانتزع منه الملك، مما جعل أبناء الملك القتيل غيطشة يحقدون عليه ويتحينون فرصة للقضاء عليه. وقد حانت لهم الفرصة حيث دعاهم لذريق للقتال معه، وليكونوا يداً واحدة ضد المسلمين. فأرسل أبناء غيطشة إلى طارق يسألونه الأمان، وأنهم سيخرجون إليه في الصباح على أن يمضى لهم ضياع أبيهم التي اغتصبها لذريق فاتفق معهم طارق على هذا الأمر(17). التقي جيش لذريق مع جيش طارق في معركة وادي لكه من شذونه. وكان مع لذريق خيار أعاجم الأندلس وأبناء ملوكهم الذين أجمعوا على الغدر به والتخلص منه إذ لم يكن محبوباً لديهم. وكان لذريق في ميدان المعركة على سرير ملكه محمولاً على بغلين وعليه تاجه وجميع الحلية التي كانت تلبسها الملوك فلما وصل إلى الجبل الذي يكمن فيه جيش المسلمين، خرج إليهم طارق مع أصحابه رجَّالة ليس فيهم راكب إلا القليل. ودارت رحى معركة شديدة البأس استبسل فيها المسلمون استبسالاً عظيماً، وثبتوا في أرض المعركة. واستمر القتال منذ بزوغ الشمس حتى مغربها وانهزم لذريق ورجاله هزيمة شنيعة فر على إثرها لذريق من أرض المعركة ولم يعرف أين موقعه. وكانت بداية المعركة في الثامن والعشرين من رمضان سنة 92هـ/ 710م واستمرت حتى الخامس من شوال. وكانت هزيمة شنيعة للقوط وغنم المسلمون فيها غنائم عظيمة(18). ومضى طارق بعد ذلك مفتتحاً لكثير من مدن الأندلس الكبرى كما أرسل جزءاً من جيوشه إلى أنحاء متفرقة من الأندلس، وتمكنت هذه الجيوش من فتح المناطق التي أرسلوا إليها(19). ولما سمع أهل المغرب بفتوحات طارق لبلاد الأندلس، والغنائم التي تحصل عليها أقبلوا إليه من كل جهة وركبوا البحر ولحقوا بطارق، وارتفع أهل الأندلس عند ذلك إلى الحصون والقلاع(20). وكان طارق قد كتب إلى موسى بن نصير يعلمه بخبر فتح الأندلس، وكتب موسى بدوره إلى الخليفة الوليد بن عبد الملك يخبره بأمر الفتح وكتب إلى طارق يأمره أن لا يتجاوز قرطبة(21). ثم لحق موسى بن نصير بعد ذلك بطارق وخرج في رجب سنة 93هـ/ 711م، ومعه أعيان العرب والموالى وعرفاء البربر، واستخلف على القيروان ابنه عبد الله بن موسى، ثم مضى إلى قرطبة وكان قد عبر عن طريق الجزيرة الخضراء، وكان غاضباً على طارق لأنه أمره بأن لا يتجاوز قرطبة ولكن طارق كان متحمساً للفتح فتخطاه، فلقيه طارق وقدم اعتذاره وقال له: "إنما أنا مولاك وهذا الفتح لك" وجمع موسى من الأموال ما لا يقدر على صفته. ودفع إليه طارق كل ما غنمه. ولم تنهزم راية لموسى بن نصير منذ دخوله أرض الأندلس واستكمل مع طارق فتح جميع مدنها وحصونها وكان ذلك في سنة 94هـ. وكتب موسى إلى الوليد ابن عبد الملك بعد إتمامه فتح الأندلس قائلاً: "إنها ليست الفتوح ولكنه الحشر"(22). وبإتمام فتح الأندلس سنة 94هـ صارت ولاية جديدة تتبع للدولة الأموية في المشرق. وبينما كان موسى في قمة انتصاراته جاءه رسول الخليفة الوليد بن عبد الملك يأمره بالخروج عن الأندلس والعودة إلى بلاد المشرق. فخرج موسى عائداً إلى بلاد المشرق واستخلف ابنه عبد العزيز بن موسى على إمارة الأندلس، وجعل حاضرته مدينة أشبيلية. وخرج في ذي الحجة سنة 95هـ محملاً بالغنائم، كما استخلف على أفريقية ابنه عبد الملك بن موسى. وكان في معيته طارق بن زياد. وسار موسى في طريقه حتى وصل الخليفة الوليد في سنة 96هـ. ووجده على فراش المرض. وقد حوسب موسى محاسبة قاسية من قبل الخلافة واتهم بأنه خصص لنفسه أموالاً كثيرةً، وعزل عن جميع أعماله في أفريقية والأندلس. كما عزل ابنه عبد الله عن ولاية أفريقية. أما ابنه عبد العزيز فلم تطل ولايته على الأندلس طويلاً إذ قتله الجند في سنة 97هـ لأشياء أخذت عليه. وكانت وفاة موسى في سنة 97هـ(23). العهود التي مرت بها الأندلس بعد الفتح الإسلامي أولاً – عهد الولاة (95 – 138هـ) (714 – 755م): تعرف الفترة الأولى للحكم الإسلامي في الأندلس بعصر الولاة، وكانت الأندلس في ذلك الوقت أمارة تتبع للخلافة الأموية بدمش ويحكمها والٍ يعرف بالأمير يتبع إلى أمير أفريقية من الناحية الإدارية، بمعنى أن أمير القيروان هو الذي كان يعين ولاة الأندلس في غالب الأحيان. ويعتبر بعض المؤرخين أن فترة الفتح ضمن هذا العهد، الذي ينتهي بمجيء عبد الرحمن الداخل إلى الأندلس سنة 138هـ/ 755م. وقد حكم الأندلس في هذا العهد الذي استمر اثنان وأربعون سنة عشرون والياً تقريباً كانوا يتبعون للخلافة في دمشق مباشرة أو بواسطة ولاية الشمال الأفريقي (إفريقية والمغرب)(24). بعد مقتل عبد العزيز بن موسى بقيت الأندلس نحو ستة أشهر دون أن يرسل بنو أمية والياً إليها. فاجتمع زعماء البربر واختاروا أيوب بن حبيب اللخمي، وهو ابن أخت موسى بن نصير، فحكم في قرطبة مدة قصيرة ثم تعاقب الولاة من بعده على الأندلس(25). لم يكن فتح المسلمين لشبه الجزيرة الأندلسية حدثاً عسكرياً وسياسياً فحسب، بل كان فتحاً إنسانياً لحدث حضاري فريد لأسبانيا وأوربا على السواء. فقد قضى الإسلام في أسبانيا قد قضى على كافة الجوانب السيئة - التي سبق ذكرها قبل الفتح - فلم تعد هنالك طبقة متحكمة متمثلة في الأسرة الحاكمة والنبلاء، وزال سلطان الكنيسة ونفوذ رجالها، وانتهت عبودية الأرض (أو الرقيق) حيث تحرر كل من دخل منهم الإسلام. لقد كان عهد الولاة عهد تأسيس. حقق فيه المسلمون كثيراً من الإنجازات. كانت أيامه أيام غرس لم يحن بعدُ موسم حصاد كبير من إنتاجه الفكري والعمراني، الذي وضعت أسسه وتهيأ مجاله(26). ثانياً – العهد الأموي منذ الأمارة حتى الخلافة بعد انهيار البيت الأموي في المشرق وإعمال العباسيين السيف في رقاب الأمويين، استطاع عبد الرحمن بن معاوية* بن هشام بن مروان، أن ينجو من بطش العباسيين ويفر مستخفياً مع مولاه بدر حتى خلص إلى المغرب. وقد بقى خلال أربع سنوات هائماً على وجهه في شمال أفريقية حتى نزل على أخواله بني نفزة بالقرب من سبته. وكان عبد الرحمن أثناء تجواله يظهر نشاطاً سياسياً. وكان يرنو ببصره نحو الأندلس التي تضم نواة أموية شامية إضافة إلى عوامل أخرى كانت تساعده لتحقيق مأربه كحماية البربر له لأن أمه بربرية(27). استطاع عبد الرحمن الداخل أن يستثمر النزاع القائم في الأندلس بين العرب القيسيين واليمانيين لصالحه، وعندما دخل أرض الأندلس استقبل استقبالاً فاق حد خياله. فانتصر على الصميل بن حاتم ويوسف الفهرى واليىَّ الأندلس، وقضى عليهما، ودانت له الأندلس وأصبح أميرها ولِّقب بالداخل لدخوله إياها ولقبه أبو جعفر المنصور بصقر قريش، وكان دخوله قرطبة، التي جعل فيها سرير ملكه في العاشر من ذي الحجة سنة 138هـ. فقطع الخطبة عن بني العباس ودُعي له على المنابر وبني المسجد الجامع في قرطبة واختط مدينة الرصافة في شمالها على مثال رصافة جدة هشام بالشام. وبدأت منذ ذلك العهد إمارة قرطبة المستقلة، وتأسست الدولة الأموية في الأندلس(28). لم يكن عهد الأمارة الأموية المستقلة في الأندلس في الواقع سوى عهد طويل لتعزيز السلطة الأموية في الغرب الإسلامي. ومنذ أن أصبح عبد الرحمن الداخل أمير الأندلس أخذ في تحقيق برنامجه الذي اشتمل على ثلاثة أمور: أولها: تنظيم الجيش الذي قاد إلى الظفر، وثانيها: فتح أبواب الأندلس أمام الأمويين المضطهدين في الشرق، وثالثها: إيجاد التفاهم بين عناصر العرب ولاسيما القبائل التي يحارب بعضها بعضاً، ودعم السلطة الأموية باللجوء إلى توطيد الأمن في جميع أنحاء البلاد الأندلسية(29). وقد كانت مدة حكم عبد الرحمن الداخل أربعاً وثلاثين سنة (من سنة 138هـ/ 755م إلى 172هـ/ 788م) وعند وفاته كانت الدولة الأموية في الأندلس تتمتع من الناحية السياسية والاجتماعية بجميع صفات الدولة القوية المنظمة. وكانت تمتاز بطابعها الشامي. وتداول الملك بعد عبد الرحمن الداخل أبناؤه وأحفاده من بينهم هشام الأول والحكم الأول وعبد الرحمن الثاني (الأوسط) وعبد الرحمن الثالث (الناصر) وغيرهم. وقد استمر عهد الأمارة حتى سنة 316هـ/ 929م(30). انتقال الأندلس من عصر الأمارة إلى عصر الخلافة خلف الأمير عبد الرحمن بن محمد جده الأمير عبد الله في الحكم. وكانت الأندلس يومها في درجة من الفوضى والتفكك، حيث كثر الخارجون على الدولة في كل مكان، وكانت الأندلس في حاجة إلى أمير قوى يعيد لها هيبتها ونفوذها على أقاليمها المختلفة. فكان أن هيأ الله لأهل الأندلس الأمير عبد الرحمن بن محمد. كانت مهمة الأمير عبد الرحمن بن محمد خطيرة وصعبة. وكان سَّنه يوم تولى الحكم ثلاثاً وعشرين سنة، لذلك بايعه كل أصحاب المكانة ولم ينافسه أحد لخطورة المهمة التي كانت ستواجه من يتولى الحكم في الأندلس في ذلك الحين(31). كان الناصر أميراً حازماً، وذكياً عادلاً، وعاقلاً شجاعاً، محباً للإصلاح وحريصاً عليه. قاد الجيوش بنفسه، فأنزل العصاة من حصونهم لشجاعته وسياسته الحكيمة، بالسيف أو بالسياسة الرشيدة التي اتبعها. عفا عمن طلب الأمان وعاد إلى الطاعة. حتى إنه عين بعض المخالفين – بعد عودتهم إلى الطاعة – في مناصب مهمة، إذ كانوا من أصحاب الكفاءات. أحبه الشعب وأخلص له، وكان هو قدوة له. لذلك استطاع أن يقضى على العصاة ويعيد للأندلس وحدتها وقوتها ومكانتها(32). تمكن الناصر من تأديب المتمردين من حكام الشمال الأسباني وجعلهم يدركون قوة الأندلس، حتى انقلب تحرشهم إلى خضوع تام لرغباته. رضخوا للشروط التي يضعها لهم ويمليها عليهم. وتأكيداً لقوة الأندلس أعلن عبد الرحمن الثالث الخلافة الأندلسية، فأنهى بذلك عهد الأمارة سنة 316هـ/ 929م واستمر حكمه نصف قرن من الزمان (300 – 350هـ/ 912 – 961م) وحين توفى الناصر تولى الخلافة ابنه الحكم المستنصر (350 – 366هـ/ 961 – 976م). ووجد الحكم دولة مستقرة على أسس ثابتة وموحدة، حدودها آمنة ومتمتعة بالتقدم والعمران الباهر، أكمل المشاريع التي بدأت قبله وأضاف إليها أخرى غيرها. اشتهر بصفات كثيرة، أبرزها حبه للعلم وأدى ذلك إلى رقى الأندلس في عهده بمجالس العلم والجامعات ثم المكتبات(33). توفي الحكم بعد حكم دام ست عشرة سنة، تولى بعده ابنه البالغ من العمر إحدى عشرة سنة، وهو هشام (المؤيد بالله) الحكم. وبموت الحكم تغيرت الأحوال في الأندلس. فلم يكن باستطاعة هشام إدارة أمور البلاد لصغر سنه، فاستغل محمد ابن أبي عامر الذي عرف باسم الحاجب المنصور هذه الظروف فجعل السلطة فعلياً بيده واسمياً باسم هشام(34). وكان الحكم قد عهد، في حياته، أمر الإشراف على ابنه هشام إلى محمد بن أبي عامر، وكان شاباً ذكياً استطاع أن يكسب عطف الملكة صُبح، امرأة الحكم الأسبانية الأصل. واستطاع أيضاً أن يتقلب في مناصب عالية حتى أصبح حاجباً، وبعد موت الحكم استبد بشؤون الدولة مستغلاً حداثة سن هشام، فأخذ يتخلص من منافسيه واحداً تلو الآخر، حتى تنكر في النهاية لصبح نفسها وتسلم زمام الأمور بيده واستبد بالملك وأصبح ملكاً على الأندلس، ودعي له على المنابر، ولم يترك للخليفة غير الدعاء ليلة الجمعة. وبوفاة المنصور سنة 393هـ وموت ابنه المظفر من بعده ينتهي حكم العامريين المستبد وتعود السلطة إلى البيت المرواني(35). وقد كانت الفترة التي تلت موت المنصور فترة مضطربة تعاقب عليها خلفاء ضعاف إلى أن انتهت بخلع هشام الثالث سنة 422هـ/ 1031م، فكان آخر خليفة في قرطبة فانقطعت الخلافة الأموية في الأندلس، واستقل رؤساء الطوائف في الولايات بأمر ولاياتهم ودخلت الأندلس في عصر دول ملوك الطوائف(36). عهد دول ملوك الطوائف: أدى سقوط الدولة الأموية إلى نتائج فورية مباشرة، وهي افتراق كلمة الأندلس وتفرقها شيعاً وأحزاباً ودولاً. واستأثر كل من لمس في نفسه الجرأة والقدرة في أحايين كثيرة، والكفاءة والجدارة في أحيان قليلة، بمنطقة من المناطق التي يعيش فيها أو بالقرب منها. وتكونت من هؤلاء الذين استقلوا بمناطقهم دويلات المدن والتي عرفت بممالك الطوائف والتي بلغ تعدادها بضعاً وعشرين دولة. ودامت مدة حكم هذه الدويلات بضعاً وسبعين عاماً(37). ومن أهم هذه الممالك مملكة أشبيلية التي تكونت في مدينة أشبيلية إحدى الحواضر الأندلسية الكبرى آنذاك. وقد تأسست على يد القاضي محمد بن إسماعيل بن محمد بن عباد أحد أبرز البيوتات الأشبيلية التي تنتسب إلى قبيلة لخم اليمنية. وكان تأسيسها في عام 414هـ/ 1023م. واستمرت حتى عام 484هـ/ 1091م وقد حكمها ثلاثة ملوك من بني عباد أولهم القاضي محمد بن إسماعيل مؤسس الدولة، ثم ابنه المعتضد عباد الذي وسع الدولة، ثم المعتمد بن عباد الذي بلغت الدولة في عهده ذروة قوتها وحضارتها ورقيها إلى أن سقطت على يد المرابطين(38). ومن أهم هذه الممالك كذلك مملكة غرناطة وهي دولة بربرية أسسها بنو زيرى في سنة 403هـ، وظل ملكها إلى سنة 483هـ/ 1090م ودولة بني هود في سرقسطة واستقلت من عام 410هـ واستمرت إلى عام 536هـ/ 1141م، وهي دولة عربية من أشهر ملوكها المقتدر بالله وابنه المؤتمن. والدولة العامرية في بلنسية من 412 – 487هـ/ 1021 – 1085م، وهم من موالي بني عامر. ودولة بني الأفطس في بطليوس من 421 – 487هـ/ 1030 – 1094م، وكانت دولة متحضرة نهضت بالعلوم والفنون. ودولة بني جهور في قرطبة من سنة 422 – 461هـ/ 1030 – 1068م ونشأت بعد سقوط الخلافة الأموية ودولة بني ذى النون في طليطلة من 427 – 487هـ/ 1035 – 1075م وهي دولة بربرية تنتمي إلى قبائل هوارة وغيرها من الدويلات الأخرى(39). كان بين ملوك الطوائف حروب متصلة، وكانت الغلبة للقوى. ولم يتوان بعضهم عن الاستنجاد بملوك الفرنجة والاستعانة بهم على إخوانهم المسلمين. ولم يكن التنافس بين هؤلاء الملوك سياسياً فقط بل تنافسوا في مجال العمران والآداب والفنون. وكان من بينهم من خطب لخلفاء بني أمية وإن زالت خلافتهم ومنهم من خطب لبني العباس على الرغم من بعدهم عنهم. ومنهم من تلقب بنعوت الخلفاء كبني عباد منهم المعتضد والمعتمد مما جعل أحد الشعراء يهجوهم بقوله: مما يُزْهِـدُني في أرضِ أندلسٍ أسمــــاءَ معتضدٍ فِيها ومعتمدِ ألقابُ مملكةٍ في غَيْرِ موضِعها كالهرِ يَحْكِى انتفاخاً صولةِ الأسدِ(40)   الباب الأول: المجموعات السكانية في المجتمع الأندلسي الفصل الأول: المسلمون من العرب والبربر والموالي. الفصل الثاني: المسالمة والمولدون. الفصل الثالث: أهل الذمة (اليهود والنصارى). الفصل الرابع: الصقالبة.   الفصل الأول المسلمون من العرب والبربر والموالي كان المجتمع الأندلسي يتألف من مجموعة من العناصر البشرية التي اختلفت أصولها وعقائدها وثقافاتها، فقد كان فيه أهل البلاد الأصليون، وفيه الوافدون من عرب وبربر وموالي، وفيه المماليك المجلوبون من بلدان عديدة(41). وقد امتزجت هذه العناصر وتفاعلت فيما بينها، لتشكل في نهاية الأمر المجتمع الأندلسي، أو القومية الأندلسية بكل خصائصها ومميزاتها التي عرفت بها خلال الحكم الإسلامي للبلاد. وكان لكل عنصر من العناصر السكانية المكونة للمجتمع الأندلسي أثر كبير في تشكيل الحياة الاجتماعية التي مرت بها الدولة الإسلامية في الأندلس عبر عصورها المختلفة. وكان من أهم هذه العناصر: أولاً – العنصر العربي: شكل العنصر العربي أحد أهم سكان الأندلس، بل هم المسيطرون عليها، كان منهم القُوَّاد والأمراء والخلفاء. وقد شارك العرب في عملية الفتح الإسلامي للأندلس مع طارق بن زياد، وموسى بن نصير. وكان عددهم قليلاً في أول الأمر(42). وكان دخولهم على شكل موجات متصلة حيث سميت موجات دخولهم بالطلائع (جمع طليعة)، وهي الجماعة من العرب الذين دخلوا الأندلس. وأول هذه الطلائع طليعة موسى، وكانت تضم اثني عشر ألفاً من العرب، معظمهم من القيسية واليمنية وموالي بني أمية ومن لحق بهذه الطوائف الثلاث من البربر المنتمين إلى موسى بن نصير(43). وقد استقرت هذه الطوائف في نوحٍ متفرقة من الأندلس على طول الطريق الذي سار فيه موسى، وذلك في نواحي الجزيرة الخضراء وأشبيلية وسرقسطة، وبعض نواحٍ متفرقة في أقصى الشمال والشمال الغربي من شبه الجزيرة الأندلسية(44). وقد تتابعت أفواج العرب القادمين إلى الأندلس برفقة الولاة، فقد قدم الوالي الحر بن عبد الرحمن الثقفي (100 – 103هـ) إلى الأندلس وبصحبته أربعمائة رجل من وجوه أفريقية (تونس الآن) عرفوا بالطالعة الثانية، وكان معظمهم من اليمنيين، وسميت هذه الجموع بالبلديين تمييزاً لهم عن العرب الشاميين الذين دخلوا في الطالعتين الأخيرتين، كانت أولها طالعة بلج بن بشر القشيري 123/ 741م، وبلغ عددها عشرة آلاف، ألفان من الموالي، وثمانية آلاف من العرب(45). يبدو أن البلدين قد كرهوا أن يقبل إليهم مثل هذا العدد الكبير من الشاميين، وأن يقتسموا معهم خيرات البلاد، وأن ينازعوهم السيادة، ومن ثم فقد طلبوا إليهم صراحة أن يخرجوا من بلدهم، بل أجمعوا لمقاتلتهم. ومن هذا التاريخ شب نزاع دائم بين الطرفين(46)، كان له أثره على مسيرة الأحداث السياسية في الأندلس، بل كان عاملاً من العوامل التي أدت إلى سقوط الأندلس في يد النصارى الذين استغلوا عوامل الفرقة والشتات التي سرت بين المسلمين. وكان البلديون يقولون لأهل الشام الوافدين عليهم: "بلدنا يضيق بنا! فاخرجوا عنا"(47). وقد احتدم الصراع في شبه الجزيرة الأندلسية بين العرب البلديين والشاميين، وبلغ هذا الصراع مداه بين هذين الفريقين في شوال سنة 124هـ/ أغسطس 742م حيث التقي رجالهما في موقعة (أقوه برطوره) التي انتصر فيها الشاميون انتصاراً حاسماً وصارت إليهم قيادة الأندلس منذ ذلك الحين إلى قيام الدولة الأموية، ولم يرفع البلديون رأسهم من جديد إلا بفضل عبد الرحمن الداخل وقيام دولته بعد ذلك بأربع عشرة سنة(48). وتعتبر هذه الفترة من أسوأ الفترات التي مرت على بلاد الأندلس لأن الشاميين أوقدوا البلد ناراً ونشروا بين أهلها روحاً من التقلقل والاضطراب ليس هناك دافع لها في الواقع إلا ما جبل عليه هؤلاء الشاميين من القيسية من ميل إلى الفوضى واستهانة بالدماء وإسراف في الخصومة(49). وقد بدأت هذه الفترة المظلمة من تاريخ المسلمين بالأندلس بولاية ثعلبة بن سلامة (124هـ/ 742م)، وكان أهل البلد من العرب والبربر قد نازعوه وقاتلوه فلما تمكن منهم، أوقع بهم قتلاً ذريعاً، ثم سبى ذراريهم الذين بلغوا عشرة آلاف، فَشُق الأمر على أهل الأندلس وبعثوا إلى والي إفريقية. وفداً من صالحي أهل الأندلس، وكتبوا إليه أن أغثنا بوالٍ يجمعنا ونأخذ بيعتنا له ولأمير المؤمنين، وقد أفنانا القتل، وخفنا العدو على ذرارينا(50). ولم ينقذ البلديين إلا قدوم أبي الخطار الحسام بن ضرار الكلبي والياً من قبل حنظلة بن صفوان عامل أفريقية من قبل الخليفة الوليد بن يزيد، وكان رجلاً من خيار أهل الشام، من أهل دمشق فرضي به الشاميون والبلديون فقام بإطلاق الأسرى والسبي، فسمى ذلك العسكر بعسكر العافية، وصارت الكلمة جامعة، فاستقامت حال الناس بالأندلس(51). وقد جاء مع أبي الخطار عدد كبير من الجند الشاميين، وهي الطالعة الثانية من الشاميين. وقد عمل أبو الخطار على توزيع هؤلاء الشاميين في كُوَر الأندلس المختلفة فأنزل أهل دمشق بألبيرة(52) وسماها دمشق، وأهل الأردن برُيَّه(53) وسماها الأردن، وأهل فلسطين بشَذُونَه(54) وسماه فلسطين، وأهل حمص بأشبيلية(55) وسماها حِمص، وأهل قنسرين بجَيَّان(56) وسماها قنسرين، وأهل مصر تُدْمِير(57) وسماها مصر(58). غير أن أبا الخطار لم يلبث أن أظهر في ولايته التحامل على المضربة فتعصبوا عليه، وكان زعيم المضرية الصُمَيْل بن حاتم الكلابي الذي جمع المضرية وخرج بهم لمحاربة الوالي أبي الخطَّار، وقد تمكن الصُمَيْل من إلحاق الهزيمة بجيوش أبي الخطار وقتله، وأجمعوا بعد ذلك على تولية يوسف بن حبيب بن عبد الرحمن بني أبي عبيده بن عقبة بن نافع القهري الذي اتصلت ولايته لعدد من السنين(59)، وكان يحيى بن حريث الجذامي من أهل الأردن منازعاً ليوسف الفهري، فسعي يوسف لإرضائه بتوليته كورة رية التي يسكنها أهل الأردن فرضي يحي بذلك وهدأت الأمور، ولكن يوسف لم يلبث أن غدر بيحي بعد أن استتب له الأمر فعزله عن كورة رية فتجدد النزاع مرة أخرى، وقام يحي داعياً لتولى الأمر(60). ظل الصراع مستمراً بين العرب الشاميين والبلديين خلال هذه الفترة، وقد وقعت أحداث مأسوية محزنة بين الطرفين وظلوا على تلك الحال حتى تمكن عبد الرحمن بن معاوية بن هشام الملقب بالداخل من دخول الأندلس، وإنهاء هذا الصراع بانتصاره على يوسف الفهري آخر الولاة بالأندلس في موقعة المصارة، وانتزاع الأمر وأعلن الأمارة الأموية في الأندلس وذلك في سنة 138هـ(61). وعلى الرغم من قلة العناصر العربية التي دخلت الأندلس كما أشارت الروايات التاريخية، وعلى الرغم من اشتداد حدة الصراع بينهم، إلا أنهم امتزجوا مع العناصر الأخرى بعد الفتح، وكان لاختلاطهم هذا أثر كبير في دخول كثير من الأسبان الإسلام(62) وكان دخولهم على شكل جيوش منظمة إذ لم يصحبو معهم نساءهم فكان من الطبيعي أن يتزوجوا بنساء من أهل البلاد، وأن تصبح المصاهرة بينهم وبين الأسبان أمراً لا بد منه(63). بجانب هذه الجموع من العرب الذين دخلوا الأندلس، فإن الروايات التاريخية تشير إلى دخول عدد مقدر من التابعين إلى بلاد الأندلس، منهم: علي بن رباح اللخمي، وحيوه بن رجاء التميمي، وحنش بن عبد الله الصنعاني، وعبد الله بن يزيد الأنصاري، وموسى بن نصير فاتح الأندلس، وحبان بن أبي جبلة القرشي، وعبد الرحمن بن عبد الله الغافقي، ومحمد بن أوس بن ثابت الأنصاري والمغيرة بن أبي بردة الكناني وغيرهم كثر، إضافة إلى صحابي واحد هو المنذر الأفريقي(64). ولما تولى عبد الرحمن بن معاوية زمام الأمور في الأندلس سنة 138هـ، تدفقت على البلاد موجات كبيرة من الأمويين وأنصارهم – فرادى وجماعات – فارين من اضطهاد العباسيين، ولائذين بالداخل وخلفائه من بعده، وقد كان الداخل عند حسن ظنهم، فرحب بهم وبالغ في إكرامهم، ومما يروى عنه في هذا المقام قوله: "إن من أعظم ما أنعم الله علىّ بعد تمكني من هذا الأمر، القدرة على إيواء من يصل من أقاربي، والتوسع في الإحسان إليهم، وكبرى في أعينهم وأسماعهم ونفوسهم"(65). وقد شهد عصر الأمير عبد الرحمن الداخل إندلاع كثير من الثورات بقيادة بعض الزعامات العربية الطامعة في الحكم كما هو الحال في عصر الولاة. ولا تكاد تخلو أية سنة من ثورة أو خروج على سلطان الأمارة في قرطبة. واستمرت هذه الثورات خلال فترة الأمارة، ولم تخمد نيرانها المستعرة إلا في عصر الخليفة عبد الرحمن الناصر الذي تمكن من القضاء على كافة العصاة والخارجين على سلطان الدولة، وإعلان الخلافة في الأندلس(66). ومن أخطر الثورات التي اندلعت في عصر الأمير عبد الرحمن الداخل، ثورة العلاء بن مغيث الجذامي في منطقة باجة بغرب الأندلس. وكانت ثورته بتحريض من قبل العباسيين في المشرق. فقد أعلن الثورة على الأمويين في الأندلس، وتبعه كثير من الناس حتى أوشكت الأمارة الأموية على الزوال، غير أن الأمير عبد الرحمن الداخل تصدى لهذه الثورة بقوة وحزم، وتمكن من القضاء عليها قبل أن تستفحل كما استطاع أن يقتل قائدها(67). أما القبائل العربية التي استوطنت الأندلس ومنازلها فقد فصلها لنا المقري تفصيلاً دقيقاً بقوله: أما العدنانيون فمنهم خندف ومنهم قريش. وأما بنو هاشم من قريش فمنهم بالأندلس كلهم من ولد إدريس بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، ومن هؤلاء بنو حمود الذي ملكوا الأندلس بعد نهاية حكم بني أمية. أما بنو أمية فمنهم خلفاء الأندلس ويعرفون بالقرشيين، وأما بنو زهرة منهم بأشبيلية أعيان متميزون، وأما المخزوميون فمنهم أبو بكر المخزومي الأعمى الشاعر، ومنهم الوزير الفاضل في النظم والنثر أبو بكر بن زيدون. ووالده أبو الوليد بن زيدون(68). وفي الأندلس من ينسب إلى جُمع وإلى بني عبد الدار، وكثير من قريش المعروفون بالفهريين من بني محارب بن فهر. وأما المنتسبون إلى كنانة فعددهم كثير، وجلهم في طليطلة وأعمالها، ولهم ينسب الوقشيون الكنانيون الفضلاء ومنهم ابن جبير العالم صاحب الرحلة(69). ومن المناطق الأخرى التي استوطنها الكنانيون، منطقة الجزيرة وشذونه. أما في أشبيلية فقد استقر بنو قيس بن عيلان، وبنو عبَّاد والباجي اللخميون، وبنو هوازن بن عكرمة، والبلويون من قضاعة، والحضرميون من حضرموت. وفي أُورْيُولَة(70) استوطن بنو هذيل بن مدركة. وفي بَلَنْسِيَة(71) بنـو بكر هوازن وفي وادي آش(72) بنو أسد بن ربيعة، وبنو عبد السلام من خولان، وبنو أضحى من همدان، وبنو جودى من هوازن، وبنو القليعي من أزد، وبنو الأحمر من سعد بن عبادة. وفي قرطبة بنو حمديس من تغلب، والحضرميون وفي أُوْنُبه وَشْلِطيش(73). وبنو بكر بن وائل، وفي سَرَقُسْطَة(74) بنو عذرة وبنو الخزرج(75). كما استوطن القحطانيون المعروفون باليمانية عدداً من المناطق بالأندلس، وكانت الحروبات تقع كثيراً بينهم وبين المضربة وسائر العدنانية كما كان يقع بالمشرق، غير أن دخول الأمويين إلى بلاد الأندلس وانتزاعهم للملك، جعلهم يتقدمون على سائر القبائل الأخرى(76). أما الأزد فمنهم من ينتسب إلى بني غسان وهم بنو مازن بن الأزد، ومنهم بنو القليعي من أعيان غرناطة وكثير منهم بصالحة قرية على طريق مالقة، ومن الأزد من ينتسب إلى الأنصار على العموم، كما سكن جزء من الأنصار بناحية طليطلة(77). ومن الخزرج بالأندلس أبو بكر عبادة بن عبد الله بن ماء السماء من ولد سعد بن عبادة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو المشهور بالموشحات. وإلى قيس بن سعد بن عبادة ينتسب بنو الأحمر سلاطين غرناطة الذين زال ملك المسلمين عن الأندلس في عهدهم. ومن أهل الأندلس من ينتسب إلى الأوس، ومنهم من ينتسب إلى غافق(78). وقد ظل العرب بالأندلس يحفظون أنسابهم ويفتخرون بها وبالصلة التي تربطهم بالقبائل العربية حتى بعد اختلاطهم بغيرهم من العناصر الأخرى(79). واتخذ العرب الذين استقروا في المناطق الزراعية بعيداً عن المدن حصوناً أو أبراجاً للاحتماء فيها، مثل حصن مراد الواقع بين أشبيلية وقرطبة، وقلعة بني سعيد المعروفة بقلعة يحصب وتقع في إقليم غرناطة، وقلعة خولان الواقعة بين الجزيرة الخضراء وأشبيلية، وقلعة جابر التي تقع شمالي أشبيلية، وقلعة أيوب التي أقامها أيوب بن حبيب اللخمي في الثغر الأعلى، وقلعة رباح الواقعة بين قرطبة وطليلطة، كما أن بعض العرب أقاموا لأنفسهم ضياعاً سميت بأسمائهم، مثل منزل همدان بالقرب من غَرْنَاطة، ومنزل طئ قبلي مُرْسِيَة، ودار بِلَى شمال قرطبة(80). وفي قرطبة شكل العرب الكثرة الغالبة منذ القرن الأول بعد الفتح، وازدادوا كثرة على مضي الأيام، وتكاثروا بالتناسل تكاثراً سريعاً متصلاً، يكفي للدلالة على ذلك أن أميراً واحداً من أمراء بني أمية، هو عبد الرحمن الأوسط، قد أنجب أكثر من مائة ولد، خمسين من الذكور، ومثلهم من الإناث(81). وقد تميز عرب الأندلس بالقبائل والعمائر والبطون والأفخاذ، إلى أن قطع ذلك المنصور بن أبي عامر الداهية الذي ملك السلطنة في الأندلس، وقصد تشتيتهم، وقطع التحامهم وتعصبهم، وقدم القواد على الأجناد، وجعل في جند القائد الواحد عدة فرق من كل قبيلة. وذلك للقضاء على العصبية العربية(82)، وليسهل عليه السيطرة على مقاليد الأمور. وكان لذلك أثره الواضح في إنحسار الفتن والثورات الداخلية كثيراً عن ذي قبل، وفي إضعاف نفوذ العنصر العربي(83). ولذلك انكفأت العناصر العربية على نفسها. ولم تعد تلك القوة المهيمنة التي كانت عليها في عهد الولاة وبداية عهد بني أمية، ومالت إلى الإهتمام بمصادر دخلها، وأصبح وجودها في بلاط بني أمية ذا بعد تشريفي كتولي الوزارة أو القضاء وغير ذلك، وغدا نفوذهم اقتصادي وثقافي بعد أن أضمحل نفوذهم السياسي. ومن هذا المنطلق فرضوا أهميتهم على حياة المجتمع الأندلسي اليومية، وخلدّت كثير من الأسر العربية أسماءها في حياة المجتمع الأندلسي، وانصبت جهودهم في محاربة نفوذ الطارئين على البلاد من البربر الذين استقدمهم المنصور بن أبي عامر بأعداد كبيرة(84). وقد وصف أحد المؤرخين عرب الأندلس بقوله: "وأهل الأندلس عرب في الأنساب والعزة والأنفة وعلو الهمم وفصاحة الألسن وطيب النفوس وإباء الضيم وقلة احتمال الذل، والسماحة بما في أيديهم، والنزاهة عن الخضوع، وإتيان الدنية..."(85).   