"الأنفة الثقافية" بوصفها انعكاساً ومقياساً لـ
"التحيز"
مدخل:
تعالج هذه الورقة البحثية بعض
أبعاد "التحيز"، وتجهد لأن تنقّب عن بعض مظاهره وتتبع بعض بواعثه في
العلوم الاجتماعية، مع تركيز المعالجة والتحليل والاستكشاف في نطاق علم الإدارة،
باعتباره أحد أهم العلوم الإجتماعية التي تعين المجتمعات الإنسانية على تحقيق
النهضة الحضارية وفق شروط ومواصفات محددة سيتم التطرق لها في ثنايا تلك المعالجة،
وتستهدف الورقة تحقيق خمسة من الأهداف الأساسية، وهي:
1.
تعميق فهمنا لمسألة
"التحيز" من خلال معالجة البعد المفاهيمي والبعد الوجداني في مفهوم
التحيز، والإشارة إلى معدل النجاح الذي حققه مشروع "فقه التحيز" في بناء
كلا البعدين وتجلية أبعادهما.
2.
إيجاد بعض الأدوات المنهجية
التي تمكّننا من تحويل "التحيز" من مفهوم تجريدي إلى مفهوم قابل
للاستكشاف النوعي والقياس الكمي.
3.
الاستشكاف المبدئي لبعض مظاهر
التحيز في علم الإدارة.
4.
التعريف بمصطلح "الأنفة
الثقافية" كمفهوم، وكأداة تعكس البعد الوجداني في مفهوم التحيز.
5.
التعريف بمصطلح "الأنفة
الثقافية" كأداة منهجية للاشتكشاف النوعي والقياس الكمي لمسببات ومؤشرات
ومحكات التحيز، وأعطاء بعض الأمثلة المبدئية.
التحيز .. الماهية والدلالات
ثمة حقيقة مباشرة نكاد نجمع
عليها مفادها: أن لكل مجتمع ثقافة تخصه، يشكلها ويطورها في ضوء معتقداته وقيمه
ومبادئه ويتم ترسيخها من خلال آليات التقاعل الاجتماعي التي يؤطرها "التفكير
الجمعي"؛ فيرسم لها خطوطها ويبني لها مؤسساتها التي تحفظ مفردات الثقافة؛
جيدها ورديئها، عميقها وسطحيها، مطلقها ونسبيها. هذا أمر بتنا لا نختلف حوله، وثمة
شيء آخر بدأ بإدراكه نخبة فكرية وعلمية، وهو ما يتعلق بقضية "التحيز"
الذي يعد سمة أساسية لازمة في أي ثقافة إنسانية، والتحيز طبيعة إنسانية لا ينفك
عنها بحال، والتحيز كمفهوم حين يقلبه الذهن للوهلة الأولى لا يرى إلا "حمولته
السلبية"، فمفهوم التحيز يمارس تحيزاً ضد ذاته بذلك الفهم الذي يقصر عن إدارك
ماهية التحيز وحقيقته، فهو مفهوم يمكن أن ننظر إليه بـ "حيادية" أكبر
حين ننجح في تحميله "حمولة إيجابية" تقف جنباً إلى جنب مع تلك الحمولة
السلبية، وهذا يعني أن التحيز فيه ما هو طبيعي وما هو إيجابي وما هو مقبول كما أن
فيه ما هو غير طبيعي وما هو سلبي وما هو مرفوض، وتبقى المسؤولية الثقيلة على كاهل
المفكرين بفرز هذا عن ذاك في إطار معرفي – إبستمولوجي – منهجي مدعم بالأدلة
والبراهين والشواهد والأمثلة التي تلائم مختلف الفئات والشرائح.
وينظر البروفيسور عبدالوهاب
المسيري إلى التحيز من زواية ذكية حين يقرر بأن "كل شيء، كل واقعة وحركة، لها
بعد ثقافي، وتعبر عن نموذج معرفي وعن رؤية معرفية"[1] ، والنموذج هو تصور عقلي تجريدي يجهد لأن ينقل الواقع من خلال
تفكيكه واستيعاب مكوناته وفهم العلاقات الدائرة بينها والعمل على إعادة تركيبه،
وعملية النقل تلك تتأثر على نحو لا مفر منه بمنظومة الثقافة التي يحملها الإنسان،
وتلعب مفردات تلك الثقافة من معتقدات وقيم ولغة – بالإضافة إلى حواس الإنسان ولكن
بشكل أقل تأثيراً وخطورة – كـ "فلاتر" أو مرشحات؛ من شأنها توجيه
"جهاز التفكير" فيلتقط بعض المعاني والسمات والأفكار ويدع غيرها، وقد
يكثف جهده الذهني حول بعضها بأكثر مما ينبغي وقد يهمش بعضها الآخر بأكثر مما يجب،
وهنا نمسك بخيط التحيز، فما الذي يجعل جهاز التفكير يلتقط هذا ويدع ذاك، لا شيء
غير التحيز ذاته، جيده وسيئه، الطبيعي منه وغير الطبيعي أو "حلال النموذج
وحرامه" كما في تعبير الدكتور المسيري[2].
التحيز .. لا انفكاك!
ما سبق يجعلنا نقرر دون عناء
بأنه قدر محتوم على كل مجتمع إنساني أن يتوفر على كمية/ نوعية معينة من التحيز؛
غير أن أن المجتمعات الذكية هي تلك تتحيز لذاتها، فتنحاز لتحيزاتها هي وتتخلص من
تحيزات غيرها، فتلتصق بتراثها؛ تتفاعل معه، تهضمه، تستوعبه، تنقده، تقيمه، تطوره،
مع الإفادة من التراث الإنساني بشكل لا يخرجها عن إنسانيتها في رد ما تشاء وقبول
ما تشاء في أجواء تتيح لها ممارسة الإبداع وفق ثقافتها هي ومزاجها هي. أما
المجتمعات الأقل ذكاء فهي تلك التي تزهد بتحيزاتها وتتبرع بأكبر قدر منها لخزانة
"المسائل المعطلة"؛ وتستمر في "استهلاك تحيزات الآخر" وتداوم
على التبضع من أسواقه واقتناء كل جديد لينضاف إلى رصيدها التراكمي من تحيزات الآخر
والتي يتم خلطها بمقادير قليلة من تحيزاتها الذاتية، مما يجعلها في حالة
"استلاب ثقافي"[3] ؛ فترى نفسها بنظارة الآخر، وتلك هي المسائل التي يسعى "فقه
التحيز" إلى معالجتها عبر إطاره المفاهيمي
والمنهجي، وما أنجز حتى الآن من أدواته التحليلية والإجرائية. وعلى هذا فيمكننا
النظر إلى فقه التحيز كأداة:
·
تحرّر الإنسان
فكرياً،
·
وتحرر المجتمعات
ثقافياً،
·
و تحرّر الباحثين
منهجياً،
·
وتحرر مستقبل الأنا
من ماضي الآخر وحاضره ومستقبله.
والحقيقة أنه يمكننا إقامة
الدليل على صحة ما سبق في كثير من المجالات العلمية والحقول المعرفية، تماماً كما
يحصل في حقل الدراسات الإستراتيجية والمستقبلية، حيث يلفت أنظارنا أحد الباحثين[4] إلى أن الجامعات العربية –
باعتبارها تجسّد مظهراً للتفكير العربي - ما تزال نائية بنفسها عن دراسة المستقبل
وصناعته لمجتمعاتها، في الوقت الذي تعد فيه بعض الجامعات والمراكز في الدول
الغربية والكيان الصهيوني بعض الدراسات عن مستقبل العالم العربي، وشيوع الدراسات
الغربية بمنهج غربي يعني أن أمتنا
"ترى نفسها بمرآة غربية"[5].