ثانياً – البربر: كان الفتح الإسلامي للأندلس نتيجة طبيعية للتعاون الفعال الذي تم بين العرب والبربر أثناء ولاية موسى بن نصير على شمال أفريقيا. ومن الثابت تاريخياً أن غالبية جنود الحملة الأولى التي قادها طارق بن زياد إلى الأندلس كانت من البربر. وكذلك ضمت حملة موسى بن نصير اللاحقة إلى جانب العنصر العربي، العديد من هؤلاء البربر المسلمين الذين دخلوا الأندلس واستقروا فيها(86). وكان موسى بن نصير قد بعث مولاه طارق بن زياد لفتح الأندلس في سبعة آلاف من المسلمين جلهم من البربر والموالي ليس فيهم عرب إلا قليل(87). والبربر هم سكان شمال أفريقية أو ما يعرف ببلاد المغرب التي تمتد من حدود مصر الغربية حتى ساحل المحيط الأطلسي(88). وقد اختلف المؤرخون في تسمية البربر بهذا الاسم، فقد ذكر ابن خلدون: أن أحد ملوك التبايعة في اليمن ويدعي أفريقش بن قيس بن صيفي غزا بلاد المغرب فبنى بها المدن والأمصار فسميت باسمه، وأنه سمع السكان يتكلمون بلغة غير مفهومة فقال: ما بربرتكم فسموا البربر(89). ويذكر د. حسين مؤنس أن البربر ينسبون إلى مهاجر عربي من حمير يسمي (بر بن قيس) وأنه عندما هاجر إلى بلاد المغرب لم يفهم لغة أهلها فسماها بربرة، وسماهم البربر(90). وتجدر الإشارة إلى أن هذا الاسم لا علاقة له بلون البشرة أو الجنس وإنما باللغة، فلما كانت لغة هؤلاء السكان غير عربية غدت في نظر العرب غير مفهومة، فأطلقوا عليها بربرة، كما أطلقوا كلمة عجمة أو أعجمية على لغة الأعاجم. بينما ذهب آخرون إلى أن هذا اللفظ أفريقي كان اليونان يطلقونه على كل من لا يتكلم الإغريقية، ثم جاء الرومان فأطلقوا هذا الاسم على سكان شمال أفريقية (المغرب) بربارى بمعنى غير متحضر لأنهم كانوا يعتبرونهم غرباء على حضارتهم وعرَّبه المسلمون إلى بربر أو برابر(91). وقد استقر البربر في الأندلس، وكان استقرارهم مماثلاً للبلدين – العرب الأوائل – إذ سكنوا على امتداد الطريق التي سلكتها حملتا طارق وموسى(92). واتصل تيار الهجرة البربرية إلى الأندلس بشكل مستمر، واستقروا إلى جانب العرب في بعض نواحي الأندلس وانفردوا بأنفسهم في نواحٍ أخرى(93). وكان من أهم بيوتات البربر التي استقرت في الأندلس؛ وزداجة ومنهم بنو دليم الفقهاء، وملزوزة، ومغيلة، ومكناسة، وزناتة، وبنو الليث، وبنو هذيل، وبنو عبدوس، وبنو غزلون، وبنو رزين، وبنو ذى النون، وبنو الأخطل، وبنو الفرج، وبنو رزين من مصمودة، وبنو عزون من زناته، وبنو زروال، وبنو الياس، وبنو قنة، وبنو عميرة، وبنو أران، ومديونة، وزواوة من كتامة وصنهاجة، وأوربة(94). وكانت مناطق الاستقرار الرئيسة للبربر في جنوب الأندلس هي الجزيرة الخضراء، وشَذُونَة، وأَشْبِيلية ومنطقتها، وقُرطُبة ومنطقتها، وُرْندَة، وجَيَّان، وأَلْبِيرَة، ويبدو أن عددهم في منطقة الجزيرة الخضراء كان كبيراً حيث كان لهم إقليم كامل يسمي بإقليم البربر(95). واستقر البربر كذلك في الأجزاء الشرقية من الأندلس، في منطقتي بَلَنْسِيَة ومُرْسِية، وفي الشمال الشرقي في وادي الحجارة، ومدينة سالم، وقلعة أيوب. وتعد مغيلة من أوائل القبائل البربرية التي سكنت في وادي الحجارة، وقد أصبح أحد زعمائها، وهو محمد بن الياس المغيلي الذي دخل الأندلس بمعية طارق بن زياد قائداً للحامية الإسلامية الأولى التي أقيمت في المدينة(96). وتمتد منطقة استقرارهم في الأندلس عبر وديان نهر تاجة من شمال طليطلة وطلبيرة إلى وادي آنه. كما استقر جزء منهم في المنطقة التي تعرف باسم الجوف(97). وكان أعداد البربر في هذه المنطقة من الكثرة بحيث أطلق عليها بلاد البربر(98)، كما استقروا في الغرب والشمال والشمال الغربي من بلاد الأندلس(99). وكان استقرار البربر في بعض النواحي إلى جانب العرب، كما انفردوا بالاستقرار في بعض النواحي، واختلطوا في كل ناحية بأهلها، وارتبطوا معهم بروابط الزواج وتحولوا مع الزمن إلى بلديين أي أندلسيين. وقد كان لهؤلاء البربر أثر عظيم في انتشار الإسلام بالأندلس، وقد امتزجوا بأهل البلاد دون تكلف. وكانوا شديدي الحماس للإسلام، فقد كان الإسلام بالنسبة لهم رمز سيادة، فأظهروا العصبية له، واجتهدوا في نشره، وكانوا سبباً في تحول نسبة كبيرة من السكان إلى الإسلام(100). إنَّ معظم البربر الذين دخلوا الأندلس خلال الفترة الأولى من الزناتيين، وكان زعماؤهم كذلك زناتيين(101). لم تنقطع هجرة البربر إلى الأندلس، وكانوا يشكلون كثافة سكانية كبيرة بها، وتدفقت أعدادهم من المغرب نحو الأندلس من القرن الأول الهجري حتى نهاية القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي) وذلك لأسباب عديدة منها تشابه المناخ والأحوال الزراعية والجغرافية بين المغرب والأندلس، ومنها أسباب أمنية انتهجها بعض أمراء وخلفاء بني أمية تهدف إلى استقدام أعداد كبيرة منهم لمقاومة العناصر العربية وغيرها من المناوئين للدولة(102). غير أنه سرعان ما احتدم الصراع بين البربر والعرب في الأندلس بسبب استبداد العرب بالحكم واعتبارهم شعباً محكوماً ليس له نصيب في الحكم والإدارة رغم دخولهم في الإسلام، إذ حرموا من المساواة السياسية والاجتماعية بالعرب، وتعرضوا إلى سوء المعاملة والإهانة، فكان العرب يوقعون بهم أقسى العقوبات لأتفه الأسباب، فإذا جأروا بالشكوى كان عقابهم أشد وأقسى(103). وقد أدى هذا الأمر إلى إشاعة مشاعر الكراهية والبغضاء من قبل البربر ضد الولاة الأمويين في بلاد المغرب، وكان ذلك مدعاة لقيامهم بثورات متتالية ضد الحكام الأمويين في المغرب والأندلس. وكانت أولى هذه الثورات ثورة البربر بطنجة في سنة 110هـ ضد الوالي عبيد الله بن الحبحاب. وكانت الثورة بقيادة ميسرة المعروف بالحقير بائع الماء بسوق القيروان، فلما بلغ أهل الأندلس ثورة البربر بطنجة ثاروا على واليهم عقبة بن الحجاج وخلعوه(104). ثم إنَّ الخليفة هشام بن عبد الملك عزل ابن الحبحاب عن أفريقية وما وراءها من المغرب، وولى عليها كلثوم بن عياض القيسي، وأمره بقتل البربر، وجعل الأمر بعده إلى ابن أخيه بلج بن بشر القشيري إن هو أصيب، وجعل الأمر بعد بلج إن أصيب إلى ثعلبة بن سلامة العاملي(105). وقد تتابعت ثورات البربر ضد الأمراء الأمويين. ولعل من أخطر هذه الثورات؛ الثورة التي قام بها رجل من قبيلة مكناسة البربرية يدعي شقيا بن عبد الواحد المكناسي في عهد عبد الرحمن الداخل، وكان هذا الثائر في أول أمره معلماً للصبيان، فادعى نسباً فاطمياً شيعياً، وسُمِي بعبد الله بن محمد، وعرف بالفاطمي، وقد لقيت دعوته انتشاراً واسعاً بين البربر الذين استجابوا له، وتمكن من جمع قوة كبيرة منهم واستطاعوا أن يقلقوا الأمارة الأموية، ويوقعوا الهزيمة بجيوش عبد الرحمن الداخل في عدة مواقع(106). ولم يتمكن الداخل من القضاء على هذه الثورة إلا بعد تقريبه لأحد زعماء البربر في شرق الأندلس ويسمى هلال المديونى، وكتب إليه عهداً على قومه، وأقره على موضعه، وفوض إليه الأمر، فبث الخلاف في صفوف البربر، وانفض عن الفاطمي كثير من أنصاره. وانتهى الأمر بمقتله على يد اثنين من البربر(107). وفي عهد الأمير هشام بن عبد الرحمن ثار البربر عليه، وخلعوا طاعته، غير أنه أرسل إليهم الجيوش وتمكن من القضاء على ثوراتهم(108). واستمرت الثورات البربرية خلال فترة الأمارة والخلافة الأموية في الأندلس، وما إن تخمد في مكان حتى تندلع في مكان آخر. وقد أدت هذه الثورات المتكررة في نهاية الأمر إلى سقوط الخلافة الأموية بعد اندلاع ما سمي بالفتنة البربرية في قرطبة حيث دخل البربر قرطبة وعاثوا فيها فساداً وقتلاً وحرقاً ودماراً ونهباً(109). ودعوا إلى فوضى اجتماعية عارمة حيث عمدوا إلى المعالم الحضارية يخربونها، وشاركوا في تمزيق وحدة الأندلس، وفرضوا سلطانهم على أهم المناطق الأندلسية في الشمال والجنوب والوسط(110). وكان من آثار هذه الفتنة إضافة إلى التخريب والدمار الذي أصيبت به قرطبة – الهلع الذي أصيبت به النفوس من تغلب البرابرة، وترصدهم الحُرَم والدور بالهتك والسلب، وقضت الفتنة على كثير من العلماء والأدباء بالموت والتشريد(111). كما أنهم أبطلوا الخلافة، وخرقوا الجماعة، ومهدوا للفتنة حتى أشرفت الأندلس على الهلكة(112). ونتج عن سقوط الدولة الأموية في الأندلس أن انقسمت إلى دويلات صغيرة متنازعة، واستقل كل أمير بناحيته، وأعلن نفسه ملكاً عليها فدخلت البلاد بذلك في عصرٍ جديد هو عصر ملوك الطوائف(113).   ثالثاً – الموالي: وهم موالي بني أمية الذين جاؤوا مع الفاتحين العرب والبربر، أو جاؤوا للإستقرار في الأندلس بعد ذلك. وتشير الروايات التاريخية إلى أن الوالي على الأندلس بلج بن بشر القشيري دخل البلاد سنة 124هـ ومعه جيش يتألف من ثمانية آلاف من العرب وألفين من الموالي(114). وكان الموالي أما مشارقة أقبلوا إلى الأندلس مرتبطين بروابط ولاء قديمة للبيت الأموي، أو لأفراد منه، أو مغربيين دخلوا في ولاء بني أمية أو قوادهم أو بعض قبائل العرب، وانتقلوا إلى الأندلس محتفظين بهذا الولاء، أو أسباناً دخلوا في ولاء بني أمية أو قوادهم وظلوا محتفظين هم وأبناؤهم بهذه العلاقة(115). ولم يكن الموالي في الأندلس في نفس الوضع الذي كان فيه موالي المشرق، فهناك كان المولي في وضع اجتماعي أقل من وضع الحر، أما هنا فإن الولاء شارة امتياز حيث كان الموالي في مركز اجتماعي لا يقل في شيء عن مركز الأحرار. وعندما أتى عبد الرحمن الداخل وأعانوه على إقامة الدولة أصبحوا في مركز أعلى من مركز العرب الأحرار، فقد أصبحت الوظائف الكبرى مقصورة عليهم، وحرص أمراء بني أمية على الاحتفاظ ببيوت الموالي وإعطائهم مكاناً ممتازاً في الإدارة والمجتمع واعتمدوا عليهم كثيراً(116). وقد ازداد عدد الموالي في الأندلس بدرجة كبيرة، وألفوا حزباً مهماً وطائفة قوية عرفت بالأمويين نظراً لموالاتهم لبني أمية(117). وكان أغلب هؤلاء الموالي من أهل المغرب من البربر الذين دخلوا في طاعة بني أمية ومنهم بنو الخليع وبنو وانسوس، أما الباقون فكانوا من أهل الشام والعراق وبلاد الفرس(118). وقد استطاع عبد الرحمن بن معاوية الداخل بفضل مناصرة هؤلاء الموالي تأسيس الدولة الأموية في بلاد الأندلس، إذ مكث بين أخواله البربر في المغرب لفترة من الزمان، وبعث مولاه بدراً إلى بعض موالي الأمويين بالأندلس وعرض عليهم فكرة دخوله فرحبوا به وأعانوه حتى تمكن من دخولها وانتزاع الأمر من واليها يوسف الفهري(119). وقد أرسل الموالي الأندلسيون مركباً إلى عبد الرحمن الداخل في مقر إقامته بالمغرب وفيه أحد عشر رجلاً يرافقون بدراً من أجل أخبار عبد الرحمن الداخل بالعبور إلى الأندلس، وليطلعوه على أحوالها، ويؤكدون له استعداد الموالي لنصرته(120). ومن أهم بيوتات الموالي الأمويين من أهم الشام الذين ناصروا (الداخل)، بنو بسيل، وكان أول من دخل الأندلس منهم عبد السلام بن بسيل الرومي، وكان أبوه بسيل مولي لبني أمية ويتضح من نسبه أنه رومي. وقد دخل عبد السلام الأندلس أيام عبد الرحمن الداخل مع ابنيه عبد الواحد ويحي فاستعمله عبد الرحمن على أشبيلية وشذونة ومورور وغيرها، وولاه الوزارة، كما تولى ابنه يحي بعض الولايات كجيان في عهد عبد الرحمن الأوسط. وقد اشتهر من هذا البيت كثيرون تولوا مناصب كبرى في الدولة(121). ومن هذه البيوت التي ناصرت الدولة الأموية في الأندلس وأخلصت لها بيت "بني عبدة" وهم أبناء حسان بني أبي عبدة مولى مروان بن الحكم، وقد دخل جدهم الأندلس سنة 113هـ/ 731م مع ابنه عبد الغافر الذي أصبح فيما بعد وزيراً لعبد الرحمن الداخل. وقد ظل أبناء هذا البيت يتولون كبار المناصب إلى أيام المنصور بن أبي عامر(122). ومنهم كذلك بنو حرير الذين ظلوا يتقلبون في كبار الوظائف حتى أيام عبد الرحمن الناصر، وبنو شهيد وهم أبناء مولي من موالي عبد الرحمن الداخل وظلوا في الوظائف إلى أيام الدولة العامرية(123). كما دخل في عداد الموالي بالأندلس عدد كبير من الأسبان الذين دخلوا في ولاء بني أمية بعد الفتح مثل: بنو قسي، وبنو بارون، وبنو غومس، وبنو غرسية، وبنو قارلة، وبنو مرتين وغيرهم. وقد دخل آباء هذه البيوت أول الأمر في ولاء بني أمية في المشرق، ثم انتقل ولاؤهم إلى بني أمية الأندلسيين(124). وقد قام الموالي بدور مهم في تاريخ الأندلس، إذ اعتمد عليهم بنو أمية وقلدوهم أهم مناصب الدولة، لتفانيهم في الإخلاص لها، فكان منهم الوزراء، والكتاب، والقواد، والقضاة(125).   الفصل الثاني المسالمة والمولدون بعد الفتح الإسلامي للأندلس أسلم كثير من الأسبان وعرفوا بالمسالمة وتعايشوا مع العناصر الإسلامية الأخرى من العرب والبربر. وقد عرف هؤلاء في الأسبانية بالخوارج أو المرتدين أي الذين ارتدوا عن دينهم القديم، وهو النصرانية، ويسمون أحياناً بالمسالمة أو بالأسالمة، أو أسالمة أهل الذمة، متى كان إسلامهم حديثاً(126). وقد كان لسياسة التسامح الحكيمة التي سار عليها الفاتحون العرب قبل الفتح، أثر كبير في إسلام عدد هائل من الأسبان، وبالتدريج نبذ كثير من أهل الذمة دينهم المسيحي واعتنقوا الإسلام، إما بحثاً وراء مصلحة شخصية، أو إيماناً صادقاً بهذا الدين الذي ضمن للمسالمة الوقوف مع العرب على قدم المساواة. والواقع أن الفاتحين العرب لم يتعرضوا لأهل الذمة بضر، ولم يفرضوا عليهم الدين الإسلامي قهراً، وكانوا يعتبرونهم من أهل الكتاب، وقد دخل كثير من هؤلاء الإسلام بمحض إرادتهم، لأن الذمي إذا أسلم، كان يتساوى مع المسلم دون تفريق أو تمييز. وعلى هذا النحو دخل كثير من أهل الأندلس الإسلام، وأصبحوا في عداد المجموعة الإسلامية، وزال كلما يتعلق بأصلهم(127) واتخذوا لأنفسهم أسماء عربية، أو مستعربة. بل إن البعض منهم اختلقوا لأنفسهم ولأسراتهم أنساباً عربية وأصبح من الصعب التمييز بين العناصر المحلية والعناصر الوافدة(128). وقد أنجب هؤلاء المسالمة جيلاً جديداً عرفوا بالمولدين وهم الذين ولدوا من آباء مسلمين سواء من المسالمة أو العرب أو البربر ونشأوا على الإسلام متخذين لأنفسهم نمط الحياة الإسلامية في الأندلس، وقد جمع هؤلاء المولدون خصال الآباء وهي النجدة والكرم، وخصال الأمهات الأسبانيات من رهافة الحس والتذوق الجمالي ورقة المشاعر(129). وقد تساوت المجموعات الأسبانية التي دخلت الإسلام، وكانت من الأشراف وأهل المدن ورقيق الأرض والعبيد، تساووا جميعاً في ظل الإسلام، وشكل المولدون في عهد أمراء بني أمية الطبقة الغالبة من السكان(130). وكان الفاتحون العرب والبربر قد تركوا نساءهم في بلادهم، وأقبلوا على مصاهرة الأسبان، أهل البلاد، ومضوا على هذا النحو، يتزوجون من الأسبانيات ما شاءوا، وعاشروا أهل البلاد وجاوروهم، وعن طريق المجاورة والمصاهرة، انتشر الإسلام في الأندلس انتشاراً تجاوز كل تقدير في الحسبان، وهكذا امتزجت دماء الفاتحين من العرب والبربر بدماء أهل البلاد ليتشكل جيل المولدين. وكان عبد العزيز بن موسى بن نصير أول من تزوج بأسبانية وحذا حذوه كثير من القادة الفاتحين(131). وقد احتفظ كثير من هؤلاء المولدين بأسمائهم الأسبانية القديمة مثل بنو أنجلين، وبنو القبطرنة، وبنو ردلف، وبنو مردنيش، وبنو غرسية، وبنو فرتون. ومن مشاهير المؤرخين المولدين أبو بكر بن القوطية صاحب كتاب تاريخ افتتاح الأندلس(132). كما كان جل أمراء الأندلس وخلفائها من أصل مولد تجرى في عروقهم دماء غير عربية وخاصة الدم الأسباني من جهة الأمهات أو الجدات. فقد كان عبد الرحمن الداخل أول أمراء بني أمية بالأندلس من أم ولد تسمي (راح) وكان ابنه هشام من أم ولد تسمي حلل أو حوراء، وكان الحكم بن هشام من أم ولد تسمى "زخرف". أما ابنه عبد الرحمن بن الحكم فمن أم ولد أسمها حلاوة، وكان عبد الرحمن الناصر من أم ولد تسمي مزنة، وكان هشام المؤيد بن الحكم المستنصر من أم ولد بشكنسية تدعى صبح(133). ومع أن هؤلاء المولدين كانوا يدينون بالإسلام، ويتخذون نمط الحياة التي يتخذها المسلمون الوافدون على الأندلس، إلا أنهم لم يفقدوا شخصيتهم الذاتية باعتبارهم أسباني الأصل، ولقد تألفت منهم جماعات كبيرة في مدن أسبانيا المهمة مثل طليطلة التي كانت مركزاً من أهم مراكز العصبية المولدة ودعوى المولدين، وكانت تضم أكبر طائفة منهم، وقد ظهر ذلك في حركاتهم الثورية المتعددة، وميولهم الانفصالية عن سلطان قرطبة، وكان يتولى طليلطة أمير منهم. كذلك كانت أشبيلية معقلاً من معاقلهم، فقد كانوا يمثلون أكبر طائفة من سكان مدينة أشبيلية، وكانوا يعملون بالتجارة والإدارة ولذلك جنوا أرباحاً هائلة(134). وكان المولدون أوفر العناصر الأندلسية حركة، وأكثرها أهمية في الحياة العامة، وفي الفاعلية الاقتصادية للبلاد، وكان من المأمول أن يظلوا في وئام وانسجام مع العناصر الأخرى لبناء دولة الإسلام وحضارته في الأندلس بعد أن نشأوا مع أصحاب الدعوة، وتحسنت ظروفهم في الحياة بالعقيدة الجديدة من الناحيتين القانونية والاجتماعية ولكنهم – لسوء الحظ – قد أضافوا عنصراً جديداً إلى الصعوبات التي قامت في وجه مسيرة الحضارة العربية الإسلامية، إذ أنهم كثيراً ما اتحدوا ضد العرب، وتمردوا على سلطانهم ودخلوا معهم في صراع مرير استفحل أمره في عهد الأمير عبد الله بن محمد الذي تولى الأمارة في سنة 275هـ - 300هـ(135). ولعل من أخطر ثورات المولدين التي اندلعت في وجه الأمراء الأمويين، ثورة عمر بن حفصون، وقد اندلعت هذه الثورة في أخريات أيام الأمير محمد بن عبد الرحمن في سنة 272هـ، وقد أرهق الدولة الأموية أيما إرهاق(136)، واشتدت شوكته في عصر الأمير عبد الله بن محمد، وقد ضيق الخناق على الأمير عبد الله، واجتمع إليه أهل الشر من أنحاء الأندلس المختلفة، وبلغ به الاستخفاف بالأمارة الأموية حداً جعله يصل بخيوله إلى قرية شقندة القريبة من قصر الأمارة فيروع أهلها مما أغاظ الأمير عبد الله وعزم على غزوه بنفسه(137). وكان ابن حفصون يراسل أتباعه من المولدين، ويحرضهم بالثورة على الأوضاع القائمة، والخروج على سلطان الأمويين مبرراً لهم أسباب ثورته بقوله: "طالما عنَّف عليكم السلطان، وانتزع أموالكم، وحمَّلكم فوق طاقتكم، وأذلتكم العرب، واستعبدتكم، وإنما أريد أن أقوم بثأركم، وأخرجكم من عبوديتكم(138)". وهي دعوى تكذبها الشواهد الكثيرة حيث عاش المولدون جنباً إلى جنب مع العناصر الأندلسية الأخرى، ويبدو أنه وجد دعماً من قبل بعض عناصر النصارى، وتشير بعض الروايات إلى أنه أظهر النصرانية وباطن العجم نصارى الذمة وارتد عن الإسلام، فانكشف أمره للناس وتخلى عنه بعض أتباعه من الموالين له من المتمسكين بالإسلام(139). وقد استمر ابن حفصون في تمرده على الأمارة الأموية حتى ولاية الأمير عبد الرحمن بن محمد الملقب بالناصر الذي تمكن من إلحاق الهزيمة به، وإحكام الحصار عليه والحد من سطوته فاضطر إلى طلب السلم والأمان فأجابه الأمير عبد الرحمن إلى طلبه، وعقد معه الصلح، فالتزم ابن حفصون بالطاعة حتى وفاته في سنة 305هـ(140). ومن ثورات المولدين الخطيرة التي أقضت مضجع الأمارة الأموية، ثورة عبد الرحمن بن مروان المعروف بإبن الجليقي الذي يقول عنه المؤرخ ابن حيان: "إمام المردة ذو الأخبار العظيمة، والنزوات الشنيعة والفتكات المشهورة الذي غرب في شنعة الأنباء، وأعلى شأنه على عدة من الأمراء وجلة الخلفاء حتى فارق الجماعة وجاور أهل الشرك ووالاهم على أهل القبلة ثم بدا له غير ذاك آخراً ففارق مجاورة الكفرة ولاذ بالطاعة واقتعد مدينة بطليموس دار مملكة، وكانت دعوته عصبية المولدين على العرب(141). لا شك أن ثورات المولدين قد أسهمت بقدر كبير في إضعاف الحكم الأموي في الأندلس، وأدت إلى استنزاف مقدرات الدولة المالية والعسكرية، وانشغلت الدولة بإعداد الجيوش وتوجيهها لمحاربة الخارجين على سلطانها في حين أن أعداءها من النصارى كانوا يتربصون بها من كل جانب، وينتظرون الوقت المناسب في الانقضاض عليها وانتزاعها من أيدي المسلمين. ومما لا شك فيه أيضاً أن المولدين بثوراتهم المتكررة قد شاركوا العناصر الأخرى في إنهاء الحكم العربي الإسلامي في الأندلس في وقت مبكر، حين استعان المولدون أثناء ثورتهم في طليطلة بالنصارى ضد حكومة قرطبة. وكان أولئك المولدون وغيرهم، يحاولون غاية واحدة هي القضاء على الوجود العربي الإسلامي عن طريق استنزاف قوته في هذه الثورات(142). ولما جاء القرن الخامس الهجري صارت هناك صعوبة في التمييز بين العناصر والأجناس البشرية الموجودة في البلاد الأندلسية سواء من العرب أو البربر أو المسالمة أو المولدين، فقد تم التمازج بين تلك العناصر فأطلق عليهم جميعاً اسم الأندلسيين(143).   الفصل الثالث أهـل الذمـة أولاً – النصارى: كان النصارى إبان الفتح الإسلامي للأندلس يؤلفون أغلب سكان البلاد، ولم يكره الفاتحون المسلمون أحداً منهم بالدخول في الإسلام وتركت لهم حرية ممارسة شعائرهم الدينية واعتبروا أهل ذمة وعاشوا إلى جوار المسلمين في أمان وكتب لهم عبد العزيز بن موسى بن نصير ثاني الولاة المسلمين على الأندلس كتاب صلح جاء فيه: "بسم الله الرحمن الرحيم. كتاب من عبد العزيز بن موسى ابن نصير لتدمير بن غبدوش أنه نزل على الصلح، وأن له عهد الله وذمة نبيه صلى الله عليه وسلم ألا يقدَّم له ولا لأحد من أصحابه ولا يؤخر ولا ينزع عن ملكه، وإنهم لا يقتلون ولا يسبون ولا يفرق بينهم وبين أولادهم ولا نسائهم ولا يكرهوا على دينهم، ولا تحرق كنائسهم، ولا ينزع عن ملكه ما تعبّد ونصح وأدى الذي اشترطنا عليه(144)". وقد رعى المسلمون من بعد ذلك هذا العهد الذي كتبه عبد العزيز بن موسى رعاية تامة وعاملوا النصارى معاملة كريمة، وكان لسياسة التسامح التي سار عليها الفاتحون أثر كبير في إسلام عدد كبير من النصارى كما وردت الإشارة إلى ذلك عند الحديث عن المولدين. وقد أظهر المسلمون الفاتحون كثيراً من الحكمة والعدل في ممارسة الحكم في الأندلس فمنحوا المسيحيين وغيرهم الأمن والحرية وشملوهم بذمتهم ما داموا على الطاعة، ولم يفرضوا عليهم إلا ضريبة مالية زهيدة في صورة جزية أو خراج حسبما تنص الشريعة الإسلامية وزيادة في التسهيل فقد جعلوها متدرجة متفقة مع قدرات المسيحيين المالية(145). وتكثر الأدلة على التسامح العظيم الذي أبداه المسلمون نحو نصارى الأندلس فقد كانوا يرحمون الضعفاء ويقفون عند شروطهم معهم. وباستثناء الجزية والخراج، فلم يمس المسلمون غالباً من ممتلكات المسيحيين، إلا الأموال الخاصة بالكنيسة، أو ما كان من ممتلكات الأسرة الحاكمة، أو ما كان مملوكاً لهؤلاء الذين حملوا السلاح في وجه المسلمين، ثم قتلوا في الحرب أو الذين فروا إلى الشمال تاركين أموالهم من خلفهم(146). واعتبرت هذه الأموال غنيمة تتملكها الدولة، وقد ترك الباقي من الأراضي في يد من كانوا يزرعونها يؤدون عنها فيئاً للجماعة الإسلامية كلها(147). والخراج نفسه كان مفروضاً على النصارى واليهود والمسلمين بعدل ومساواة(148). وقد ترك المسلمون نصارى الأندلس أحراراً ينظمون أمورهم على النحو الذي أرادوه، ما داموا على الطاعة يؤدون ما عليهم من الأموال، فظلوا يفصلون في أقضيتهم وفقاً للقانون القوطي القديم، وظلت علاقتهم بكنائسهم وقساوستهم على ما كانت عليه قبل الفتح. وكان يدير أمور الجماعات الإسلامية في المدن والأرياف رجال من نصارى عجم الأندلس يسمون بالقمامسة وواحدهم قومس، وهو لقب كبير كان مقصوراً قبل ذلك على القوط، فلما أزال المسلمون أمر القوط صار القمامسة من أهل البلاد فكأن الفتح الإسلامي رد إليهم اعتبارهم من هذه الناحية(149). كما ترك المسلمون للجماعات النصرانية نظامها المدني الذي كانت جارية عليه من قبل، وهو نظام مدني وإداري أيضاً، وكان القائمون بأمره مسئولين عن كل ما يتصل بأمور رعاياهم فيما بين أنفسهم، كانوا يجمعون ضرائبهم ويؤدونها إلى بيت المال نيابة عنهم، وكانوا يعينون لهم القضاة الذين يفصلون في منازعاتهم وفقاً لقوانينهم، وكانوا يشرفون على كنائسهم ويتولون أمور قساوستها، أي أنه وجد من أول الأمر نظامان إداريان جنباً إلى جنب: واحد للمسلمين وواحد للنصارى. أما في القضايا التي تقع بين المسلمين وغير المسلمين، فكان ينظر فيها قضاة المسلمين ويحكمون فيها بشريعة الإسلام(150). يقول آدم متز: "أما في الأندلس فعندنا أكثر من مصدر جدير بالثقة أن النصارى كانوا يفصلون في خصوماتهم بأنفسهم، وأنهم لم يكن يلجأون للقاضي إلا في مسائل القتل"(151). ويقول فيليب حتى عن قضاء أهل الذمة في الأندلس: "أما النصارى واليهود فقد سمح لهم، كما كانت الحال في بلدان أخرى فتحها المسلمون أن يظلوا خاضعين في مسائل القضاء لرؤسائهم الروحيين ينظرون في قضاياهم إلا إذا كان في القضية مساس بحق المسلم، فإن هذه القضايا كانت ترد إلى المحاكم الإسلامية"(152). وقد أطلق على النصارى الأسبان الذين عاشروا المسلمين واختلطوا بهم، وتعلموا اللغة العربية دون أن يدخلوا في الإسلام اسم (المستعربين). وكان العرب يسمونهم بعجم الذمة، أما من كان لهم عهد منهم فقد سموا بالمعاهدين، وكان المستعربون أو العجم في الأندلس يؤلفون جمهرة سكان البلاد في السنوات الأولى التي تبعت الفتح الإسلامي، ولكن عددهم أخذ يتناقص تدريجياً بينما أخذ عدد المسالمة يزداد يوماً بعد يوم، وما لبث المستعربون أن أصبحوا بمرور الزمن أقلية في الأندلس بالنسبة للمسالمة والمولدين(153). وقد ترك المسلمون للنصارى في الأندلس كنائسهم باستثناء الكنائس التي قسمها المسلمون بينهم وبين النصارى، وأقاموا فيها مساجد جامعة مثل مسجد قرطبة الذي أقيم في شطر من كنيسة (شنت بنجنت)، ومسجد رفينة الذي أقيم في كنيسة (سانتا رفينة). كذلك كان للنصارى أديرتهم مثل دير أرملاط في الطريق من قرطبة إلى طليطلة. وكانت أشبيلية مركزاً أسقفياً هاماً وكان أول من تولى أسقفية أشبيلية المطران المند بن غيطشة. وهذا دليل على أن المسلمين تركوا النصارى أحراراً في إنشاء ما يريدون من الأديرة(154). وبلغ التسامح بين المسلمين والنصارى في أسبانيا درجة كبيرة حتى أنهم سمحوا لأساقفتهم أن يعقدوا مؤتمراتهم الدينية كمؤتمر أشبيلية النصراني الذي عقد في سنة 782م ومؤتمر قرطبة النصراني الذي عقد في سنة 852م. وكانت للنصارى في طليطلة وحدها ست كنائس(155). وكانت الكنائس مفتحة للمارة سواء من النصارى والمسلمين، تغدق عليهم كرمها وأطايب طعامها وشرابها حتى إن بعض المسلمين كانوا يبيتون بها(156). دون أن يكون لذلك نتيجة للتسامح الذى عرف به أهل الأندلس. وكانوا يقرعون نواقيسهم رغم ما كان يسببه هذا من إزعاج للمسلمين وإثارة بعض المتعصبين منهم عليهم. وفي قرع النواقيس دلالة واضحة على تسامح المسلمين وتركهم النصارى يمارسون شعائر دينهم في حرية تامة(157). وقد نظم ابن حزم أبياتاً فيها ذكر لقرع النواقيس حيث يقول: أتيتني وهلال الجو مطلع قبيل قرع النصارى للنواقيس(158) ونتيجة لهذا التسامح اتخذ النصارى العربية لغة لهم وأتقنوها أكثر من لغتهم اللاتينية، كما اتخذوا العادات الإسلامية ومارسوا أفكار المسلمين وتقاليدهم في ملابسهم وشرابهم، وحتى في أسمائهم، كما أن بعضهم امتنع عن أكل لحم الخنزير وختن أطفاله(159). وقد برز من المستعربين شخصيات عديدة قامت بدور مهم في الحياة الاجتماعية في الأندلس مثل وليد بن خيزران قاضي النصارى بقرطبة الذي كان يقوم بمهمة الترجمة للخليفة عبد الرحمن الناصر عندما تأتي إليه الوفود النصرانية(160)، ومنهم كذلك الأسقف ربيع بن زيد المعروف في المدونات الأسبانية باسم ريسموندو، ومطران طليلطة عبيد الله بن قاسم، وأسقف قرطبة أصبغ بن عبد الله بن نبيل، كما نبغ منهم عدد من المترجمين قاموا بترجمة كثير من الكتب الأسبانية إلى العربية بفضل إجادتهم للغة العربية واللاتينية، وكانوا بذلك حلقة اتصال بين الثقافة العربية والأوربية(161). وكان من ضمن كتاب الأمير عبد الرحمن الأوسط الأسقف قومس بن أنطونيان، عامل أهل الذمة، وكان أديباً بارعاً وكاتباً مقتدراً، وكان عبد الرحمن يعهد إليه بالمهام الخطيرة(162). وعلى الرغم من هذا التسامح الذي وجده النصارى في ظل الحكم الإسلامي للأندلس؛ إلا أنه في أواخر عهد عبد الرحمن بن الحكم الملقب بالأوسط، هبت على نصارى قرطبة ريح شديدة من التعصب، ولاحت في الأفق بوادر فتنة دينية واجتماعية خطيرة. ولم يكن في نظم الحكم الإسلامي، ما يقصد إلى إيذاء النصارى المستظلين بلوائه، ولم تشذ حكومة قرطبة عن سياسة التسامح الإسلامي المأثور، ولم تتدخل في شئون النصارى الدينية، أو تتعرض لعقائدهم أو شعائرهم، غير أن هناك فريق من النصارى المتعصبين الذين كانوا يرون أن المسلمين أجانب غاصبين معتدين على دينهم وأوطانهم، وكان أولئك الغلاة يبغضون أخوانهم من النصارى المعتدلين، ويرمونهم بالمروق والخيانة، وكان رجال الدين، وهم في الأصل مبعث التعصب ودعامته، وكانوا يبغضون المسلمين أشد البغض ويسخرون من دينهم وبنيهم ويجاهرون بهذا البغض(163). قام هؤلاء المتعصبين من النصارى ببث بذور الفتنة الطائفية والفوضى الدينية والاجتماعية، وحاولوا الاستشهاد في سبيل مبدئهم عن طريق الاشتباك والتحدي. وعمد القسس والمتعصبون إلى تحقيق غايتهم بسب النبي محمد صلى الله عليه وسلم ودينه، وهي جريمة شنعاء تعرض مرتكبيها لعقوبة الموت، وقد حاول القضاة معالجة الأمر بالرفق واللين وإقناع هؤلاء العابثين بالعدول عن رأيهم، فلما رأوا منهم إصراراً على مواقفهم نفذوا في عدد من القساوسة عقوبة القتل(164). أدرك الأمير عبد الرحمن خطورة الموقف، ورأى أن يعالجه بالحزم والتفاهم معاً، فاستدعي مجلساً من الأساقفة عقد في قرطبة مثل الأمير فيه كاتبه قومس بن أنطونيان، عامل أهل الذمة، وشرح للأساقفة ما يمكن أن يترتب على أعمال المتطرفين وسبهم للنبي من العواقب الخطيرة بالنسبة للنصارى، فأصدر الأساقفة قراراً أدانوا فيه مسلك هؤلاء المتطرفين إلا أن هذا القرار لم يكف للحد من تعصب هذه الفئة من النصارى، واستمرت هذه الفتنة إلى حين من الزمان إلى أن تمكن الأمير عبد الرحمن من إخمادها بالحزم والشدة، ولم يحقق المتعصبون ما كانوا يأملون فيه، وانطفأت الفتنة(165). وقد ظل النصارى الأسبان يتمتعون بحريتهم الدينية حتى جاء المرابطون إلى الأندلس وأخذوا يحدون منها: فمنعوا قرع النواقيس، وأخذوا يضطهدونهم، وألزموا بارتداء ثياب معينة، وألا يركب أحد منهم جواداً، وألا يشترى مسلم رداء ارتداه مسيحي أو يهودي. ويغلب على الظن أن هذا الاضطهاد بدأ عقب توسع حركة الاسترداد المسيحي في قلب أسبانيا الإسلامية واتهام المسلمين لهؤلاء المستعربين بالتجسس عليهم لمصلحة الدولة المسيحية في شمال أسبانيا(166).   ثانياً – اليهود: كانت هناك جاليات يهودية تعيش في معظم المدن الأسبانية، وكان المسلمون عند فتحهم الأندلس إذا وجدوا اليهود ببلدة تركوهم بها، وأبقوا معهم من المسلمين طائفة(167). شكل اليهود الطائفة الثانية من أهل الذمة في الأندلس، وقد كانوا يؤلفون قسماً مهماً من سكان أسبانيا إبان القرون الوسطى، وقدر عددهم خلال الفتح الإسلامي للبلاد بما يزيد عن مائة ألف(168). وقد عاني اليهود كثيراً من اضطهاد القوط والرومان لهم قبل الفتح الإسلامي. وقد بلغ هذا الاضطهاد مبلغاً كبيراً إذ حرموا عليهم إقامة شعائرهم الدينية وأرغموا على التنصر، فبدأوا يتآمرون سراً ضد القوط، فأسرف القوط في سياسة الاضطهاد لليهود واعتبروهم جميعاً أرقاء يجب توزيعهم على المسيحيين، وعملوا على فصل أولادهم عنهم وتنصيرهم(169). ولما جاء الفتح الإسلامي وقف اليهود إلى جانب المسلمين، ودلوهم على نقاط الضعف في البلاد، وقد عامل المسلمون اليهود معاملة طيبة كما فعلوا مع المسيحيين فأدخلوهم في ذمتهم مقابل الجزية، وعاملوهم بتسامح يدعو للإعجاب سواء خلال عصر الولاة أو ما بعده فكانت لهم بِيَعهُم ورجال دينهم، وقضاتهم، وقوانينهم، ومحاكمهم الخاصة، كما تقلد بعضهم مناصب في الدولة، ونتيجة لحسن المعاملة التي وجدها اليهود في الأندلس، فقد انجذب كثير من اليهود من البلدان الأخرى إليها، وازدهرت أحوالهم المادية(170). وكان اليهود يتجمعون في عدة مدن بالأندلس وعلى رأسها غرناطة التي كانت تذخر بأكبر جالية يهودية ولذلك سميت أغرناطة اليهود، ومنها مدينة أليسانة التي تقع جنوب قرطبة، وكان سكان هذه المدينة من اليهود فقط وأهلها أغنياء، لا يداخلهم مسلم البتة في هذه المدينة. ومن المدن التي كانوا يتجمعون فيها أيضاً، قرطبة وطليطلة وأشبيلية وسرقسطة وألبيرة ومالقة(171). وقد كان لليهود دور مهم في الحياة الاقتصادية في الأندلس وكذلك في الحركة العلمية حيث كان منهم المترجمون ومنهم الأطباء والفلاسفة والشعراء، مثل حسداي بن شبروط طبيب الخليفة الناصر الذي كان رسوله في استقبال الكثير من سفراء الدول والممالك الأجنبية(172). كما نبغ منهم شعراء بالعربية وموسيقيون بهروا المجتمعات الراقية في الأندلس. ومنهم اسحاق بن شمعون الذي وصف بأنه أحد عجائب الزمان في الإقتدار في الألحان وإجادة الغناء، ولقد استعربوا منذ زمن مبكر، فاتخذوا لغة الفاتحين وهيئاتهم واندرجوا في غمار حياتهم(173). وكان لليهود في الأندلس نظام إداري خاص بهم كما كان للنصارى، حيث كان لهم رئيس يتولى شؤونهم يسمى (الناجد) أي الحاخام الأكبر(174). لقد تمتع اليهود خلال هذه الفترة بكثير من ألوان التسامح لم يظفروا به خلال حكم القوط، فقد غدوا عنصراً مهماً في الإدارة والتجارة والصيرفة كما أسندت إلى الكثير منهم مناصب مهمة في الدولة، وأصبحت بعض الحرف تكاد تكون مقصورة عليهم(175).   