وكمؤشر يؤكد على إيغال العقل
العربي في حمل تحيزات الآخر في مجال المستقبليات يشير الدكتور سهيل عناية الله إلى
أن البعض يعتقد بصحة الأطروحة القائلة بخطية المستقبل العربي [6]، وأن المستقبل غير الغربي سيتبع حتماً المستقبل الغربي، وهي
أطروحة هزيلة ولا تستند على أي أساس علمي. واقتناع
البعض بتلك الأطروحة يؤكد على وجاهة مدارسة الفرضية القائلة بوجو د إشكاليات
ثقافية في مجال الدراسات المستقبلية والاستراتيجية، وتعد تلك الأطروحة جزء من
الإشكالية الثقافية، والتي يمكن إرجاعها – جزئياً - إلى ضعف الثقة في الذات، من
حيث ضعف قدرتها على أن تعزف أنغام نهضتها على
الإيقاع الذي تألفه أذنها وتأنس إليها روحها وتحقق بها بشريتها وتبرهن على
امتلاكها ذوقاً خاصاً بها. والمدهش أننا لسنا وحدنا الذين نؤكد على تلك النتيجة،
بل إن عدداً يتزايد من الباحثين الغربيين بدأوا بتنفيذ دراسات بحثية تثبت بأن
الغرب ذاته يعاني من أزمات حادة في إنضاج رؤية مستقبلية عميقة، الأمر الذي يقنع
الآخرين بضرورة بلورة رؤيتهم المستقبلية خارج صندوق "الإمبراطورية"
الغربية[7].
وينبه بعض
الباحثين إلى أن بعض الدراسات المستقبلية التي تزعم التلبس بالموضوعية قد تتبنى
رؤى متحيزة[8] من أجل أن تحرف بوصلة المستقبل العربي باتجاه كل ما يغذّي
اللاتحضر ويزيد من المشكل الثقافي
والسياسي والاقتصادي والعلمي، وهذا يتعارض مع أبسط مبادئ "الهندسة
الحضارية" للأمة التي تتطلع لبناء نهضتها بمقاييسها هي لا بمقاييس غيرها
وبمزاجها هي لا بمزاج غيرها!. يؤكد فرد بولاك في كتابه صناعة المستقبل[9] على أن الحضارات التي تمتلك صورة متفائلة عن المستقبل تختزن نظرة
إيجابية عن إمكانيات الناس وبالتالي تزيد من قدراتهم في تشكيل المستقبل.
التحيز: من مفهوم تجريدي إلى مفهوم قابل للقياس
يبرهن التحليل السابق في مجال
الإدارة الإستراتيجية والدراسات المستقبلية على أننا نحمل تحيزات ضخمة صنعها الآخر
وتلقفناها نحن دون شعور في أكثر الحالات وهذا ما يدعو إلى تقرير أنه لا ينبغي أن
يظل "التحيز" مفهوماً تجريدياً يؤمن به البعض، فيقدرون أثره ويدركون
خطورته، ويتجاهله البعض الآخر بل ربما يقذفون المشتغلين به بتهمة التقوقع
والانكفاء على الذات، وهذا يدفع باتجاه أن يكون التحيز ضمن "عقيدة
الباحث" المنهجية، لاسيما للباحث القابع في بيئات ثقافية تحاول أن تخرج من
أنساق التبيعة إلى أنساق الإبداع، ومنهم الباحث العربي بكل تأكيد.
وتأسيسا على ما سبق،
يمكننا تقرير بأن "التحيز" كمفهوم يحمل شقين اثنين: "شق
مفاهيمي" و"شق وجداني"، فالشق المفاهيمي يوجد في عقل الباحث وجهازه
المعرفي، مما يجعله متلبساً بيقظة منهجية، تقل أو تكثر، بحسب عوامل متعددة منها:
عمق البعد المنهجي لديه، ودقة فهمه لقضية التحيز، وسعة امتلاكه لأدوات تشخيص
التحيز واكتشافه وتحليله. هذا هو الشق المفاهيمي، وهو ما حاول مشروع فقه التحيز
طيلة العقدين أو الثلاثة الماضية على تبين معالمه وصناعة مصطلحاته وأدواته، وقد
حقق المشروع نجاحاً جيداً ومشجعاً في هذا الجانب.
أما الشق الثاني –
الشق الوجداني – فقد لامس المشروع ذلك الشق من عدة وجوه. وقبل استعراض تللك
الأوجه، دعونا نمر على مرادنا من الشق الوجداني. الأمور المتعلقة بالوجدان تتلفع
دائماً برداء غليظ من التعقيد والتمويه، حيث تشعر في كثير من الأحيان بأنك قد
أمسكت بها وظفرت بجوهرها وحين تتبين ما في يدك وتتفحصه تدرك حينذاك بأنك قد أمسكت
شيئاً هلامياً؛ شيئاً يتساقط من يديك وينثال من أصابعك وربما يتقاطر إلى لحظة
تعلمك بأنه لم يعد في يديك شيء! هذه مشكلتنا مع الوجدانيات، ولكن لا حيلة غير أن
نطور أدواتنا في التعامل معها، فهي مؤثرة إلى حد كبير قد لا يتصوره أكثرنا على
تفكيرنا وسلوكنا وفعاليتنا. وأحسب أن ما تقدم عن الشق الوجداني يصلح أن يكون
اعتذاراً من الباحث عن تقديم شيء متماسك حياله في هذه الورقة البحثية المتواضعة،
حيث سيباشر عملية اجتهادية مبدئية في توضيح هذا الجانب في محاولة تجهد لأن تفسر
العلاقة بين الشقين المفاهيمي والوجداني.
وقبل المضي قدما في
ذلك السبيل، هنالك مسألة هامة لابد من الوقوف حولها وهي متعلقة إلى حد كبير
بالجانب المفاهيمي لمصطلح التحيز، حيث أن من يتعطى مع ذلك المصطلح يشعر بأن ثمة
غموضاً من نوع ما؛ غموض "قار" في "قاعدة" المصطلح لا يبرح
عنه، فأنت تشعر في بعض الأحايين/الحالات أنك مسيطر على المصطلح ومستوعب أبعاده
ومتصالح مع معنى واضح له، وفي أحايين/حالات أخر تشعر بأنك قد فقدت سيطرتك عليه وأن
العلاقة معه قد أصابها شيء من عدم التصالح... هنالك شيء ما في المصطلح يبدو أنه هو
الذي يوّلد "الوضوح" ثم ما يلبث هو أو غيره أن ينتج قدراً من
"الغموض"، هذا الأمر – على فرض التسليم به – يدعو إلى مزيد من الجهود
البحثية للتنقيب عن المكونات الفعالة في المصطلح التي من شأنها توليد الغموض
والوضوح، وبالتالي نظفر بمزيد من الأدوات لبناء طوابق من المعاني والمؤثرات
والمحكات داخل النطاق المفاهيمي لمصطلح التحيز.