الفصل الرابع الصقالبة شكل الصقالبة جزءاً من مكونات المجتمع الإسلامي في الأندلس مع غيرهم من العناصر الأخرى. وكان لهم دور مقدر في كثير من الأحداث ومجريات الأمور في الدولة الإسلامية في الأندلس وخاصة في عصر الخلافة. من المعلوم أن تجارة الرقيق قد انتشرت انتشاراً واسعاً في الدولة الإسلامية، كما انتشرت في غيرها من الدول، وتنوع الأرقاء كذلك، فمنهم السود، ومنهم البيض أو المماليك وكانوا يفضلون على السود وتبذل الأثمان الغالية في شرائهم. ويعتبر الصقالبة والأتراك أشهر أنواع الرقيق الأبيض في المجتمع الإسلامي، غير أن الصقالبة كانوا يفضلون على الأتراك على الرغم من أن الأتراك كانوا أقدم عهداً بالدولة الإسلامية من الصقالبة، إذ وصل المسلمون بلاد تركستان وفتحوها على يد قتيبة بن مسلم أواخر القرن الأول الهجري/ السابع الميلادي. ومنذ ذلك الوقت صار للرقيق التركي مكانة ممتازة في البيوت الإسلامية لوفائهم وشجاعتهم(176). أما الرقيق من الصقالبة فطريقه الرئيسي إلى العالم الإسلامي هو الطريق الذي يبتدئ من شرق ألمانيا إلى إيطاليا وفرنسا ومنها إلى أسبانيا الإسلامية(177). وكان لفظ صقلبي يطلق في القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي) بالأندلس على الرقيق المجلوب من أوربا، وكذلك المناطق الشمالية في أسبانيا. ويرجع الصقالبة في أصلهم إلى الجنس الآرى أو (الهند أوربى). والمعروف أنهم نزحوا من آسيا، واستمروا يتوسعون في أوربا حتى القرن العاشر الميلادي حيث ظهرت قوتهم، وظل مستواهم الحضاري ضعيفاً بالنسبة للشعوب التي اصطدموا بها. وقد انقسموا إلى شعوب عديدة سكنت بلداناً مختلفة مثل بولندا وتشيكوسلوفاكيا وبلغاريا وروسيا(178)، وقد انقسموا إلى ثلاثة أقسام: 1. السلاف الجنوبيون: (اليوجسلاف) في الجنوب والوسط ويشملون البلغار والصرب والكروات والسلوفينيين (سكان سلوفينيا). 2. السلاف الغربيون: في بولندا وبعض أجزاء من ألمانيا وبوهيميا ومورافيا وسلوفاكيا. 3. السلاف الشرقيون: أو الروس وينقسمون إلى الروس الكبار في الوسط والشمال، والروس الصغار في الجنوب، والروس البيض في الغرب(179). وقد غلب على هذه الشعوب اسم السلاف وتنطق سكلاف Sclaves فعربها العرب على صقلبي التي ترادف عبد Slave وقد أصبح هذا اللفظ يطلق على الرقيق من هذه الشعوب حتى أن الأفرنج استخدموه بنفس هذا المعنى في لغاتهم Slave بالإنجليزية، Esclave بالفرنسية، و Slavary بالألمانية(180). وقد أطلق الجغرافيون المسلمون هذا الاسم (الصقالبة) في العصور الوسطى على سكان البلاد المتاخمة لبحر الخرز بين القسطنطينية وبلاد البلغار، أو بعبارة أخرى سكان البلاد الممتدة من بحر قزوين شرقاً إلى البحر الأدرياتي غرباً(181). وقد أشار المسعودي إلى أن الصقالبة أجناس متعددة من الروس والبلغار والصرب والسلاف من أصول آسيوية كانت تسكن القوقاز حول البحر الأسود(182). وقد توسع المسلمون في استعمال كلمة "صقلب" فأطلقوه على أرقائهم الذين جلبوهم من أية أمة مسيحية، واستخدموهم في قصورهم الخلافية. واستخدم الأمويون كذلك "الخصيان" لخدمة الحريم، واتخذ اليهود في فرنسا من تلك التجارة حرفة يربحون منها. وقد شاركهم بعض المسلمين في هذا العمل. وقد جاء أغلب الصقالبة أطفالاً من الجنسين إلى أسبانيا الإسلامية حيث تمت تربيتهم تربية إسلامية، ودربوا على أعمال القصر، وهم – وإن كانوا مماليك – فلم يستخدموا في المهن الحقيرة، حتى لقد تطور الأمر إلى استخدامهم في الحرس والحاشية والجيش، فأخذ عددهم يزداد بسرعة حتى بلغ عددهم في عهد عبد الرحمن الناصر (13750) من الرجال، و 6350 من النساء(183). وقد كان الأمير الحكم بن هشام هو أول من استكثر من استخدامهم واتخذ منهم حرساً خاصاً له فجلب منهم خمسة آلاف وأطلق عليهم اسم "الخرس" لعجمتهم(184). واستطاع عدد كبير من الصقالبة أن يحتل مكانة عالية في المجتمع القرطبي، فصار منهم الأدباء والشعراء وأصحاب المكتبات الكبيرة، كما استطاع بعضهم أن يكون الثروات الطائلة، ويمتلك العبيد والأراضي الشاسعة. ومن بين الصقالبة الذين وصلوا إلى مناصب الرئاسة في الدولة: درىّ الرئيس الأعلى للشرطة، وأفلح صاحب الخيل في عصر الناصر، وقند الذي حكم طليطلة سنة 336هـ (947م)، وطرفة صاحب المطبخ، وخلف الفتى الكبير الذي عين مسئولاً عن الطراز (النسيج) سنة 313هـ (925م). وتليد الفتى الصقلبي الذي كان يشرف على مكتبة الحكم المستنصر الشهيرة(185). ويبدو أن الأمويين في الأندلس استخدموا ممالكيهم من الصقالبة في الإدارة والجيش للحد من نفوذ العرب والبربر. وقد اشتمل قصر الحكم المستنصر على ما يزيد عن الألف صقلبي، وتكون جيش قرطبة من الصقالبة، وكانت قيادته في يد اثنين من كبار الصقالبة، وهما جؤذر، وفائق الحكمي(186). وقد كان للصقالبة دور مهم في الحياة السياسية بالأندلس في هذا العصر حيث تدخلوا في تولية الأمراء وعزلهم، وشاركوا في غمار كثير من الفتن والأحداث والمؤامرات التي عصفت بالدولة الإسلامية في الأندلس. وقد كان لهم أثر أيضاً في الحياة الاجتماعية حيث جلبوا معهم من بلادهم الكثير من عاداتهم وتقاليدهم وفنونهم. ويبدو أن الصقالبة كانوا يعتبرون أنفسهم عنصراً متميزاً ولذلك فإنهم لم يختلطوا بالعناصر الأخرى، وحاولوا المحافظة على كيانهم الخاص مما بعث فيهم النزعة العنصرية أكثر من غيرهم. وقد استطاعوا في نهاية الأمر أن يستأثروا بنصيب من تركة الخلافة الأموية، فكونوا لهم ممالك في شرق الأندلس(187). قد كانت هذه الممالك الصقلبية تجمعها رابطة تحالف عنصري وتسمي بالدولة العامرية الصقلبية تمييزاً لها عن الدولة العامرية التي أسسها المنصور بني أبي عامر. لأن أصحابها كانوا من مماليك العامريين(188). أدرك المنصور بن أبي عامر خطورة الصقالبة على سلطانه، فعمل على استئصالهم تفادياً لمكائدهم، فبدأ بالفتيان الصقالبة خدام القصر أولاً وعلى رأسهم فاتن وجؤذر فنكبهم وأخرج جميع الصقالبة بعد ذلك من القصر وكان عددهم ثمانمائة أو يزيدون. وكان لطردهم أثر كبير وصدى في نفوس الناس وخاصة الشعراء وأبدوا كثيراً من مظاهر الابتهاج والفرحة بإخراجهم من القصر(189). وإلى جانب الرقيق الأبيض من الصقالبة، فقد وجدت فئة أخرى من الرقيق الأسود، وهي فئة اجتماعية قليلة الشأن والعدد في ميدان العناصر البشرية في الأندلس. وقد شاركت مجموعة قليلة منهم مع موسى بن نصير في فتح الأندلس(190). وكان الرقيق الأسود يجلب إلى الأندلس من أفريقيا عموماً، عن طريق بلاد المغرب. وقد جيء بهم على نحو خاص ابتداءً من عهد عبد الرحمن الناصر ليكونوا حرسه الخاص. أما المنصور بن أبي عامر فقد زاد من عددهم فبلغوا حوالي ألفين من المشاة، وكانوا قد استخدموا في القرن الرابع الهجري مشاة وفرساناً، كما كان لهم دور في الاستقبالات الرسمية، وفي حمل البريد(191). ولم يكن المجتمع الأندلسي يتقبل العلاقة بين رجل أبيض وامرأة سوداء، ويتجلى لنا ذلك من موقف الأميرة ولادة بنت المستكفي من الشاعر ابن زيدون الذي مال إلى جارية الأميرة ولادة وكانت سوداء فكتبت تعاتبه: لو كنتَ تَنصِف في الهوى ما بيننا ** لم تهوَ جَاْريتِي ولم تتخيــرِ وتركت غُصناً مثمراً بجمالِـــهِ ** وجنحتَ للغصنِ الذي لم يثمرِ ولقد عَلِمتَ بأنني بدرُ السمـــاءِ ** لكنْ ولِعت لشقوتي بالمشترى(192) وعلى كل فإنه مهما يكن من أمر اختلاف العناصر البشرية، والقوى الاجتماعية، التي كونت الجماعة الأندلسية، فلم يمض وقت طويل حتى أتيحت لها فرص التفاعل من مركز واحد تمتزج وتنصهر، ولتصل على مر التاريخ إلى ما يشبه الوحدة القومية التي تناضل بوعي وإصرار لبناء كيان مستقل له ملامحه وسماته(193).   الباب الثاني: مظاهر الحياة الاجتماعية في الأندلس الفصل الأول: الأعياد والمواسم الدينية والاحتفالات. الفصل الثاني: الملابس والأزياء. الفصل الثالث: الغناء والموسيقي. الفصل الرابع: المتنزهات والحدائق والحمامات. الفصل الأول الأعياد والمواسم الدينية والاحتفالات تعتبر الأعياد والمناسبات الدينية من أهم مظاهر الحياة الاجتماعية في الأندلس. وفيها كانت تتجلى روح الانسجام والمودة بين العناصر البشرية المكونة للمجتمع الأندلسي؛ كما كانت تتجلى فيها سمات الرقة والبهجة المحيطة بالحياة العامة عند الأندلسيين. وكانت هذه الأعياد تقع في مختلف المواسم على مدار السنة، يشارك فيها كل العناصر تقريباً بنصيب وافر(194). وكانت هذه الأعياد إسلامية ومسيحية ويهودية، أو فارسياً في الأصل، ومع ذلك لم يحرم المسلمون أنفسهم من الاشتراك في الجانب المسلى منها على الأقل(195). وقد اهتم الأندلسيون أيما اهتمام – من منطلق ديني – بالاحتفال بشهر رمضان وعيد الفطر باعتباره مناسبة دينية عظمى فيؤمون المساجد في ازدحام شديد، وكانت هذه المساجد تستقبلهم بالأضواء الباهرة المنبعثة من الشموع الضخمة الموقدة ليلاً ونهاراً، كما كانت تستقبلهم برائحة البخور الذكية(196). وجرت عادة الأندلسيين على الاحتفال بحلول شهر رمضان المبارك بخروج القضاة والفقهاء وأئمة المساجد لاستطلاع هلال رمضان. ويذخر هذا الشهر بمجالس الذكر والعلم وذلك بإقامة الحلقات الدينية والإكثار من قراءة القرآن والصلاة في المساجد، كما تزداد العناية بالمساجد وإنارتها بالمصابيح ذات الألوان في هذا الشهر الكريم(197). وتضج الشوارع في رمضان بعد الإفطار بالحيوية، وتظل المتاجر مفتوحة إلى وقت متأخرٍ من الليل، ويجتهد الباعة المتجولون وباعة الحلويات والمشروبات في تقديم الخدمات لزبائنهم وإرضاء عملائهم(198). وعلى الرغم من تمسك المسلمين الأندلسيين بشعائرهم الدينية في هذا الشهر على وجه الخصوص، وبالرغم من النصائح الغالية التي كان يوجهها الفقهاء الأتقياء بضرورة التوبة، وهجران الملذات كما يشير إلى ذلك أحد الفقهاء بقوله: لا تجعلنْ رمضانَ شهَر فكاهةٍ تلهيك فيه مـن القبيحِ فنونه وأعلمْ بأنك لا تنال قَبُولــه حتى تكونَ تصومَه وتصونَه إلا أنه وجد من المجَّان من لم يستطع التقيد بآداب الدين، وحرمته فيه، بحيث لم يروا بأساً في معاقرة الخمر، والتسرى عن أنفسهم بألوان من اللهو، غير أنهم لم يستطيعوا أن يتحدوا المشاعر العامة، ففعلوا ما فعلوا سراً ما يوحي بقوة الرأى العام المسلم، تجاه انتهاك حرمات الشهر العظيم(199). وفي ليلة السابع والعشرين من هذا الشهر كان الأندلسيون يحتفلون بليلة القدر، وفيها كانت توقد الشموع في المساجد، ويبتاعون الحلوى ويقدمونها(200)، كما يحتفلون في نهاية الشهر بختم القرآن حيث تكثر إضاءة المساجد والجوامع بالشموع والقناديل ويطلق البخور احتفاءً بهذه المناسبة(201). أما عيد الفطر الذي يأتى في الأول من شوال فكان تحديده من اختصاص القضاة وأهل الشورى في الأقاليم والمدن الأندلسية المختلفة، إذ كان يخرج القضاة والفقهاء لاستطلاع هلال شوال وإعلان انتهاء شهر الصوم، وكان يحدث أحياناً اختلاف حول رؤية الهلال بين قضاة الأقاليم، ففي سنة من السنوات (360هـ/ 970م) أفطر الناس في معظم الأقاليم الأندلسية يوم الخميس، بينما أفطر أهل قرطبة ومن جاورها يوم الجمعة(202). وكان التطلع لرؤية الهلال مناسبة لتبارى الشعراء بهذه المناسبة. يقول الشاعر أبو الحسن بن الزقاق: وشهر أدرنا لارتقاب هلالــه جفوناً إلى نحو السماء موائلا إلى أن بدا أحوى المدامع أحور يجر لأذيال الشباب زلازلا(203) وقال آخر: يا ليلةَ العيدِ عُـــدتَ ثَانْيةً وَعَادَ إحْسانُك الذي أذْكــرْ إذ أقبلَ الناسُ يَنْظـرُونَ إلى هِلالِك النضو ناحْلاً أصفرْ(204) وقد غُمَّ هلال شوال في سنة من السنوات ولم يتمكن الناس من رؤيته، ولكن أحد الشعراء المحبين رآه، ونتيجة لهذه الرؤية قام الشاعر بإعطاء تفسير جمالي يتفق مع للمحبوب من جمال المحيا. توارى هلال الأفق من أعين الورى ولاح لمن أهواه منه وحيـاه فقلت لهم لم تفهموا كنـــه سره ولكن خذوا عنى حقيقة معناه بدأ الأفق كالمرآة رق صـــفاؤه فأبصر دون الناس فيه محياه(205) وهكذا كان رؤية الهلال (هلال شوال) واحدة من المناسبات الملهمة لخيال الشعراء الذين كانت تجود قرائحهم بروائع الشعر وجميل الكلمات، فتضفي على المناسبة مزيداً من البهاء والمسرة والحبور. فإذا جاء العيد أقبل الناس على صلاتهم في خشوع تام، فكانوا يستيقظون عادة في الصباح الباكر فيتجهون إلى المصلى خارج المدينة من كل باب من أبوابها لأداء صلاة العيد، وكانوا يصحبون معهم نساءهم وأطفالهم، وينصبون الخيام على مقربة من المصلى لمشاهدة مظاهر فرحة العيد، وكان الناس يهنئون بعضهم البعض ويقبلون على شراء الحلوى، ويحرصون على ارتداء الثياب الجديدة، وتستخدم النساء العطور المختلفة، كما كن يحرصن على تكحيل العيون والتخضيب بالحناء، وترتدي المرأة أفضل الثياب وأغلاها والتحلي بالذهب والحلي، وعقب الصلاة يتجهون إلى المقابر لزيارة موتاهم والترحم عليهم(206). وكان من أشهر مصليات العيد في قرطبة العاصمة؛ مصلى المصاره ومصلى الربض. وكان مصلى المصارة يقع على الضفة اليمني لنهر الوادي الكبير. ولفظ مصاره معناه الفضاء الفسيح الواقع خارج المدينة، ويعد من متنزهاتها، ولم تكن المدن الأندلسية تخلو من مصاره يخرج إليها الناس للنزهة في أيام الأعياد، أما مصلى الربض فكان يقع على الضفة اليسري من النهر جنوب قرطبة. وكان مصلى المصاره أقرب من الربض، ولذلك كان الأمويون يصلون به غالباً صلوات الأعياد والاستسقاء(207). وعقب الصلاة يقصد الناس منازل وقصور الأمراء والكبار للتهنئة. وقد تحدث المؤرخ ابن حيان كثيراً عن الترتيبات التي كانت تجرى في قصر الخليفة في هذا اليوم؛ كيفية جلوس الخليفة والأمراء والوزراء وعِلْيةُ القوم، وكيف كان الناس يدخلون على الخليفة ويسلمون عليه. وكان الخطباء والشعراء الأندلسيون يقومون أمام الخليفة في مجلسه مرتجلين منشدين، فيكثرون ويطيلون في أشعارهم(208). وكان النساء يشاركن في إظهار الابتهاج بالأعياد خارج دورهن، وقد حملت روح المحافظة على الآداب الدينية أن يطالب الفقهاء بأن لا يمشي الرجال مع النساء في أيام العيد على طريق واحد عند جواز النهر(209). أما عيد الأضحى الذي يأتى في العاشر من ذي الحجة فقد كان فرصة للاحتفال والتأنق في المطاعم والمشارب واتخاذ الزينة على تفاوت المستويات المعيشية، فقد كانت كل أسرة فقيرة أو غنية تحرص على تقديم الأضحية خروفاً على الأقل، وقد جرى التقليد على شراء الأضحية قبل النحر بيوم أو يومين(210). وكان هذا العيد بالنسبة للأسرة الفقيرة يسبب للآباء الكثير من الضيق المالي، ومع ذلك فإنهم كانوا لا يرون بأساً في أن يستدينوا ليشتروا الأضحية، ويشتروا الملابس الجديدة للزوجة والأولاد قبل العيد ببضعة أيام(211). وكان مجيء العيد يقترن بالغلاء وارتفاع الأسعار نتيجة لشدة الإقبال على شراء احتياجات الأسر في مثل هذه المناسبات، وكان الناس يفرحون كثيراً بكبش العيد، وكما هو الحال في كثير من المدن الإسلامية اليوم؛ فقد كان قبل العيد ببضعة أيام تساق الخراف من كل مكان إلى ميادين تسور بأخشاب، ثم يذهب الناس متزاحمين، يقلبون الخراف ويساومون البائعين، ويدفعون ثمن ما اعتزموا شراءه وينادون الحمالين، فيرفع الواحد منهم الخروف على عنقه ويمضى به إلى بيت المشترى(212). وكان أهل الأندلس ينشغلون كثيراً بخروف العيد، ويتحدثون عنه حيثما يجمعهم لقاء – كما هو الحال اليوم – وربما كانوا يتخذون من خروف العيد مداراً للمداعبات الدالة على تأصل روح الفكاهة والتسامح اللطيف فيهم؛ إذ خرج يوماً الزهري خطيب جامع أشبيلية – وكان أعرج – مع ولده إلى وادي أشبيلية فصادف جماعة في مركب، وكان ذلك بقرب الأضحي، فقال بعضهم له: بكم هذا الخروف؟ وأشار إلى ولده، فقال له الزهري: ما هو للبيع، فقال: وبكم هذا التيس؟ وأشار إلى الشيخ الزهري، فرفع رجله العرجاء وقال: هو معيب لا يجزئ في الضحية، فضحك من حضر وعجبوا من لطف خلقه(213). ولم يفت الشعراء الأندلسيين التصدي لخروف العيد في أشعارهم، والعمل على تعداد صفاته، وتصوير عواطف الناس نحوه، فقد هنأ أحد الشعراء صديقاً له بنعجة العيد في أسلوب غزلي يصور جمالها ولونها الأخاذ واكتنازها بألوان من اللحم والشحم فقال: لِيُهْنكَ وافدُ أُنْسٍ ســَرَى فَسَرّى وفصلُ سـرورٍ طَرَقْ فَما شئتَ من ماءِ وردٍ به أراقَ ومـن ثوبٍ حُسنٍ أرقْ وسوداءَ تُدمى به منحراً كما اعترضَ الليلُ تحت الشفق ستخلعُ من فَرْوِها ضحوةً سوادَ الدُجى عن بياضِ الفَلَقْ(214) وكان أصحاب البيوتات الأندلسية الذين يملكون الإقطاعات يتلقون من مزارعهم في هذه المناسبة، الدجاج والبيض والخضروات بالإضافة إلى كبشٍ سمين(215). ويتميز العيدان بصلاة جماعية في المصلى الواقع خارج مدينة قرطبة، يؤمه القاضي أو صاحب الصلاة – وكذا الحال في سائر المدن الأندلسية – وكان كل الرجال يجتمعون لصلاة الجماعة، وكذلك النساء إلا أنه في فترة الفتنة البربرية في سنة 401هـ/ 1010م، لم يستطع أهل قرطبة الخروج إلى المصلى، وصلوا في الجامع خوفاً وجزعاً(216)، وكانت عامة الأسر الأندلسية مهما كان مستواها المعيشي تهتم بشراء الأضحية كمظهر من مظاهر إتباع السنة وإدخالها الفرح والسرور على أهل البيت(217). ومن المناسبات الدينية التي اهتم الأندلسيون بإحيائها والاحتفال بها؛ يوم عاشوراء (العاشر من محرم)، فكانوا يصومون هذا اليوم ويوسعون فيه على أنفسهم وعلى أولادهم(218).   الأعيـاد المسيحية: شارك المسلمون المسيحيين احتفالاتهم الدينية على أساس من نظرة الاحترام والتسامح الديني، والحياة المشتركة التي عاشها المسلمون والمسيحيون هنالك جنباً إلى جنب في المجتمع الأندلسي سنين طويلة. ومن هذه الأعياد؛ عيد النيروز (عيد الربيع) وقد اقترن الاحتفال به بالطبيعة، ووجد اهتماماً كبيراً من الأندلسيين، وهو فارسي الأصل، ويقع في بداية السنة في يناير من كل عام ويختلط بعيد رأس السنة. وكان إحساس الأندلسيين بعزة هذا العيد كبيراً، حتى كانت الليلة السابقة لعيد النيروز من أنسب الليالي لعقد الزيجات(219). وجرت عادة الناس في هذا اليوم أن يصنعوا الحلوى في صورة مدائن، ذات أشكال مستحسنة جميلة لتقديمها للضيوف في هذه المناسبة، وكان الناس يجلبون في هذه المناسبة إلى منازلهم كثيراً من الطرف والمواد الغذائية المختلفة من فواكه ولحوم وتوابل، وكذلك مواد الزينة كالحناء، رغبة في إشاعة البهجة والسرور في نفوس أفراد الأسرة(220). كما كانوا يتهادون في هذا العيد ويتبادلون التهنئة به أحياناً عن طريق بعض الأبيات الشعرية التي يبعثون بها إلى الأصدقاء حيث يقول أحد الشعراء: هو النَيْروزُ أمّك للتَهَانِي وللبِشْري بمقتبلِ الزَّمانِ(221) ومن الأعياد المسيحية كذلك عيد المهرجان وهو أحد الأعياد الطبيعية أيضاً، وقد ظل إلى جانب النيروز موضع اهتمام الأندلسيين وهو مثله فارسي الأصل ويقال إن زرياباً هو الذي أدخلها إلى الأندلس، ويحتفل به في الرابع والعشرين من شهر يونيو. وقد تغنى الشعراء الأندلسيون بهذا العيد أيضاً، فهذا أحد الشعراء الأندلسيين من شعراء بني أمية في أيام عبد الرحمن الناصر يقول فيه: أرى المهرْجَانَ قَدْ استبشرا ** غداةَ بكى المزنُ واستعبرا وَسرْبلتِ الأرضَ أفْـوَاهُها ** وجللتِ السندسَ الأخضرا وهزّ الرياحُ صَنَــابيِرَها ** فضوعتِ المسكَ والعنبرا تهادي بِه الناسُ ألطافـهم ** وسامي المُقل بِه المكثرا(222) كذلك شارك المسلمون في الأندلس النصارى المستعربين في احتفالهم بيوم ميلاد المسيح عليه السلام (عيد الميلاد) وعيد يناير أو رأس السنة الميلادية، وخميس أبريل، وليلة العجوز(223). وكلها أعياد ومناسبات نصرانية خالصة. وهناك أعياد قومية أو شعبية مثل عيد العصير الذي كان يحتفل به عند جني محصول العنب، وكان محصولاً رئيسياً، فكانوا يقيمون في الحقول في جو يسوده المرح والغناء والرقص، وهي عادة لا زالت موجودة في أسبانيا إلى اليوم(224). وهكذا نرى أن التسامح قد بلغ مبلغاً عظيماً بين طبقات المجتمع الأندلسي حيث شارك المسلمون النصارى في أعيادهم ومناسباتهم الدينية، كما شارك النصارى المسلمون كذلك في احتفالاتهم وأعيادهم إضافة إلى الأعياد القومية الأخرى المشتركة بينهم. وكان يوم الأحد عبارة عن عطلة رسمية للموظفين، وقد سن هذه السنة قومس بن أنتيان كاتب الأمير عبد الرحمن الأوسط، وكان نصرانياً فأسلم في آخر حياته، وهو أول من سن لكتاب السلطان وأهل الخدمة تعطيل الخدمة في يوم الأحد من كل أسبوع والتخلف عن حضوره، وذلك لكي يتعبد في هذا اليوم، فتبعه جميع الكتاب طلباً للراحة والنظر في أمورهم(225).   حفلات الزواج: كان الزواج من المناسبات المهمة والسعيدة التي يحتفل بها الأندلسيون احتفالاً شديداً، وكان من شروط الخطبة اختيار الفتى لعروسه، ويتم الاختيار عادة بواسطة الأهل والأصدقاء، أو يكون الفتى قد رأى الفتاة أو شاهدها، وأحياناً تتدخل الأمهات تدخلاً صريحاً في اختيار العروس لأبنائهن. وكان يقابل هذا التدخل أحياناً بعدم الرضي من قبل الشاب(226). ويشكل الزواج منعطفاً مهماً في حياة الأندلسيين كما هو الحال في أي مجتمع مسلم، وأولوه عنايتهم البالغة. يقول ابن حزم في هذا الصدد: "وإنك لترى المرأة الصالحة المسنة، المنقطة الرجاء من الرجال، وأحب أعمالها إليها وأرجاها للقبول، سعيها في تزويج يتيمة"(227). وعلى الرغم من ذلك فقد وجد من أهل الأندلس من نصح الشباب بعدم التورط في تجربة الارتباط بزوجة حتى لا يذل نفساً تعودت العز والفرح، ومجد بعضهم فكرة التخلي عن الزواج معدداً محاسن العزوبية المتحررة من قيود الحياة الزوجية وتكاليفها مما يريح البال ويعين على الانطلاق وراء المعرفة، والنزهات الهانئة، غير أن هذا الاتجاه وجد أشد أنواع الاستنكار من قبل البعض لأنه مخالف لنهج النبوة(228). وهناك من النساء في المجتمع الأندلسي من تمردت على الزواج وماتت عذراء مثل عائشة بنت أحمد بن محمد القرطبية التي وصفت بأنه لم يكن في زمانها من يعدلها فهماً وعلماً، وأدباً وشعراً وفصاحةً، وعفة، وجزالة وحصافة. وكانت تمدح ملوك زمانها وتخاطبهم فيما يعرض لها من حاجتها، فتبلغ ببيانها حيث لا يبلغه كثير من أدباء وقتها، ولا ترد شفاعتها. وكانت حسنة الخط تكتب المصاحف والدفاتر وتجمع الكتب وتعتني بالعلم(229). وإذا كانت عائشة قد رفضت الزواج كلية، فإن نزهون بنت القلاعي قد أكدت حقها في رفض من لا ترغب فيه من الخُطَّاب، حين سخرت من رجل مشوه تقدم إليها طالباً يدها. في حين أن الشاعرة قسمونة بنت إسماعيل أفصحت عن رغبتها الطبيعية في التزوج مبدية الكثير من الأسى على شبابها وجمالها الباهر الضائع(230). وكان كثير من الأندلسيين يفضلون عقد الزواج في أحد المساجد جلباً للبركة. وكانت معظم عقود الزواج مشروطة بشروط خاصة على الزوج، إذا أخل بأحدها كان الطلاق حقاً للمرأة تمارسه في أي وقتٍ شاءت دون الرجوع إلى الإجراءات الكثيرة للإثبات. وكان أهل الزوجة في استطاعتهم فسخ عقد نكاح الفتاة إذا تزوجت من ليس بكفء لها(231). وكانت فترة الخطبة والزواج مصحوبة بمصروفات كثيرة فكان طالب الزواج يقوم بتأسيس مكونات جهاز العروس وملابسها ثم تحديد ميعاد الزفاف، وتستمر احتفالات الزواج أسبوعاً كاملاً في منزل العروس تتلقى فيه تهاني نساء الأسرة والصديقات والأقرباء. وفي أثناء هذه الحفلات كان العامة من المدعوين يضربون البوق والكير والمزهر والطنبور والعود، هذا إلى جانب غناء المغنين والمغنيات الذين كانوا يطلقون حناجرهم ابتهاجاً بتلك المناسبة(232). وكانت العروس تخرج من بيت أهلها إلى بيت زوجها مرتدية ثوباً خاصاً لهذه المناسبة، ومشهد الحفل يكون مثار إعجاب المدعوين، ويتكلف بيت العروس نفقات طائلة مما أدى إلى شن حملة قوية من الفقهاء على ذلك النمط المكلف من الزواج(233). وكانت زفة العروس في شوارع قرطبة بمثابة الإعلان ليقبل المدعوون إلى منزل العروس للتهنئة وليشاهد الأصدقاء وأهل العروس مقدار قدرة الوالد على تجهيز ابنته، بمشاهدة مكونات جهاز العروس وملابسها والهدايا التي قدمت إليها. وكانت العروس تزف إلى زوجها في موكب كبير وموسيقي، وتتبع الموكب بغال تحمل الخزائن التي تشتمل على جهازها. كما كانت تعد الولائم في هذه المناسبة، ويدعى إليها الأصدقاء(234). أما حفلات الميلاد فقد جرت العادة أنه في اليوم السابع من ميلاد الطفل أن يسمي ويكنى، ويقوم والده بإعداد وليمة فخمة تسمى العقيقة تدعو فيها الأسرة والأهل والأصدقاء ليشاركوهم فرحتهم بمقدم المولود الجديد(235). حفلات الختان: الختان سنة إسلامية متبعة يحرص عليها المسلمون في الشرق والغرب. وكان الختان هو الحدث الحقيقي الأول في حياة الطفل الأندلسي المسلم. وقد بقى محاطاً بكثير من مظاهر التكريم. وهو وإن كان في أصله عيداً أسرياً خاصاً إلا أنه ظل في كثير من الحالات وبخاصة فيما يتصل بالأمراء وعلية القوم، محتفظاً بمظاهر المناسبات العامة التي تقام لها الولائم الضخمة، وتنفق فيها الأموال الطائلة، ويشارك فيها طبقات اجتماعية أندلسية عريضة، وقد يدعي لها علية القوم من خارج الأندلس(236). ومن الاحتفالات العظيمة بمناسبة الختان التي أشار إليها المؤرخون، ذلك الاحتفال الضخم الذي أقامه الخليفة عبد الرحمن الناصر في سنة 320هـ بمناسبة ختان بعض أبنائه وقد تزامن ذلك مع قضائه على المتمردين عليه في طليطلة واسترداده لها(237). كما أقام المنصور بن أبي عامر حفلاً كبيراً بمناسبة ختان أحد أبنائه. وكان يقوم بعملية الختان المزَيّن أو المطهر، بمشاركة بعض المغنيين وأصحاب اللعب والفكاهة. كما تقدم فيه الهدايا لوالد الطفل، وتقام فيه الولائم، وتوزع الأطعمة ابتهاجاً وفرحاً بهذه المناسبة(238). أما أعظم الحفلات التي أقيمت بمناسبة الختان وطبقت شهرتها الأندلس وتجاوزتها إلى غيرها من البلدان؛ فهي تلك الوليمة الكبرى التي أقامها أمير طليطلة المأمون بن ذو النون بقصره بطليطلة في سنة 455هـ احتفالاً بختان حفيده يحي. على أن ما أحاط بهذا الاحتفال من جلال وبذخ جعله يتساوى شهرة بأرقى الحفلات التاريخية حتى صار يضرب بها المثل، وينعتون الحفلات الباذخة بأنها حفل ذي النوني(239). وكان الطفل يتم ختانه في العام السابع من عمره، وكان الختان يستهدف الحفاظ على حياة المسلم بطريقة ملموسة يرافقه احتفال كبير تشترك فيه كل طبقات المجتمع، وكانت هذه الحفلات تسمى (أعذار) أو صنيع(240). وقد ذكر من مآثر المنصور بن أبي عامر أنه لمّا ختن أولاده ختن معهم من أبناء دولته خمسمائة صبي، ومن أولاد الضعفاء عدداً لا يحصر وبلغت النفقة عليهم في هذا الإعذار خمسمائة ألف درهم(241). وقد اهتم الشعراء الذين تولوا تسجيل نبض الحياة الاجتماعية الأندلسية بتصوير كثير من مظاهر هذه الاحتفالات التي كانت تقام في مناسبة الختان، وقد تحدث أحد الشعراء عن الصنيع الذي أعده المنصور في ختان أحد أبنائه، وأشار في إعجاب إلى سخاء المنصور الذي لا يماثله إلا السحاب الهاطل بالمطر، لينعش الآمال بعد القحط الذي أصاب الناس بالقنوط(242). هذه صور من حياة الأندلسيين الاجتماعية التي كانت تتم في الأعياد والاحتفالات والمناسبات المختلفة، وهي كما نرى تتشابه في بعض جوانبها مع ما يجرى في كثير من أنحاء العالم الإسلامي اليوم.   الفصل الثاني الملابس والأزياء تميز الأندلسيون بعدة خصائص وصفات مميزة من أهمها: حبهم الشديد للنظافة، وميلهم الواضح للتأنق في ملبسهم، وانفرادهم بتقاليد في الزى تختلف عن أهل الأمصار الأخرى، وحسن تدبيرهم في شؤون حياتهم، وحبهم للعمل وكراهيتهم للبطالة والتسول ورغبتهم الشديدة في العلم والتعلم، وتدينهم ومحافظتهم على قواعد ديانتهم، والمحافظة على إقامة حدودها وانكار التهاون في تعطيلها(243). وتعتبر صناعة الملابس والمنسوجات من أرقى الصناعات الأندلسية لوفرة موادها الأساسية من قطن، وصوف، وحرير، وفراء، يضاف إلى ذلك مهارة العاملين في هذه الصناعة لتكون خير معين لهم في التأنق وجمال المظهر، كما اشتهرت كثير من المدن الأندلسية بكثرة منسوجاتها مثل المرية التي تنتج مصانعها أنواع فاخرة من الديباج وغيرها من المنسوجات الأخرى. وكانت الأسواق المحلية في الأندلس من أغنى أسواق الدنيا بالمنسوجات الفاخرة، وكانت تحمل منها إلى مصر وخراسان وغيرها، كذلك مثلت الملابس الراقية أبرز ما كان يقدم بها التجار إلى الأندلس(244). وكانت مصانع المرية تنتج أقمشة شبيهة بالأقمشة الشرقية وبنفس أسمائها مثل: الأصبهاني (نسبة إلى أصبهان) والجرجاني (نسبة إلى جرجان)، والعتابي (نسبة إلى محلة العتابية بغرب بغداد)، والسقلاطون الحريرية الوردية (نسبة إلى بلاد اليونان في الأصل)، ثم انتشرت في المدن الإسلامية شرقاً وغرباً، أما الأقمشة ذات البريق الذهبي الملون وتسمي أبو قلمون فكانت تصنع من نبات بحري يلتقط من على شواطئ الأطلنطي وتنتجه مصانع أندلسية(245). وكان بالمرية ثمانمائة نول لنسج طراز الحرير، وألف نول للحلل النفيسة والديباج الفاخر والأسقلاطون والثياب الجرجانية والعتابي(246). وكان الأمير عبد الرحمن الأوسط أول من أنشأ من أمراء بني أمية داراً لصناعة المنسوجات بقرطبة. وكانت هذه الدار تنسج ثياب الأمراء والخلفاء من الحرير المختم المرقوم بالذهب المختلف الألوان(247). يقدم لنا المقري وصفاً لزى أهل الأندلس فيقول: "وأما زى أهل الأندلس فالغالب عليهم ترك العمائم، ولاسيما في شرق الأندلس، فإن أهل غربها لا تكاد ترى فيهم قاضياً ولا فقيهاً مشاراً إليه إلا وهو بعمامة "وإن أكثر العوام يمشون دون طيلسان، إلا أنه لا يضعه على رأسه منهم إلا الأشياخ المعظمون، وغفائر الصوف كثيراً ما يلبسونها حمراً وخضراً، والصفر مخصوصة باليهود، ولا سبيل إلى يهودي أن يتعمم البتة، والذؤابة لا يرخيها إلا العالم، ولا يصرفونها بين الأكتاف، وإنما يسدلونها من تحت الأذن اليسرى... وأهل الأندلس أشد خلق الله إعتناءاً بنظافة ما يلبسون وما يفرشون، وغير ذلك مما يتعلق بهم، وفيهم من لا يكون عنده إلا ما يقوته يومه، فيطويه صائماً ويبتاع صابوناً يغسل به ثيابه، ولا يظهر فيها ساعة على حالة تنبو العين منها"(248). وقد ساهم المغنى البغدادي أبو الحسن على بن نافع الملقب بزرياب في نقل نزعة التجديد البغدادية إلى الأندلسيين في ثيابهم وأزيائهم وطريقة ارتدائها، واختيار ألوانها، وأنواعها حسب فصول السنة إلى جانب تعليمهم طريقة تصفيف شعورهم ورفعه خلف الآذان، بدلاً من تركه مسدولاً على جباههم وأعينهم، وتعليمهم أيضاً طريقة الطهي العراقي(249). وكان للتقليد الاجتماعي الرفيع الذي أدخل زرياب على الملابس الأندلسية دور مؤثر في حياة الأندلسيين، فقد شغفوا بذلك وطبقوه بسرعة، وساعدتهم طبيعة الأندلس الخلابة أيضاً في أن ترق شمائلهم وترهف أحاسيسهم وانعكس ذلك على أزيائهم وعلى غيرها من مظاهر الحياة الاجتماعية(250)، وقد وضع زرياب نظاماً لارتداء الأزياء المختلفة، وأوقاتاً محددة لتغييرها، ولكل فصل زيه المناسب، فيرتدى الناس الملابس البيضاء صيفاً فحسب من مطلع يونيو حتى نهاية أكتوبر، ويلبسون الملابس الملونة بقية أيام السنة. ويلبسون الأزياء الحريرية الخفيفة، غير المبطنة، والسترات ذات الألوان الزاهية، في فصل الربيع، ويلبسون في الخريف والشتاء الفراء والمعاطف ذوات الحشو، والبطائن الكثيفة، ينتقلون فيها تدريجياً، حسب شدة البرد من الأخف إلى الأقوى(251). وكان الناس يلتمسون آراءه، ويطبقونها نصاً وروحاً، وما من تأثير لأناقة الحضارة العباسية ورقيها يمكن أن يكون أشد نفاذاً، وأبعد عمقاً، عما كان عليه في قرطبة، ونزولاً على رأى زرياب الذي لا يناقش، ويقبل على علاته فغَّير أهل البلاط وسكان المدينة أزياءهم وأساليب طبخهم(252). وكانت ملابسهم تتميز بتفصيلات وهيئات وأشكال خاصة بهم لا تكاد تعرف في المشرق، وربما كان من أهم مظاهر تلك المغايرة اتخاذهم البياض بدلاً من السواد. ويشير إلى هذه العادة أحد شعرائهم بقوله: إذا كَانَ البيَاضُ لباسَ حُزني بأندلسِ فذاكَ مِن الصوابِ ألم ترنى لبستُ بياضَ شيبي لأني قَدْ حَزِنتُ على شبابِي(253) ويشير بعض المؤرخين إلى أنه عندما اتخذ أهل الأندلس البياض ملبساً للصيف تراجع الناس إلى لبس السواد. وقد اختلفت أزياء أهل البادية عن أزياء أهل الحضر، فقد اتسم زى أهل البادية بالبساطة، فكان يرتدون الجبة المصنوعة من النسيج السميك، كذلك القمصان المعروفة بالدراعة، أو الجلباب المصنوع من الصوف المفتوح في جزء منه. وكان زى المسلمين يختلف عن زى أهل الذمة(254). وكانت الملابس ذات الألوان الزاهية أو (المصبغات) محبوبة في الأندلس، وأحبها الكثيرون حتى أولئك الذين كانت تقتضي مناصبهم شيئاً من الحشمة والوقار والاقتصاد في الزينة واللباس. وكانوا يطلقون على الثوب اسم الحُلَّة وتتكون من قطعتين الرداء والإزار، وكانت تصنع من الكتان أو القطان أو الديباج أو من الحرير الموشى بخيوط ذهبية. وكانت هناك أنواع من الملابس الفاخرة مثل الوشى اليوسفي والوشى الهشامى يلبسها الخلفاء والأمراء وبعض القضاة والعلماء(255). فقد ذكر ابن حيان: أن الأمير عبد الرحمن الأوسط أراد أن يركب للنزهة مع بعض كرائمه على العادة، فطلب من الراشدة القائمة على رأسه أن تدخل إلى خزانة الكسوة لتأتي برداء يوسفي من أفخر أنواع الوشى، وترسل به إلى عريف الخياطين بالقصر ليصنعه ثوباً يلبسه في النزهة غداً(256). وكان من أهم ألبسة الرأس عند الأندلسيين: القلانس والأقاريف والغفائر. والقلنسوة ما يغطى الرأس من الوشى أو الخز أو الصوف أو الفراء. وقد شاع استخدام القلانس في الأندلس خاصة في عصر الدولة الأموية. ولكن استخدامها لم يكن مألوفاً لدى القضاة الذين يؤثرون العمائم. أما الغفارة (جمعها غفائر) فكانت في الأصل خرقة تضعه المرأة على رأسها حماية للخمار من دهن الرأس، ولكنها في الأندلس كانت طاقية تطوق الرأس وتشبه القلنسوة وقد تتخذ رداءً خارجياً أشبه بالمعطف، ولكن الشائع أنها من ألبسة الرأس وتنسدل على الكتفين. وأغلب الغفائر الأندلسية من الصوف، وكثيراً ما كانت حمراء أو خضراء أما الغفائر الصفراء فكانت مخصصة لليهود(257). وكانت الطيالس من ألبسة الرأس التي تختص بالرجال والطيلسان ثوب معين يوضع على الرأس وينسدل على الكتفين. وقد شاع ارتداء الطيلسان في الأندلس. بين فئات مختلفة من الناس فاستخدمه عوام الناس وخواصها، فلبسه الأدباء والكتاب والمؤدبون والوعاظ والقضاة وطلاب العلم، وعرف بأنه لباس الأشراف وأهل المروءة. وكانوا يرتدونه مع الجبة. ويصنع الطيلسان عادة من الخز أو الديباج وتنوعت ألوانه بين الأخضر والأزرق والأبيض(258). ومن ألبسة الرجال أيضاً المآزر لباس يغطى القسم الأدنى من البدن من الوسط حتى منتصف الساقين وكذلك القمصان ويصل القميص إلى منتصف الساقين بينما يصل الكمان إلى أطراف أصابع اليدين. وأغلب القمصان بيضاء اللون أو سوداء، ومن حيث مادة النسيج فغالباً ما تكون من الكتان الرقيق. وكانت بعض النساء لاسيما الجواري يؤثرن الأقمصة الرقيقة الملاصقة للبدن لإبراز مفاتن أجسادهن وقد مشت جارية بين يدي المعتمد بن عباد وعليها قميص لا تكاد تفرق بينه وبين جسمها(259). والملحفة أيضاً من ثياب الرجال في الأندلس، وهي عبارة عن ملاءة مبطنة يطلق عليها أحياناً اسم المبطن. وقد تكون صفراء أو حمراء أو موردة وغالباً ما تلبس على القميص أو مع الإزار(260). أما الجند الأندلسيون فقد كانوا يلبسون الأقبية، وكان يصنع من الديباج والسندس والخز والكتان وقد ذكر ابن حيان أن فرقة من جند طليطلة قدموا إلى قرطبة في عهد الحكم المستنصر وقد لبسوا الأقبية البيض(261). وكانت الجباب لباس الرجال المفضل يلبسها الخواص والعوام على السواء، وكان أهل الأندلس يستطرفون لبس الجباب فكان يلبسها الفقهاء والقضاة وكبار رجال الدولة من الوزراء وأصحاب الخطط وأرباب الخدمات. وكانت الجباب مما يهادى به. فقد خلع الحكم المستنصر على طائفة كبيرة العدد من الجند أعداداً جمة من الجبب العبيدية والطرازية. وكافأ أحد قواده بأعداد كبيرة من الكسى الفاخرة أهمها عدة جبب من الديباج(262). وكان اتخاذ اللباس من الفراء شائعاً في الأندلس بدرجة كبيرة يستوي في ذلك المسلمون والنصارى من سكانها، وقد تعددت أنواع الفراء بتعدد مصادر الفراء من الحيوانات الكثيرة التي كانت تعمر البيئة الأندلسية، ولكن أثمن أنواع الفراء كانت تؤخذ من حيوان الفنك، والسمور الذي يعمل من وبره الفراء الرفيعة، والقنلية وهو حيوان بحري أرق من الأرنب، وأحسن وبراً، وكثيراً ما يلبس فراؤها(263). أما عن ملابس النساء فكان طابعها الأناقة والنفاسة والترف وخاصة نساء الطبقة الراقية. حيث كن يتفنن في لبس المصبغات والمذهبات والديباجات من الثياب، ويبالغن في زينتهن من التحلي بالذهب والجوهر بالإضافة إلى التطيب بأنواع الطيب المعروفة في ذلك الوقت(264). وقد تعددت وتنوعت ملابس النساء تنوعاً كبيراً فكانت تغطى رأسها "بالطرحة". وهي غطاء يوضع على الرأس وينسدل إلى الخلف قليلاً، وطرحة النساء أطول قليلاً من طرحة الرجال، وكانت الطرحة رقيقة ومصنوعة من الكتان أو القطن. ومن أغطية الرأس أيضاً العصابة، وهي قطعة من الصوف مربعة وسوداء وذات حواف حمراء وصفراء اللون، يتم ثنيها على هيئة مثلث، ثم تربط بها الرأس من الخلف، وتعقد عقدة واحدة. ومن أغطية الرأس أيضاً "الغفارة". وهي قطعة قماش تضعها المرأة بين رأسها والخمار، حتى لا يتسخ خمارها من الزيت الذي تتعطر به. وتضعه على شعرها. والقشطول أيضاً من أغطية الرأس للمرأة. والنقاب نوع من الحجاب للمرأة. ولكنه مزود بفتحتين صغيرتين أمام العينين حتى تتمكن المرأة من السير. والعتابي نوع من الخمر تغطى بها النساء رؤسهن. وكان الخمار يصنع من الكتان أو الحرير. وأما الدرع فهو قميص المرأة الكبيرة، والمجول قميص المرأة الصغيرة وهو ثوب تجول فيه الجارية، أي تتجول به. والمئزر أو الإزار وهو ما يغطى الجزء الأعلى من الجسم، وكان إزار النصرانية أزرق اللون، واليهودية أصفر، وذلك تمييزاً لهن عن نساء المسلمين. ويوجد شيء آخر يشبه الإزار وهو الملحفة. وهو رداء كبير تتغطى به النساء عند خروجهن(265). أما ألبسة القدم، فقد كانت النساء تنتعلن النعال الجلدية، أو الخفاف، والنعال هي أحذية ذات كعوب، أما الخفاف فهي بدون كعوب، وكانت توجد سوق مخصصة لذلك تسمى سوق الأخفافيين، يباع فيها إخفاف ونعال النساء(266). وكان عامة أهل الأندلس يسيرون حاسرى الرأس من غير غطاء، والوحيدون الذين كانوا يتعممون هم العلماء والفقهاء، أما الطيلسان فقد كان شائعاً في الأندلس وكان الشيوخ يلفونه على رؤوسهم، وكان صبغ الشعر واللحية بالحناء شائعاً أيضاً(267). إلى جانب هذا التنوع في الأزياء والملابس، فقد استخدم الأندلسيون العطور بشكل واسع، وكثيراً مع تغنى شعراؤهم بوصف العطور المصنوعة من الزهور المنتشرة في بلادهم مثل السوسن وزهرة النسرين وبعض أنواع العطور مثل العنبر والمسك(268). وهكذا نرى من خلال هذا العرض، مدى اهتمام المجتمع الأندلسي رجالاً ونساءً، أمراء وخلفاء، علماء وقضاة، أدباء وشعراء وعامة الناس، بالتأنق في أزيائهم وملابسهم، صيفاً وشتاءاً وربيعاً، وحبهم للنظافة وحرصهم عليها مهما كلفهم ذلك حتى يبدو أحدهم بمظهر مشرف ولائق أمام ناظريهم، واهتمامهم كذلك بالتطيب والتعطر لإضفاء مزيد من البهجة والحبور على مجالسهم؛ كل ذلك يشير إلى مدى رقي هذا المجتمع، ورهافة حس أفراده، وتطوره في سلم الحضارة مما جعله مجتمعاً متفرداً عن غيره من المجتمعات في بلاد المشرق وحتى في المجتمعات الأوربية التي اقتبست كثيراً من روائع وفنون المجتمع الأندلسي. وكان تأثير المسلمين على نصارى الشمال الأسباني كبيراً في مجال الزي، ذلك أنه اعتباراً من القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي على الأقل، دخلت أزياء قرطبة وأشبيلية وطليلطة وسرقسطة الإسلامية في دور الأمراء المسيحيين في شمال البلاد، وكانت سفارات ملوك نبرة وليون وقشتالة وبرشلونه تفد إلى بلاط قرطبة أيام الناصر والمستنصر وابن أبي عامر وابنه عبد الملك، وتعود محملة بأفخر الملابس والأزياء والهدايا والتحف التي كان نساء البلاط في ممالك الشمال يتلهفن عليها وينظرن إليها على أنها "موضة" العصر، وكن يكثرن من الأسئلة عن الأقمشة والألوان والأزياء(269).   الفصل الثالث الغنـاء والموسيقي مثلت الموسيقي والغناء عنصراً مهماً في الحياة الاجتماعية في الأندلس وقد اعتبر فن الغناء والموسيقي والرقص من أكثر وسائل اللهو تفشياً وشيوعاً في المجتمع الأندلسي منذ طليعة القرن الثالث الهجري، ولم تكد مجالس الأنس التي يعقدها الكبراء والأعيان بقرطبة مجالس حقيقية ما لم يصحبها غناء على نغم عود أو مزمار أو ما يتبع ذلك من حركات إيقاعية راقصة(270). وعلى الرغم من تشدد الفقهاء الأندلسيين في منع وتحريم آلات اللهو والطرب والموسيقي باعتبارها أموراً منكرة في الدين(271)، إلا أننا نجد أن فن الموسيقي والغناء قد ازدهر بشكل كبير نتيجة لطبيعة بلاد الأندلس الجميلة الساحرة التي تدعو إلى البهجة والسرور والطرب واللهو، وميل الأندلسيين بصفة عامة للغناء والموسيقي، وولع كثير من أمراء الأمويين بهما وإجزالهم العطاء لأهلهما(272). بدت الموسيقي والغناء والرقص في سماء العبقرية الأندلسية متألفة وهاجة تحكي روعة الحضارة والفن الأندلسي، والتقت كلمة مغنى في المعنى بكلمة موسيقي، بل استعملت بمعناها في بعض الأحيان. كما سميت الموسيقي بالطرب، وسميت آلات الموسيقي عند البعض باسم الملاهي(273). وراجت سوق الموسيقي والغناء، وذاع أمرها بقوة بين الناس، بل صارت من مستلزمات الحياة الاجتماعية الحافلة بملذات الحياة، حتى كان من المألوف في الأندلس، وجود فريق من الموسيقيين مقيم في قصور الخلفاء، وفي منازل بعض الأندلسيين ذوى المكانة المادية والاجتماعية الملحوظة، إلى جانب وجود هذا الفريق في الحفلات العامة والخاصة(274). ويعتبر عصر دولة بني أمية في الأندلس العصر الذهبي لفنون الغناء والموسيقي وما يتبعها من فنون اللهو كالرقص وغيره من الفنون. وقد اهتم الأمويون بهذا الأمر أيما اهتمام، وبعثوا إلى الحجاز تجاراً يشترون لهم من الجواري ممن ذاعت شهرتهن في فن الغناء(275). وقد وقع الاختيار على عدد منهن، وحملن إلى بلاد الأندلس فمنهن فضل المدنية، وكانت حاذقة بالغناء كاملة الخصال، اشتريت للأمير عبد الرحمن الأوسط مع صاحبتها علم. وأضيفت إليهن جارية ثالثة تسمى قلم. وقد بني لهن الأمير داراً بقرطبة سمي دار المدنيات(276). وكان بقرطبة في عصر الأمير عبد الرحمن الداخل مغنية تسمى العجفاء، كانت جارية لمسلم بن يحي أحد موالي بني زهرة فاشتراها منه الأمير وضمها إليه(277). وكان أول مغنيين دخلا الأندلس من المشرق هما (علون وزرقون)، وكان ذلك في عصر الحكم بن هشام (180 – 206هـ) الذي وصفه الكثيرون بالميل إلى الترف واللهو وخاصة في مرحلة شبابه، كما اشتهر في عصره رجل يسمي (منصور اليهودي)(278). أما الازدهار الحقيقي لفن الغناء والموسيقي الأندلسية فقد كان في عصر الأمير عبد الرحمن الأوسط وذلك بعد قدوم زرياب* إليه من العراق. وقد وجد زرياب كل حفاوة وتقدير وحسن استقبال من قبل الأمير عبد الرحمن حيث أنزله في دار فخمة في قرطبة، وجعل له رزقاً شهرياً قدره مائة دينار، ولكل من أولاده الأربعة عشرين ديناراً، كما جعل له ثلاثة آلاف دينار في كل عام، ألفاً في كل من عيدي الفطر والأضحى وخمسمائة في كل من عيدي النيروز والمهرجان، عدا ما خصص له من القمح والشعير، وما وهب له من الضياع والبساتين التي قدرت بأربعين ألف دينار(279). وقد أحدث قدوم زرياب إلى الأندلس ثورة شاملة على المجتمع القرطبي عامة، وعلى فنون الموسيقي خاصة حتى أن أحد الأندلسيين، وهو أسلم بن أحمد بن سعيد صنف كتاباً في أغاني زرياب وفي طريقة غنائه وأخباره(280). ومن التطورات التي أدخلها زرياب على الموسيقي الأندلسية، أنه ابتكر وتراً خامساً للعود، وكان إلى أيامه أربعة أوتار فحسب، فاكتسب عوده ألطف معنى، وأكمل فائدة، كما ابتكر أيضاً مضراب العود من قوادم النسر بدلاً عن الخشب، فأبدع في ذلك، للطف قشر الريشة، ونقائه وخفته على الأصابع، وطول سلامة الوتر على كثرة ملازمته إياه(281). كما قام زرياب بترجمة كتاب الموسيقي لبطليموس وحفظ عشرة آلاف لحناً، كما قام بتأسيس مدرسة لتعليم الغناء ومعالجة الأصوات تبعاً لاختلاف طبائعها، واكتشاف الموهوبين، وبفضل هذه الجهود الموفقة تألق عدد كبير من تلاميذه وتلميذاته، ونجحوا في إتمام رسالة زرياب فنشروا الوعي الموسيقي عند العامة والخاصة. وقد نبغ من تلاميذه أبناؤه الذكور الثمانية، وبنتاه عُلَيَّة وحمدونة، وكلهم تعلموا الغناء ومارسوا هذه الصناعة، وكانت حمدونة تفوق أختها علية في إجادة الغناء(282). ونتيجة للمعاملة الكريمة والتقدير الذي وجده زرياب من قبل الأمير عبد الرحمن الأوسط، فقد حسده عدد من أهل الأندلس من الأدباء والفقهاء، واستنكروا على الأمير إغداقه الأموال على زرياب بتلك الصورة. فقد استنكر فقيه الأندلس المشهور عبد الملك بن حبيب (ت 230هـ) منح الأمير مبلغ ألف دينار لزرياب بعد أن غنى بين يديه مرة بشعر أطربه في حين أن الفقيه حرم من هذا المبلغ على شرف مهنته(283). كما قام الشاعر يحي الغزال (ت 250هـ) بمعاداته وهجوه أقذع هجاء(284). ولما رأى زرياب أن الناس قد انبهروا بفنه، ذهب يزعم أن الجن تعلمه في كل ليلة، ما بين نوبة إلى صوت واحد، فكان يهب من نومه سريعاً فيدعوا بجاريتيه، غزلان، وهنيدة فتأخذان عودهما، ويأخذ هو عوده فيطارحهما ليلته، ثم يكتب الشعر ثم يعود عجلاً إلى مضجعه(285). ومهما يكن من أمر زرياب ومدرسته، فقد جعل للموسيقي الأندلسية طابعها الخاص، وخلق لها عشاقاً كثيرين، وخلصها من التقاليد الموسيقية القديمة، كما أبدع فناً غنائياً يصور جمال الأندلس ويعبر عن حضارته. وقد خرَّجت مدرسته عدداً من أعلام الطرب منهم على سبيل المثال جاريتيه مصابيح ومتعة. وقد عرفت متعة بالجمال الباهر وحسن الأدب، وبديع أدائها لأحسن أغاني زرياب، ويذكر أنها غنت مرة للأمير عبد الرحمن فأعجب بغنائها وبادلته حباً بحب، فلما انكشف لزرياب أمرها أهداها إلى الأمير. أما مصابيح فقد كانت جارية الكاتب أبي حفص عمر بن تهليل أخذت عن أستاذها زرياب فن الغناء، وكانت في غاية الإحسان والنبل، وطيب الصوت(286). وكان تلاميذ زرياب يتعلمون الإيقاع والوزن، وألفاظ إحدى الأغاني بمرافقة آلة موسيقية، ثم يتغنون اللحن في حالته البسيطة حتى يصلوا مرتبة الإتقان(287). ويذكر أن زرياب ابتكر طريقة لكتابة موسيقاه، كما ابتكر الفرقة الموسيقية التي تجمع بين العازفين والمنشدين، وكان يلحن الصوت تلحيناً يجمع بين العزف والإنشاد الجماعي والفردي. ويعتبر أو من أنشأ بالأندلس التخت (المسرح الصغير) الذي تجلس عليه الفرقة الموسيقية، وكان يسمي بالستارة. وقد مثلت موسيقاه التي أدخلها الموسيقي الراقية في الأندلس، ونسبت إليه فعرفت بالموسيقي الزريابية(288). ومن الذين عرفوا بفن الغناء في الأندلس، عبد الواحد بن يزيد الإسكندراني الذي رحل إلى الأندلس من مصر في عصر الأمير عبد الرحمن الأوسط، واتصل بحاجبه عيسي بن شهيد، وكان الإسكندراني فتىً ظريفاً متأدباً يشدو شيئاً من الغناء، فلما رأى عيسي نجابته نصحه بالإقلاع عن الغناء ففعل، فقربه إليه وأدناه منه، وأوصله بالأمير الذي تقلب عنده في عدة وظائف ثم رقاه بعد ذلك إلى مرتبة الوزارة(289). وكان العباس بن فرناس الأديب والشاعر المشهور في عصر الأمير محمد بن عبد الرحمن من الذين حذقوا الموسيقي والغناء، وكان يضرب بالعود ويصوغ الألحان ويغنى في مجلس الأمير(290). ومن الجواري اللاتي برعن في فن الغناء في الأندلس، جارية بغدادية وفدت إلى الأندلس من المشرق تسمي قمر كانت ذات فصاحة وبيان ومعرفة بالألحان. وصفت بأنها "جمعت أدباً وظرفاً، ورواية وحفظاً مع فهم بارع وجمال رائع، وكانت تقول الشعر بفضل أدبها"(291). وكانت جارية للأمير إبراهيم بن حجاج الذي ثار على الأمير عبد الرحمن الأوسط واستقل بأشبيلية. وكان ابن حجاج قد وجه بأموالٍ عظيمة إلى بغداد لشرائها، إلى أن استقرت في دار مملكته أشبيلية. وكانت كالبدر المنير كما يذكر صاحب البيان المغرب(292).   ومن شعرها في الحنين إلى موطنها: آها على بغدادَها وعِراقَها وظبائها والسحر في أحداقهِا ومجالها عند الفراتِ بأوجهٍ تبدو أهلتُها على أطواقِها متبختراتٌ في النعيمِ كأنما خُلقُ الهوى العُذْري مِن أخلاقِها نفسي الفداءَ لها فأيُ محاسنٍ في الدهرِ تشرق من سنَا إشْراقِها(293) وكان لمعاملتها الراقية أثر طيب في نفس وأخلاق سيدها، والرجال الذين من حوله، وقد كان بهم شيء من جفاف وخشونة فأسهمت بفصاحتها الفطرية، واستعدادها الطبيعي لقول الشعر في إشاعة تذوق الأدب العراقي. وكانت تحفظ كل روائعه عن ظهر قلب(294). ومن الجواري المغنيات الأندلسيات، جارية ظهرت في عصر الأمير محمد بن المنذر أسمها (طرب) أهداها أحد التجار إلى الأمير المنذر، وكانت على درجة كبيرة من الجمال، مع حظ كبير في الإتقان في صنعة الغناء، وحسن الأداء، فما كاد يسمعها الأمير المنذر حتى أخذت بمجامع قلبه، ووهب للتاجر الذي أهداها له ألف دينار. ومنهن كذلك جارية الأمير عبد الله بن المنذر واسمها "جيجان" وكانت مغنية حاذقة. كذلك بعث الخليفة عبد الرحمن الناصر في سنة 344هـ إلى الإسكندرية لشراء عدد من الجواري والمغنيات(295). وازدان عصر المنصور بن أبي عامر بجاريته المطربة الجميلة أنس القلوب، التي كانت تشدو في مجلسه في رياض الزاهرة بأعذب الألحان التي تثير الوجد والشوق والحنين(296). وكان لليهود الأندلسيين إسهامات مقدرة في مجال الموسيقي والغناء، وقد اشتهر منهم اسحاق بن شمعون اليهودي القرطبي، وكان أحد عجائب الزمان في الاقتدار على الألحان، له نظم رائق، أحسن الغناء بلسانه ويده(297). ويبرز من بين كبار المطربين الأندلسيين اسم عبد الوهاب بن حسين ابن جعفر الحاجب، وقد وصف بأنه "واحد عصره في الغناء الرائق، وأنه كان أعلم الناس بضرب العود، واختلاف طرائقه وصنعة اللحون اختراعاً منه وحذقاً"، ومع ذلك فقد كان شاعراً جيداً يقيم في داره ومع أسرته حفلات غنائية موسيقية(298). وقد اقتضي ذوق الأندلسيين المترف، أن تكون الموسيقي الملائمة لحسهم الحضاري الناعم، مبعثها الآلات الوترية المرسلة لأرق النغمات وأدقها، ولذلك اعتبر العود سيد آلات الطرب في مجالسهم، ثم آلة المزهر وهو آلة وترية استمع الأندلسيون بإعجاب لأنغامها. وتأتى آلة المزمار مع غيرها في المرتبة الثانية من تذوق الأندلسيين للموسيقي بعد العود(299). ولذلك عرف الأندلسيون شخصية الزامر إلى جانب المغنيين. ولم يكن المجتمع الأندلسي يستغني عن هذه الشخصية في الحفلات والأعراس. وكان من أشهرهم النكورى زامر عبد الرحمن الناصر الذي كان أنيقاً في ملبسه يتوسط الناس في الحفل. ومنهم ابن مقيم وكان طيب المجلس صاحب نوادر(300). وكان ابتكار الموشحات والأزجال من العوامل التي ساعدت على النهوض بفن الغناء والموسيقي في الأندلس، والموشحات أشعار أكثر موضوعاتها التي تصلح للغناء تدور حول الغزل والخمر ووصف الطبيعة وكلها ترتبط ارتباطاً وثيقاً بمجالس الطرب. وبنيت الموشحات على أغاني شعبية كانت شائعة باللاتينية الدارجة أو العجمية. وكان الموشح ينظم أسماطاً أسماطاً وأغصاناً أغصانا. وكان المقطع الأخير من البيت الواحد في الموشحة يعرف بالخرجة. وكانت الموشحة تتسم بسهولة الألفاظ وعذوبة مقاطع الكلمات وحسن إيقاعها الصوتي وصلاحيتها للغناء والترنيم(301). ولعل من أبدع الموشحات الأندلسية التي لا تزال تجرى على الألسن حتى يومنا هذا، موشحة لسان الدين ابن الخطيب التي يقول في مطلعها: جَادكَ الغيثُ إذا الغيثُ همىِ يا زمانَ الوصــلِ بالأندلسِ لم يكنْ وصْلُك إلا حلمــاً في الكرى أو خلسةً المختلسِ إذ يقودُ الدهرَ أشتـاتَ المنى تنقل الخطوَ على مـا ترسمِ زمراً بين فـــرادى وثنى مثلما يدعو الحجيج الموسمِ(302) وموشحة ابن سهل الأشبيلي التي تميزت بألفاظها الغزلية وموسيقاه وحلاوة قوافيها المتواترة ونغماتها العذبة: هل درى ظبيُ الحمى أن قد حمى قلب صبٍّ حله عـن مكنسِ فهو في حرٍ وخفقٍ مثلمـــــا لعبت ريحُ الصَبــا بالقبسِ يا بدوراً أشرقت يوم النــــدى غرراً تسلك بي نهجَ الغـررِ ما لقلبي في الهوى ذنبٌ سُــوى مِنْكم الحسنُ ومن عيني النظرِ أجتني اللذّات مَكْلومُ الجَــــوَى والتذاذي من حبِيبي بالفكرِ(303) وموشحة ابن سناء الملك التي جاءت منسابة عذوبة وحلاوة: كللَّي، يا سُحبُ تيجانَ الرُبَى بالحُلى واجْعَلى، سوارها منعطفَ الجدولِ يا سما فِيك وفي الأرضِ نجومٌ وما* كلما أغربت نجمـــاً أطلعت أنجما وهي ما تهطلُ إلا بالطــلا والدُّمى اهطلي على قطوفٍ الكرم كي تمتلى وانقلى للَّدْنِ طعمُ الشهدِ والقَرنفُلِ تتقد كالكوكبُ الدُّرَي للمرتصدْ يعتقد فِيها المجوسي بما يعتقدْ فاتئد يا ساقي الراحِ بها واعتمدْ وأْملَ لى حتى ترانى عنك في مَعزلٍ قللِ فالراح كالعشقِِ اَنْ يَزدْ يقُتلِ(304) لقد ازدهرت فنون الموسيقي والغناء في عددٍ من المدن الأندلسية مثل أشبيلية التي عرفت بأنها مدينة اللهو والأدب والطرب، واشتهر أهلها بحبهم للّهو حتى ضرب بهم المثل في الخلاعة وانتهاز فرصة الزمان ساعة بعد ساعة، وشغفوا بالغناء. وكان ملكها المعتمد بن عباد أندى ملوك الأندلس راحة، وأرحبهم ساحة، وكان يميل إلى الاستكثار من الجواري والمغنيات، ولذلك أصبحت أشبيلية في عهده مركزاً للشعراء، ومجتمع الفنانين والأدباء، وحظيت أشبيلية في عهد بني عباد في مجال الموسيقي والغناء بشهرة طغت على غيرها من حواضر الأندلس الأخرى(305). وكانت قرطبة العاصمة مركز مهماً من مراكز الموسيقي والغناء في الأندلس وقد سبق ذكر قدوم المغنى البغدادي زرياب إلى قرطبة ودوره في ترسيخ فن الغناء الأندلسي. ومن المراكز الأخرى المهمة كذلك طليطلة وخاصة في عهد أسرة بني ذي النون وقد بلغت هذه الأسرة درجة كبيرة من الترف والبذخ وبناء القصور والتأنق فيها وإقامة مجالس الطرب والغناء، والإنفاق بسخاء على المغنين والموسيقيين(306). وهكذا نرى أن الموسيقي والغناء قد ازدهر بشكل كبير في المجتمع الأندلسي، ووجد قبولاً يكاد يكون عاماً، ولم يتحرج من سماعه الكثيرون، بينما تورع عنه بعض الفقهاء والعلماء. والحقيقة أنه كان في الأندلس كغيرها من المجتمعات الإسلامية دائماً رأيان أو فلسفتان: فلسفة تقوم على التشديد والتحريم في كثير من الأشياء، وفلسفة تقوم على التوسط والاعتدال والمرونة وعدم التضييق، والحكم على الأشياء من منطلق أن الأصل فيها الإباحة ما لم يرد نص قاطع بتحريمها. وقد تغلبت هذه الفلسفة في كثير من الأوقات، وكانت وجهة نظرها في الغناء أنه كلام حسنه حسن وقبيحه قبيح، ومن غنى أو استمع إلى غناء شريف المعنى طيب اللحن، غير مثير للغرائز، أو مله عن الفرائض، أو مُؤدٍ إلى الوقوع في المحرمات فلا حرج في ذلك، أما الحرج فيأتي من الغناء الهابط المعني واللحن، المثير للغرائز، الملهي عن الفرائض، المؤدي للوقوع في المحظور. ويرى أصحاب هذه الفلسفة ومنهم ابن حزم الأندلسي أنه لم يرد حديث صحيح في تحريم الغناء(307).   الفصل الرابع المتنزهات والحدائق والحمامات تميزت بلاد الأندلس بجمالها، واعتذل هوائها، وخضرتها، وأنهارها المتدفقة، ومروجها اليانعة، وسحر طبيعتها. فكانت أغنى بلاد المسلمين منظراً وأوفرها جمالاً. ترتفع فيها الجبال الخضراء وتمتد في بطاحها السهول الواسعة وتجرى فيها الجداول والأنهار وتغرد على أفنان أشجارها العنادل والأطيار وتنساب الماشية والأنعام في مراعيها الجميلة ويعمل الفلاحون في حقولها الخضراء ويعطر النسيم جوها المعتدل وبساتينها المشرقة. وقد كان من أثر جمال الأندلس أن شغفت بها القلوب وهامت بها النفوس وأخذ جمال الطبيعة بألباب شعرائها فأخذوا ينظمون درراً في وصف رياضها ومباهج جنانها وجعلتهم يرون فيها جنة الخلد بمائها وظلها وأنهارها وأشجارها، كما قال شاعر الطبيعة الأندلسي ابن خفاجة وقال في ذلك: يا أهـــــلَ أندلسً للهِ دركمُ مـاءٌ وظلٌ وأنهارٌ وأشجارُ ما جنــةُ الخلدِ إلا في دِياركُم ولو تخْيرتُ هذا كنتُ أخَتارُ لا تختشوا بعدها أن تدخلوا سقراً فليس تدخل بعد الجنة النار(308) ويقول ابن خفاجة أيضاً في وصف الطبيعة الأندلسية: إن للجنــةِ بالأندلسِ مجتلى حُســــنٍ وريَّا نفسِ فسنا صبحتها من شنبٍ ودجى ظلمتها مـــــن لعسِ فإذا هبتِ الريحُ صَبـا صحتُ واشواقي إلى الأندلس(309) ويقول ابن سهل الأشبيلي في جمال طبيعة الأندلس: الأرض قد لبستْ رداءً أخضرا والطلُ ينثر في رباها جوهــرا هاجت فخلتُ الزهر كافوراً بها وحسبتُ فيها التبرَ مِسكاً أذفرا وكأن سوسنها يصافح وردها ثغرُ يقبلُ منه خداً أحمـــرا(310) وما أكثر شعراء الطبيعة الأندلسيين الذين أكثروا من التغني بها ممن لا يتسع المجال لإيراد نماذج من شعرهم. وقد أوحت البيئة الأندلسية للشعراء بتلك المعاني الجميلة المتدفقة التي برزت في أشعارهم. كما تميزت بلادهم بانتشار المتنزهات في كل ناحية من نواحيها فلا تكاد تخلو مدينة من مدنها من متنفس أو أكثر لأهلها، وقد سميت هذه المتنزهات بالمنيات وهي القصور التي تحفها الرياض والبساتين. وفي قرطبة العاصمة نجد عدداً كبيراً من هذه المتنزهات. فهناك متنزه الخلفاء المروانية، وهو قصر الرصافة الذي ابتناه عبد الرحمن بن معاوية في أول أيامه لنزهه وسكناه. وقصر الرصافة أو منية الرصافة بناها الداخل بشمالي قرطبة واتخذ بها قصراً حسناً، وجناناً واسعة، ونقل إليها غرائب الغروس وأكارم الشجر من كل ناحية، وأثمرت بغرائب من الفواكه انتشرت عما قليل بأنحاء الأندلس(311). وقد نبتت نخلة فريدة في حديقة منية الرصافة الذي بني على نسق رصافة الشام، فلما رأها عبد الرحمن الداخل هاجت شجنه وأثارت كوامن عاطفته. تبدت لنا وسط الرصافة نخلةٌ تناءت بأرض الغرب عن بلدِ النخلِ فقلت شبيهي في التَغربِ والنوى وطول التنائي عن بنيَّ وعن أهليِ نشأت بأرضٍ أنتِ فيها غريبةٌ فمثلك في الإقصاءِ والمنتَأَى مثلىِ(312) وهناك منية نصر التي بناها أبو الفتح نصر، فتى عبد الرحمن الأوسط، ووهبها الأمير بعد موت فتاه هذا للمغني زرياب. وهذه المنية هي التي استضاف فيها عبد الرحمن الناصر سنة 338هـ/ 949م سفارة إمبراطورية بيزنطة، ثم اتخذها ولي العهد الأمير الحكم مسكناً له. ومن المنى التي كانت مشهورة منية قنطيش، كانت في الجانب الغربي من قرطبة أنشأها الأمير محمد بن عبد الرحمن وأحاطها بالبساتين، ومنية عبد الله أنشأها الأمير عبد الله بن محمد على شاطئ الوادي الكبير وكانت تحيط بها الحدائق والبساتين، يصعد إليها الماء من النهر بواسطة نواعير، ولهذا سميت منية الناعورة وقد جددها الأمير عبد الرحمن وعنى بتجميلها وزخرفتها. وبني الأمير الحكم بن عبد الرحمن على ضفاف نهر الوادي الكبير ومنية سماها باسم جاريته عجب(313). وكان بقرطبة قصر بناه أمير من أمراء بني أمية يسمي قصر الدمشق. وقد أبدع بناؤه ونمقت ساحاته وفناؤه وكان الأمراء يتخذونه ميدان مراحهم ومضمار أفراحهم(314). وسار وجهاء قرطبة وعظمائها على منوال أمرائهم فاتخذوا لأنفسهم مُنىً خاصة بهم. منها المنية المصحفية التي أنشأها جعفر المصحفي، ومنية المغيرة، منية العقاب، ومنية دار الرمان. وبني المنصور بن أبي عامر المنية العامرية، وكانت منية فخمة محاطة بالبساتين والرياض(315). وكان القصر الفارسي من القصور المقصودة للنزهة بخارج قرطبة. وقد ذكره الوزير أبو الوليد بن زيدون في قصيدة ضمنها من متنزهات قرطبة، وكان قد فر من قرطبة أيام بنى جهور، فحضره في فراره عيد ذكره بأعياد وطنه وذكرياته مع ولادة بنت المستكفي التي كان يهواها ويتغزل فيها، فقال: خليلي لا فطرٌ يُسرُ ولا أضحىَ فما حال من أمسىِ مشوقاً كما أضحى لئن شاقني شرقُ العُقابِ فلم أزل أخفضُ بممحوضِ الهوى ذلك السفحا وما انفك جوفي الرصافة مشعري دواعي بث تُعقب الأسفُ البرحــا   ويهتاجُ قصرُ الفارسي صبابـةً لقلبي لا يألو زنادُ الأسىَ قَـــدحا وأيامَ وصلٍ بالعقيقِِ اقتضيتــهُ فإن لم يكن ميعادهُ العيدُ فالفصحــا معاهدُ لذاتِ وأوطــانِ صبوةٍ أجلتَ المعَلى في الأمانيِ بها قَدحــا(316) في هذه القصيدة يتذكر ابن زيدون وهو في غربته متنزهات قرطبة التي قضى فيها أياماً من عمره في حبور ومرح وسروح متقلباً في ملذاته ومتعه متنقلاً بين العقاب، والرصافة، والقصر الفارسي، والعقيق وغيرها من مراتع اللهو بقرطبة، غير أن الأيام دول بين الناس. ومن متنزهات قرطبة التي يقصدها الناس للفرجة، فحص السرادق الذي يسرح فيه البصر ويبتهج فيه النفس. ومنها كذلك المرج النضير ومنتزه السُّد(317). وكان وادي قرطبة من أجمل المواضع التي يقصدها أهل قرطبة للنزهة، فقد كان محفوفاً بالبساتين والدور والقصور والمنيات، وكان لتقارب ضفتيه في قرطبة وتقطع غدره ومروجه، زيادة أنسٍ وكثر أمان من الغرق. وقد وصف نهر قرطبة بأنه ساكن في جريه، لين في انصبابه، وكان للمنصور بن أبي عامر في نهر قرطبة مركب للنزهة يسمي الزو يركبه ويطوف في النهر(318). أما حير الزجالي الذي ينسب إلى بني الزجالي، فقد كان من أجمل المتنزهات وأبدعها في قرطبة وأجملها وأتمها حسناً وبهاءً ونضارة(319). وتمتعت مدينة أشبيلية كذلك بسحر الطبيعة التي حفتها من كل جانب. وكان نهر أشبيلية أو الوادي الكبير الذي يشطر المدينة إلى شطرين أحد معالم النزهة والسياحة في المدينة، فقد كانت المراكب والسفن الصغيرة تقطعه ليلاً ونهاراً. وكان من أهم ضواحيها التي لا تبعد كثيراً عنها ضاحية طريانة التي يرتادها أهل أشبيلية، وكذلك جزيرة تيطل ووادي الطلح. كما أن مرج الفضة ومتنزه السلطانية من أهم المتنزهات الأشبيلية التي كانت متنفساً للأهالي يمارسون فيها هواياتهم في السباق والطراد. وقد تميزت هذه المتنزهات بوجود الفساقى (النوافير) المائية الرائعة(320). وكان المعتمد بن عباد أحد ملوك الطوائف في أشبيلية معروفاً بالأدب وحب الشعراء وقول الشعر وكان كثيراً ما يخرج للنزهة في مركبه في نهر أشبيلية، يروى أنه ركب يوماً في النهر ومعه ابن عمار وزيره. وقد زردت الريح النهر. فقال ابن عباد لابن عمار أجز: صنع الريح من الماء زرد. فأطال ابن عمار الفكرة فأجابته إمرأة من الغسالات كانت بجانب النهر: أي درعٍ لقتال لو جمد. فتعجب ابن عباد من حسن ما أتت به، مع عجز ابن عمار، ونظر إليها فإذا هي صورة حسنة، فأعجبته فسألها، أذات زوجٍ هي؟ فقالت لا، فتزوجها، وعرفت باعتماد الرميكية وولدت له أولاده الملوك النجباء(321). ومن المدن الأندلسية التي تمتعت كذلك بسحر الطبيعة مدينة غرناطة التي كانت تسمي بدمشق الأندلس، لأنها أشبه شيء بها، ويشقها نهر حدره، ويطل عليها الجبل المسمي بشلير الذي لا يزول عنه الثلج صيفاً أو شتاءً. ومنها مدينة بلنسية وبها متنزهات ومسارح من أبدعها وأشهرها الرصافة ومنية ابن أبي عامر(322). وعلى الجملة يمكن القول أنه ما من مدينة من مدن الأندلس إلا وكان لها نصيب من سحر الطبيعة ولا تخلو أي مدينة أندلسية من متنفس أو متنزه يخرج إليه الناس طلباً للراحة والأنس. واستكمالاً للاستمتاع بالحياة وملذاتها فقد شغف الأندلسيون برحلات الصيد التي كانت تعتبر من وسائل التسلية المهمة في البلدان الأندلسية، فلا شك أن طبيعة الأندلس كانت مجالاً مناسباً لصيد العديد من الحيوانات والطيور ومن أهمها الغزلان والأيائل والأرانب البرية والشواهين والبزاة وغير ذلك من الحيوانات والطيور التي اشتهرت بها الأندلس(323). وقد لاقي الصيد سواء بالكلاب أو الصقور تقديراً كبيراً من الأندلسيين، وكان الخلفاء الأمويون ومن بعدهم ملوك الطوائف شغوفين بهذا اللون من الصيد. وكان صاحب البيزرة – وهو الشخص الموكل له أمر الصيد – يهتم بصيد الخليفة في الفترة التي تكثر فيها الغرانيق في سهل الوادي الكبير(324). وكان الأمير عبد الرحمن الداخل مولعاً بصيد الغرانيق، كما اشتهر حفيده عبد الرحمن الأوسط بولعه الشديد بصيد الغرانيق أيضاً، حتى ألزم نفسه ومن معه الرحلة شتاءً من أجل هوايته هذه، وقد كلف الناس شططاً من أمرهم حين حملهم على مصاحبته، بل كاد أن يشرف بهم على الهلاك، إذ كانوا يخرجون لصيدها في البرد الشديد والأرض مغطاة بالجليد(325). وكان الخاصة من الأندلسيين يجدون في الصيد متعة لهم أيضاً ووسيلة من وسائل اللهو، فكانوا يخرجون في نزهات لصيد طير الباز وهو نوع من الصقور فاهتموا به وقاموا بإعداده وتربيته وخاصة حول لشبونة وفي جبال الشرق والجزائر الشرقية(326). وقد بلغ من اعتزاز الأندلسيين بكلاب الصيد المدربة، أن رثى أحد شعرائهم كلباً يجل عن الوصف لكثرة ما له من مناقب – مما ضاعف من إحساس الشاعر بالفجيعة فيه فهو ذو صفات حسية من ناحية السرعة الفائقة في الجري والقفز التي تميزه، إلى جانب ما يبدو عليه من حيوية الشباب ورونقه وجمال غرته، وهو من ناحية أخرى ذو صفات معنوية فريدة، لأنه طموح بعيد الآمال، ومؤدب يتقيد بالتعاليم، وثبوت للفريسة، وهو بعد ذلك يفوق أداة أخرى للصيد وهو طائر البازي(327). وقد اختلفت نظرة الأندلسيين للصيد باختلاف وضعهم الاجتماعي والمادي، فإذا كانت العامة تخرج للصيد ابتغاءاً للمعيشة وطلباً للرزق، فإن طبقة الخاصة تطلبه للتسلية. وكان الاهتمام بالصيد البرى أكثر من الصيد النهري للمتعة التي تضفيها مطاردة الظباء والغزلان والأرانب بوساطة الكلاب أو البزاة كما هو شائع في الصيد. وغالباً ما كانت تشهد رحلات الصيد هذه جلسات إخوانية قبل وأثناء وبعد تناول ذلك الصيد الشهي(328). ولم يكتف الأندلسيون بمتعة صيد الطيور والحيوانات البرية بل تمتعوا أيضاً بممارسة لون آخر راقٍ من الصيد، وهو صيد الأسماك والحيتان خلال نزهاتهم النهرية والبحرية وهم يمتطون متون القوارب والسفن، ويغرقون جميع حواسهم في فيض من المتع المتعددة(329). وكانت لعبة الشطرنج* من وسائل التسلية التي انتشرت بشكل واسع في بلاد الأندلس بين المسلمين والمسيحيين على حد سواء. وكانت وسيلة لإتمام المتعة والمسرة في نفوس الأندلسيين في رحلاتهم ومتنزهاتهم. وقد برع الأندلسيون في هذه اللعبة حتى أنها كانت إحدى الحيل التي استخدمت لخداع العدو والهائه حتى يتجنب المسلمون هزيمة متوقعة في بعض فترات التاريخ الإسلامي في الأندلس. فقد روى أن ابن عمار وزير المعتمد بن عباد كان داهية وقد تمكن من رد ملك الروم (الأذفونش) عن أشبيلية وقرطبة حين قصدها بجيوش جرارة أرعبت المسلمين، وذلك أن أقام سفرة شطرنج في غاية الإتقان والإبداع. وقد جعل قطعها من الأبنوس والعود الرطب، وخشب الصندل، وجعل أرضها في غاية الإتقان، حتى لم يكن عند ملك مثلها، وكان ملك الروم مغرماً بالشطرنج، فأعجب بالسفرة وتعلقت نفسه بها، فلاعبه ابن عمار، على شريطة أن يرجع (الأذفوفنش) إلى بلاده من مكانه هذا في حالة الهزيمة، أما إذا انتصر فله أن يأخذ السفرة فيما يأخذ غنيمة طيبة. وحدث أن هزمه ابن عمار البارع وكف الله بأسه(330). ومن ألعاب التسلية التي عرفها الأندلسيون كذلك، الصولجان والكرة. وكانت وما زالت هذه الألعاب من الرياضات البدنية السامية، وكان أكثر ما يشتغل بها الكبراء والعظماء كما هو الشأن في عصرنا الحاضر. وقد جاء خبر ثائر على الخليفة الحكم المستنصر خلال تمتعه بلعبة الصولجان والكرة في ساحة قصره فدبر حيلة وهو في مكانه للقضاء على ذلك الثائر الذي خرج عليه(331). الحمامات: تعتبر الحمامات العامة من أهم المنشآت المدنية في المدينة الإسلامية لكثرتها وتعددها من جهة، ولارتباطها الوثيق بالطهارة المتأصلة بعمق في الإسلام من جهة أخرى(332). وقد اهتم الأندلسيون اهتماماً بالغاً بنظافة ما يلبسون وما يفرشون كما اهتموا بنظافة أجسادهم، وكان ذلك سمة من سمات حياتهم الاجتماعية. ولذلك اعتنوا بإنشاء الحمامات العامة والخاصة بشكل كبير. فقد كان في مدينة قرطبة وحدها في أيام المنصور بن أبي عامر أكثر من تسعمائة حمام(333). وكانت هذه الحمامات متاحة للرجال والنساء. وكان للنساء حمامات خاصة بهن(334). ويعتبر الذهاب للحمام فرصة عظيمة للرجال والنساء للتخلص من جهامة الحياة. وكانت الحمامات تذخر بوجود الخدم الذين يقومون بخدمة المستحمين، كالحلاقين والطيابين. وكذلك كان الحمام يزخر بالخدم الذين كانوا يليفون ظهور وأجساد الرجال ويطلق عليهم الحكاكين(335). غير أن بعض فقهاء المسلمين في الأندلس لم يخفوا كراهيتهم لارتياد النساء الحمامات العامة دون حاجة ملحة من حيض أو نفاس، وطالبوا بضرورة إبعادهن بالوعظ والإرشاد أولاً، ثم بالتأديب المناسب إذا لم ينتهين(336). ويبدو أن سيدات المجتمع الأندلسي كن يمضين الساعات في الحمامات العامة، وقد كن يفعلن ذلك مرة أو مرتين في الأسبوع، وفي هذه الحمامات كن يخرجن عن الحياة الرتيبة التي كانت تسود حياتهن في المنزل(337). وكانت الحمامات العامة ملتقى لكثير من الطبقات الاجتماعية، وكانت تقدم فيها خدمات كثيرة لتحقق وجوه النعمة والرفاه لمرتاديها. فهناك خدمات معدة لأغراض التزيين واسترخاء العضلات، وفتح المسام بالتدليك من مدلك مجيد مع الاستعانة بحجام لتنظيف البدن وبخاصة الأرجل، وكذلك الاستعانة بحجام لإزالة الدماء الفاسدة، إلى جانب الموسى الحادة لزينة الحلاقة إلى جانب التلذذ بالماء الساخن وهو قوام الحمام كله(338). مما سبق يتضح لنا مدى اهتمام الأندلسيين بالخروج للمتنزهات والحدائق العامة التي انتشرت بشكل كبير في أنحاء متفرقة من بلادهم هرباً من رتابة الحياة، وطلباً للراحة والاستجمام. كما كانوا يخرجون للصيد البري والبحري الذي يجدون فيه متعة نفسية كبيرة وكانوا يتسلون في متنزهاتهم أو دورهم بأنواع مختلفة من وسائل اللهو والتسلية. وكان الحمام عنصراً مهماً في الحياة الاجتماعية الأندلسية وملتقى لكثير من الطبقات الاجتماعية ولذلك انتشرت على المستوى الخاص والعام في كل أنحاء البلاد ومثل وجهاً مهماً من وجوه الحضارة الإسلامية الأندلسية. الباب الثالث: المرأة في المجتمع الأندلسي الفصل الأول: الدور الاجتماعي للمرأة الأندلسية. الفصل الثاني: مساهمة المرأة في الآداب والفنون. الفصل الثالث: مساهمة المرأة في الحياة العلمية والفكرية.   الفصل الأول الدور الاجتماعي للمرأة الأندلسية لم يكن للمرأة في أسبانيا القوطية المسيحية دور أو مساهمات واضحة في الحياة الاجتماعية. ولم تكن تتمتع بوضع اجتماعي مرموق إلا إذا كانت تنتمي إلى طبقة النبلاء. وكان المجتمع ينظر إليها على أنها حيوان بغيض كما هو حال نظرة أوربا عموماً للمرأة في عصورها المظلمة(339). ولا توجد إشارات واضحة في المصادر التي توفرت للبحث، تبين دور المرأة ومشاركتها في الحياة العامة قبل الفتح الإسلامي. فلما أتم المسلمون فتح بلاد الأندلس واستقروا فيها وتزوجوا من نسائها، وصاروا جزءاً من المجتمع تمتعت المرأة بدور مقدر وملموس في الحياة الاجتماعية الأندلسية، وحظيت بمكانة سامية في المجتمع وشاركت في كثير من أوجه الحياة إلى جانب الرجال. وقد تمتعت المرأة في الأندلس بحرية أكثر مما كانت تتمتع به المرأة في المشرق. وقد كانت نساء الأندلس على وجه العموم أشبه شيء بنساء المشرق من ناحية التعليم والحجاب، فمن ناحية التعليم كان أكثرهن أميات، ومن ناحية الحجات فقد غلب على الحرائر منهن، أما الإماء والسرارى فكن يسفرن عن وجوههن غالباً، ولذلك يذكر أن ولادة بنت المستكفي لما جالست الرجال، وشاركتهم في الشعر والأدب قوبل ذلك منها بشيء من الاستهجان والاستغراب(340). وكان المجتمع الأندلسي - كما سبقت الإشارة إلى ذلك في الباب الأول من هذا الكتاب - مزيج من عناصر شتى من العرب والبربر والموالي والفاتحين، ومن الأسبان الذين دخلوا في الإسلام أو الذين بقوا على نصرانيتهم إضافة إلى اليهود. وكان الفاتحون الأوائل لبلاد الأندلس قد قدموا إليها دون اصطحاب زوجاتهم وعائلاتهم، ولذلك أقبلوا على الزواج من الأسبانيات، وقد نتج عن هذا الزواج جيل جديد من الأندلسيين عرفوا بالمولدين(341). وكان عبد العزيز بن موسى بن نصير أول من تزوج بأسبانية فقد تزوج أرملة لذريق المكناه أم عاصم. وكانت قد صالحت على نفسها وأموالها وقت الفتح وباءت بالجزية، وأقامت على دينها في ظل نعمتها إلى أن تزوجها الأمير عبد العزيز فحظيت عنده وسكن بها في أشبيلية(342). وقد حذا كثير من رجال العرب مثل زياد بن النابغة التميمي الذي تزوج هو الآخر من إحدى أميرات أسبانيا، وعيسي بن مزاحم الذي تزوج من سارة القوطية. وقد تزوجت سارة بعد وفاة زوجها عيسي سنة 138هـ من عمير بن سعيد وولدت له حبيب بن عمير جد بني سيد وبني حجاج وبني مسلمة وهؤلاء أشراف ولد عمير بأشبيلية. كما احتفظ كثير من المولدين بأسمائهم القديمة، أمثال: بنو أنجلين، وبنو شبرقة، وبنو الجريح، وبنو القبطرنة، وبنو مردنيش، وبنو غرسبة. وقد تألفت من المولدين جماعات كبيرة في مدن أسبانيا المهمة مثل طليطلة التي كانت مركزاً من أهم مراكزهم. كذلك كانت أشبيلية معقلاً من معاقلهم فقد كانوا يمثلون أكبر طائفة من سكان مدينة أشبيلية(343). وقد كثرت الجواري في المجتمع الأندلسي نتيجة لكثرة الحروب والمعارك التي خاضها المسلمون ضد الممالك المسيحية في أسبانيا وبلاد الفرنجة، وكذلك عن طريق تجار الرقيق الذين كانوا يأتون بهم من أماكن شتى في أوربا وغيرها. وفي هذا الصدد يذكر أن المنصور بن أبي عامر: ملأ الأندلس غنائم وسيباً من بنات الروم وأولادهم ونسائهم حتى بلغ ذلك في غزوة واحدة سنة 371هـ أربعة آلاف سبية(344). وكان هناك صنفان من الجواري: صنف يعمل في خدمة القصور والمنازل ويطلق عليهن جواري الخدمة. والصنف الآخر الجواري المتخذات للنسل، وهؤلاء عليهم إمتاع المالكين، وتسليتهم بمختلف المباهج والوسائل، ومن أجل ذلك كن يتلقين تربية خاصة ويثقفن ثقافة فنية أدبية تعينهن على أداء دورهن الكبير، وتزداد قيمة الجارية ارتفاعاً كلما تعددت ملكاتها واتسعت معارفها وثقافتها(345). ونتيجة لأهمية الجارية في المجتمع الأندلسي فقد ازدهرت تجارة الرقيق في الأندلس بشكل كبير. وكانت أسواق العبيد والجواري منتشرة في كافة المدن الأندلسية وخاصة في مدينة مالقة حيث تخضع لإشراف المحتسب. وفي قرطبة أيضاً وهي من كبريات المدن الأندلسية. وكان يدير هذه الأسواق سماسرة ونخاسون، يجلبون الرقيق من أوربا المسيحية من أماكن كثيرة. فمنهن الجليقيات ويؤتى بهن من شمال غربي الأندلس، والصقلبيات ويؤتى بهن من وسط أوربا، والإفرنجيات وهن القادمات من جنوب فرنسا وإيطاليا، والبربريات ويؤتى بهن من شمال أفريقيا إضافة إلى أجناس أخرى متعددة(346). وقد نظمت تجارة الرقيق في الأسواق بحيث توضع كل مجموعة متميزة في شيء معين مع مثيلاتها الأخريات. فكن يصنفن من حيث الذكاء والمهارة والموهبة، والجمال الكثير، وصنف آخر من الجواري، تميزت به الأندلس بصفة خاصة، وهو إتقان اللهجة الرومانسية، وهي اللهجة الدارجة للغة اللاتينية، والمتعارف عليها في الأوساط الأندلسية. ومع انتشار وتوسع تجارة الرقيق في المجتمع الأندلسي، اقتضت الحاجة، ذهاب بعض المسلمين واليهود إلى مدينة براغ في أوربا الشرقية لشراء أعداد كبيرة من الرقيق الأوربي من الجنسين ثم يعودون إلى الأندلس. وكان بعض البيزنطيين يقدمون الرقيق إلى التجار الأندلسيين من خلال ما يجلبونه من غزواتهم على سواحل البحر الأسود، والتي يسبون فها سبياً كثيراً، ويقدمون ذلك للمسلمين واليهود للتجارة بهم في الأندلس. وقد أحرز اليهود بصفة خاصة شهرة كبيرة في هذا المجال(347). وكان هناك نوع خاص ومميز من الجواري لا يعرض في أسواق النخاسة، وإنما يجلب خصيصاً للأمراء. أما النوع الآخر من الرقيق وهن السوداوات وكان يؤتى بهن من أفريقيا عموماً. وقد امتلأت بهن قصور وبيوت الطبقة الوسطى لانخفاض أسعارهن، بالمقارنة بالرقيق البيض، لكنهن ظللن يمثلن أقلية مقارنة بالبيضاوات(348). وقد امتلأت بيوت المسلمين في الأندلس بالأسبانيات وغيرهن، حيث تزوجهن الكثير من العرب والبربر، وكان لبعضهن تأثير كبير على أزواجهن وأولادهن من النسل المولد من ناحية العادات والتقاليد واللغة وغير ذلك(349). وكان من عادة هؤلاء النساء الأسبانيات أن يتخذن أسماء عربية عندما يتزوجن ويصرن أمهات أولاد(350). ولقد كان معظم أمراء بني أمية إن لم يكن جميعهم من أمهات أسبانيات وجليقيات أو غاليسيات، أطلق عليهن لقب أمهات أولاد بداية من عبد الرحمن الداخل أول أمراء بني أمية بالأندلس، فقد كانت أمه بربرية من سبى المغرب وحملت إلى الشرق وكانت تسمى "راحا"، أما أبنه الأمير هشام الذي ولى بعد والده ولقب بالرضا، كانت أمه أم ولد أسبانية بارعة الحسن تدعى "حُلل". أما الحكم بن هشام "الربضي" فأمه أم ولد أسمها "زخرف". أما عبد الرحمن بن الحكم "الأوسط" فكانت أمه أم ولد كانت تدعى "حلاوة" وقد أكثر الأوسط من الإنجاب إذ كان له خمسون من الذكور وخمسون من الإناث، وكان كثير الميل للنساء فكان يعتقهن ويتزوجهن مثل مدثرة، وطروب، والشفاء، وفجر، وقلم وغيرهن. وكان محمد بن عبد الرحمن بن الحكم من أم ولد تدعى "جهير". والمنذر بن محمد بن عبد الرحمن، من أم ولد تدعى "أثل". وكان محمد بن الأمير عبد الله – والد الخليفة الناصر – من أم ولد تدعى "در". أما الخليفة عبد الرحمن الناصر فأمه جارية أسبانية نصرانية تدعى "ماريا" أو "مزنة" أما ولده وولى عهد الحكم المستنصر بالله، فأمه أم ولد تدعى "مرجان". وهشام بن الحكم أمه أم ولد وهي السيدة صبح البشكنسية. أما عبد الرحمن شنجول بن المنصور بن أبي عامر، فأمه أم ولد، أسلمت وتسمت باسم "عبده". بينما أخوه عبد الملك المظفر أمه حرة تدعي الزلفاء. وهناك أيضاً سليمان بن الحكم بن سليمان بن عبد الرحمن الناصر الملقب بالمستعين، أمه أم ولد تسمى "ظبية"(351). وهكذا نرى أن معظم خلفاء وأمراء بني أمية في الأندلس كانوا من أمهات أسبانيات أو إفرنجيات. ولم يقتصر أمر الزواج من الأسبانيات على الأمراء والخلفاء فقط ولكن كان هناك عدد كبير من العلماء والقضاة والفقهاء والشعراء تزوجوا من نساء أسبانيات. أما عامة الناس فلم يكن بين نسائهم إماء مملوكات إلا نادراً، ذلك أن ارتفاع أسعار الجواري بالنسبة لدخل العامل يجعل هذه الملكية بعيدة المنال. وقد أضفى قلة الجواري داخل بيوت العامة من الأندلسيين جواًَ من السعادة، فكانت المرأة لا تجد من يشاركها عواطف زوجها ومشاعره. وكانت المرأة العامية تشارك زوجها الحياة في الوسط الاجتماعي الذي يعيشه. وكانت العلاقة بينها وبين الزوج قائمة على نوع من التعاون الذي فرضته الحياة. فكانت تدير شؤون بيتها من تربية الأطفال وتنظيف المسكن وطهي الطعام لأسرتها. ولم يكن هذا دور المرأة العامية فقط فقد عملت في مجالات عديدة وكانت أم الشاعر ابن اللبانة إمرأة عاملة تستعين على تربية أبنائها ببيع اللبن(352). وكانت المرأة في الفئات الغنية تتمتع بمكانة عالية. وكانت نساء الخلفاء أول من حظي بهذه المكانة. وكانت فاطمة القرشية زوجة الخليفة عبد الرحمن الناصر. أولى نساء القصر. وكان الخليفة عبد الرحمن الناصر يفتخر بها لأنها قرشية، ولأنها من قرابته. فكان لها المكان الأول في الحظوة، وكانت من الإعجاب بنفسها والزهو لشرفها مما جعلها تفخر على نساء القصر. فكن يأتين إليها، ويجلسن إلى جوارها، إكباراً لها وتعظيماً لمنزلتها عند الخليفة(353). أما الزلفاء أم عبد الملك المظفر بن أبي عامر فكان لها دور في سقوط الخلافة في الأندلس، فقد قامت ضد أخيه عبد الرحمن الملقب بشنجول، واستخدمت كل الوسائل لخلعه وقتله ظناً منها أنه إغتال إبنها المظفر فاستعانت ببعض العسكر من الصقالبة، وأعطتهم الأموال للإفساد على عبد الرحمن، والإتصال بالأمويين لاستعادة ملكهم، حتى كان ذلك على يد محمد بن هشام بن عبد الجبار الأموي الذي قاد الثورة وقتل شنجول، وكان على يده إسقاط الخليفة هشام المؤيد سنة 399هـ(354). لقد كان للمرأة الأندلسية حضور قوى في كثير من ضروب الحياة في ذلك الوقت. ولم تكن منزوية على نفسها في المجتمع الذي استطاع الإسلام أن يسمه بطابعه في بعض مظاهره الخارجية دون أن يشكله بعمق، فاستطاعت المرأة رغم كل الضوابط الدينية أن تفلت من بعض الالتزامات الإسلامية مما جعلها أكثر تحرراً من نظيرتها في بلاد المشرق. ويمكن أن نجد بعض العذر لتقصير المرأة الأندلسية التي عاشت في مجتمع بعيد عن بلاد العرب مهد الرسالة، تجاورها نساء النصارى ثمانية قرون. فقد أثرت الأيام الطويلة مع البعد عن الإسلام في المرأة الأندلسية، فظهرت في العصور الأخيرة ترتدي قبعة مستديرة ينسدل من تحتها الشعر على الكتفين، وظهرت أحياناً أخرى حاسرة الرأس(355). وقد وصف أحد المؤرخين نساء الأندلس بقوله: "وحريمهم، حريم جميل، موصوف بالسحر، وتنعم الجسوم، واسترسال الشعور، ونقاء الثغور، وطيب النشر، وخفة الحركة ونبل الكلام وحسن المحاورة، إلا أن الطول يندر فيهن وقد بلغن في التفنن في الزينة لهذا العهد، والمظاهرة بين المصبغات والتنفس بالذهبيات والديباجات والتماجن في أشكال الحلي...(356)". ولم تكن نساء الأندلس كلهن سافرات متحررات فقد كان هناك النساء الملتزمات بلبس الحجاب، مما يدل على أن نساء الأندلس لم يكن في مستوى واحد في كل المجتمعات والعصور فكان عدد كبير من النساء الأندلسيات يؤثرن القيم الإسلامية وحتى الجواري لم يكن كلهن سافرات وإنما كن يتخذن الحجاب والنقاب وظل الحجاب شائعاً حتى القرن التاسع الهجري، الخامس عشر الميلادي(357). ومما يدل على أن بعض الجواري كن يتخذن الحجاب والنقاب، أنّ جارية من أعيان أهل قرطبة معها من جواريها، من يسترها ويواريها، كانت ترتاد موضعاً بالمسجد الجامع بقرطبة في ليلة السابع والعشرين من رمضان، لمناجاة ربها، واستغفار ذنوبها، وهي متنقبة، خائفة من أعين المتربصين الذين يسترقون النظر، ولا يخشون الله. وكان الوزير أبو عامر بن شهيد – أحد شعراء الدولة العامرية المتوفى سنة 426هـ، يتخذ موضعاً للجلوس فيه يقابل باب الصومعة من الجامع لا يفارقه أكثر نهاره. وكان قد جلس في هذا الموضع في ليلة السابع والعشرين من رمضان في هذه الليلة المباركة التي يجب أن ينقطع فيها الإنسان إلى التهجد والعبادة، ومعه مجموعة من ندمائه، وتزامن جلوس الشاعر مع ندمائه مع ارتياد الجارية لموضعها. فلما وقعت عين الجارية على أبي عامر ولت مسرعة مروعة، خيفة أن يشبب بها الوزير الشاعر أو يشهرها باسمها ومع ذلك لم تسلم منه، فلما نظرها قال فيها قولاً فضحها به وشهرها. وناظرةٍ تحت طيِّ القناع دَعَاها إلى الله خير داعِ سعت خفيةً تبتغي منزلاًَ لِوصَلِ التبتل والانقطاع وجالت بموضعنا جولة فحلّ الربيعُ بتلك البقاع أَتَتْنا تَّبخْترُ في مَشيِها فحلّت بوادٍ كثير السباع(358) وكان لبعض الجواري وأمهات الأولاد تأثير قوى ونفوذ كبير على بعض الأمراء والخلفاء والكبراء. ويشير ابن حزم إلى جانب من هذا النفوذ والتأثير فيقول: "الحب أعزك الله – أوله هزل وآخره جد. دقت معانيه لجلالتها عن أن توصف، فلا تدرك حقيقتها إلا بالمعاناة. وليس بمنكر في الديانة ولا بمحظور في الشريعة، إذ القلوب بيد الله عزّ وجل وقد أحب من الخلفاء المهديين والأئمة الراشدين كثير، منهم بأندلسنا عبد الرحمن بن معاوية لدعجاء، والحكم بن هشام، وعبد الرحمن بن الحكم وشغفه بطروب أم عبد الله ابنه أشهر من الشمس، ومحمد بن عبد الرحمن وأمره مع غزلان أم بنيه عثمان والقاسم والمطرف معلوم، والحكم المستنصر وافتتانه بصبح أم هاشم (هشام) المؤيد بالله وامتناعه عن التعرض للولد من غيرها... وأما كبار رجالهم، ودعائم دولتهم فأكثر من أن يحصوا. وأحدث ما شاهدناه بالأمس من كلف المظفر عبد الملك بن أبي عامر بواحد، بنت رجل من الجبائين حتى حملة حبه أن يتزوجها...(359) ". وهؤلاء النسوة اللاتي ورد ذكرهن في النص السابق كلهن من الجواري اللائي ملكن قلوب أمراء وخلفاء قرطبة وحظين بمكانة سامية لدى أسيادهن وكانوا طوعاً لرغباتهن. فقد كان الأمير عبد الرحمن الأوسط مولعاً بالنساء ولا يتخذ منهن ثيباً أبداً،(360)، وولع بجاريته طروب، وكلف بها كلفاً شديداً، وهي التي بني عليها الباب ببدر المال، حيث تجنت عليه، وأعطاها حلياً قيمته مائة ألف دينار، فقيل له إن مثل هذا لا ينبغي أن يخرج من خزانة الملك، فقال: إن لابسه أنفس منه خطراً وأرفع قدراً، وأكرم جوهراً، وأشرف عنصراً، وفيها يقول: إذا ما بدتْ لي شمسُ النهار طالعــــة ذكرتني طَروُبَا أنا ابن الميامين من غالبٍ أشُبُ حروباً وأطفى حروبا(361) وكان الأمير عبد الرحمن قد أغضبها فهجرته، وصدت عنه، وأبت أن تأتيه، ولزمت مقصورتها، فاشتد قلقه لهجرها، وضاق ذرعه من شوقها، وجهد أن يترضاها بكل وجه فأعياه ذلك، فأرسل من عماله من يكرهها على الوصول إليه، فأغلقت باب مجلسها في وجوههم، وآلت أن لا تخرج إليهم طائعة، ولو انتهي الأمر إلى القتل، فانصرفوا إليه وأعلموه بقولها، واستاذنوه في كسر الباب عليها، فنهاهم وأمرهم بسد الباب عليها من خارجه ببدر الدراهم، ففعلوا وبنو عليها بالبدر، وأقبل حتى وقف بالباب وكلمها مسترضياً راغباً في المراجعة على أن لها جميع ما سد به الباب، فأجابت وفتحت الباب، فأنهالت البدر في بيتها، فأكبت على رجله تقبلها وحازت المال. وأحب عبد الرحمن جارية أخرى أسمها مدثرة فأعتقها وتزوجها، وأخرى كذلك أسمها الشفاء، وأما جاريته قلم فكانت أديبة حسنة الخط راوية للشعر، حافظة للأخبار(362). غير أنه لم تحظ جارية من الجواري، بما حظيت به طروب، فهي واحدة من الجواري الشماليات القادمات من بلاد الإفرنج، في جنوب فرنسا، أو من مقاطعات قطالونية، والباسك والبشكنس وجليقية. وهؤلاء الجواري بصفة عامة كان لهن حظوة كبيرة في قرطبة، لأنهن بيضاوات البشرة، شقروات الشعر، زرقاوات العيون. لذا كان لهن دور كبير في بلاط قرطبة، وخاصة حين يحالف إحداهن الحظ وتنجب لسيدها ولداً فتترقى بذلك إلى منزلة أرفع، ويطلق عليها لفظ "أم ولد" أي تتساوى مع الحرة. وقد كان للحاكم رجال معينون، ومكلفون باختيار الحرم الخاص بالأمير، وكانوا يتصفون بالخبرة في هذا المجال. وقد كانوا حريصين على اختيار أحسن العناصر، تبعاً لرغبة ومزاج وليهم(363). وكانت طروب – كما سبق ذكره – أحب نساء عبد الرحمن إليه وأعظمهن سلطاناً عليه. ورغم ذلك كانت أقل وفاءً له(364). وكانت طروب أم عبد الله بن عبد الرحمن الأوسط تعمل على إقصاء محمد بن عبد الرحمن – وهو من زوجة أخرى للأمير عبد الرحمن – وإقامة ولدها عبد الله ولياً للعهد بدلاً عن محمد وقد بذلت في ذلك كافة السبل والحيل ولكنها لم تجد إلى ذلك سبيلاً ولذلك تآمرت مع (نصر) أحد فتيان القصر المقربين إلى الأمير عبد الرحمن – على دس السم للأمير عبد الرحمن وابنه الأمير محمد. وكان قد طلب إلى طبيب عراقي قدم إلى قرطبة بأن يصنع له سماً زعافاً مقابل منحه ألف دينار، فاستجاب الطبيب لذلك وأعد له ما يريد وقام الطبيب بإبلاغ إحدى نساء الأمير واسمها فجر، بما يريده نصر للأمير. فقامت "فجر" التي كانت ضرة لطروب بإبلاغ الأمير عبد الرحمن بالمؤامرة التي أعدت له. وعندما قدم نصر الشراب المسموم للأمير عبد الرحمن، طلب منه عبد الرحمن أن يشربه هو، فاعتذر نصر عن ذلك غير أن الأمير أرغمه على الشراب وقال له: سبحان الله! شيء اجتهدت لي فيه، وألطفت تركيبه، تخاف غائلته. عزمت لتشربنه؟! فعلم أنه لا يمكن مخالفة الأمير، فلا بد له من شربه، فشربه وأستأذن في الخروج إلى منزله، وانطلق يركض واستغاث بالطبيب الذي صنع له الشراب ليسعفه فنصحه بتناول لبن الماعز فأرسل في طلبه غير أنه توفى قبل أن يؤتى إليه باللبن وكان ذلك في عام 236هـ/ 805م(365). وعلى الرغم من هذه المؤامرة التي دبرتها طروب، وذهب ضحيتها الفتي نصر إلا أن الأمير عبد الرحمن لم يتخذ أي إجراء تجاهها، وظلت تبذل محاولات شتى لتولى ابنها ولاية العهد ثم تولى مقاليد الأمور حتى بعد وفاة الأمير عبد الرحمن إلا أنها لم تفلح في ذلك(366). أما الحكم الربضي والد الأمير عبد الرحمن فقد استخلص لنفسه خمس جوارٍٍ وملكهن أمره، فذهب يوماً للدخول عليهن فأعرضن عنه وكان لا يصبر عنهن فقال: قضب من البان ماست فوق كثبان أعرضن عنى وقد أزمعن هجراني   ناشدتهن بحقي فاعتزمن على الهجران حتى خلا منهن هيمــاني ملكننى ملك من ذلت عزائمه للحب ذُلَّ أسيرٍ موثقٍ عــــاني من لي بمغتصبات الروح من بدني غصبنني في الهوى عزى وسلطاني ولما عدن عليه بالوصال قال: نلت كل الوصال بعد البـعاد فكأني ملكت كل العبـــــاد وتناهي السرور إذ نلت ما لم يغن فيهن تكاثف الأجنـــــاد(367) أما عجب جارية الأمير الحكم بن هشام فقد قامت بدور مهم في بلاط أمراء بني أمية، في قيادة دفة الحكم. فهي تعتبر من أشهر النساء القرطبيات في عصر الأمير الحكم وقد بلغ من حبه لها وولهه بها، أن أنشأ لها منية خاصة بها حملت اسمها، كما حصلت على قدر كبير من التعليم والتفقه في الدين والعلوم الأدبية واللغوية(368). وكان للسيدة صبح البشكنسية دور كبير في الأحداث السياسية في قرطبة خلال خلافة الحكم المستنصر مولاها، وابنها هشام المؤيد الذي تولى الخلافة بعد وفاة والده، والحاجب المنصور بن أبي عامر. وقد لبثت السيدة صبح ردحاً طويلاً من الزمن، تسيطر بسحرها ونفوذها على خلافة قرطبة، وتشترك في تدبير شؤونها، في السلام والحرب، ومع أعظم رجالات الأندلس، وكانت جارية بشكنسية (نافارية) وصبح أو صبيحة ترجمة لكلمة Anrora الفرنجية، ومعناها الفجر أو الصباح الباكر. وقد ظهرت في بلاط قرطبة في أوائل عهد الحكم المستنصر، وكانت فتاة رائعة الحسن والخلال، فشغف بها الحكم، وأغدق عليها حبه وعطفه، وسماه "بجعفر" ولم تلبث أن استأثرت لديه بكل نفوذ ورأى. ثم ازداد هذا النفوذ توطداً وتمكناً، حينما رزق منها الحكم بولده عبد الرحمن ثم بولده هشام. ولم تكن صبح يومئذ جارية أو حظية فقط، بل كانت ملكة حقيقية تتمتع في البلاط والحكومة بنفوذ لا حد له. وكان الحكم يثق بإخلاصها وحزمها، ويستمع لرأيها في معظم الشؤون. وكانت كلمتها هي العليا في تعيين الوزراء ورجال البطانة(369). وقد احتلت صبح مكانة كبيرة لدى الخليفة الحكم المستنصر ذلك أن الحكم تولى الحكم وهو في الثامنة والأربعين من عمره، ولم يكن إلى ذلك الحين قد أنجب ولداً، وكان ذلك مما يثير قلقه وجزعه، إذ كان يتوق أن يكون له وريث في الملك. ومن ثم فقد سر أيما سرور حينما ولدت حظيته "جعفر" أو صبح النافارية، ولداً سماه عبد الرحمن سنة 351هـ/ 962م، وكان مولده حادثاً خطيراً نوهت به الشعراء والأدباء، ولكن هذا الولد توفى طفلاً، فحزن الحكم لفقده أيما حزن. ولكن قدِّر لصبح أن تلد مرة أخرى ولداً سماه أبوه هشاماً وكنيته أبو الوليد، فكان ولى عهده الملقب بالمؤيد. فعظم استبشاره به وسروره بموهبة الله فيه. وكان مولده سنة 354هـ/ 965م(370). وهنا بدأ ظهور محمد بن أبي عامر، الذي لم يكن بعد قد تلقب بالمنصور، ولم يزل الحكم يقدمه ويؤثره إلى أن أصبح هشام ولياً للعهد، فزاد مقداره لخصوصيته بخدمة ولى العهد والسيدة والدته. وقد بدأ نجم ابن أبي عامر في الصعود يوماً بعد يوم من خلال استمالته للسيدة "صبح" بحسن الخدمة، ومواقفه المسرة، وحسن البذل، في باب الاتحاف والمهاداة، حتى استهواها وغلب على قلبها، وابن أبي عامر يجتهد في برها، والمثابرة على ملاطفتها، فيبدع في ذلك، ويأتيها بأشياء لم تعهد مثلها، مما دفع الحكم المستنصر إلى القول يوماً لبعض ثقاته، ما الذي استلطف به هذا الفتى حرمنا، حتى ملك قلوبهن، مع اجتماع زخرف الدنيا عندهن، حتى صرن لا يصفن إلا هداياه، ولا يرضين إلا ما أتاه، إنه لساحر عظيم، أو خادم لبيب وإني خائف على ما بيده(371). وبعد وفاة الخليفة الحكم المستنصر أصبح الخليفة حينئذٍ هشاماً وتلقب "بالمؤيد" وليس له من الأمر غير