ومن النقاط الجديرة
بالملاحظة في هذا السياق غياب أو ضعف استخدام مصطلح "التحيز" لدى
الباحثين العرب، ويتجلى ذلك في أبحاثهم العلمية المنشورة ونقاشاتهم المنهجية،
بخلاف الباحثين الغربيين، فهي حاضرة بشكل مكّثف في أبحاثهم ونقاشاتهم، وأذكر حينما
كنت أعد رسالة الدكتوراه في بريطانيا أن أذني أعتادت على سماع كلمة Bias (تحيز)، وهي مستخدمة
بطريقة تجعلها من أدوات التفكير المنهجية التي لا يمكن لباحث أن يدخل المعترك
البحثي ولا أن يتنقل بين المناطق البحثية إلا وهو متسلح بها ومستعد للدفاع عن نفسه
من الهجمات النقدية لتلك الكلمة التي قد تأتي من هذا المصدر أو ذاك، وهذه ملاحظات
مبدئية يعوزها الدليل المتماسك الذي يبرهن على صحتها ويقطع بثباتها، وهنا ندون بعض
الأسئلة للأبحاث المستقبلية في هذه المسألة:
·
هل الباحث العربي – عموماً -
يهمّش مصطلح التحيز فعلاً ؟
· وهل
يعني ذلك غياب مسألة التحيز عن التفكير المنهجي لديه؟
· ألا
يستخدم بعض الباحثين العرب بعض المصطلحات المرادفة أو البديلة أو الصديقة أو حتى المنافسة لمصطلح
التحيز؟
· ألا
يستخدمون بعض المؤشرات أو المحكات ذات الصلة بالتحيز بشكل ما؟ وبمعنى آخر ألا يمكن
أن يكون الغياب لمسألة التحيز جزئياً؟
ما نحتاجه في عالمنا
العربي الإسلامي هو أن نشتغل على البعد الوجداني في هذه القضية - بجانب تقوية
البعد المفاهيمي – بطريقة تجعل من قضية أو إشكالية التحيز مفردة
"طبيعية" أو لنقل "إيجابية" من مفردات ثقافتنا تبرهن على تمتع
الإنسان بسمات "العافية الذهنية" التي تدفعه للانحياز – بكل ثقة وافتخار
- إلى تحيزاته، فيكتشفها ويعترف بها ويتعارك معها، بغية التخلص من قبضتها قدر
المستطاع والتقليل من آثارها السلبية – التي ربما تكون ضمنية - على أدوات التفكير
والتخطيط والتنفيذ لمشروعنا الحضاري العربي الإسلامي، مع ما يقتضيه ذلك في الوقت
نفسه من التنبه إلى خطورة تحيزات الآخر وإدارك تأثيراتها السلبية على
"ممارستنا الإبداعية"، حيث تملأ جهازنا المعرفي بـ "ملفات
ذهنية" كثيرة (مفاهيم ، مصطلحات، مسلمات، افتراضات، قيم، انماط تفكير،
تفضيلات ...الخ)، من شأنها التشويش والتشويه، فضلاً عن زيادة درجات التعقيد
والتسبب في إبطاء العمليات الذهنية لمعالجة القضايا والإشكاليات والجدليات، وهو ما
أشبهه بحالة جهاز الحاسوب الذي يحمل برامج كثيرة جداً بحجة الإفادة من خدماتها
ومنافعها؛ مع عدم التفطن إلى وجود تعارضات أساسية بينها بعضها مع بعض، بل ربما مع
نظام التشغيل نفسه - والتي ربما تكون خفية- مما يجعل ذلك الجهاز
"كليلاً"، يشتغل تارة وينقطع تارة أخرى، يفرحك مرة ويحزنك مرات،
والمصيبة حين يفتيك المتخصص بأن الجهاز يحتاج إلى إعادة تهيئة أو
"فرمته"!
إن الاشتغال على
ترسيخ "الشق الوجداني" لمفهوم التحيز يمنحنا فائدتين كبيرتين تبرران كل
الجهد الذي نبذله، و هما:
الفائدة الأولى: أن ترسيخ البعد
الوجداني في المجتمع العربي المسلم يعين على نقل قضية التحيز إلى دوائر أوسع من
العقول العربية، فيقتنع بها عدد أكبر من النخب الفكرية والباحثين وخاصة الصغار أو
المبتدئين منهم، مما يجعلهم جميعاً متوفرين على أقدار أكبر من الإبداع - فكراً
ودافعية وأساليب - إن هم تقصوا معالم التحيز واستوعبوا حقيقته
وأدركوا دلالاته ولوازمه في التعامل مع التراث العربي الإسلامي باعتبار ه ركيزة
البناء الفلسفي والفكري وتراث الآخر باعتباره إطاراً إنسانياً يمكن لهم
"الاغتراف الذكي"[10] منه بما يتناغم مع تراثهم، وهذا يعني – ضمن أشياء كثيرة – أن
أداوت التفكير لدينا ستفلح في إعادة النظر إلى التراث الغربي العلمي والفكري،
المفاهيمي والمصطلحي، باعتباره خبرات بشرية لا تحمل مرجعية ذات كثافة أكثر من
غيرها من بقية الخبرات الإنسانية كالخبرات الشرقية والأفريقية واللاتينية.
الفائدة الثانية: من أبرز الملاحظات
على مفهوم التحيز الذي تم تناوله في مشروع فقه التحيز أنه ظل إلى حد كبير مفهوماً
تجريدياً، وقد سبّب ذلك ابتعاده عن التلبس ببعض السمات التي تمكننا من استكشافه
نوعياًً أو قياسه كمياً، ونحسب أن الاهتمام بالجانب الوجداني يمكن أن يتيح لنا
مساراً لذلك الاستكشاف والقياس، وربما نحقق ذلك من خلال وسائل متعددة. ومن تلك
الوسائل التي نود أن نتجرأ على طرحها في هذه الورقة بشكل مبدئي ضرورة إنتاج بعض
المصطلحات التي تمكننا من القيام بعمليات الاستشكاف أو القياس بناء على محكات
واضحة. وقد سبق لي نحت مصطلح أحسب انه سيعيننا كثيراً في مجال "التشخيص
الثقافي" والذي يدخل فيه قضية التحيز. وهذا المصطلح هو "الأنفة
الثقافية".
بعض مظاهر التحيز في علم
الإدارة
التحيز في علم الإدارة مبحث هام
ولما يقدم الباحثون العرب شيئاً يذكر حياله،
خاصة أننا ندرك الأهمية المتزايدة لذلك العلم في تحقيق النهضة الحضارية
للمجتمعات الإنسانية، من خلال منهجيته ومبادئه ونظرياته ونماذجه وأساليبه. ولعل
هذه الورقة البحثية المختصرة تسهم بفتح
كوة صغيرة في الجدار السميك للإدارة، عبر وضع بعض الأفكار المبدئية حول تلك التحيزات،
وليكن ذلك في ثلاثة مستويات، يندرج بعضها تحت بعض، نبدأ بالمستوى المعرفي
(الإبستمولوجي)، فالمستوى المنهجي، فالمستوى النظري والتطبيقي، ذلك أن الإطار
المعرفي هو الذي يصنّع المنهجية، وفي ضوء ذلك الإطار وتلك المنهجية يتم تشكيل
المبادئ والأسس والمفاهيم والمصطلحات والنظريات والأساليب والتقنيات والممارسة
للعلم (وهو ما أسميه بالمستوى النظري والتطبيقي).