الاسم. وفي بادئ الأمر ازدادت العلاقة قرباً بين صبح وابن أبي عامر. فقد كان يرى فيها المرأة التي اجتمعت السلطة في يدها بوفاة سيدها الحكم، ووصايتها على ولدها الطفل. فبذلك أصبحت أداة هينة سهلة يستطيع أن يخضعها لإرادته، ويسخرها لمعاونته، في تحقيق مشاريعه البعيدة المدى. وكانت هي من جانبها تحذق عليه كل عطف وثقة، وتمده بالأموال اللازمة لكي يستميل العساكر إليه، وأيضاً لكي تضمن ولاءه لإبنها الصغير. ولكن بعد أن بزغ نجمه، وثبتت قدماه، وتخلص من خصومه حجب هشام وتلقب بالمنصور(372). ثم حصلت وحشة بين صبح أم الخليفة وبين المنصور آل الأمر فيها إلى أن كانت الغلبة له، وأخذ الأموال التي كانت في القصر مختزنة، ونقلها إلى داره، ووكل بالقصر من أراد، وصارت الدولة باطناً وظاهراً على حكمه. وكان في أثناء ذلك مريضاً، وقد احتج أعداؤه على تصرفاته، فلما أفاق من مرضه وصل إلى الخليفة هشام، واجتمع به، واعترف له بالاضطلاع بالدولة، فسكت أعداؤه، وعلم ما في نفوس الناس إذ كانوا تواقين لظهور الخليفة ورؤيته، إذ كان منهم من لم يره قط، فأبرزه في زى الخلافة وركب معه وكان في استقباله عدد كبير من الناس، وكان عبد الملك بن المنصور راجلاً يمشى بين يديه ويسير الجيش أمامه(373). وعلى كل فقد تمكن المنصور بن أبي عامر من الاستبداد بالأمر والتخلص من كافة خصومه وأعدائه، وتحجيم دور السيدة صبح، كما أن الخليفة نفسه لم يعد له من الأمر شيء. وقد ظهرت كثير من القصائد والأقوال في التشهير بحجر ابن أبي عامر للخليفة ما جاء على لسان هشام: أليس من العجائبِ أن مثلىِ يرى مـــا قل ممتنعاً عليه وتملكُ باسمهِ الدنيا جميعـاً وما من ذاك شيء في يديه(374) لقد تمكنت "صبح" من التمرد على وضعها في القصر من خلال مكانتها التي اكتسبتها لدى سيدها الحكم المستنصر. وتمتعت بنفوذ كبير في بلاط بني أمية، وذلك سواء في أيام سيدها الحكم، أو عندما تولت الوصاية على ابنها هشام عقب وفاة الحكم، أو عندما توسمت في ابن أبي عامر الخير، ووقفت بجانبه بكل قوتها وأموالها تؤازره، حتى وصل إلى أعلى درجات الترقي. بل وأصبح هو الحاكم الفعلي، والخليفة عبارة عن اسم فقط. ورغم أنها كانت جارية مجلوبة، وليست من سلالة الأمراء والخلفاء أو البيت الحاكم، إلا أنها استطاعت بذكائها ومهارتها، أن تصرف شؤون الحكم زمناً ليس بالقصير(375). أما سليمان المستعين (ت 405هـ) الذي تولى أمر الخلافة أثناء الفتنة البربرية بقرطبة، فقد كان أسير قصة هارون الرشيد مع ثلاث من جواريه؛ في تجربته العاطفية مع ثلاث من جواريه الحسان، أيضاً، فذهب إلى إدعاء التذلل والانقياد الأعمى لهواهن، في شعر عارض به أبيات هارون الرشيد: ملك الثلاث الآنسات عناني... فقال: عجباً يهاب الليثُ حد سِنَانِي وأهابُ لحظ فواترِ الأجفِانِ وتملكتْ نفسي ثلاثٌ كالدُّمي زُهْرُ الوجوهِ نواعمُ الأبدان فأبَحْنَ في قلبي الحمى وتركنني في عزِِّ مُلكي كالأسيرِ العانيِ(376) وتعلَّق المعتمد بن عباد بعدد كبير من الجواري منهن قمر، وجوهرة، وسحر، ووداد. على أنه مهما كان تعلق السادات بجواريهم وتأثيرهن الكبير على حياتهم وحياة القصور، والدول، ولكن هذا التعلق كان في كثير من الأحيان لم يخرج في نظر البعض منهم، عن أن تكون الجارية أداة متعة، بعيدة عن رحاب العلاقات الإنسانية الرفيعة، بحيث ينتهي الأمر بهن بما يعرض للمتعة من عوارض الزوال(377). وكان على نساء البلاط الحاكم أن يقصرن دورهن على الأمور التزينية أو الإستراتيجية ضمن حاشية الأمير أو الخليفة، أو الرجال الآخرين ذوى الأهمية في القصر، وأن يرافقنه بصورة رسمية في حروبه، أو احتفالاته – إلا أن دورهن تعدى ذلك – وكان لهؤلاء النساء أملاكهن الخاصة، حيث كن يستعملن هذه الأملاك للتبرع للمؤسسات العامة. إن عدد الخادمات والجواري هو دليل رمزي على السلطة والغني، فقد وجد في مدينة الزهراء(378). بمن في ذلك الزوجات والمحظيات والخادمات والقريبات (6314) امرأة، وبوصفهن محظيات مثقفات ومؤدبات أدباً رفيعاً، فقد أسهمن في المجالس الأدبية وخدمن أسيادهن الذين كانوا مولعين بهن. وقد تنافس ملوك الطوائف منافسة شديدة على اقتناء الجواري. فقد كان لدى المعتضد بن عباد ملك أشبيلية الكثير من المحظيات وكان يتفاخر بذلك(379). وكما تمتعت زوجات الخلفاء بشيء من النفوذ، فقد كان لزوجات الطبقات الأخرى نفوذ أيضاً مثل (تكفات البربرية) زوجة محمد بن زياد اللخمي قاضي الجماعة بقرطبة في عهد عبد الرحمن الأوسط، وكانت ذات دالة عليه على ما تفعله الزوجات المحظيات(380). ويروى المقري أنه كان بمدينة "لوشة" قاضٍ له زوجة فاقت العلماء في معرفة الأحكام والنوازل، وكان قبل أن يتزوجها ذكر له وصفها فتزوجها، وكان في مجلس قضائه تنزل به النوازل، فيقوم إليها فتشير عليه بما يحكم به، فكتب إليه بعض أصحابه مداعباً بقوله(381): بِلُوشَةَ قاضٍ له زوجـة وأحكامها في الورى ماضيهْ فيا ليته لم يكن قاضيـاً ويا ليتها كانت القاضيـــهْ فلما قرأ الدعابة أطلع زوجته عليها فقالت: ناولنى القلم، فناولها، فكتبت بديهة: هو شيخ سوء مزدرىً له شيوبٌ عاصيه كلا لئن لم ينتــــه لنسفعاً بالناصيـه كان لزواج المسلمين الفاتحين من الأسبانيات والبرتغاليات أجمل صلة لامتزاج الفاتحين بخصومهم، والتحام القرابة بينهم على نحو لا تنفصم عراه، وأصبح ذلك الوافد جديراً بأن يسمى بين عشية وضحاها صهراً ونسيباً. ولم يكن من بين أمراء بني أمية وخلفاؤهم من كانت أمه حرة أصلاً كما سبقت الإشارة إلى ذلك. إذ كانت أمهاتهم من نصارى الشمال الأسباني أو من البربر أو من رقيق الصقلب. فقد كانت طروب زوجة الأمير عبد الرحمن الثاني جارية صقلبية. كذلك كانت أم عبد الرحمن الثالث الناصر (300 – 350هـ) نافارية تدعى ماريا وسميت بالعربية "مزنة". وهناك رواية أخرى تقول أن اسمها أونيكا. وهي أبنة الكونت الثالث لبمبلونه المسمي فرتون بن غرسية والمعروف بالأنقر. وقد كان هذا الأمير أسيراً في قرطبة لمدة طويلة، ثم رحل إلى بلاده في أواخر عهد الأمير عبد الله جد الناصر، ويبدو أنه اتفق معه على المصاهرة بأن تتزوج ابنته من ابنه محمد والد الناصر(382). وقد كانت المصاهرات كثيرة بين أمراء الثغور الإسلامية مثل بني قسى وبني الطويل المولدين وحكام سرقسطة، وبين ملوك أسبانيا النصرانية في مملكة نبرة وقشتالة، حتى أن بعض ملوك نبرة كانوا إخوة لبعض أمراء بنى قسى المولدين من جهة الأمهات، وبذلك كان هؤلاء الأصهار يقفون يداً واحدة ضد أعدائهم سواء كانوا من المسلمين أم من النصارى. وقد سار بعض ملوك الطوائف على هذا النمط وتزوجوا من أميرات الشمال النصرانيات، فكانت زوجة مجاهد العامري صاحب دانية والجزائر الشرقية هي الأميرة "جود" النصرانية الأسبانية، وكانت لها خمس بنات تزوجن من ملوك الطوائف وكنَّ جواسيس لأبيهن على أزواجهن(383). ولم يقتصر الأمر على الزواج من أميرات الشمال النصرانيات، فقد كان التسرى بفتيات الشمال الأسباني الواردات ضمن السبي أو الجزيرة عادة مألوفة في بيوت حكام الأندلس الإسلامية، وكان كثير من الأمراء والخلفاء الأمويين يشترطون أن تحتوى الجزية على بعض الفتيات الغاليات الشقراوات وكان الطلب على هذا النوع من الفتيات عظيماً، وأدى ذلك إلى وجود العيون الزرقاء والشعر الأحمر والبشرة البيضاء في بعض الخلفاء مثل عبد الرحمن الناصر. وكان في قصر أشبيلية رواق يدعى رواق الصبايا، كان يستقبل الفتيات اللاتي كان على نصارى الشمال أن يقدموا مائة منهن كل عام إلى بعض ملوك العرب(384). ولم ينفرد الأمراء والخلفاء والحكام بهذا الزواج المختلط، بل فعل فعلهم كبار العرب والموسرين، لأن هؤلاء جميعاً وفدوا إلى الأندلس دون أن يصحبوا معهم نساءهم، وأصبح الزواج المختلط أمراً لا مفر منه، وأدى ذلك إلى أن الجيل الثاني من مسلمي الأندلس كان هجيناً، بل ربما جاز اعتبارهم مولدين، حيث أن البيت الأموي نفسه كان بيتاً مولداً، وإنما كانوا عرباً بالإحساس والاتجاه واللغة، وأخذ الدم العربي الصريح يتلاشي في هذا البلد شيئاً فشيئا(385). وقد أثر هذا الزواج المختلط بشكل كبير على الجانبين، فقد كان الأطفال يتكلمون لغة أمهاتهم بجانب اللغة العربية، كما أن هؤلاء النسوة قمن بنشر عاداتهن وتقاليدهن وأسلوب حياتهن داخل قصور الملوك والأمراء وغيرهم من الناس، وأدى ذلك إلى انتشار لغة شعبية تسمي عجمية أهل الأندلس، وهي مزيج من اللاتينية والعربية والبربرية، يتكلمها الناس في حياتهم العادية. وقد لعبت هؤلاء الزوجات والسرائر من الجواري المسيحيات الأسبانيات وغير الأسبانيات دوراً خطيراً في الحياة الاجتماعية والسياسية في الأندلس، فقد كن ينقلن أفكار نصارى الشمال الأسباني، ومن تعلمت العربية منهن كانت تنقل الأفكار والأقاصيص الأسبانية والأوربية إلى اللغة العربية. وانقسمت البيوتات العربية إلى قسمين، قسم من أولاد السرارى، وقسم من أولاد الحرائر، والأولاد تبع لأمهاتهم ينقسمون بدورهم ويتعصبون لأمهاتهم، وكثيراً ما دبرت المؤامرات بسبب ذلك، ورغم ما كن يتظاهرن به من حب العروبة والإسلام إلا أن كثيراً منهن كن جاسوسات على حكام الأندلس، إذ لم ينسين نصرانيتهن ولا أسبانيتهن(386). ونتيجة لهذا الزواج المختلط كذلك، فقد ظهرت تأثيرات حضارية في ميدان الحياة الاجتماعية. وقد تجلى هذا التأثير في نواحٍ عديدة، في روح التسامح التي تحلى بها المسلمون تجاه أصحاب الأديان الأخرى في شبه الجزيرة الأندلسية، وفي الأخلاق والعادات والتقاليد، وفي الموسيقي والحفلات والأعياد، وفي الملبس والمأكل والمشرب والمسكن. وقد بلغ التسامح إلى حد أن كان المسلمون يزورون كنائس النصارى ويزور النصارى قبور أولياء المسلمين لنيل البركة، كما أنهم امتنعوا عن أكل لحم الخنزير، وقاموا بختان أطفالهم تقليداً للمسلمين، بل كانت اسماؤهم في غالبها أسماء عربية، كما تلقب بعض المسلمين بألقاب النصارى، فهناك الأديب أبو جعفر بن عبد الله، وكان يعرف بابن شانجة(387). أما الطعام والشراب، فقد تفنن مسلمو الأندلس في الإكثار من أنواعه، حتى أن النوع الواحد كان يطهي بطرق مختلفة. واشتهرت فئات السكان بأطعمة خاصة بها. فلليهود لون خاص بهم يسمي "حجلة يهودية" ونوع آخر يسمي لون من "فروخ يهودي" وللصقالبة نوع يسمي "مسلوق الصقالبة" وانتقل إلى الأندلس أكلات عديدة من مختلف البلدان، من مصر وبغداد واليمن والمغرب وفارس، ومن نصارى شمال أسبانيا. كما انتقل إلى المطبخ المسيحي في شمال أسبانيا العديد من الأكلات عن المطبخ الأندلسي لاسيما في عصر ملوك الطوائف، حيث زاد الاختلاط بين الجانبين وحيث كان التفوق الحضاري لمسلمي الأندلسي في القمة في ذلك الوقت. وقد انتقلت عادة شرب الخمر إلى المسلمين والاستغراق فيها من مجاورتهم واختلاطهم سواء بنصارى المستعربين أم بنصارى الشمال الأسباني(388).   الفصل الثاني مساهمة المرأة الأندلسية في ميدان الآداب والفنون ساهمت المرأة الأندلسية بنصيب وافر في ميدان الإبداع الأدبي والعلمي في الأندلس. وهناك عدد مقدر من النساء الأندلسيات اللائي بلغن شهرة واسعة في شتى ميادين الثقافة، وزاحمن الرجال، وتقدمن الصفوف. واشتهر عدد منهن كن يساجلن الرجال في ميادين الشعر والعلم والأدب والفن وكن زينة مجالس السمر والطرب والغناء كما مر بنا سابقاً. وكان لبعضهن صالونات أدبية تضم عظماء الرجال في الفنون والآداب. ويعد الدور الذي قامت به المرأة في مجال الإبداع الأدبي والعلمي، أحد الجوانب المشرقة في تاريخ الحياة العربية الإسلامية في الأندلس. وقد أخذ الشعر بصفة خاصة جانب التميز، ولم تجد القوافي تربة خصبة تتحرر فيها من قيودها خارج مهدها الأول في شبه الجزيرة العربية، كما وجدتها في الأندلس، وهي ميزة تفوق بها الأندلس على غيره من أصقاع الدولة الإسلامية(389). وأما من حيث إعداد الشاعرات الأندلسيات، فقد كن في واقع الأمر من الوفرة والنضوج، بحيث شكلن ملمحاً بارزاً من ملامح الشعر الأندلسي، وفرضن وجودهن فرضاً على مواكب الشعر في الأندلس، وامتاز شعرهن بالجرأة والإشراق، والرصانة، والجزالة، ومظاهر الإبداع، والإمتاع(390). ولعل من أوائل الشاعرات الأندلسيات؛ غسانة التميمية بنت أبي المخشي الشاعر، ولدت في الأندلس، في إلبيرة "غرناطة"، كانت من الحرائر، ورثت الشعر عن أبيها أبي الحسين بن أبي المخشي أحد قدامي الشعراء بالأندلس وهو تميمي عبادي. تأدبت غسانة وتعلمت الشعر، فلما مات أبوها جاءت إلى الأمير الحكم، وهي إذ ذاك بكر لم تتزوج: إنى إليك أبا العاصى موجّعةٌ أبا المخشَّي سقته الواكفَ الدِّيمُ قد كنت أرتعُ في نعماهُ عاكفةٌ فاليومَ آوى إلى نعماكَ يا حكـمُ أنت الإمامُ الذي انقاد الأنامُ لهُ وملكتهُ مقـــاليدَ النُّهى الأممُ لا شيء أخشى إذا ما كنت لي كنفاً آوى إليــه ولا يعرونى العدمُ لا زلتُ بالعزةِ القعساءَ مرتدياً حتى تذل إليك العربُ والعَجَمُ فلما وقف الحكم على شعرها استحسنه، وأمر لها بإجراء مرتب، وكتب إلى عامله على "إلبيرة" فجهزها بجهاز حسن. ولما توفى الأمير الحكم وتولى ابنه الأمير عبد الرحمن من بعده، أساء والي إلبيرة معاملتها، وكان الحكم قد وقع لها بخط يده تحرير أملاكها، وحملها في ذلك على البر والإكرام، فتوسلت إلى الوالي واسمه جابر بن لبيد بخط الحكم، فلم يفدها، فدخلت إلى الأمير عبد الرحمن وأقامت بفنائه، وتلطفت مع بعض نسائه حتى استطاعت الوصول إليه، فعرفته بنفسها وما جرى لها مع الوالي جابر بن لبيد، ورفعت إليه خط والده، فرق لها، فأخذ خط أبيه فقبله ووضعه على عينيه، وقال: تعدى ابن لبيد طوره، حين رام نقض رأي الحكم، وحسبنا أن نسلك سبيله، ونحفظ بعد موته عهده، انصرفي يا حسانة فقد عزلته لك، ووقع لها بمثل توقيع أبيه الحكم، فقبلت يده، وأمر لها بجائزة، فانصرفت وبعثت إليه بقصيدة تمدحه فيها، وتشكره على رده لظلامتها وتثني عليه ثناءً عطراً(391). ومن الشاعرات الأندلسيات كذلك أم الكرام بنت المعتصم بن صمادح ملك المرية، كانت تنظم الشعر، أحبت فتىً من دانية اسمه السمار وعملت فيه الموشحات ومن شعرها فيه: يا معشرَ الناسِ ألا فاعجبوا مما جنتـه لوعةُ الحبِ لولاهُ لم ينزلْ ببدر الدجي من أفقهِ العلوىِّ للتربِ حسبي بمن أهواه، لو أنه فارقني تابعه قلبي(392)   ومنهن أم العلاء بنت يوسف الحجارية وكانت تنسب إلى وادي الحجارة، قرب مدريد، من أهل القرن الخامس الهجري، كانت شاعرة تفخر ببلدها وقبيلتها ومن شعرها: كلُ ما يصدر عنكم حَسَنُ وبعلياكم تحلّى الزمنُ تعطفُ العينُ على منظَركم وبذكراكم تَلَذُ الأذنُ من يعشْ دونكم في عمره فهو في نبل الأماني يغبنُ وعشقها رجلٌ أشيب فكتبت إليه: الشيبُ لا يخدعُ فيه الصِّبا بحيلةٍ فاسمــع إلى نصحي فلا تكنْ أجهلُ من في الورىِ يبيتُ في الجهلِ كما يضحيَ(393) الغسانية البجانية وكانت من شاعرات الأندلس المشهورات تمدح الملوك "والبجانية" نسبة إلى مدينة بجانة الأندلسية، وهي كورة عظيمة بإقليم المرية، عاشت الغسانية وهذا هو اسمها وليس لقبها، في القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي، فمن نظمها من أبيات: عهدتهمُ والعيشُ في ظل وصلهم أنيقٌ وروضُ أخضـــــر فينانُ لياليَ سعدٍ لا يخاف على الهوى عتابٌ ولا يخشى على الوصل هجرانُ ويسطو بنا لهو فنعتنقُ المُنى كما اعتنقتْ في سطوة الريح أفنــانُ(394) وقد أنشدت هذه القصيدة تمدح فيه الأمير خيرات العامري صاحب المرية: ومن الأديبات الأندلسيات المشهورات حمدونة بنت زياد المؤدب الوادي آشية نسبة إلى وادي آش شاعرة أديبة، وهي خنساء المغرب، وشاعرة الأندلس، عاشت في أواخر القرن الرابع الهجري، وقد نالت شهرة كبيرة حتى وصل صيتها إلى المشرق، من غير أن تذهب إليه لبراعتها في الشعر، الذي خلب لب المشارقة، كانت من ساكني "وادي الحنة" بقرية بادي من وادي آش في غرناطة ويلاحظ أن اسم حمدونة هو صيغة تكبير لاسم حمدة. لأن الواو والنون في آخر اللفظ تدل على التكبير أو التضخيم، وهي مأخوذة من المقطع الأسباني (un) أو (on) في آخر الكلمة للدلالة على التكبير أيضاً. وهناك أسماء أندلسية كثيرة تأثرت بهذه الصيغة الأسبانية، مثل زيدون، وخلدون، وحفصون، عبدون، ونزهون(395). ويبدو أن أهل السودان أيضاً قد تأثروا بهذه الصيغة الأندلسية في الأسماء فيقولون: صغيرون، وحسون، وحمدون، وعبدون. وقد اتخذ شعرها طابع الغزل، وكانت عاشقة للطبيعة الخلابة للبيئة الأندلسية، فأوقفت أروع أشعارها على وصف جمال تلك الطبيعة الخلابة. خرجت يوماً مع بعض صويحباتها إلى نهر به جداول بين الرياض فسبحن فيه ولعبن في الماء فأثر فيها المشهد فأنشدت: أباحَ الدمعُ أسرارى بـوادي له للحسنِ أثــــارٌ بَوَادِى فمن نهرٍ يطوف بكل روضٍ ومن روضٍ يرفُ بكلِ وادى ومن بين الظباء مهـاةُ إنسٍ سبتْ لُبى وقـد ملكتْ فؤادى وقد سدلتْ ذوائبها لأمــرٍ وذاك الأمـرُ يمنعنى رُقادى تخال الصبحُ مات لـه خليلٌ فمن حزنٍ تسربل بالحـداد(396) ومن عجيب شعرها قولها: ولما أبى الواشون إلا فراقُنا وما لهم عندى وعندكَ مــن ثارِ وشّنوا على أسماعنا كل غارةٍ وقلَّ حُماتى عند ذاكَ وأنصـارىِ غزوتهم من مقتليك وأدمُعي ومن نفسي بالسيفِ والسيلِ والنارِ(397) أما عائشة بنت أحمد القرطبية فقد روى عنها أنه لم يكن في زمانها من حرائر الأندلس من يعدلها علماً وفهماً وأدباً وشعراً وفصاحةً، تمدح ملوك الأندلس وتخاطبهم بما يعرض لها من حاجة، وكانت حسنة الخط، تكتب المصاحف، توفيت سنة 400هـ وهي لم تتزوج. ذكر أنها كانت من عجائب زمانها وغرائب أوانها. دخلت على المظفر بن المنصور بن أبي عامر وبين يديه ولدٌ فارتجلت: أراك اللهُ فيه مـا تريدُ ولا برحتْ معاليـــهِ تزيدُ فقد دلتْ مخايلهُ على ما تؤمله وطالعـــهُ السعيـدُ تشوقتِ الجيادُ هلً وهزّ الحسامُ هوىً وأشرقتْ البنودُ فسوف تراه بدراً في سماءٍ من العليا كواكبه الجنـــودُ وكيف يخيبُ شبلٌ قد نمته إلى العليا ضُراغمه أســود(398) ومنهن كذلك مريم بنت أبي يعقوب الأنصاري التي سكنت أشبيلية وأصلها من شِلْب، أديبة، شاعرة جزلة مشهورة، وكانت تعلم النساء الأدب، وتحتشم لدينها وفضلها، وعمرت عمراً طويلاً، سكنت أشبيلية واشتهرت بها بعد الأربعمائة للهجرة. بعث إليها الخليفة المهدي بدنانير وكتب إليها. مالي بشكرِ الذي أوليت من قِبَلِ لو أننى حزتُ نطق اللُّسنِ في الحلَلِ يا فذة الظرفِ في هذا الزمانِ ويا وحيدة العصر في الإخلاصٍ والعملِ أشبهتِ مريَم العذراءِ في ورعٍ وفقت خنســاءَ في الأشعارِ والمثلِ فردت عليه: من ذا يجاريكِ في قولٍ ومن عملِ وقد بَدَرْتَ إلى فضلِ ولم تُسَلِ مالى بشكر الذي نظمتِ في عنقي من اللآلى وما أوليت من قِبَلِ حليتني بحلي أصبحتَ زاهيــةً بها على كلِ أنثى من حلى عطلِ ومن شعرها وقد كبرت: وما يرتجَى من بنتِ سبعين حجةً وسبعٍ كنسجِ العنكبوِت المهلهلِ تدبُ دبيبَ الطفلِ تسعى إلى العصا وتمشى بها مشى الأسير المكبلِ(399) ومنهن حفصة بنت حمدون الحجارية، وهي من وادي الحجارة، عاشت في القرن الرابع الهجري، كانت أديبة وعالمة وشاعرة، لها شعر تتغزل فيه قائلة: لي حبيب لا ينثنى لعتـــابِ وإذا ما تركتــــهُ زاد تيهاً قال لى هل أريت لي من شبيه قلت أيضاً وهل ترى لي شبيهاً(400) ولادة بنت المستكفي: أما أشهر شاعرات الأندلس على الإطلاق فقد كانت ولادة بنت المستكفي، بل أشهر شخصية نسائية في التاريخ الأندلسي كله. فلم تنعم شخصية نسائية أندلسية بما نعمت به ولادة، وقد انقسم الباحثون حيالها إلى فريقين أو قسمين: قسم معها، وقسم عليها، إذ يرى البعض أنها خرجت خروجاً غير مألوف في التحرر من عادات وتقاليد زمانها، وأنها قد خرجت عن القاعدة المألوفة والمرسومة لنساء عصرها. وأنها تعتبر الاستثناء وليست القاعدة لنساء عصرها من حيث تمتعها بالحرية الزائدة. ولذلك فهي لا تمثل المرأة الحرة في عصرها، والتي كانت بقدر الإمكان تحافظ على التقاليد الإسلامية. وأيضاً تتمتع بحريتها ولكن بتحفظ وفي حدود ما يسمح به المجتمع الإسلامي الأندلسي(401). وهي سليلة البيت الأموي الحاكم في الأندلس ووالدها المستكفي بالله محمد بن عبد الرحمن بن عبيد الله بن الناصر لدين الله، كانت واحدة زمانها، حسنة المحاضرة مشكورة المذاكرة، أديبة، شاعرة، جزلة القول، حسنة الشعر، وكانت تناضل الشعراء، وتساجل الأدباء، وتفوق البرعاء، وعمرت عمراً طويلاً ولم تتزوج قط(402). وكان أبوها المستكفي قد بايعه أهل قرطبة لما خلعوا المستظهر، وقد كانت بيعته في سنة 414هـ، ولم يدم حكمه إلا سنتين في فترة مضطربة. وكان ماجناً، توفى في سنة 416هـ وترك ابنته ولادة وكان عمرها حينذاك يقرب من الستة عشر ربيعاً، ويبدو أن أبا ولادة قد اهتم بتثقيفها فأحضر لها المعلمين والمؤدبين. ولم تلبث أن تفتحت مواهبها. وكأنها كانت تنتظر موت أبيها (سنة 416هـ) حتى تطلق لنفسها العنان وتجاهر بحياتها الحرة(403). فأقامت لنفسها صالوناً أدبياً تلتقي فيه بالأدباء والشعراء وقد وصف المقري مجلسها الأدبي بقوله: "وكان مجلسها بقرطبة منتدى لأمراء القصر، وفناؤها ملعباً لجياد النظم والنثر يعشو أهل الأدب إلى ضوء غرتها، ويتهالك أفراد الشعراء والكتاب على حلاوة عشرتها، وعلى سهولة حجابها، وكثرة منتابها، تخلط ذلك بعلو نصاب وكرم أنساب، وطهارة أثواب، على أنها أوجدت للقول فيها السبيل بقلة مبالاتها، ومجاهرتها بلذاتها"(404). ويقال أنها كتبت على طرازها (ثوبها) الأيمن: أنا واللهِ أصلحُ للمعالى وأمشى مشيتي وأتيه تيهاً وكتبت على الطراز الأيسر: وأمكن عاشقي من صَحنِ خَدىِ وأُعطى قبلتي من يشتهيها(405) وقد شكك بعض الباحثين في نسبة البيتين لولادة، لمجافاتهما للواقع النفسي لامرأة ذات مقام وحسب، إذ كيف يسوغ لأميرة تصلح للمعالى وتتيه تيهاً أن تعطى قبلتها من يشتهيها؟ ومنْ مِن المجان – مهما كان مركزه ضعيفاً – لا يشتهي أمراً كهذا، من أميرة بالغة الحسن في كل شي(406). وعلى الرغم من أن المقرى أورد البيتين إلا أنه ذكر أنها كانت مشهورة بالصيانة والعفاف(407). إذ لا تستقيم الصيانة والعفاف مع مضمون البيتين. وكان الشاعر ابن زيدون القرطبي من جملة الشعراء الذين كانوا يقصدون منتداها الأدبي، وهو في ميعة الشباب، وفي هذا المنتدى تمكنت بينهما أواصر الصداقة ووقع في أشراك حبها. قال أبو الوليد ابن زيدون كنت في أيام الشباب وغرة التصابي هائماً بغادة تسمى ولادة فلما قدم اللقاء وساعد القضاء كتبت إلىّ: ترقبُ إذا جنَّ الظلامُ زيارتي فإني رأيتُ الليـــل أكتمُ للسرِ وبي منك مالو كان باليد ما بدا وبالشمسِ لم تطلعْ وبالبدر لم يَسْرِ ووفت بما وعدت، ولما أرادت الإنصراف ودعته بهذه الأبيات: ودع الصبرَ محب ودعــكَ ذائعٌ من سره ما استودعـــكْ يقرع السن على أن لم يكـن زاد في تلك الخطى إذ شيعــكْ يا أخا البدرِ سناءً وسنـــاً حفظ الله زماناً أطلعــــــكْ إن يطل بعدك ليــلى فلكم بتُ أشكو قصرَ الليـــلِ معكْ(408) وقد سجل ابن زيدون بأشعاره العاطفية الرقيقة كثيراً من أحداث حياته، في سراحه واعتقاله، ومقامه وانتقاله، وصور فيها منازه قرطبة وبساتينها وقصورها وأرجائها، ومنياتها وجناتها وأحب ولادة حباً ملك فؤاده فأنشد فيها قصائد من أرق وأعذب ما وصل إلينا في فن الغزل والحب، ضمنها كثيراً من مشاعره وأحاسيسه وكانت ولادة قد بادلته حباً بحب وهياماً بهيام، وتآلفت روحها مع روحه، وكانت تلتقى معه لقاءات طويلة تدوم الليل بطوله، بين الخمائل ووسط الأزهار العطرة(409). وحدث أن غاب عنها فترة فكتبت: ألا هلَ لنا من بعــدِ هذا التفرقِ سبيل فيشكو كـلُ صبً بما لقى وقد كنُت أوقاتَ التزاورِ في الشتاِ أبيتُ على جمرِ من الشوقِ مُحرقِ فأجابها بقوله: لحى اللهُ يوماً لست فيـه بملتقٍ محياكِ من أجلِ النوىَ والتفرقِ وكيف يطيبُ العيشُ دون مسرةٍ وأىُ سرور للكئيبِ المؤرقِ(410) والأشعار التي قالها ابن زيدون في ولادة كثيرة جداً لا يتسع المجال لذكرها، ولكن أبدع ما قاله فيها قصيدته النونية التي جرت على كافة الألسنة: بنتم وبنا، فما ابتلتْ جوانِحُنَا شوقاً إليكــمُ، ولا جفتْ مآقينا تكاد حين تناجيكم ضمـائُرنا يقصى علينا الأسى، لولا تأسينا حالت لفقدِكُم أيامنا فغــدتْ سوُداً، وكانت بكـم بيضاً ليالينا إذ جانبُ العيشِ طلقٌ من تألفِنَا وموردُ اللهوِ صافٍ من تصافينا(411) ومن شاعرات الأندلس المبتذلات الشاعرة مهجة بنت التياني القرطبية. كان أبوها يبيع التين، وكانت هي تدخل عند ولادة بنت المستكفي، وكانت من أجمل نساء زمانها، وأخفِّهن روحاً، فعلقت بها ولادة، ولزمت تأديبها، إلى أن صارت شاعرة. حدث بينها وبين ولادة وحشة فهجت ولادة(412). وذهبت في فحش القول واستخدام الألفاظ البذيئة ما جعلها تنتمي إلى مصاف الشاعرات السوقيات(413). أما غاية المنى فقد كانت جارية أندلسية متأدبة، قدمت إلى المعتصم بن صمادح، فأراد اختبارها فقال لها: ما اسمك؟ فقالت غاية المنى، فقال لها: أجيزى: أسألوا غاية المنى. فقالت: مــن كسا حسمي الضنىَ وأرانى مولهاً سيقولُ الهوىَ أنا(414) وهكذا تم استعراض نماذج من نساء الأندلس اللائي برزن في ميدان الشعر والآداب مع مقتطفات قليلة من أشعارهن خلال الفترة المذكورة في هذا الكتاب. وهناك شاعرات أخريات كثر، لم يتم تناولهن بالحديث، إذ لا يتسع المجال لذكرهن. وقد أفرد المقري في المجلد الرابع من كتابه نفح الطيب، مساحة واسعة للحديث عنهن. وهذه النماذج التي تم عرضها تكفي لإعطاء ملامح مشرقة عن شاعرية المرأة الأندلسية، وتعكس واقعاً كانت تعيشه المرأة في بلاد الأندلس خلال تلك الحقبة الزاهرة من الوجود الإسلامي في شبه الجزيرة الأندلسية، وتدلل على أن المرأة الأندلسية لم تكن تقل عطاءاً وإبداعاً في هذا الميدان عن الرجال، بل كانت تنافسهم وتتفوق عليهم أحياناً. فقد كان الشعر جزءاً أساسياً من حياة الأندلسيين الاجتماعية، بل كانوا يتنفسون شعراً أمراء، ووزراء، وعامة أفراد المجتمع. رجالاً ونساءً، أماءً وحرائر. وقد كانت المرأة الأندلسية أكثر جرأة في التعبير عما في دواخلها، وعكس مشاعرها وأحاسيسها، وكان المجتمع يشجع هذا الأمر ويتقبله.   