المستوى المعرفي: سؤال في
"علمية" الإدارة
حدث لي قبل ما يقارب العشر
سنوات قصة مع صديق أكاديمي لها مغزاها ودلالاتها في هذا التحليل المعرفي. فبعد أن
فرغت في ذلك الحين من مسودة كتابي المختصر عن "إدارة الأزمات" ، دفعتها
لبعض الأصدقاء للإطلاع وإبداء ملاحظاتهم ومرئياتهم، وكان من بينهم ذلك الصديق ،
وضمت تلك المسودة فصلاً بعنوان "الوصايا العشر في إدارة الأزمات"،
وبطبيعة الحال اتكئ هذا الفصل على جملة من النصوص الشرعية باعتبارها المشكّل
الرئيس لتفكير الإنسان العربي المسلم وسلوكه، بالإضافة إلى الإفادة من أدبيات حقل
إدارة الأزمات. وحدثت المفاجأة منه هو لا غيره، فمع أنه – أي صديقي - كان يحمل
"ذهنية إسلامية"، إلا أنه قال لي وبالحرف الواحد: كنت أظنك ستضع كتاباً
"علمياً" عن إدارة الأزمات!، فعالجته دون إبطاء: وما الذي يخرج هذا
الكتاب من "العلمية"؟، فرد واثقاً دون تردد: الكتاب العلمي هو الذي
يعتمد على النظريات والمبادئ والفرضيات العلمية؛ أما كتابك هذا فهو ليس كذلك؛
بدليل وجود بعض الآيات الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة، ولذلك فهو أقرب إلى
الكتب العامة التي تناسب بعض الشرائح الاجتماعية. هذا ما جرى مع باحث عربي يحمل
"ذهنية إسلامية" لا غبار عليها البتة من حيث منطلقاتها وتوجهاتها
وقصدها، وهذا له دلالات كثيرة لا ينبغي تجاوز أدوات التحليل لشفراتها الصريحة
والضمنية.
هذه القصة الرمزية تؤشر على
وجود تحيز محوري في علم الإدارة ينبع من "تحيزنا" نحن لتعريف العلم، وفق
النظرة الغربية للعلم التي تقوم – بشكل رئيس - على ما يسمونه بـ
"التجريبية" و"الموضوعية"؛ والمؤسسة على نماذج ضمنية تتكئ على
البعد النفعي المادي، والكارثة أن التحيزات الغربية ذاتها "متحيزة"
لإحدى النظرات الفلسفية الغربية المتطرفة، ولم يقتصر الأمر على الأطر المعرفية أو
الفلسفية أو الإجرائية في الجامعات ومعاهد البحوث، ولكنه تجاوز إلى تبني الأطر
المؤسسية لتلك النظرة، ومن ذلك تبني اليونسكو للتعريف الذي ينطلق من تلك النظرة:
فالعلم هو "كل معلوم خضع للحس والتجربة"[11]، وهذا يعني الضغط ليس فقط على الأطر الفلسفية والمنهجية بل يعني
أيضاً ممارسة الضغوط في الجوانب التمويلية للأبحاث، نظراً لما تملكه تلك المؤسسات
من تأثير ونفوذ في المسار البحثي والثقافي في دول العالم الفقير، إذن تبني الرؤية
الغربية – كمرجعية منهجية نهائية - يولّد إشكاليات ضخمة، وهذا ما سيتضح أكثر عند
تناولنا للمستويين الآخرين.
المستوى المنهجي: سؤال في منهجية البحث
يعاني البحث العربي الإداري –
والبحث الإجتماعي بشكل عام - من غياب الإطار المعرفي (الإبستمولوجي ) والمنهجي
والإجرائي المنبثق من الفكر الإسلامي، الأمر الذي حدا به إلى اتباع الإطار المعرفي
الغربي، دون إدراك للتحيزات والإشكاليات المنهجية المترتبة على ذلك، والتي من
أهمها "اعتناق" المنهجية العلمية الغربية بصيغتها الوضعية Positivism [12] ، تلك الفلسفة التي تتزعم
لواء الموضوعية Objectivism المتكئة
على أدلة ذات طابع تجريبي وكمي، مع استبعاد – مثلاً - الأدلة التي يظفر بها الباحث
من خلال ملاحظاته الشخصية العلمية بزعم أنها ذاتية.
والنزعة الوضعية أثرت في البحث
العربي في سائر العلوم الاجتماعية، حيث أعاقتنا عن الإفادة من مناهج علمية لا
تتوفر على ذات الدرجة من الموضوعية المزعومة و الصرامة أو الإحكام المنهجي بشقه
الإجرائي. ونحن هنا لا نهجو ولا ندعو إلى نهجر المنهجية العلمية؛ بل نحاول أن نعيد
لها رشدها وتوازنها عبر اعتراف واعٍٍ بمختلف مناهج البحث مع مراعاة طبيعة كل منهج
وخصائصه ومراحله وخطواته. وتأخرنا في هذا الاعتراف زهّدنا كباحثين عرب من الإفادة
من المناهج الكيفية (النوعية)؛ والتي تؤمن بأن ثمة فرقاً رئيساً بين العلوم
الاجتماعية والعلوم الطبيعية، إذ تقرر المناهج الكيفية بأن السلوك الإنساني
والاجتماعي – مادة الدراسة والبحث في العلوم الاجتماعية ومنها علم الإدارة - تتأثر عملية ملاحظته وتفسيره بحسب السياق الذي
يحدث فيه والذي يكتنز المكون الثقافي والسياسي والاجتماعي والتاريخي[13].
ونظراً لغلبة النهج الكمي وفق
الرؤية الوضعية، فقد صرنا لا نستغرب من ورود اعتراض معرفي (إبستمولوجي) عندما ندعو
إلى تكثيف استخدام المنهجية الكيفية، وربما يوصم ذلك بأنه تراخٍ عن تطبيق المنهجية
العلمية، وأن المنهجية الكيفية ستؤدي حتماً إلى النتيجة التي انتهت إليها الفلسفة
"التركيبية" Constructionis ، وهي
الفلسفة التي تزعم بأنه لا يمكن للإنسان أن يظفر بمعرفة موضوعية، وذلك أن المعرفة
لا يمكن فصلها عن الإنسان فكراً وقيماً ، وهي إنما تتشكل بحسب رؤية وتركيب الإنسان
لها في خضم التفاعل الاجتماعي. وأدت هذه الفلسفة التركيبية إلى ثغرات ضخمة من
أبرزها إيغالها في النسبية المطلقة أو فلسفة "كل شيء ماشي". كلا هذا
تطرف وتحيز معرفي نعرفه ونخبره جيداً في الفلسفة الغربية والتي تقوم بشكل كبير على
التفكير الدوغمائي الثنائي، و نعتقد بأن ذلك التطرف وذلك التحيز ، هو تطرفهم
وتحيزهم هم ولا يلزم أن نتلبس نحن به لمجرد أنه قد تلبس به "الأستاذ"
الغربي !
إذن اصطبع البحث الإداري العربي
بالنفس الكمي بشكل طاغٍٍ[14]؛ مما عيّشه مرحلة غاب
فيها البحث الكيفي، الأمر الذي أفقدنا – كباحثين - القدرة على تناول بعض
الإشكاليات الثقافية في مشاريعنا البحثية نظراً لعدم اتساع حدود أبحاثنا
"الكمية" إلى تعقيدات المسألة الثقافية واستعصائها على القولبة بشكل
إجرائي يمكّننا من قياسه كمياً من خلال أدوات جمع البيانات الكمية والتي تضخمت كما
يقول أحد الباحثين العرب إلى أن تكون جوهر البحث العربي ولبه وغايته ومنتهاه[15]. وهذا سبب رئيس لهزال
كثير من الأبحاث الإدارية العربية وسطحيتها، بل هو سبب رئيس لضعف منسوب الإبداع
لدى كثير من الباحثين العرب في سائر العلوم الاجتماعية، وقد أقمنا الأدلة على ذلك
في بحث سابق[16] .
ويمكننا إيرد بعض الشواهد على
تأثير ذلك التحيز المنهجي في علم الإدارة، ففي حقل الإدارة الاستراتيجية – مثلاً –
يسعنا أن نتساءل:
هل ثمة فائدة كبيرة نجنيها من جراء قيامنا
بأبحاث "كمية"[17] تقيس بعض المتغيرات البسيطة المؤثرة على السلوك الاستراتيجي في
المنظمات العربية كنوع الشركة وحجمها وعمرها وخبرة الإدارة العليا؟ مع تغييب العوامل الثقافية المعقدة والتي قد
يكون من شأنها أنها تلد كل المشاكل المحيطة بذلك السلوك بحجة عدم إمكانية إخضاع
تلك العوامل للقياس الكمي؟1 أي لون من النفع يعود علينا من أبحاث وصفية كمية
"سطحية" كهذه إن لم تفلح في معاونتنا على معالجة المشكل الثقافي؟
خاصة أننا ندرك – أو يجب أن
ندرك! - أن البحث الكمي يعجز – بحسب طبيعته - عن تجاوز حدود وصف الظاهرة، كما أن
ذلك الوصف يتسم بالسطحية، نظراً لعجزه عن تفسير النتائج الكمية وتعليليها. ولذا
يمكن التقرير بأن الأبحاث الكمية العربية في مجال الإدارة الاستراتيجية لا يمكن أن
تعيننا على أن نجد تفسيراً علمياً مقبولاً يبرر حالة ضعف منسوب الإيمان بممارسة
العمل الاستراتيجي في منظماتنا لكونها ركزت على قياس بعض المتغيرات الكمية
السطحية، ويمكن استجلاب مزيد من الشواهد في حقول إدارية أخرى؛ تبرهن على أن ذات
المسلك يحمل ذات التحيزات لصالح المناهج الكمية. وبإزاء المناهج النوعية المهمشة
في البحث العربي المعاصر نشير إلى ملاحظتين أساسيتين:
الأولى: أن تلك المناهج
تتطلب قدراً من الإبداع في تصميمها وتنفيذها، إذ أنها تقوم على مبادئ عامة تمثل
الإطار الذي يحكم عملية التصميم والتنفيذ، فضلاً عن الجهد والوقت، ولذا فلا يطيقها
كل أحد.
الثانية: أنها تتطلب تفكيراً
من نوع آخر حول نتائجها وأدلتها وشواهد صحتها وثباتها، بخلاف الصرامة المنهجية
المزعومة في المناهج الكمية، وكم هو رائع التقاط الدكتور المسيري لنوع خفي من
التحيز، حين أشار إلى أن التحيز للدقة البالغة والإحكام في ضبط المصطلحات وقياسها
ونحو ذلك يعد تحيزاً للتراث الغربي، نظراً لدقته وتطوره ونضجه الذي بلغه بعد جهود
بحثية مضنية، فكيف يمكن لفكرنا العربي الإسلامي الوليد أن ينمو بغير قدر كافٍ من
التسامح – وليس التراخي - المنهجي[18].
المستوى النظري والتطبيقي: سؤال
في المبادئ والنظريات والممارسات
بنظرة فاحصة للإسهامات
والنظريات والنماذج والممارسات الإدارية المعاصرة في الدول المتقدمة، لاسيما في
الثقافة الغربية، ندرك بأن ثمة فعلاً إبداعياً في تلك الدول تمخض عنه إنتاج إبداعي
هائل في حقول الإدارة، مع وجود قدر كبير من التناغم أو لنقل التحيز إلى المنظومة
الثقافية والنزعة الفلسفية لتلك المجتمعات، وهذا لا يعني ولا ينفي البتة وجود حركة
تثاقف وتبادل معرفي في مجال العلوم الإدارية بين مختلف الثقافات، ومما يهمنا
التأكيد عليه في هذا السياق هو التساؤل عن مدى الحاجة أو الضرورة في وضوح الأنساق الثقافية على خارطة
الإنتاج الإداري الإنساني، والحرص على تحقيق الخصوصية الثقافية والحضارية للنهج
الإداري العربي الإسلامي.
ففي خضم النماذج والنظريات
والفلسفات الإدارية الغربية ظهرت نظريات ونماذج إدارية يابانية مميزة دعّمت
بممارسة إدارية يابانية إبداعية، ممارسة تؤمن أو تنحاز إلى إطارها الثقافي (وتعتبر
الكنفوشسية أهم العوامل المشكّلة والمؤثرة في الإطار الثقافي، كما سنوضح ذلك
لاحقاً) وخصوصيتها الاجتماعية وكينونتها الحضارية، وقد استطاعت تلك النماذج أن تحقق نجاحاً متزايداً ليس داخل الرواق الياباني فحسب، بل ظهرت
محاولات استقطاب واستيراد غربي لتلك النماذج التي تتمحور حول العلاقات الإنسانية
(من أشهرها نظرية Z).
أما الإسهامات الإدارية العلمية
العربية فهي بوجه عام لا تخضع للفعل الإبداعي بقدر ما تخضع لما نسميه بمدخل أو
ثقافة "النقل الميكانيكي للأفكار"، حيث تنشط عضلات الباحثين الإداريين
العرب لجلب الفلسفات والنظريات والنماذج والمصطلحات من بيئات ثقافية أخرى، وبالذات
الثقافة الغربية بكل ما تحمله من تحيزات صريحة وضمنية، مع شيء من التعديل أو
التحوير أو الإضافة، الذي لا يطال جوهر الفلسفة أو النظرية أو النموذج، بقدر ما
يمس الإطار الإجرائي أو الشكلي. وتتمظهر
ثقافة النقل الميكانيكي للأفكار الإدارية في البيئة العربية في جملة من
المظاهر، وقد خلصنا - في بحث سابق - إلى خمسة مظاهر أساسية تبرز وبجلاء تلك
الثقافة وهي كما يلي:[19]
- ندرة الفلسفات والنظريات
والنماذج الإدارية التي أبدعها باحثون عرب، ولمن يتشكك في هذه القضية ويعدها ضرباً
من المبالغة نقول: هاتوا لنا فلسفات أو نظريات أو نماذج أو حتى ممارسات إدارية
طورها باحثون عرب وتتمتع بالثقة والاحترام والاستخدام في الأدبيات العربية خلال
الخمسين السنة الماضية!
-
ندرة عدد المصطلحات الإدارية التي نحتها الباحثون العرب في العقود الماضية.
-
ضعف الجهود في بناء المقاييس الإدارية العربية التي تحظى بالثبات والصدق،
والاستعاضة عن ذلك بالترجمة الحرفية أو المقننة للمقاييس الغربية، دون اعتبار يذكر
للبعد الثقافي أو مراعاة للتحيزات الظاهرة في تلك المقاييس.
- الأعداد الكبيرة والمتزايدة
للكتب الإدارية المترجمة وبالذات من اللغة الإنجليزية، حيث تشهد المكتبة العربية
طوفاناً ضخماً من تلك الكتب.
-
استخدام اللغة الإنجليزية في عدد من كليات
العلوم الإدارية ذات الجودة العالية في العالم العربي، لأسباب متعددة، قد يكون من
أهمها - من وجهة نظر الباحث - غياب الإسهام الإبداعي العربي في حقول الإدارة.