الفصل الثالث مساهمة المرأة في المجال العلمي لم يقتصر دور المرأة على المساهمة في الحياة الأدبية فقط في الأندلس، وإنما كان لها مساهماتها ومشاركاتها في مجالات علمية وثقافية عديدة. وقد تعددت هذه المشاركات فنجد البعض منهن اتجهن إلى علوم اللغة العربية وآدابها، والبعض الآخر في مجال العلوم الدينية عموماً، واهتم بعضهن بالكتابة للأمراء أو الخلفاء، كما شاركت بعض النساء في مجال التدريس، أو غير ذلك من المجالات الفكرية والعلمية التي كانت متاحة في ذلك الحين. وقد برز في مجال الفقه من النساء فاطمة بنت يحي بن يوسف المغامي، أخت الفقيه يوسف بن يحي، كانت خيرة فاضلة، عالمة فقيهة ورعة استوطنت قرطبة وتوفيت بها سنة 319هـ في عصر الخليفة الناصر لدين الله. ولم ير على نعش امرأة من المصلين ما رئى على نعشها(415). أما في مجال علوم الحديث وروايته فنجد فاطمة بنت محمد بن علي ابن شريعة اللخمي، أخت أبي محمد الباجي الأشبيلي، شاركت أخاها أبا محمد في بعض شيوخه، وأجازهما معاً محمد بن فطيس الألبيري في جميع روايته بخط يده(416). ومنهن كذلك راضية مولاة الخليفة عبد الرحمن الناصر. وكانت تسمي أيضاً "بنجم" وقد أعتقها الخليفة الحكم المستنصر بعد وفاة أبيه وزوجها "لبيب الفتى". وذهبت هي زوجها معاً إلى الحج سنة 353هـ. وكانا يقرآن ويكتبان معاً: ودخلا الشام ومصر حيث تقابلا مع سفيان القرطبي وسمعا عليه معاً. وقد عمرت عمراً طويلاً(417). أما خديجة بنت أبي محمد بن سعيد، فقد شاركت أباها الشيخ أبي ذر بن أحمد الهروي. وسمعا منه صحيح البخاري وغيره، وذهبت إلى مكة المكرمة بصحبة أبيها، وسمعت هناك من شيوخ مكة وعادت إلى الأندلس مرة أخرى مع أبيها(418). وكانت أم الحسن بنت أبي لواء القرطبية من النساء الوافدات إلى المشرق من بلاد الأندلس. وكانت صالحة زاهدة فاضلة عاقلة، ذهبت إلى الحج، وسمعت الحديث والفقه في مكة والمدينة. ورجعت إلى الأندلس لتعلم نساء الأندلس ما تعلمته، ثم حجت مرة ثانية وتوفيت بمكة المكرمة. وكان من أبرز شيوخها الفقيه الأندلسي بقى بن مخلد(419). ومنهن كذلك أمة الرحمن بنت أحمد الزاهدة، كانت تروى الحديث عن أبيها الذي تلقت كل علومها عنه. ويذكر عنها أنها كانت صوامة قوامة وتوفيت بعد الثمانين من غير أن تتزوج إذ وهبت حياتها للعلم والتعليم(420). ومن هؤلاء المحدثات كذلك غالية بنت محمد المعلمة الأندلسية وكانت تروى عن أصبغ بن مالك الزاهد(421). ومنهن كذلك عابدة المدينة جارية دحون الوليد بن حبيب المرواني، وكانت جارية سوداء أهديت إليه عندما حج، وقد اشتهرت برواية الحديث عن الإمام مالك بن أنس وغيره حتى قيل أنها تسند عشرة آلاف حديث. أي تحفظها بسندها. وقد أعجب بها الوليد، وقدم بها إلى الأندلس، فتزوجها واستولدها ابنه بشرا(422). أما في مجال علم اللغة والنحو والعروض، فقد برزت مولاة أبي المطرف عبد الرحمن بن غلبون الكاتب التي تسمي إشراق السويداء، سكنت مدينة بلنسية الأندلسية، وكانت قد أخذت عن مولاها النحو واللغة، لكنها فاقته في ذلك، وبرعت في العروض، وكانت تحفظ الكامل "للمبرِّد" "والنوادر" لأبي على القالي وتشرحهما. وقد تعلم منها بعض الرجال علم العروض، ودرس عليها هذين الكتابين. توفيت بمدينة دانية سنة 450هـ(423). وكانت المرأة الأندلسية تقوم بمهمة الكتابة للأمراء والخلفاء. ففي عصر الأمارة كانت رقية بنت الوزير تمام تقوم بمهمة الكتابة للأمير المنذر بن محمد(424). وفي عصر الخلافة برزت "مزنة" كاتبة الخليفة عبد الرحمن الناصر لدين الله، كانت أديبة حسنة الخط. توفيت سنة 358هـ(425). وفي عصر الخليفة الحكم بن عبد الرحمن الناصر، تولت له أمر الكتابة "لبنى" كانت حاذقة بالكتابة نحوية شاعرة، بصيرة بالحساب، مشاركة في العلم، وكانت عروضية حسنة الخط جداً، توفيت سنة 374هـ(426). ويمكن أن نشبه أعمال الكتابة للأمراء والخلفاء في ذلك الوقت بأعمال "السكرتارية" في وقتنا الحاضر. ومن النساء الأندلسيات من اشتغلن بعلم القراءات، منهن ريحانة التي قرأت القراءات بالمرية كلها على المقرئ الأندلسي أبي عمرو الدانى، وقرأت عليه خارج السبع قراءات وأجازها في ذلك(427). وفي عهد هشام المؤيد بن الحكم المستنصر بالله، ظهرت في قصر الخلافة شخصية أخرى هي "نظام" الكاتبة. وكانت بليغة مدركة، محبرة للرسائل. ومن أبرز ما خطته بيدها الخطاب الذي جدد فيه المنصور بن أبي عامر، ولاية العهد في الحجابة من بعده لابنه المظفر عبد للملك. وذلك في شوال 392هـ - 1002م. فقد كان الخطاب من إنشائها، وبأسلوبها، وشخصية أخرى في قصر خلافة هشام المؤيد هي "أميمة الكاتبة" جارية وحظية الحسين بن حُيى. فقد عهد إليها المهدي بن محمد بن هشام بن عبد الجبار، بحراسة هشام المؤيد، عندما قام عليه بانقلاب، وخلعه وعزله في دار مالكها الحسين بن حيي(428). وهناك عدد من النساء المعلمات وهن النساء اللاتي مارسن مهنة التعليم أو التدريس للنساء. فقد كنَّ يتلقين أولاً دروساً في مدارس خاصة بهن مثلهن مثل الرجال. وذلك لإعدادهن إعداداً جيداً لتلك المهنة. وقد كرَّست الكثيرات منهن وقتهن للدراسة والتعليم وبرعن فيها. كما أن العناية بتثقيف الجواري وتهذيبهن قد زادت زيادة عظيمة حتى كن يدرسن إلى جانب فنون الغناء والموسيقي التي جاءت في الدرجة الأولى، علوم اللغة وفنون الأدب، بل وفي أحيان كثيرة دراسة الطب وعلوم التشريح والطبيعة أيضاً(429). لقد بدأت المرأة الأندلسية تأخذ مكانها البارز في المجال العلمي بدءاً من القرن الثالث الهجري/ التاسع الميلادي وحتى القرن الثامن الهجري/ الرابع عشر الميلادي. وقد عكست في تلك الفترة بصدق الأفكار الاجتماعية والدينية التي كانت سائدة في عصرهن. كما اشتغلن بالعلوم الدينية واللغوية وبرز منهن كثيرات(430). واشتهرت المرأة الأندلسية أيضاً بكتابة المصاحف فقد كانت عائشة بنت أحمد القرطبية – السالفة الذكر – حسنة الخط وتكتب المصاحف(431). وكانت البهاء من خيرة نساء بني أمية من أهل الزهد والعبادة والتبتل. وكانت تكتب المصاحف وتوقفها أو تحبسها على المساجد. وينسب إليها مسجد البهاء من مساجد ربض الرصافة وتوفيت في صدر دولة عبد الرحمن الناصر في سنة 305هـ/ 918م ولم يتخلف أحد عن جنازتها(432). وكان بالربض الشرقي "الحي" من قرطبة مائة وسبعون امرأة كلهن يقمن بكتابة "القرآن الكريم" وتخطيطه بالخط الكوفي، ووضعه في مصاحف كل نسخة مستقلة عن الأخرى. هذا في ناحية فقط من نواحي قرطبة وهو الحي الشرقي فما بالنا ببقية الأحياء العشرين الأخرى التي تحيط بقرطبة. بل والمدن الأخرى التي تضارع قرطبة اهتماماً بالعلوم والثقافة. فلا بد أنها حذت حذو قرطبة، وإن لم تأخذ نفس الاهتمام في النقل والكتابة للمؤرخين على اعتبار أن قرطبة هي العاصمة وبؤرة الضوء(433). وفي مجال الحياة الاقتصادية فإن المرأة الأندلسية لم تكن عاطلة مسترخية، بل نجدها عاملة مجدة في واجباتها المنزلية ومعاونة لزوجها في كثير من شؤون الحياة. وقد عملت في نطاق الحياة العامة لتنال شرف النضال في كثير من الميادين في مجتمع قائم على الكد، وتجويد الأعمال وتدبير المعاش. وكان مجتمعهم إذا رأي شخصاً صحيحاً قادراً على الخدمة يسأل الناس، سبوه، وأهانوه، فضلاً عن أن يتصدقوا عليه، فلا تجد بالأندلس سائلاً إلا أن يكون صاحب عذر(434). ولذلك لم تختلف المرأة الأندلسية عن الرجل في ميادين الكسب والمعاش. ويحدثنا الإمام ابن حزم عن صنوف النساء العاملات ذوات الصناعة والحرف اللائي عقدن الصلات الاجتماعية مع الناس، وفيهن الطبيبة، والحجامة، والدلالة، والماشطة، والنائحة، والمغنية، والكاهنة والمعلمة، والصناع في الغزل والنسيج(435). من خلال ما سبق يتجلى لنا بوضوح أن المرأة الأندلسية شغلت مكاناً فسيحاً في المجتمع، مؤدية دورها الهام في مختلف ميادين الحياة الأندلسية، شغلته أماً حانية زوجة وفية، وشاركت بكل قوة واقتدار في ميدان الأدب والشعر والموسيقي، وأضفت على الحياة الاجتماعية الأندلسية قدراً كبيراً من البهجة والسحر والجمال. وشاركت كذلك في الحياة الفكرية وكان لها نصيب مقدر في علوم اللغة والنحو والعروض، والعلوم الدينية كعلوم الفقه والحديث كما ساهمت بجد واجتهاد في كتابة القرآن الكريم بالخط الكوفي، وتنميق المصحف الشريف وتهذيبه. وساهمت كذلك في ميدان الحياة الاقتصادية لتخفيف أعباء الحياة عن أسرتها فكانت مثلاً حياً للمرأة المسلمة المجدة المجتهدة في ظل مجتمع متعدد الثقافات والإثنيات. يقول الدكتور حسين دويدار عن المجتمع الأندلسي وما فيه من تباين وتناقض ما نصه: "والحقيقة أن المجتمع الأندلسي قد اتسم بالحدة والتطرف في نظرته للأشياء. فقد وجدت بيئات كلها علم وزهد وتقي، كما وجدت إلى جانبها بيئات أخرى مالت إلى التحرر واللهو والترف والمجون، وعاشت حياة صاخبة لاهية. وانساق الكثيرون مع هذا التيار العابث الذي فتنهم. ونحن إذا قرأنا ما نظمه الشعراء الأندلسيون من شعر الخمر والغزل لخيل إلينا أن المجتمع الأندلسي لم يعرف غير ذلك، وفي المقابل إذا قرأنا ما نظموه في شعر الزهد والتصوف وما ألفه العلماء من مؤلفات لقلنا أن هذا المجتمع كان كله مجتمع زهد وتقوى وصلاح وعلم. ولكن هذا المجتمع جمع بين هذين الجانبين شأن أي مجتمع آخر مع الاختلاف النسبي بين مجتمع وآخر في ناحية من النواحي(436).   الباب الرابع: مؤسسات الرقابة على المجتمع الفصل الأول: مؤسسة الحسبة ودورها الرقابي. الفصل الثاني: صاحب الشرطة. الفصل الثالث: صاحب المدينة.   الفصل الأول مؤسسة الحسبة ودورها الرقابي تألف المجتمع الأندلسي من مجموعات إثنية تداخلت وتصاهرت وتمازجت فيما بينها كما سبق ذكره من قبل في فصل العناصر السكانية المكونة للمجتمع الأندلسي. فقد ضم هذا المجتمع كما رأينا، المسلمين الفاتحين من العرب الشاميين والبلديين، والبربر، والموالي، كما ضم المسالمة والمولدين، وأهل الذمة من اليهود والنصارى. وعلى الرغم مما بين هذه العناصر المختلفة من تناقضات وتنازعات إلا أنها امتزجت فيما بينها لتشكل لنا المجتمع الأندلسي المتسامح حيث يعيش فيه المسلمون جنباً إلى جنب مع النصارى واليهود. وقد امتاز المجتمع الأندلسي بخصوصيات ميزته عن سائر المجتمعات الإسلامية الأخرى وعن إخوانهم في المشرق. وقد نمت هذه الخصوصية على مر السنين وتبدت ملامحها في كثير من المظاهر إذ صاروا يختلفون عن غيرهم من المسلمين في عدم ميلهم إلى ارتداء العمامة، ووصل بهم الحال في تميزهم إلى أن صاروا يرتدون في أحزانهم البياض، مما أثار حيرة أحد الشعراء ومضى يتلمس لهذه الظاهرة أصولاً فيقول: ألا يا أهلَ أندلسٍ فطنتْم بلطفكم إلى أمـرِ عجيبْ لبستم في مآتمكم بياضاً فجئتم منه في زى غريبْ صدقتم فالبياضُ لباس حزنٍ ولا حزنَ أشد من المشيبْ(437) وقد تشكلت في هذا المجتمع طبقات اجتماعية مختلفة، فهناك طبقة الأمراء والخلفاء وقادة الجيش وعليه القوم والفقهاء والأدباء وكبار التجار، وطبقات أخرى من العمال والفلاحين وأصحاب المهن والصناعات وصغار التجار والباعة المتجولين، والمستخدمين والأجراء والخدم والعبيد والجواري إضافة إلى طبقة "سقط العوام" الذين يفصلهم أحد الباحثين بالقول بأن هذه الطبقة تألفت من اللصوص، المجرمين، الشحاذين، والمتسعكين في أزقة المدن وساحاتها، والغرباء والعاطلين عن العمل، المهرجين والدراويش، والراقصات والحمقى(438). وقد تفشت في هذا المجتمع الذي تفرد بتنوع عناصره السكانية، وتنوع طبقاته، كثيراً من الأمراض والآفات الاجتماعية المدمرة وخاصة عندما شاع الغناء واللهو وغرق الناس في الملذات وكثر الفراغ لديهم. فقد بلغت الأندلس منذ عصر الخلافة حتى خروج المسلمين منها قمة الازدهار الحضاري، وغلب على أهلها الترف فعمدوا إلى الاستمتاع بالحياة وملذاتها، واستغرقوا في الترف واللهو والرفاهية، وكان ذلك الاستغراق في حياة المتع والرفاهية وشهوات النفس عاملاً أساسياً من عوامل التفتت، الذي منيت به الأندلس، وأدي إلى سقوطها في نهاية الأمر(439). وكان شرب الخمر من الآفات الاجتماعية الخطيرة المنتشرة بين بعض فئات المجتمع. وكانت الخمر ووصفها تجرى كثيراً على ألسنة الشعراء. ولم تخل مجالس اللهو والطرب من شرب الخمر، وما يجرى فيها من مجون، وخلاعة، وتهتك واستهزاء بقيم الدين(440). ولذلك فقد استفتح الأمير عبد الرحمن الأوسط 206 – 238هـ دولته بهدم أماكن بيع الخمور وأظهر البر(441) وهمّ الخليفة الحكم المستنصر باستئصال شجرة الكروم لقطع الخمر من الأندلس فقيل له إنها تصنع من التين وغيره فتوقف عن ذلك(442). ولكنه لم يتوقف من التشدد في إصدار الأوامر بإراقتها أينما وجدت في أقاليم الأندلس المختلفة. بالإضافة إلى شرب الخمر فقد انتشر الزنا والفسق وسائر الموبقات في بعض المدن الأندلسية. فقد عرفت مدينة (برشانة) – وهي عبارة عن حصن – بالمجون يقول عنها ابن الخطيب "وفي هذه المدينة للمجون بها سوق وللفسوق ألف سوق" وعرفت مدينة (أُبَّده) بملاهيها وراقصاتها. وأما أشبيلية فكانت مضرب الأمثال في الخلاعة(443). وكان في كل مدينة من المدن الأندلسية أسواقاً منظمة ومرتبة. وفي قرطبة خصص لكل سوق بضاعة معينة(444). وكانت هذه الأسواق في حاجة إلى مراقبة دائمة لضبطها من قبل الدولة، ذلك أن ما يجرى فيها من بيع وشراء ومعاملات تجارية وغش وتدليس، وتسكع من قبل بعض العاطلين عن العمل فيها، والمجان الذين لا يتورعون من التلفظ بكلمات نابية تخدش الحياء العام للمجتمع، كل ذلك تطلب إنشاء مؤسسات رقابية رادعة فاعلة تضبط حركة الأسواق وما يجرى فيها، وتقوِّم مسار المجتمع وتوجهه الوجهة الصحيحة. ومن هنا جاءت الحاجة إلى مؤسسة الحسبة والشرطة. مفهوم الحسبة ودورها الرقابي في المجتمع الأندلسي: الحسبة بكسر الحاء هو الأجر، وهي ولاية دينية قوامها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر(445). وهي جامعة بين نظر شرعي ديني، وزجر سياسي سلطاني(446). يقول ابن عبدون الأندلسي: "والاحتساب أخو القضاء، فلذلك يجب ألا يكون إلا من أمثال الناس، وهو لسان القاضي وحاجبه، ووزيره وخليفته(447)، وليس بعد خطة القضاء أشرف من خطة الحسبة، لأنها من الأمور الدينية(448). وهي مؤسسة معاونة للقضاء إذ يسهر المحتسب على تنفيذ الأحكام المتعلقة بالمصالح والآداب العامة، ويعمل على حماية الناس من الغش والاستغلال، وتحمى الضعيف وتساعد أهل الخير في كل وجوه البر، وتحسم أسباباً كثيرة للشر(449). ولارتباطها بحماية الناس فإن لها صلة وثيقة بالشرطة حيث يعد كل من المحتسب والشرطي مسؤولاً عن الأسواق والآداب العامة(450). أما شروط المحتسب فقد حددها ابن عبدون بقوله: "ويجب أن يكون المحتسب رجلاً عفيفاً خيراً ورعاً، عالماً، غنياً، نبيلاً، عارفاً بالأمور، محنكاً، فطناً لا يميل ولا يرتشى، فتسقط هيبته ويستخف به ولا يعبأ به، ويتوبخ معه المقدم له ولا يستعمل في ذلك خساس الناس ولا من يريد أن يأكل أموال الناس بالباطل"(451). وقد عنى الأندلسيون كغيرهم من المجتمعات الإسلامية بهذه المؤسسة، وأطلقوا على متوليها اسم صاحب السوق، واستخدموا لفظ المحتسب في فترات متأخرة. وقد عرف المحتسب بصاحب السوق لأن أكثر نظره فيما كان يقع في الأسواق من غش وخديعة ودين وتفقد مكيال وميزان(452). إن مؤسسة الحسبة في أصلها تقابل في النظام الإسلامي الواجب الديني على المؤمن، وما عليه من أمر بالمعروف، ونهى عن المنكر. وبما أن الرقابة على الأخلاق في دولة ذات نظام لا يمكن أن تقتصر على مجمل المبادرات الفردية فقط، فقد تحولت الحسبة لنظام قضائي خاص جعل واجبه الأول مراقبة كل شيء في سلوك المسلمين في تجمعاتهم الحضرية وذلك في سلوكهم الفردي كما في علاقاتهم الإجتماعية وفق النظم الإسلامية. وإذا أخذنا مهام صاحب الحسبة على حرفيتها فإنها كانت كبيرة لدرجة مبالغ فيها. ولكنها بدأت منذ عصر هشام الأول تنحصر شيئاً فشيئا في ميدان المعاملات التجارية كما كانت تضاف لصاحبها أحياناً مهام الشرطة. وفي ذلك دلالة على أن الحسبة الأندلسية أولت اهتماماً كبيراً لقضية الأمن والنظام العام للمجتمع(453). لقد كانت الحاجة ماسة إلى المحتسب في المجتمع الأندلسي نظراً لوجود بعض المعوجين الأشرار الذين يحتاجون إلى من يقومهم ويضبط سلوكهم درءاً للمفسدة. ولذلك فقد تعددت اختصاصات المحتسب وتنوعت فكان منها ما يتصل بالنواحي الدينية كالأمر بالصلوات الخمس، وإقامة الجمع والجماعات. ومنها ما يتعلق بالآداب العامة كمراقبة الحمامات، ومنع تبرج النساء. وتأديب المجاهرين بالمحرمات من شرب الخمر والفواحش. ومنها أيضاً ما يتعلق بالناحية الاقتصادية والمعاملات بين الناس من بيع وشراء، ومراقبة الموازين والمكاييل، والنظر في الأسواق والطرقات وما فيها من أنواع المتاجر. كما كان له حق الإشراف على الأطباء ويأخذ عليهم العهد والمواثيق ألا يعطوا أحداً دواءً مضراً ولا يساعدوا في معصية. هذا بالإضافة إلى حقه في الإشراف على أصحاب المصانع والحرف ومنعهم من الغش والتدليس ومطالبتهم بالجودة. وأن يجعل لأهل كل صنعة عريفاً من أهلها(454). وكانت عادة المحتسب في الأندلس أن يمشى بنفسه راكباً على الأسواق وأعوانه معه. وميزانه الذي يزن به الخبز في يد أحد الأعوان، لأن الخبز عندهم معلوم الأوزان للربع من الدرهم رغيف على وزن معلوم، وكذلك للثمن، وفي ذلك من المصلحة أن يرسل المبتاع الصبي الصغير أو الجارية الرعناء فيستويان فيما يأتيان به من السوق مع الحاذق في معرفة الأوزان، وكذلك اللحم تكون عليه ورقة بسعره، ولا يجسر الجزار أن يبيع بأكثر أو دون ما حد له المحتسب في الورقة، ولا يكاد تخفي خيانته، فإن المحتسب يدس عليه صبياً أو جارية يبتاع أحدهما منه، ثم يختبر المحتسب الوزن، فإن وجد نقصا قاس على ذلك حاله من الناس، فلا تسأل عما يلقى (أي من التعذيب) وإن كثر منه ذلك ولم يتب بعد الضرب والتشهير في الأسواق نفي من البلد(455). وقد تولى أمر الحسبة خلال فترة الدراسة شخصيات عديدة تميزت كلها بالصرامة والشدة في الحق. فمنهم على سبيل المثال: حسين بن عاصم بن كعب الذي ولى الحسبة في عصر الأمير محمد. وكان شديداً على أهل الأسواق إذ كان يضرب ضرباً مبرحاً ينكر عليه(456). ومنهم كذلك العباس بن قرعوس بن عبيد الذي ولي السوق في عصر الأمير الحكم، كان رجلاً يضرب ضرباً شديداً، ويشتد على أهل الريب، وقد أدب رسولاً لأحد أعمام الأمير، وكان يحمل إليه شراباً، فأمر بكسر الإناء وإراقة الشراب وضرب الرسول ضرباً موجعاً(457). وفي عصر الأمير محمد تولى أمر السوق كذلك إبراهيم بن حسين ابن عاصم – الذي تولى والده الأمر من قبل – في وقت تطاول فيه الفسدة والأشرار وكثرت الشكوى للأمير الذي فوضه بتنفيذ الأحكام دون الرجوع إليه، فكانت أحكامه قاسية على أهل الريب(458). وفي عصر الأمير عبد الله تولى الحسبة سعيد بن السليم، الذي كانت له منزلة خاصة عند الأمير عبد الله قبل أن يتولى الأمارة، فلما ولى الأمارة، ولاه خطة السوق، فضبط أمر العامة، وظهرت منه صرامة أكسبته مهابة(459). وفي عصر الخليفة عبد الرحمن الناصر استحدثت خطة أخرى هي خطة تغيير المنكر إذ عزل الناصر حسين بن أحمد ابن عاصم عن خطة السوق، وقدمه إلى خطة تغيير المنكر(460). وقد بلغ من عناية الأمويين بأمر السوق أنهم كانوا يعينون له مفتين لإرشاد المتخاصمين، وتوضيح الأحكام الدينية لأهل السوق. ونظراً لاختلاط المسلمين مع نصارى الأندلس، فكان على المحتسب أن يقوم بأعمال خاصة مراعاة للآداب الإسلامية، كمنع النساء المسلمات من دخول الكنائس، ومنع الإفرنجيات من دخول الكنائس إلا في يوم من أيام الأعياد، أو أيام الأحد يوم العبادة منعاً لشبهة الاختلاط مع القسيسين لاسيما وأن كثيراً منهم كان سيء السلوك وأن يؤمر القسيسون بالزواج، وأن لا يترك في دار القسيس امرأة سواءً كانت عجوزاً أم غيرها إلا وأمرت بالزواج(461). كان المشهد العام للشارع في المدن الأندلسية متشابهاً إلى حد كبير وخاصة في الأيام التي تسبق الأعياد المختلفة، فهي تعطى فرصة للمارة للتنزه والتسلية إلى جانب الهدف الأساسي من قضاء حاجيات الناس وشراء مستلزماتهم الخاصة، ففي الأماكن المجاورة للأسواق تجد الباعة يتجاذبون العملاء، وكان الازدحام يبلغ أشده ساعة العصر حيث تسمع أصوات مزايدات الدلالين المرتفع. وفي ميادين قرطبة نجد القادمين لقضاء حوائجهم من المدن الأندلسية وأهل البادية (الريف) ملتفين في دوائر حول الممثلين الهزليين (المهرجين) الذين كانوا يرتدون زى الفلاحين، مقلدين حركاتهم حينما كانوا يأتون إلى مدينة قرطبة لأول مرة. وكان المحتسب ينهاهم عن مثل هذا الاستخفاف بالنساء وجهال الرجال. وامتاز هؤلاء المهرجين بالمهارة في الألعاب السحرية التي تحتاج إلى خفة اليد وسرعة الحركة، فكان على المحتسب منعهم من ممارسة هذه الألعاب(462). ومشهد آخر لا يبعد عن المشهد السابق، فنجد دقات الطبول تدعو العامة إلى الحواة، وقد اعترض فقهاء الحسبة على وجودهم في الشوارع، ورأوا منعهم وإخراجهم من البلد وأن يؤدبوا حيث وجدوا ولا يتركوا يمشون بين المسلمين ولا في الأعراس، ذلك أنهم كانوا يسيرون أمام موكب العروس عارضين ألعابهم، ولعل الحكمة في منعهم من ذلك ألا يلهوا الناس عن أعمالهم ومصالحهم(463). ونجد كذلك الراقصين والمغنين والملهين والسحرة. "والحسابين" الذين يقرأون الغيب وقد أشارت كتب الحسبة، إلى ضرورة منعهم، وهناك القصاصين الذين كانوا يقرأون بصوت مرتفع فصولاً من السيرة النبوية أو قصصاً تحكى ما كان يدور في الأوساط الشعبية من عجائب أو حكايات مكشوفة، فكانوا يمنعون من الكلام في السيرة النبوية لجهلهم بها(464). وفي الزحام يندس السقاؤون الذين يبيعون المياه وبائعي البخور ممسكين بمباخرهم التي ينبعث منها الدخان، كما كان الشارع لا يخلو من بائعي الدوامات*، والصور للصبيان بالرغم من كره الفقهاء لعمل تلك الأشياء(465). وكان مشهد الشارع في قرطبة لا يخلوا من مشاجرات تقع دائماً بين بعض الناس، فترى وتسمع ضربات الرأس والأكتاف والسباب، وهذا يختلف عن مشهد الناس في شوارع أشبيلية التي كان أهلها يتمازحون بأقبح ما يكون من السب، حتى صار عندهم من لا يبتذل فيه ولا يتلاعن ممقوتاً ثقيلاً(466). ولقد كان ذلك مدعاة لتجمع المارة في الطريق، وعندئذٍ يندس بعض محترفي السرقة بينهم فتسمع صرخات ممن اكتشف سرقة حافظته. وكان ظهور الشرطة من الفرسان مدعاة لعودة النظام واختفاء هذا التجمهر(467). وكان مشهد السوق والشارع لا يخلو ممن يتحايلون بحيل مختلفة للكسب بدون جهد أو مشقة، كالذي يصيح بوجع الحصا والذي يظهر أنه مقعد، والذين يقرحون أيديهم ويوهمون الناس أن ذلك بلاء نزل بهم. وهذا كله لكسب عطف الناس عليهم حتى يجزلوا لهم العطاء(468). وهذه المشاهد كما نرى لا تختلف كثيراً عما يجرى اليوم في واقعنا المعاصر، حيث نجد ألواناً من التحايل، والعادات المستقبحة في الشارع العام، وفي الأسواق، وفي أماكن العمل، وتجمعات الناس. فما كان يجرى في الأندلس في ذلك الوقت من بعض المظاهر الاجتماعية السالبة ينطبق على واقعنا إلى حد كبير في كثير من الجوانب. وكان باب العطارين بقرطبة مجتمع النساء، وذلك لشرائهن حاجياتهن الخاصة من عطور وزيوت وصابون وتوابل وبخور، وترى المعجبين بالنساء يتابعونهن بالسير خلفهن مع ترديد بعض الألفاظ والكلمات على سبيل المداعبة. وكان بعض النساء يعتبرن هذا العمل فضيحة لهن، وقد تضطر المرأة أن تتلكم مع الشاب الذي يتبعها وتحاول إقناعه بعدم تتبع خطاها خوفاً من أن يراها أحد من أقاربها، وكثيراً ما كانت تضلله إذا طلب منها معرفة مكان مسكنها أو اسمها كاملاً أو متى يراها مرة أخرى(469). وفي يوم الجمعة بعد انتهاء الصلاة في المسجد الجامع يبدأ خروج النساء لزيارة المقابر، وكانت الطرق المؤدية إليها مزدحمة بالجنسين، وكان هناك الشباب المتأنقون الذين يرتدون أفخر ما عندهم من ثياب ويغازلون النساء الوحيدات ولا يتورعون عن توجيه الألفاظ الجارحة إليهن دون حياء(470). وقد شددت كتب الحسبة على ضرورة منع مثل هذه الأفعال المشينة، ومنع الشبان من التعرض للنساء في هذه الطرق. وكان الشارع لا يخلو من الكتبة العموميين، والناس مجتمعون حولهم لكتابة شكاواهم وخطاباتهم، وكان يُحرَّم عليهم كتابة سب أحد أو هجوه أو ما يتضمن سعاية للسلطان(471). لقد كانت مؤسسة الحسبة أو (ولاية السوق) مؤسسة رقابية مهمة أولاها الأندلسيون عنايتهم البلاغة عبر الحقب والعصور المختلفة. وقد ساهمت هذه المؤسسة مساهمة مقدرة، وقامت بدور بارز ومؤثر متضافرة مع غيرها من المؤسسات الأخرى كالشرطة، في بسط الأمن والطمأنينة في المجتمع الأندلسي. وكانت أكثر النظم الأندلسية ثباتاً واستقراراً حتى بعد سقوط الأندلس في أيدي النصارى. يقول بروفنسال: "وأحسن دليل على أهمية المحتسب من الناحية العملية في الأندلس، أمر يستنتج من أن الملوك المسيحيين كانوا كلما استردوا من المسلمين إقليماً أبقوا فيه المحتسب. ومن الطريف أن نجد هذه الولاية الإسلامية في أساسها تنتقل من الأراضي الإسلامية إلى الناحية الأخرى من شبه الجزيرة الأيبيرية، وأن نجد لفظ محتسب يدخل في اللغة القشتالية فيصير (الموتاس) ليدل على الوالي المكلف بضبط الموازين والمكاييل"(472). ولأهمية هذه المؤسسة الرقابية فقد كان هناك تقليداً مرعياً عند الأندلسيين، وهو أن الحسبة بشقيها: (أحكام السوق) و "خطة تغيير المنكر" لم يكن يعهد بها إلا لكبار الفقهاء من طبقة القضاة أيضاً. حيث أن المحتسب هو الذي كان يتولى النيابة عن القاضي ولأن الولايتين كانتا متداولتين بين القضاة والمحتسبة. وبفضل هذا الاهتمام بالتنظيم، وبمراعاة الانسجام عند إضافة منصب إلى منصب، وبمكانة المتولين للحسبة، فقد أدت هذه المؤسسة دورها بكل كفاءة واقتدار ومسؤولية(473).  الفصل الثاني صاحب الشرطة عرفت الشرطة ضمن المؤسسات الرقابية المهمة في المجتمع الأندلسي التي أسهمت بدور فعّال في ضبط المجتمع وتقويم سلوك بعض أفراده. يقول عنها ابن سعيد: "وأما خطة الشرطة بالأندلس فإنها مضبوطة إلى الآن، معروفة بهذه السمة ويعرف صاحبها في ألسن العامة بصاحب المدينة وصاحب الليل، وإذا كان عظيم القدر عند السلطان كان له القتل لمن يحب دون استئذان السلطان، وذلك قليل، ولا يكون إلا في حضرة السلطان الأعظم، وهو الذي يحد على الزنا وشرب الخمر، وكثير من الأمور الشرعية راجع إليه"(474). من خلال ما ذكره ابن سعيد في النص السابق فإن صاحب الشرطة عرف في ألسن العامة بصاحب المدينة. وصاحب المدينة هو حاكمها ويراد به عادة العاصمة قرطبة(475). وعرف كذلك بصاحب الليل لأنه كان يشرف على الحراسة الليلية للمدينة، وكان هؤلاء الحراس يعرفون في الأندلس بالدرَّابين. لأن بلاد الأندلس لها دروب بأغلاق تغلق ليلاً، ولكل زقاق حرس يبيت فيه، له مصباح معلق وكلب يسهر وسلاح معد، نظراً لكثرة الشر، وانتشار اللصوص الذين يظهرون على المباني المشيدة، ويفتحوا الأغلاق الصعبة، ويقتلوا صاحب الدار خوف أن يقر عليهم أو يطالبهم بعد ذلك، ولا تكاد في الأندلس تخلو من سماع "دار فلان دُخِلَت البارحة" و "فلان ذبحه اللصوص على فراشه"، وهذا يرجع التقليل منه أو التكثير إلى شدة الوالي ولينه. وقد آل بهم الحال أن قتلوا شخصاً سرق عنقوداً من العنب، فلم ينته اللصوص(476). ويشير ابن سعيد إلى أن الأمير عبد الرحمن الأوسط هو الذي ميز ولاية السوق عن أحكام الشرطة المسماة بولاية المدينة، فأفردها وصير لواليها ثلاثين ديناراً في الشهر ولوالي المدينة مائة دينار(477). وقد حدد ابن عبدون شروط متولى الشرطة بقوله: يجب أن يكون صاحب الشرطة رجلاً خيراً عفيفاً، غنياً، عالماً، متمكناً في علوم الوثائق، ووجوه الخصومات ويكون ورعاً لا يرتشي ولا يميل، ويجرى في حكمه وأمره إلى الحق والاعتدال، ولا يخاف في الله لومة لائم، ويكون أكثر جريه في حكمه إلى الإصلاح بين الناس، ويضرب له في بيت المال أجرة تقوم به لاستلزامه ذلك، وتركه ما يلزمه من معيشته والنظر في أموره(478). وقد عرف الأمويون بالأندلس أهمية الشرطة في ضبط الأمن واستقرار النظام منذ بداية عهدهم فاتخذ عبد الرحمن بن معاوية (الداخل) على شرطته عبد الرحمن بن نعيم وضم إليه موالي بني أمية وجعلهم حرسه. وهو أول منصب رسمي ينشأ في عهد الدولة الأموية في الأندلس(479). وعرفت الأندلس نوعين من الشرطة: شرطة كبرى وشرطة صغرى واستمرت كذلك إلى أن أنشأ الخليفة الناصر لدين الله شرطة أخرى عرفت بالشرطة الوسطى وسطاً بين الشرطتين العليا والصغرى فكان أول من رسمها وثلثها ولم تكن قبله سوى اثنين فعرفت في دولته واستمرت بعده، وترتب رزقها وسطاً بين العليا والصغرى(480). أما الشرطة الصغرى فقد استحدثت في عصر الأمير الحكم بن هشام 180 – 206هـ. وكان الحارث بن أبي سعد الذي تولى الإفتاء في أخريات أيام الأمير الحكم، أول من وليها ولم يزل عليها إلى أن توفى في سنة 222هـ/ 836م. وبعد وفاته ولى الأمير عبد الرحمن الأوسط ابنه محمد بن الحارث أحكام الشرطة الصغرى مكانه(481). وكان سعيد بن سعيد بن حدير أول من تولى الشرطة الوسطى بعد إنشائها(482). أما عن اختصاصات أصحاب الشرطة الثلاث: فقد كان صاحب الشرطة الصغرى مختصاً فيما يتصل بعامة الناس والأسواق. أما صاحب الشرطة العليا "الكبرى" فيضاف إليه، زيادة على ذلك النظر في القضايا الخاصة بين الناس وكبار رجال الدولة والمتنفذين، والضرب على أيدي العابثين منهم أو باسمهم من أقاربهم وحاشيتهم، وأما صاحب الشرطة الوسطى فقد كان مسؤولاً عن الأمن والضرب على أيدي المجرمين(483). وكان مقر صاحب الشرطة داخل القصر بالقرب من باب من أبوابه، وكان تحت إمرة صاحبها وبين يديه رجال يتبؤون المقاعد ولا يبرحونها إلا بإذنه. وكان صاحب الشرطة الكبرى يعد من أكابر رجالات الدولة، حتى أن ولايتها كانت تعتبر ترشيحاً للوزارة والحجابة(484). وكان للمنصور بن أبي عامر صاحب شرطة خاص به، بالإضافة إلى أصحاب الشرطة الثلاث(485). أما مكان ممارسة صاحب الشرطة لمهامه فقد حدد ابن عبدون بأنه يجب أن لا يحكم في داره بل في المسجد الجامع أو في موضع يتخذ له، كما أنه يجب أن لا يحكم في القضايا الكبرى التي هي موضع خلاف، وعليه أن يحضر مجلس القاضي في كل يوم ويستشيره في القضايا الكبرى التي تقابله، ويكون تحت رقابة القاضي بصفة مستمرة(486). ويبدو أن الشر قد انتشر واستفحل بدرجة كبيرة في العاصمة قرطبة، وخاصة في عصر الخليفة هشام المؤيد الذي ولاها لشخص لم يستطع القيام بأعبائها فعزله وولى محمد بن أبي عامر الذي نهض بأعبائها واستتب الأمن والنظام بتوليه بعد أن كان انعدام الأمن مروعاً لأهلها. ومن أجل إقرار الأمن فيها استقدم ابن أبي عامر، ابن عم له، كان معروفاً بالشر. استدعاه إلى مجلس الشرطة، وجلده جلداً مبرحاً وقد أدى ذلك إلى انقطاع الشر جملة واحدة في أيام توليه(487). وكان لصاحب الشرطة زى خاص به مميزاً له من غيره من الناس(488). وكان يعهد إلى صاحب الشرطة العليا بالقبض على كبار رجالات الدولة الذين توجه إليهم بعض التهم، مثلما عهد الخليفة الحكم المستنصر إلى أحد أصحاب شرطته العليا القبض على ابن خال أبيه الخليفة الناصر لدين الله لأمرٍ أنكره عليه، فقصد صاحب الشرطة العليا داره ومعه أعوانه من الفرسان والشرط وغيرهم، فقبض عليه وقيده وأرسله إلى السجن، ولم يزل محبوساً فيه إلى أن أعفى عنه الخليفة(489). وكان صاحب الشرطة في عهد الحكم المستنصر ينظر في بعض قضايا الزندقة والإلحاد. ويحكم فيها بنفسه، مثلما حدث في قضية الملحد أبي الخير، فقد شهد عند قاسم بن محمد صاحب أحكام الشرطة، أربعة وأربعون شاهداً، بأنواع من الكفر وصنوف من الإلحاد والفواحش وإقراره بذلك، وقد شاور صاحب الشرطة من حضر في هذه القضية من الفقهاء، فأجاب بعضهم بأنه ملحد كافر يجب قتله من غير أن يعذر إليه بعد أن ينهى بذلك إلى الخليفة الحكم، وأشار بعض الفقهاء بأن يعذر في ذلك. فأخذ صاحب الشرطة برأي من قال بقتله دون إعذار، وكتب بذلك إلى الخليفة الحكم الذي أقره فيما ذهب إليه، فأمضى ذلك فيه وأمر بصلبه غضباً لله ولكتابه ولرسوله(490). ويبدو أن هذا الملحد قد تأذى منه الناس كثيراً، ومن أقواله التي كان يطلقها دون اكتراث، وكانت تشكل مهدداً أمنياً كبيراً يستهدف المجتمع الأندلسي في دينه، ولذلك جاء الحكم عليه رادعاً من صاحب الشرطة. يلاحظ الباحث من خلال تراجم الشخصيات التي وليت الشرطة أو الحسبة في الأندلس، أن ولايتي الشرطة والحسبة كانتا تجمعان في الغالب في يد والٍ واحد بقصد تحقيق التكامل بين هذين الجهازين المشرفين على النظام والأمن. فقد تولى محمد بن الحارث أحكام الشرطة الصغرى إضافة إلى أحكام السوق (الحسبة) في عصر عبد الرحمن الأوسط وظل عليها إلى أن توفى في سنة 260هـ(491). ووليها كذلك أبو العباس أحمد بن يونس الجذامي المعروف بالحراني، ولي لهشام المؤيد خطتي الشرطة والسوق(492). وعين أبو الوليد بن جهور عبد الرحمن بن مخلد على خطتى الشرطة والسوق حتى توفى في سنة 437هـ(493). ولم يقتصر دور صاحب الشرطة خلال هذه الفترة على حفظ الأمن والنظام فقط، إذ أوكلت إليه صلاحيات أخرى، مثل الوزارة والمظالم والإشراف على المملكة كما حدث في عهد الناصر فقد أضاف لأحمد بن عبد الملك بن شهيد الذي كان يلي الشرطة العليا صلاحيات الوزارة والمظالم والإشراف على الدولة(494). وولي الشرطة للحكم المستنصر محمد بن عبد الله بن أبي عامر مضافة إليه السكة والقضاء بأشبيلية(495). وكان يعهد إليه كذلك بملاحقة العصاة والخارجين على الدولة الذين كانوا يزعزعون الأمن والاستقرار. فقد عهد إلى صاحب الشرطة العليا في عصر الخليفة الحكم المستنصر بالخروج في كتيبة من الخيل في سنة 363هـ/ 973م إلى مدينة أشبيلية للقبض على قوم من مجرمي أهلها، الذين فتقوا السجن بها، وعصوا السلطان، وكان السلطان قد أمر عامله عليها بضمهم إلى السجن لكثرة تخليطهم والخوف منهم. فلما أعيا الخليفة أمرهم أرسل إليهم صاحب الشرطة العليا قاسم بن محمد بن طملس لتتبعهم والقبض عليهم، وقد تم له ذلك إذ قبض عليهم جميعاً، وأفلت واحد منهم من القبض، وأحضرهم إلى قرطبة فسجنوا في الزهراء(496). وكان يبعث بصاحب الشرطة كذلك على أقاليم الأندلس المختلفة لاستنفار الناس للجهاد(497). وكان صاحب الشرطة العليا رئيساً للشرطتين (الوسطى والصغرى) ومن تثبت كفاءته من أصحاب كلتا الشرطتين كان يرقى إلى الشرطة العليا. وقد جعل راتب صاحب الشرطة العليا أكبر من أصحاب الشرطتين الوسطى والصغرى مما يدل على عظم مسؤولية متوليها وأن له الحق في الإشراف عليها(498).   