ثمة نصيب كبير للعولمة في جعل
"المسألة الثقافية" رقماً صعباً في معادلة فعالية الإدارة، لاسيما في
المجتمعات التي تترسخ فيها ثقافة النقل الميكانيكي للأفكار، حيث جعلت العولمة
تمارس نوعاً أو آخر من التصدير الثقافي وبالأخص النمط الثقافي الأمريكي، الذي أريد
له أن يكون النموذج الأمثل الذي يتعين تعميمه على سائر المجتمعات. وقد اختلفت
استجابة المجتمعات "المستهلكين"، فمنها المجتمعات المستكينة التي قبلت
ورحبت بالأفكار والفلسفات الوافدة دون تمحيص، ومنها من أخضع هذه الأفكار والفلسفات
لنوع من الاختبارات الثقافية لتحديد مدى صلاحية وشرعية نقلها من محاضنها الأصلية
إلى مؤسساتهم ومنظوماتهم المختلفة، مع التفطن للتحيزات التي تحملها الأفكار
الوافدة، إن بشكل صريح أو ضمني.
وعلى هذا نكون بازاء نوعين من
الثقافات، الثقافة الأولى هي "ثقافة الترحيب الميكانيكي" للأفكار ، أما
الثقافة الثانية وهي تلك التي تمارس عمليات الاختبار والتنقيب للأفكار وفق نسقها
الثقافي فيمكننا تسميتها بـ
"الثقافات الفارزة والمبتكرة". وأي كانت درجة ونوعية تلك الاستجابة يكون
بدهياً أن الثقافة والهوية الحضارية تلعب دوراً بارزاً في تشكيل أو إعادة تشكيل
المنظمات بما يمكنها من البقاء والمنافسة والإبداع في حلبات العولمة، مع الاحتفاظ
بالقدر الكافي من البعد العقدي والقيمي والثقافي.
وبخصوص الثقافات الفارزة
والمبتكرة، يؤكد بعض الباحثين[20] أن نجاح الإدارة الأسيوية
في دول شرق آسيا (كاليابان والصين وكوريا الجنوبية) يمكن عزوه بشكل رئيس إلى
الانبثاق من الإطار الثقافي والحضاري، أي التحيز لتراثهم (وذلك بحسب لغة فقه
التحيز). وفي هذا الاتجاه، يؤكد (اوتشي)[21] أن الإدارة اليابانية حققت امتيازاً كبيراً من جراء مراعاتها
للإطار الثقافي الياباني، ويذكر لذلك مثلاً تقليدياً وهو نظرية Z
، تلك النظرية التي تراعي بكل ذكاء طبيعة الشخصية اليابانية في الفضاء الإداري من
حيث تحقيق الأمان الوظيفي، والمشاركة والمسئولية الجماعية في أداء الأعمال،
والاهتمام بالجودة وتطوير العاملين من حيث المهارات والمعارف.
ولا يقتصر ذلك الامتياز على
اليابانيين وحدهم، بل يصل الامتياز وبجدارة إلى أشقائهم الكوريين الجنوبيين مثلاً،
حيث يذكر كل من (يانق وتشنق)[22] أن الإدارة الكورية نجحت لعوامل متعددة من أهمها: (1) مراعاتها
للتراث الكنفوشسي الذي يعتني بأخلاق العمل والقيم
الاجتماعية، (2) المزج الذكي بين تراث الكوريين الديني والحضاري بالإدارة
المعاصرة. ويذكر الباحثان أن شركة سامسونج العملاقة Samsung طوّرت فلسفة إدارية جديدة يمكن أن توصف بأنها "إدارة
أخلاقية" او "إدارة اجتماعية"، ويقررا بأن الشركة تعتقد أن البعد
الأخلاقي أو الاجتماعي سيجعل من الشركة إحدى أبرز الشركات العملاقة في القرن
الحادي والعشرين. والقواعد الأخلاقية للشركة تسمى "دستور سامسونج" Samsung Constitution والذي يشتمل على أربعة
مقومات هي: البعد الأخلاقي، الذوق،
الشخصية الحميمية وحسن التعامل، الاستقامة وحسن السلوك. وهذه القيم استقاها
الكوريون بنجاح وثقة كافيين من منظومتهم الثقافية والأخلاقية[23].
وقد يكون من المفيد أن نعرض
لبعض الإحصائيات التي تظهر جانباً من الأداء لدى الثقافتين الكورية والعربية
المعاصرتين، حيث تشير الإحصائيات إلى أن
نسبة الزيادة في الأبحاث إلى كل مليون شخص في العالم العربي بلغت 2.4 ضعفاً وذلك
من عام 1981 إلى 1995 (ارتفعت من 11 بحثاً إلى 26 بحثاً) أما نسبة الزيادة خلال
تلك الفترة في كوريا الجنوبية فبلغت 24 ضعفاً، وثمة مؤشر آخر هو عدد براءات
الاختراع، حيث بلغ مجموع البراءات في عام 2000 في العالم العربي 370، أما في كوريا
الجنوبية فقد وصل عددها إلى 16328[24]. وهنا يحق لنا التساؤل:
- هل يعود هذا الفرق الهائل إلى
تبني الكوريين لمشروع ثقافي حضاري؟
- ألا يمكن القول بأن الثقافة
الكورية منحازة لتراثها ومشتغلة بتحيزاتها بشكل أكبر من العرب؟
أما التحيزات التطبيقية في علم
الإدارة فهي كثيرة ومتنوعة، ولعل منها "التحيز" للمكونات الفعالة في
السلوك وفقاً للرؤية الغربية في الإدارة. ولكي نوضح هذه المسألة دعونا نقف عند
التحليل التالي:
ثمة سمة أساسية للإدارة الفعالة
تتمثل بوجوب انبثاق الفكر الإداري من المنظومة الثقافية والإطار الحضاري للمجتمع
والتناغم مع نزعته الابستمولوجية والفلسفية، والباحث يعتبر ذلك الانبثاق شرطا
رئيساً لنجاح الإدارة في أداء وظائفها والتي تشمل
الوظيفية التوجيهية أو التعبوية للأفراد والمنظمات تجاه تحقيق الأهداف
والتطلعات والرؤى. ويعتقد الباحث أنه يمكن لنا مراعاة المنظومة الثقافية والإطار
الحضاري للمجتمع العربي المسلم من خلال جملة من القناعات النظرية والإجراءات
العملية، والتي من أهمها إعادة تعليب
النظريات والممارسات الإدارية داخل "بوتقة الإيمان"، فالإدارة تقوم على
مرتكزات أساسية قوامها الالتزام بالوقت والإجراءات والأنظمة، وتحقيق درجة عالية من
الولاء والانتماء للمنظمة والمجتمع، والتحلي بالأخلاق وحسن التعامل وجودة التفاعل
مع الآخرين، وغيرها من المقومات، التي يمكن غرسها من خلال مد ينبوع الإيمان إلى
شجرة الحياة وفروعها. ودعونا نضرب مثالاً على ذلك لتجلية هذه المسألة... نشتكي
بشكل عام من ضعف التزام الإنسان العربي بالوقت في الاجتماعات وتنفيذ المهام
الإدارية في مواعيدها[25] ، على الرغم من تشديدنا على أهمية ذلك واتباعنا لسلسة من
الإجراءات الإدارية والنظامية، ويعتقد الباحث أنه لا يمكن لنا تحقيق تقدم كبير في
هذا الشأن، من غير اعتبار مسالة الالتزام بالوقت ضمن مفردات الإيمان والعمل الصالح
ومؤشرات التدين للإداري العربي المسلم[26] ، ويتأكد هذا الرأي بالنظر إلى أن المنظومة الثقافية والاجتماعية
للإنسان العربي المسلم تتضمن مفردات تعامل وسلوكيات خاصة تفرض عليه ممارسة
محددة لاسيما في المواقف ذات البعد الاجتماعي،
ومن تلك المفردات التعاون والنخوة والشهامة والنجدة والضيافة والكرم، وهي قيم
أخلاقية راقية يتوجب علينا كباحثين أن نفعّلها ونهذبها بذكاء في المحيط الإداري
والاجتماعي، بخلاف ما يذهب إليه بعض الباحثين العرب من نقد هذه القيم واعتبارها من
عيوب الإداري العربي بشكل شبه مطلق[27].
وفي هذا السياق تتعين الإشارة
إلى أن الساحة الإدارية العربية تشهد نشاطاً ملحوظاً من قبل الباحثين والمدربين
العرب لتثبيت المقومات السابقة وترسيخها في بيئة الإدارة العربية تنظيراً وممارسة
من خلال المنطلق المهني Professionalism، وفي هذا
تحيز جلي للنموذج الكامن وراء الفكر الإداري الغربي، أما المنطلق الإيماني
والأخلاقي فهو مغيّب أو ضعيف للغاية في المشهد الإداري العربي، نظراً لعدم إقدامنا
على استكشاف نوعية التحيزات التي تشتغل بها أذهاننا، عدا بعض المحاولات القليلة
والمشكورة من قبل بعض الباحثين العرب[28] ، وتتصف تلك المحاولات أنها تصدر في الأغلب خارج نطاق العمل
البحثي المحكم (ونعني بذلك الأبحاث المحكّمة بالدرجة الأولى)، مما يضعف الجانب
المنهجي ويقلل البعد التراكمي، الأمر الذي ينعكس على مستوى الإنضاج النظري
والفلسفي والاختبار التجريبي لتلك المحاولات، وذلك لبعدها عن الأطر والقواعد
والإجراءات البحثية والنقدية المعتبرة. وفي هذا الاتجاه يحسن لفت الأنظار إلى أن
ساحتنا الإدارية لم تشهد كثيراً من المساهمات التي تحظ على البعد الأخلاقي مثلاً
إلا بعد وجود مساهمات من قبل منظرين غربيين تؤكد على أهمية الاعتبار الأخلاقي في
الإدارة[29]، وهذا يؤكد من زواية أخرى على أن النماذج الغربية بكافة أشكال
تحيزاتها هي التي تحركنا في مختلف العلوم الإدارية والاجتماعية .
ومن التحيزات أيضاً ما يقوم
عليه علم التسويق – باعتباره أحد أهم فروع علم الإدارة - من مبادئ الإشباع ليس
للحاجات أو اللذات الموجودة فعلاً، بل لحاجات أو لذات يتم اختراعها أو تصنيعها،
وليت الأمر توقف على الحاجات أو اللذات، إذن لهان الأمر، ولكنه تعدى إلى اختراع
"الأمراض" لتحقيق مبادئ التسويق "النفعية"، ومما يشير إلى ذلك
رمزياً القصة التي تقول بأن شخصاً زار مصنعاً للأدوية وبدأ يسأل عن هذا الدواء
فقيل له هذا للمرض الفلاني وذاك الدواء للمرض الفلاني، وهكذا إلى أن جاء إلى دواء
فقيل له هذا لمرض لم نكتشفه – أو لم نخترعه – بعد... نعم سيخترعونه!، لدرجة أن بعض
الباحثين الغربيين أنفسهم بدأوا يصرخون وبأصوات متزايدة وجعلوا ينددون بذلك النوع
الممقوت من التحيز، حيث يشير بعضهم إلى أن شركات ومصانع الأدوية بدأت تركز جهودها
وتصرف أموالها على "التسويق" أكثر من "البحوث والتطوير"[30] ، وهذا تحيز شديد – صريح وليس بضمني! - للنموذج النفعي المادي
الاستهلاكي الغربي.
وللأسف الشديد فإن هذا التحيز
يعد في نظر كثير من أساتذة التسويق على أنه "مبادئ التسويق الحديث" ، ثم
يؤكدون بشكل مباشر على التسويق الحديث يشبع الحاجات الحالية و"المرتقبة"
والرغبات الصريحة و"الكامنة"، وقد وقفت على عدد من المراجع العربية
العلمية في التسويق، ووجدت أنها تذكر لنا بأن للتسويق الحديث أربعة أهداف وتجعل
الأول منها هو "تعظيم الاستهلاك"، والرابع هو تحسين جودة الحياة، وبين
هذا وذاك تعظيم رضاء المستهلكين و تعظيم فرص الاختيار.
والعجيب أن كل
"موضات" التسويق من "مصطلحات" و"نظريات"
و"أساليب" تكثف جهودها على "تعظيم الاستهلاك"، ولعل من آخرها
صرعة "التسويق العصبي"[31] والذي يقوم على استخدام التقنية وعلم الأعصاب في التأثير أو
"تخدير" العميل - الذي يزعمون "خدمته" – من أجل
"حلب" أمواله بل وقروضه!
والتسويق العصبي يقوم على علم الأعصاب المعرفي، ويقوم الباحثون
فيه باستخدام حقول مغناطيسية شديدة القوة، تقوم عبرها أجهزة الرنين المغناطيسي
بتتبع الهيموجلوبين الغني بالأكسجين والهيموجلوبين الخالي من الأكسجين في مخ
"العميل المرتقب"؛ مما يعطي الباحثين صورة تفصيلية لحظية عن اتجاه
وأماكن سريان الدم وأماكن الخلايا العصبية التي تنشط خلال تلك العملية، وهذا ما
يساعدهم على التعرف على تفضيلاته. ويشير (مونتاجيو) – أخصائي أعصاب – إلى أن
"بيبسى" تتفوق على " كوكاكولا " في اختبارات الطعم في الأغلب،
إلا أن الأخيرة تكسب الرهان في "معركة المبيعات"، بسبب تأثير العقل
الباطن للمستهلك، حيث يكون متأثراً بصورة كوكاكولا المليئة بالحياة، الأمر الذي
يفضي إلى ملأ جيوب كوكاكولا بالأموال![32]
وعلى الرغم من سوء ذلك المدخل
اللأخلاقي الذي يتبناه ما يسمى بالتسويق العصبي وشدة تطرفه، فإنه لا يستغرب أن
يتبناه بعض الباحثين والأكاديميين العرب، أما المداخل أو الأفكار التي تتضمن
تحيزات أكثر ضمنية وأشد خفاءً، فإن عدداً كبيراً يسارع في التقاطها ليدرسوها في
جامعاتنا دون شعور بأي خجل، بل إنها تدرس بنوع من "الفخامة الأكاديمية"،
من خلال الإيماء إلى معاشر الطلاب والجمهور إلى أن هذا المحاضر يعرض عليهم
"أحدث النتاج العلمي"، لاسيما إن كان ذلك النتاج ممهوراً بتزكيات علمية
من لدن كبار المنظرين[33]، ليكون دوره هو وطلابه أن "يبتكروا" طرقاً لتقليد تلك
الأفكار نظرياً و أن "يبدعوا" وسائل لمحاكاتها تطبيقياً، وهذا يبرهن على
أن مسألة التحيز غائبة تماماً، إذ أنها ليست من مفردات جهازهم المعرفي، وهذا ما
يدعو إلى استجلاب البعد الوجداني وترسيخه لديهم بجانب البعد المفاهيمي.