الفصل الثالث صاحب المدينة هناك ثمة تداخل بين اختصاصات صاحب الشرطة، واختصاصات صاحب المدينة. وقد مر بنا في مقدمة الحديث عن ولاية الشرطة أنها كانت تعرف لدى العامة بصاحب المدينة، وصاحب الليل، بمعنى أن صاحب الشرطة هو صاحب المدينة. غير أن هناك نصوصاً كثيرة تشير إلى أنه كان هناك صاحب للمدينة، وصاحب للشرطة، وربما جمعت المؤسستين لشخص واحد، كما تم الجمع بين المحتسب وصاحب الشرطة. وقد اشترط ابن عبدون فيمن يتولى المدينة، أن يكون رجلاً عفيفاً فقيهاً شيخاً لأنه في موضع الرشوة وأخذ أموال الناس، وربما فجر إن كان شاباً شريباً، ويجب للقاضي أن يستحلفه في بعض الأيام، ويطلع على حكمه وسيرته، ويجب أن لا ينفذ أمراً من الأمور الكبار إلا بعد أن يُعرِّف القاضي والسلطان بذلك(499). وقد ظهر هذا المسمي خطة المدينة في عصر الأمير عبد الرحمن الأوسط، وربما كان عبد الواحد بن يزيد الإسكندراني أول من عهد إليهم بمنصب صاحب المدينة، فكثير من الخطط بدأت في الظهور والتبلور في عصر الأمير عبد الرحمن الأوسط(500). وفي عصر الأمير محمد بن عبد الرحمن ولى المدينة الوزير أمية بن عيسي، ثم الوليد بن غانم، وكانت يتناوبان على هذه الولاية، وكانا لا ينفذان في أحكام المدينة والأمور العظام فيها إلا ما وافق الحق، فكانت الرعية لهما على غاية التجلة والرهبة(501). وتولى المدينة كذلك في عصر الأمير محمد، الوليد بن غانم الذي وافقت ولايته للمدينة مجاعة ضربت البلاد في سنة 260هـ، فاستدعي الأمير محمد الوليد بن غانم مع جملة من الوزراء وأصحاب المشورة واستشاره في فرض العشور على الغلات، وتحريك الرعية بذلك، فأجمع الكل على أن يأخذ الأمير الناس بذلك يؤدونه من مدخرات أطعمتهم، غير أن الوليد بن غانم تصدى لهذا الرأي وقال للأمير: إنما العشور على الغلات إذا وهبها الله وجب أداء فرضه فيها، وإذا اجتثت أصولها فلا زكاة على من حرمها، وهذا العام لم تأت الزروع بشيء، فالرأي أن يعذر الناس في ذلك، ولكن الأمير أصر عليه أن لا يترك الناس دون أخذها من مدخراتهم. عندها طلب ابن غانم بأن يعفى من ولاية المدينة فأعفى. وتقدم شخص يسمي حمدون بن بسيل إلى الأمير محمد يطلب منه أن يولى على المدينة، ويلتزم بأن يأخذ الناس على ما أراده الأمير، فولاه المدينة، وتولى ابن بسيل حفز الناس على دفع العشور، فما حصل على إيراد الربع منه، حتى ضرب الناس، وأهلك كثيراً من النفوس، فضج عليه الناس بالدعاء في كل جمعة، فأماته الله بغتة، وأضحى حديثه في الناس مثلاً. ودعا الأمير محمد الوليد بن غانم وأراد إرجاعه مرة أخرى إلى ولاية المدينة ليصلح ما أفسده ابن بسيل ولكنه اعتذر أن يكون مكانه(502). وكان يوكل إلى صاحب المدينة تنفيذ القتل في بعض الفسقة الذين يطعنون في الدين ويشككون في العقيدة وذلك بعد مشاورة أهل العلم والفقهاء، وموافقة الأمير. فقد أمر الأمير عبد الرحمن صاحب المدينة تنفيذ فتوى العلماء بإعدام أحد الفتيان الذي تكلم بعبث من القول في يوم ماطر فنفذ فيه الأمر، وقال أحد الفقهاء الذين شهدوا التنفيذ سب رباً عبدناه، إن لم ننتصر له إنا لعبيد سوء(503). وقد تكررت الشكوى على الأمير عبد الرحمن الأوسط بولاة المدينة واحداً بعد آخر، فأقسم أن لا يوليها لرجل من أهل قرطبة، وبحث عمن يستحق هذا من أهل الأقاليم، فأشير إليه بمحمد بن السلم، ووصف بالحج والتواضع وحسن العقل. فبعث إليه وولاه المدينة. فلما ركب في أول يوم ولاه فيه المدينة إلى القصر، قيل له: قتيل بالقصابين موضوع في "سلة" كبيرة، فأمر بإحضار القتيل، ووضعه على الرصيف لعل أحداً يمر به ممن يعرفه، ثم أمر بتقديم السلة إليه، فإذا بها "سلة جديدة" فأمر بإحضار الحصارين، وسألهم هل يعرفون عمل بعضهم البعض فأجابوا بنعم، فلما قدمت إليهم "السلة" قالوا هذه من عمل فلان، وهو واقف بين الجماعة، فأمر بتقديمه فقدم إليه، فقال نعم هذه السلة اشتراها منى بالأمس فتى عليه هيئة خدمة السلطان، ووصفه كذا، فقال الشرط هذه هيئة فلان الأخرس، فأمر بالبحث عنه وعثر عليه، ووجدت ثياب القتيل عنده، فلما بلغ الخبر عبد الرحمن أمر بتوليته الوزارة مع المدينة، فلما دخل بيت الوزارة صاروا كلهم تبعاً له في الرأي(504). وتولى المدينة في عصر الأمير عبد الله، محمد بن وليد بن غانم مضافة له مع الوزارة. كما وليها أصبغ بن عيسي بن فطيس مع الوزارة(505). ولما تولى الأمير عبد الرحمن بن محمد الأمارة ولي يوم مبايعته موسى بن محمد بن حدير الوزارة إلى ما كان إليه من خطة المدينة(506). وكان الناصر لدين الله يستخلف صاحب المدينة في قصره عند خروجه للغزو، ويترك معه أحد أبنائه لتولى مهمة إدارة الدولة أثناء غيابه(507). ومن ذلك يتضح لنا علو منزلة صاحب المدينة إذ كانت تجمع له مع الوزارة أحياناً. وكان الخليفة يضع فيه ثقة كبيرة إذ كان يستخلفه عند خروجه للغزو. وهذا يؤكد لنا ما ذهب إليه الدكتور حسين مؤنس من أن صاحب المدينة هو حاكمها، ويراد به عادة العاصمة قرطبة(508)، دون غيرها من المدن الأخرى، وذلك لاعتبارات كثيرة فقد استمدت العاصمة قرطبة أهميتها – إلى جانب كونها عاصمة سياسية – من دورها الاقتصادي. ساعد على ذلك، ما توفرت عليه من ميزات متعددة. فبالإضافة إلى موقعها على ضفة الوادي الكبير وسط أحد أكبر وأجود السهول الأندلسية، وإشراف سلاسل جبلية غنية بالثروة الخشبية من شمالها، كما نعمت بمناجم معدنية غنية، فإنها تقع كذلك واسطة بين معظم المدن الأندلسية، وتحتل موقعاً إستراتيجياً وتجارياً مهماً للغاية، وكانت تكتظ بعدد كبير من المحلات والدروب الحرفية، والمناجم الصناعية، والأسواق والحوانيت التجارية(509). ونجد في قرطبة أسماء شوارع لأسواق مختلفة مثل شارع القصابين أو اللحامين، وشارع الخياطين، وشارع السراجين، وشارع الخلالين، والوراقين، وسوق الخيط، وسوق الحصارين، وسوق الجيارين، وشارع الصابون(510). وقد اتسعت مدينة قرطبة اتساعاً عمرانياً كبيراً، وكانت في تقسيمها خمس مدن يتلو بعضها بعضاًَ، وبلغ عدد الأحياء المكونة لهذه المدن الخمس واحداً وعشرين حياً، تسعة منها بالجانب الغربي للمدينة المركزية، وسبعة بالجهة الشرقية، وثلاثة بالجانب الشمالي، واثنان بالجهة الجنوبية. وكان كل حيّ منها يعد أكبر مدينة من مدائن الأندلس. وقد اتسعت دائرة النمو العمراني لتشمل كل الأعمال التابعة مباشرة للعاصمة، والتي بدت كضاحية قروية ضخمة(511). نحن إذن أمام حاضرة عظمي تتطلب جهداً كبيراً من السلطات المختصة تنظيمها ومراقبتها مما استدعي إنشاء منصب صاحب المدينة الذي هو أشبه بالمحافظين في تنظيماتنا الحضرية المعاصرة. بل أننا نجد في عصر الخليفة الحكم المستنصر أصبح هناك صاحب للمدينة بقرطبة، وصاحب للمدينة بالزهراء المدينة الملوكية التي بناها عبد الرحمن الناصر على سفح جبل العروس بقرطبة وانتقلت الإدارة الحكومية إلى الزهراء، وكثيراً ما تقابلنا في المصادر صاحب المدينة بقرطبة، وصاحب المدينة بالزهراء. فكان صاحب المدينة بقرطبة هو جعفر بن عثمان، وصاحب المدينة بالزهراء هو محمد بن أفلح(512). من خلال ما سبق يتضح لنا التشابه الكبير بين مهام صاحب الشرطة، ومهام صاحب المدينة، ولا نكاد نجد تمييزاً كبيراً بينهما، ولكن صاحب المدينة كان يتمتع بصلاحيات أوسع مما كان يتمتع بها صاحب الشرطة، وكان أصحاب الشرطة الثلاث: العليا والوسطى والصغرى يأتمرون بأمره ويخضعون له(513).   خاتمة الكتاب   خاتمة الكتاب تناول الكتاب في الصفحات الماضية مسيرة الحياة الإجتماعية في الأندلس منذ الفتح الإسلامي حتى نهاية القرن الخامس الهجري. وقد خلص الكتاب إلى أن المجتمع الأندلسي كان مجتمعاً متسامحاً إلى درجة كبيرة، عاش فيه المسلمون جنباً إلى جنب مع أهل البلاد المفتوحة من المسالمة والمولدين والنصارى واليهود، وتزاوجوا فيما بينهم وانصهروا جميعاً ليشكلوا المجتمع الأندلسي بصفاته المتميزة. وقد تجلى هذا التسامح في مشاركتهم بعضهم البعض احتفالاتهم ومناسباتهم الدينية سواء كانت هذه المناسبات خاصة بالمسلمين أم بغيرهم من العناصر السكانية المكونة للمجتمع الأندلسي. وكان الأندلسيون على درجة كبيرة من الاهتمام بمظهرهم الخارجي فتأنقوا في أزيائهم وملابسهم، وكانت النظافة سمة بارزة في حياتهم دلالة على رقي ذوقهم. كما أنه نتيجة لطبيعة الأندلس الساحرة الجميلة فقد حفلت المدن الأندلسية بعدد كبير من المتنزهات والحدائق العامة التي كان يقصدها الناس طلباً للراحة والاستجمام على غرار ما هو معروف اليوم في كثير من المدن الحديثة. ووجدت الموسيقي والغناء سوقاً رائجة بين كثير من طوائف المجتمع الأندلسي فازدهرت أيما ازدهار وخاصة بعد اختراع الموشحات، فمثلت عنصراً مهماً في حياتهم على الرغم من تشدد الفقهاء الأندلسيين في منع وتحريم آلات الموسيقي والطرب. أما المرأة الأندلسية فقد تمتعت بقدرٍ كبير من الحرية والاستقلال وكانت تعبر عن رأيها بجرأة لا نجد لها نظيراً في بلاد المشرق. وقد ساهمت بقدر كبير في الحياة الأدبية والعلمية والفكرية، فوجد من بينهن الأديبة والشاعرة واللغوية والمحدثة والفقيهة والعروضية والطبيبة والكاتبة والخطاطة والمعلمة ومن تقوم بكتابة المصاحف وتذهيبها وتنميقها. وكان لها مساهماتها في ميدان الحياة الاقتصادية لتخفيف أعباء الحياة المعيشية عن أسرتها. وبما أن المجتمع الأندلسي كان يعج بعدد كبير من العناصر السكانية من ذوى الثقافات المختلفة، وكان هذا المجتمع لا يخلوا من بعض الأشرار كغيره من المجتمعات الأخرى، فقد دعت الحاجة إلى إنشاء بعض المؤسسات الرقابية مثل مؤسسة الشرطة والحسبة والمدينة. وقد قامت هذه المؤسسات بأداء دورها الرقابي على أكمل وجه، وتضافرت فيما بينها لتؤدى دوراً بارزاً في ضبط وتقويم ما اعوج من سلوك بعض أفراد المجتمع ولينعهم الناس بالأمن والطمأنينة. يخلص الكتاب كذلك إلى أن هناك بعض القواسم المشتركة بين المجتمع الأندلسي والمجتمع السوداني، إذ وجدت كثير من المؤشرات الإجتماعية الأندلسية في المجتمع السوداني. فالأندلسيون يسمون حفصون، وزيدون، وعبدون، وعمرون، والسودانيون يسمون صغيرون وعبدون، وحسون، وحمدون ويحتفل الأندلسيون بمقدم المولود الجديد ويسمونه في اليوم السابع كما هو حال السودانيين وحال كثير من المجتمعات الإسلامية. والأندلسيون يختنون أطفالهم في العام السابع وكذلك يفعل السودانيون. وهناك مؤثرات أندلسية أخرى على المجتمع السوداني تتمثل في الغناء والموشحات والأزجال والإنشاد الديني. وبطبيعة الحال هناك مؤثرات أخرى كثيرة في مظاهر الاحتفالات الدينية وغيرها نجدها لا تختلف كثيراً عما هو عليه اليوم في المجتمعات الإسلامية.   الملاحـــق   ملحق رقم (1) الولاة الذين تعاقبوا على حكم الأندلس (95 – 138هـ/ 714 – 755م) 1. عبد العزيز بن موسى بن نصير، تولى الحكم في ذي الحجة 95هـ (714م)، دامت ولايته سنة وعشرة أشهر، حتى رجب 97هـ، استشهد مقتولاً بالأندلس، كان مستقره في أشبيلية العاصمة. 2. أيوب بن حبيب اللخمى، تولى الحكم سنة 97هـ/ 716م، ولايته ستة أشهر، حتى ذي الحجة 97هـ. 3. الحر بن عبد الرحمن الثقفي، تولى الحكم شهر ذي الحجة سنة 97هـ (716م)، استمرت ولايته حتى رمضان سنة 100هـ. 4. السمح بن مالك الخولانى، تولى الحكم في رمضان سنة 100هـ حتى شهر ذي الحجة 102هـ، استشهد جنوبي فرنسا. 5. عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي (ولايته الأولى)، تولى الحكم سنة 102هـ (721م)، ولايته شهران. 6. عنبسة بن سُحيم الكلبي، تولى الحكم في شهر صفر سنة 103هـ/ 721م، ولايته أربع سنين وستة أشهر. 7. عُذْرَه بن عبد الله الفهرى، تولى الحكم سنة 107هـ/ 725م، ولايته شهران. 8. يحى بن سلمة الكلبي، تولى الحكم في شهر شوال سنة 107هـ/ 726م، ولايته سنتان وستة أشهر. 9. حذيفة بن الأحوص القيسي، تولى الحكم في شهر ربيع الأول 110هـ/ 728م، تولى الحكم لأكثر من ستة أشهر. 10. عثمان بن أبي نِسْعة الَخثْعَمي، تولى الحكم في شهر شعبان سنة 110هـ/ 729م، ولايته خمسة أشهر. 11. الهيثم بن عَدِى الكناني، تولى الحكم في المحرم سنة 111هـ/ 729م، ولايته خمسة أشهر. 12. محمد بن عبد الله الأشجعي، تولى الحكم سنة 111هـ/ 730م، ولايته شهران. 13. عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي، (ولايته الثانية)، تولى الحكم في شهر صفر سنة 112هـ/ 730م، حتى رمضان سنة 114هـ/ 732م. 14. عبد الملك بن قطن الفهرى (ولايته الأولى)، تولى الحكم في شهر شوال سنة 114هـ/ 732م، ولايته سنتان. 15. عُقْبة بن الحجاج السَّلُولي، تولى الحكم في شهر شوال سنة 116هـ/ 734م، ولايته خمس سنوات وشهران، حتى سنة 121هـ. 16. عبد الملك بن قَطَن الفِهْري (ولايته الثانية)، تولى الحكم في شهر صفر 123هـ/ 741م، ولايته سنة واحدة وشهر واحد. 17. بَلْج بن بِشْر بن عِياض القُشَيْري، تولى الحكم سنة 124هـ/ 742م، ولايته أحد عشر شهراً. 18. ثعلبة بن سلامة العاملي، تولى الحكم سنة 124هـ/ 742م، ولايته عشر أشهر أو أقل. 19. أبو الَخطَّار حسان بن ضرار الكلبي، تولى الحكم في رجب سنة 125هـ/ 743م، ولايته أربع سنوات وستة أشهر. 20. ثُوابة بن سلامة الجُذَامي، تولى الحكم سنة 128هـ، 746م، ولايته سنة واحدة. 21. عبد الرحمن بن كَثير اللَّخْمي، تولى الحكم أوائل سنة 129هـ/ 746م لبضعة أشهر. 22. يوسف بن عبد الرحمن الفهرى، (آخر ولاة الأندلس)، تولى الحكم في ربيع الثاني سنة 129هـ/ 747م، ولايته تسع سنوات وتسعة أشهر، جده عقبة بن نافع الفهرى صاحب إفريقية وباني القيروان، انتهت ولايته بعد وصول عبد الرحمن الداخل إلى الأندلس سنة 138هـ/ 755م حيث ابتدأ عهد الأمارة. المصدر: عبد الرحمن على الحجي: التاريخ الأندلسي من الفتح الإسلامي حتى سقوط غرناطة، ص ص 207 – 210. ملحق رقم (2) قائمة لأمراء وخلفاء بني أمية بالأندلس 1. عبد الرحمن الأول (الداخل) بن معاوية بن هشام بن عبد الملك حكمه ثلاث وثلاثون سنة وأربعة أشهر ونصف (138 – 175هـ/ 755 – 788م). 2. هشام الأول بن عبد الرحمن الداخل (المرتضى) حكمه، سبع سنين وتسعة أشهر وأيام (172 – 180هـ/ 788 – 796م). 3. الحكم الأول بن هشام بن عبد الرحمن (الرَّبضى) حكمه ستة وعشرون سنة وأحد عشر شهراً (180 – 206هـ/ 796 – 822م). 4. عبد الرحمن الثاني (الأوسط) بن الحكم بن هشام حكمه، إحدى وثلاثون سنة وثلاثة أشهر وأيام (206 – 238هـ/ 822 – 852م). 5. محمد بن عبد الرحمن الأوسط، حكمه، أربع وثلاثون سنة وعشر أشهر وأيام (238 – 273هـ/ 852 – 886م). 6. المنذر بن محمد بن عبد الرحمن، حكمه سنتان وأيام، (273 – 275هـ/ 886 – 888م). 7. عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن، حكمه خمس وعشرون سنة ونصف شهر، (275 – 300هـ/ 888 – 912م). 8. عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله (الناصر لدين الله) (حفيد الأمير عبد الله) حكمه نصف قرن ونصف سنة وأيام، (300 – 350هـ/ 912 – 961م)، وقد أعلن الخلافة في الأندلس اعتباراً من (316 – 350هـ). 9. الحكم الثاني (المستنصر بالله)، بن عبد الرحمن الناصر، حكمه خمس عشرة سنة وسبعة أشهر (350 – 366هـ/ 961 – 976م). 10. هشام الثاني بن الحكم المستنصر (المُؤَّيد بالله) (توفى سنة 403هـ/ 1013م)، تولى الحكم وهو صغير السن واستأثر بإدارة أمور الدولة الحاجب المنصور بن أبي عامر الذي أعلن الدولة العامرية في ظل الحكم الأموي. المصدر: عبد الرحمن علي الحجي: تاريخ الأندلس من الفتح الإسلامي حتى سقوط غرناطة، ص ص 292 – 293. المصادر والمراجع   المصادر والمراجع أولاً – المصادر: 1. ابن الأبَّار: أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن أبي أبكر القضاعي (ت 658هـ/ 1259م). الحُلَّة السِّيراء (جزءان). تحقيق: د. حسين مؤنس، الناشر: الشركة العربية للطباعة والنشر، القاهرة، الطبعة الأولى، 1963م. 2. ابن بشكوال: أبو القاسم خلف بن عبد الملك (ت 578/ 1182م). كتاب الصلة في تاريخ علماء الأندلس (جزءان). الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2008م. 3. ابن حزم: أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد (ت 456/ 1063م). جمهرة أنساب العرب. دار الكتب العلمية – بيروت – لبنان، الطبعة الأولى، 1403هـ/ 1983م. طوق الحمامة في الألفة والألاف. تحقيق: حسن كامل الصيرفي، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة 1383هـ/ 1964م. 4. ابن حيان: أبو مروان حيان بن خلف بن حسين القرطبي، ت 469هـ/ 1071م. • المقتبس من أنباء أهل الأندلس، (قطعة من عصر الأمير عبد الرحمن الأوسط). تحقيق: د. محمود علي مكي، لجنة إحياء التراث الإسلامي، القاهرة، 1390هـ/ 1971م. • المقتبس: من أنباء أهل الأندلس (قطعة من عصر الأمير عبد الرحمن الأوسط وابنه الأمير محمد) تحقيق: د. محمود علي مكي، دار الكتاب العربي، بيروت – لبنان، 1393هـ/ 1973م. • المقتبس: (الجزء الخامس) خاص بعصر عبد الرحمن الناصر – نشره ب. شالميتا وآخرون، المعهد الأسباني العربي للثقافة بالتعاون مع كلية الآداب – الرباط، مدريد 1979م. • المقتبس: من أخبار بلد الأندلس (خمس سنوات من عصر الخليفة الحكم المستنصر)، تحقيق: د. عبد الرحمن علي الحجي، نشر وتوزيع دار الثقافة – بيروت – لبنان 1983م. 5. ابن خاقان: أبو نصر الفتح بن محمد بن عبيد (ت 529هـ/ 1135م). مطمح الأنفس ومسرح التأنس في ملح أهل الأندلس، دراسة وتحقيق محمد علي شوابكة، الطبعة الأولى 1403هـ/ 1983م. 6. ابن الخطيب: لسان الدين محمد بن عبد الله بن سعيد السلماني ت 776هـ/ 1374م. الإحاطة في أخبار غرناطة، تحقيق محمد عبد الله عنان، مكتبة الخانجي، القاهرة، الطبعة الثانية 1393هـ/ 1973م. 7. ابن خفاجة: أبو اسحق إبراهيم ابن خفاجة: ديوان ابن خفاجة، بيروت 1961م. 8. ابن خلدون: عبد الرحمن بن محمد بن خلدون (ت 808هـ/ 1405م). العبر وديوان المبتدأ والخبر، منشورات دار الكتاب اللبناني للطباعة والنشر، بيروت، 1958م. 9. ابن سعيد: أبو الحسن علي بن موسى (ت 685هـ/ 1286م). (المُغَّرِب في حُلَى الَمغْرِب (جزءان). تحقيق: د. شوقي ضيف، دار المعارف – مصر 1964م. 10. ابن عبد الحكم: عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم (ت 257هـ/ 870م). فتوح أفريقية والأندلس، تحقيق عبد الله أنيس الطباع، دار الكتاب اللبناني – بيروت 1987م. 11. ابن الفرضي: أبو الوليد عبد الله محمد بن يوسف الأزردى (ت 403هـ/ 1012م). تاريخ علماء الأندلس. تحقيق إبراهيم الأبياري، دار الكتب الإسلامية، القاهرة – بيروت، الطبعة الأولى 1403هـ/ 1983م. 12. ابن عبدون: محمد بن أحمد بن عبدون، رسالة في القضاء والحسبة، تحقيق: ليفي بروفنسال، القاهرة 1955م. 13. ابن عذاري: أبو العباس، أحمد بن عذارى المراكشي. البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب، تحقيق: ج. س كولان وليفي بروفنسال، دار الثقافة، بيروت 1983م. 14. ابن الفرضي: أبو الوليد عبد الله محمد بن يوسف الأزدى (ت 403هـ/ 1012م). تاريخ علماء الأندلس، تاريخ إبراهيم الأبياري، دار الكتب الإسلامية، القاهرة – بيروت، الطبعة الأولى (1403هـ/ 1983م). 15. ابن القوطية: أبو بكر محمد بن عمر بن القوطية (ت 367هـ/ 977م). تاريخ افتتاح الأندلس، تحقيق إبراهيم الأبياري، دار الكتب الإسلامية القاهرة، الطبعة الأولى (1402هـ/ 1982م). 16. الإدريسي: أبو عبد الله محمد الشريف السبتي (ت 560هـ/ 1164م). صفة المغرب وأرض السودان ومصر والأندلس، مأخوذة من كتاب نزهة المشتاق في اختراق الآفاق، ليدن – هولندا 1968م. 17. الجرسيفي: عمر بن عثمان بن العباس الجرسيفي. رسالة في الحسبة (ضمن ثلاث رسائل أندلسية في آداب الحسبة والمحتسب) تحقيق ليفي بروفنسال، مطبعة المعهد العلمي الفرنسي للآثار الشرقية، القاهرة 1955م. 18. الحميري: محمد بن عبد المنعم الحميري. • الروض المعطار في خبر الأقطار، تحقيق د. إحسان عباس، بيروت – الطبعة الثانية 1984م. • صفة جزيرة الأندلس، منتخبة من كتاب الروض المعطار في خبر الأقطار، تحقيق ليفي بروفنسال (بدون تاريخ طبع). 19. الخشني: أبو عبد الله محمد بن الحارث. قضاة قرطبة، تحقيق إبراهيم الأبياري، دار الكتب الإسلامية، القاهرة – بيروت 1982م. 20. الضبي: أحمد بن يحي بن عميرة (ت 599هـ/ 1202م). بغية الملتمس في تاريخ رجال أهل الأندلس، دار الكتاب العربي 1967م. 21. الماوردي: أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب البصري الشافعي (ت 450هـ/ 1058م). الأحكام السلطانية والولايات الدينية، منشورات دار الكتب العلمية – بيروت – لبنان (1398هـ/ 1978م). 22. المجيليدي: أحمد سعيد المجيليدي. التيسير في أحكام التسعير، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع – الجزائر 1981م. مجهول المؤلف: وصف جديد لقرطبة، تحقيق: د. حسين مؤنس، نشر بصحيفة معهد الدراسات الإسلامية، مدريد المجلد (13) (1965 – 1966م). 23. مجهول المؤلف: أخبار مجموعة في فتح الأندلس، تحقيق إبراهيم الأبياري، دار الكتاب المصري – القاهرة 1981م. 24. المراكشي: أبو عبد الله محمد بن عبد الملك المراكشي (ت 703هـ/ 1304م). الذيل والتكملة لكتابي الموصول والصلة، تقديم وتحقيق محمد بن شريفة، مطبعة المعارف الجديدة، الرباط – المغرب 1984م. 25. المقري: شهاب الدين أحمد بن محمد المقري التلمساني ت 1041هـ/ 1631م. نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، تحقيق: د. إحسان عباس، دار صادر – بيروت 1968م. 26. المسعودي: أبو الحسن علي بن الحسين المسعودي (ت 345هـ/ 1956م). مروج الذهب ومعادن الجوهر، تحقيق يوسف أحمد داغر، دار الأندلس للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة السادسة (1404هـ/ 1984م). 27. النباهي: أبو الحسن عبد الله بن الحسن النباهي المالقي (عاش في القرن الثامن الهجري). تاريخ قضاة الأندلس، منشورات دار الآفاق الجديدة، بيروت 1400هـ/ 1980م. 28. النويري: شهاب الدين أحمد بن عبد الوهاب ت 733هـ/ 1332م. نهاية الأرب في فنون الأدب (الجزء الثالث والعشرون) تحقيق د. أحمد كمال زكي، الهيئة المصرية العامة للكتاب 1980م. 29. ياقوت الحموي: شهاب الدين أبي عبد الله الرومي البغدادي 626هـ/ 1228م. معجم البلدان، دار صادر – بيروت (بدون تاريخ طبع). 30. يحي بن يحي: كتاب أحكام السوق، نشر بصحيفة المعهد المصري للدراسات الإسلامية، مدريد 1956م. ثانياً – المراجع: 1. إبراهيم ياسر خضير الدوري: عبد الرحمن الداخل في الأندلس وسياسته الداخلية والخارجية، دار الرشيد للنشر، الجمهورية العراقية 1982م. 2. إحسان عباس: الأدب الأندلسي (عصر سيادة قرطبة) بيروت 1969م. 3. أحمد أمين: ظهر الإسلام، بيروت، الطبعة الخامسة 1969م. 4. أحمد شلبي: السياسة والاقتصاد في الإسلام، مصر. 5. أحمد الطاهري: عامة قرطبة في عصر الخلافة، منشورات عكاظ، الرباط المغرب 1989م. 6. أحمد فكري: قرطبة في العصر الإسلامي تاريخ وحضارة، مؤسسة شباب الجامعة للطباعة والنشر، الإسكندرية 1983م. 7. أحمد مختار العبادي: • في تاريخ المغرب والأندلس، مؤسسة الثقافة الجامعية، الإسكندرية 1978م. • الصقالبة في أسبانيا، المعهد المصري للدراسات الإسلامية، 1953م. 8. آدم متز: الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري، ترجمة الهادي أبو ريده بيروت 1967م. 9. جودت الركابي: في الأدب الأندلسي، دار المعارف، مصر (بدون تاريخ طبع). 10. حسن أحمد النوش: التصوير الفني للحياة الاجتماعية في الشعر الأندلسي، دار الجيل – بيروت، الطبعة الأولى 1992م. 11. حسين مؤنس: • فجر الأندلس، الدارس السعودية للنشر والتوزيع، الطبعة الثانية 1405هـ/ 1987م. • معالم تاريخ المغرب والأندلس، القاهرة، 1980م. 12. حسين يوسف دويدار: المجتمع الأندلسي في العصر الأموي، مطبعة الحسين الإسلامية، القاهرة، الطبعة الأولى 1994م. 13. رجب محمد عبد الحليم: العلاقات بين الأندلس الإسلامية وأسبانيا النصرانية، دار الكتب الإسلامية، القاهرة – بيروت 1985م. 14. راوية عبد الحميد شافع: المرأة في المجتمع الأندلسي من الفتح الإسلامي للأندلس حتى سقوط قرطبة، عين للبحوث والدراسات الإنسانية والاجتماعية، القاهرة، الطبعة الأولى 2006م. 15. سامية مسعد: صور من المجتمع الأندلسي، عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية، القاهرة، الطبعة الأولى 2009م. 16. سحر عبد العزيز سالم: ملابس الرجال في الأندلس في العصر الإسلامي، ضمن بحوث ندوة الأندلس الدرس والتاريخ – منشورات كلية الآداب، جامعة الإسكندرية 1994م. 17. السيد عبد العزيز سالم: • تاريخ المسلمين وآثارهم في الأندلس، دار النهضة العربية والنشر، بيروت 1981م. • قرطبة حاضرة الخلافة في الأندلس، دار النهضة العربية للطباعة والنشر، بيروت، 1972م. 18. السيد محمد داود: القضاء بالأندلس من الفتح إلى نهاية عهد المرابطين، مصر 1990م. 19. الطاهر أحمد مكي: دراسات أندلسية في الأدب والتاريخ والفلسفة، دار المعارف – مصر 1980م. 20. عبادة عبد الرحمن كحيلة: الخصوصية الأندلسية وأصولها الجغرافية، عين للدراسات والبحوث – القاهرة، الطبعة الأولى 1995م. 21. عبد الرحمن علي الحجي: التاريخ الأندلسي من الفتح الإسلامي حتى سقوط غرناطة، دار القلم، دمشق، الطبعة الثالثة 1987م. 22. علي أدهم: صقر قريش، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1974م. 23. كمال السيد أبو مصطفي: مالقة الإسلامية في عصر دويلات الطوائف، دراسة في مظاهر العمران والحياة والاجتماعية، مؤسسة شباب الجامعة – الإسكندرية 1993م. 24. لطفي عبد البديع: الإسلام في أسبانيا، القاهرة 1969م. 25. ليفي بروفنسال: • الحضارة العربية في أسبانيا، ترجمة د. الطاهر أحمد مكي، دار المعارف – مصر، الطبعة الثانية 1985م. • سلسلة محاضرات عامة في أدب الأندلس وتاريخها، المطبعة الأميرية – القاهرة، 1951م, 26. مجموعة من الباحثين: الحضارة العربية الإسلامية في الأندلس (تحرير سلمي الخضراء الجيوسي) مركز دراسات الوحدة العربية – بيروت، 1982م. 27. محمد ضياء الدين الريس: النظريات السياسية الإسلامية. 28. محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، القاهرة، الطبعة الرابعة 1969م. 29. محمد عبد الوهاب خلاف: قرطبة الإسلامية في القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي، القاهرة 2003م. 30. مصطفي الشكعة: الأدب الأندلسي، موضوعاته وفنونه، دار العلم للملايين – بيروت، الطبعة الثانية 1975م. 31. هنري بيرس: الشعر الأندلسي في عصر الطوائف، ترجمة د. الطاهر أحمد مكي، دار المعارف مصر، الطبعة الأولى 1988م. 32. يوسف أحمد حوالة: بنو عباد في أشبيلية دراسة سياسية وحضارية، دار العلم للطباعة والنشر، جدة – المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى 1410هـ/ 1989م. ثالثاً – الرسائل العلمية: 1. حمدي عبد المنعم حسين: مجتمع قرطبة في عصر الدولة الأموية، رسالة دكتوراه غير منشورة – كلية الآداب، جامعة الإسكندرية 1984م. 2. محمد أبو محمد إمام. الحكومة الإسلامية في الأندلس في عهد بني أمية 138 – 366هـ، رسالة دكتوراه غير منشورة، جامعة أم القرى، المملكة العربية السعودية، 1994م. رابعاً – الدوريات: 1. حسين مؤنس: ثورات البربر في أفريقية والأندلس بين سنتين 102 – 136هـ/ 721 – 753م، مجلة كلية الآداب، جامعة القاهرة، المجلد الأول مايو 1948م. 2. عبد الرحمن الفاسي: خطة الحسبة من النواحي النظرية والتطبيقية والتدوينية، مجلة المناهل – الرباط، العدد (18). 3. عبد الواحد ذنون طه: استقرار القبائل البربرية في الأندلس، مجلة أوراق، المعهد الأسباني العربي، مدريد – العدد الرابع. 4. محمد محمد زيتون: الفتح الإسلامي للأندلس (دراسة وتحليل) مجلة كلية العلوم الاجتماعية – جامعة الإمام محمد بن سعود بالرياض، العدد الرابع 1400هـ/ 1980م. 5. نهلة شهاب أحمد: أسرة أبي عبده ودورها في تاريخ الأندلس في عهد الولاة والأمارة 92 – 316هـ، مجلة البحث العلمي، جامعة محمد الخامس – المملكة المغربية، العدد (35) 1402هـ/ 1985م.   Abstract This study has dealt with social life in Andalusia Since Islamic conquest until the 5th century AH/ 11th century AD. This period is considered one of the most important periods in the history of Andalusia where the Andalusian Muslim society has formed with clear features and the character of the Andalusian individual came to be distinguished. The study consists of an introduction a preamble, four chapters and a conclusion. The preamble contained a briefing about Islamic conquest to Andalusia and the epochs through which the society had passed during the period of the study. The research talked about the demographic elements which constituted the society including Muslims, Christians and Jews who lived peacefully side by side, intermarried, interacted and intermingled indicating the spirit of tolerance and mutual acceptance which prevailed in the society. Andalusians indulged in life joyfully happily and enthusiastically sharing with each other their religious ceremonies, festivals and different occasions. They were famous for loving cleanliness and elegance in appearance and devoted extreme care and attention to their attires and clothes. Several Andalusian towns were famous for textile industry to meet the ever continuous demand for fine dresses. Each season of the year had a special attire indicating the high level of civilization of that period of the history of Andalusia. Another proof of this refined civilization is music and singing which represented an important element in their social and cultural life despite the opposition of fanatic Muslim religious scholars who consider musical instruments and singing prohibited by Islamic Sharia. Andalusians at that period were fond of the charming nature and beautiful landscape of their homeland. They used to go out to entertain themselves in the wide – spread public gardens and parks in their cities where they spend pleasant time. They practiced several hobbies like hunting, horse – riding chess and other means of sports and recreation. Perhaps one of the most distinctive features of the Andalusian society was the high caliber and status of the women where they enjoyed a great deal of independence and freedom. They had noticeable contributions to arts and letters, science politics and economics. Also, at that time the Andualsian society was characterized by the establishment of important control institutions such as the police forces and Hisba (volunteering to advice people to act according to the teachings of Islam and avoid their violation) chamber to ensure the prevalence of safety and security in the society.