الأنفة الثقافية: الماهية
والدلالات
إبان الأيام الأولى لمصطلح
"الأنفة الثقافية"، وبعد "تسريبي" إياه في بعض الأبحاث
والمقالات بشكله المبدئي، حدث أن سألني مهندس عن معناه؟ هو قرأ المصطلح في سياق
تلك الأبحاث والمقالات لكنه لم يستوعبه، فجاء مستشكلاً: ماذا تريد بالضبط؟ لا أدري
ما الذي جعلني اصطاد مثالاً عملياً بل حياتياً من بيئة الهندسة التي يستوعبها هو
جيداً، فقلت لصاحبي، تخيل أنك شاهدت عمارة
جميلة، فدخلت وخرجت، وعلوت ونزلت، وتأملات الغرف والدرج وتفحصت المقاسات وفتحات
الإضاءة والتهوية...ثم أدركت أن ذلك يعود إلى روعة تصاميمها الهندسية وذكائها، ثم
مضيت أقول له: في تلك الحالة هل ستقوم بطلب ذلك التصميم؟ فقال من المحتمل جداً،
فقلت هل ستطبقه بحذافيره، فقال قطعاً لا، فقلت لم؟ ، فقال بعد أن فرك ذقنه،
بالتأكيد أن لي بعض المواصفات الخاصة، ولذلك سأقوم بتعديله وفق تلك المواصفات، مع
أخذ رأي زوجتي أيضاً. فقلت له هذا المعنى الذي عبرت عنه بقولك" قطعاً لا ..
سأعدله .. لي مواصفاتي الخاصة .. سأستشير زوجتي، هذا تماماً ما أقصده بـ
"الأنفة الثقافية"!
تلك هي الدلالة العامة بل ربما
المعنى النهائي الذي يجب أن يكون قاراً في النفس التي تتلقاه، ومصطلح "الأنفة
الثقافية" – وفق المعنى السابق -
يتعاطى مع البعد الوجداني بشكل أكثر من مصطلح "التحيز" الذي يميل
إلى "اليبوسة المفاهيمية"، ربما لأن الأول له إرتكازات أو إحالات نفسية
مباشرة، كما أنه يوظف مفردتين – أنفة ثقافية! - بطريقة "إيحائية"، أي
موجهة لنوع الاستجابة أو السلوك المتوقع للمتلقي، ومن حيث الدلالة للإنسان العربي
يمكننا ملاحظة أن كلمة "أنفة" بحد ذاتها تشكّل محفزاً لسلوك عربي أصيل
يبعث على الاعتزاز، لاسيما أن الكلمة نفسها تحمل خصوصية شديدة لذلك الإنسان سواء
من حيث قالبها اللغوي أو مكنونها الأخلاقي، وهنا أتذكر الصعوبة البالغة التي
وجهتني حين طلب مني ترجمة ملخص البحث الذي استخدمت فيه ذلك المصطلح لأول مرة، فقد
عجزت عن الظفر بكلمة ملائمة في اللغة الإنجليزية، مما ألجأني إلى اثنين من
الأكاديميين المتخصصين في اللغة الإنجليزية، كلاهما تعذّر عليه الأمر، مما دفعني
للإتصال بصديقي البروفيسور سليم الحسني[34] – أستاذ كرسي الهندسة الميكانيكية سابقا وأستاذ
الحضارة الإسلامية بجامعة مانشستر حالياً – ففكر ملياً وقال لا أجد غير: Cultural
Pride ككلمة تحاول الاقتراب من الحدود
البعيدة لـ "الأنفة الثقافية"،
وأظنه محقاً فيما ذهب إليه، مما جعلني أتبنى تلك الترجمة في ذلك البحث.
لا أظن أنني توصلت إلى تعريف
جامع مانع للأنفة الثقافية، بل إنني أعتقد بأنه لا يتوجب علي ذلك، على الأقل في
المراحل الأولى لتشكل المصطلح وبناء معانيه الداخلية واستكناه دلالاته واستكشاف
مؤشراته. إن هذا المصطلح يعكس مستوى قناعة الباحثين والمثقفين العرب وقبولهم لتبني
نماذج ونظريات ومصطلحات معرفية وفلسفية ومنهجية وعلمية لا تتناغم مع المركّب
الحضاري العربي الإسلامي[35]. وهذا المفهوم يجب أن يشمل كل إنسان لا تتحرك عنده المعاني الداخلية
التي تبرهن على أن له مواصفات خاصة ... تماماً كالمعاني التي تم استثارتها عند
صاحبنا المهندس. وهذا يعني أن غياب أو ضعف تلك المعاني يعكس درجة منخفضة في سلم
الأنفة الثقافية والعكس بالعكس.
وهنا تتضح بعض الأسباب التي
تدعونا إلى النظر إلى الأنفة الثقافية باعتبارها انعكاساً جزئياً للتحيز، وقلنا
انعكاس جزئي نظراً لتكثف معاني الأنفة الثقافية حول المعاني الوجدانية المكتنزة في
مصطلح التحيز، وهذا لا يعني البتة أن الأنفة الثقافية كمصطلح لا يعكس غير تلك
المعاني الوجدانية المنحبسة في إطار مصطلح التحيز، كلا فهو مصطلح يحمل دلالات
تتعدى ذلك، غير أن الذي يهمنا الآن هو التأكيد على تلك الانعكاسات أو التقاطعات في
المعاني، لاسيما أننا لا نرمي إلى الاكتفاء بمجرد الانعكاس بل نجهد لأن تكون
"الأنفة الثقافية" ضمن الأدوات المنهجية لاستكشاف أو قياس عوامل أو مؤشرات أو محكات "التحيز" في الفضاء البحثي بشكل
خاص والميدان الفكري بشكل عام، ويعكف الباحث على تطوير تلك الأدوات، لتتحقق فائدته المنهجية في الوصف والتفسير
والتنبؤ للأحداث والظواهر.
لقد أدى غياب مسألة التحيز إلى –
ضمن مسببات أخرى - نتيجة خطيرة للغاية تجسدت في ضعف الإنتاج البحثي الإبداعي العربي في مجال العلوم
الإدارية وغيرها، وكأن الباحثين العرب ينتظرون نظراءهم الغربيين أن يتفضلوا عليهم
بنماذج ونظريات ومصطلحات لكي يستخدموها في مجال العلوم الإدارية وعلوم التربية
والنفس والاجتماع. ويجسد ذلك عاراً فلسفيا وفكرياً يجب التخلص منه، العار في أن لا
نتوفر على قدر كافٍٍ من "الأنفة الثقافية" حيث أن انعدامها أو ضعفها
يجعلنا نستمر في فضاء الفكر والتحضر "وهماً"؛ متسلحين بعضلات التفكير
الميكانيكي، الذي ينقل لنا الأفكار ويجربها ويختبرها غير أنه لا يصنعها!
إن كان ثمة من ينتظر غوثاً
فكرياً أو فلسفياً و مدداً منهجياً أو إجرائياً من قبل الغربيين، فإنني أقول لهم
بأن جملة متزايدة من الباحثين الغربيين بدأوا يرفعون شعارات بشكل مباشر أو غير
مباشر مثل: "هذه الفكرة قد لا تناسبكم"، "هذه الفلسفة ليست
لكم"، "انتبهوا لخصوصيتكم الثقافية". وفي هذا الصدد أشير على عجل إلى بعض مقولات بعض
الباحثين الغربيين. فمثلاً يقول شيريف و
ليفي Shiraev & Levy أن السلوك الإنساني
ونماذج التفكير تتشكل وتتطور في بيئات مختلفة مما يجعلها تختلف من مجموعة ثقافية
إلى مجموعة أخرى[36]. ويشاطرهم الرأي في هذا جمع كبير من الباحثين، من هم على سبيل
المثال: هوفستد و تريندز[37].
بل ذهب تريندز إلى اختراع مصطلح
"الأعراض الثقافية أو المتلازمات الثقافية" Cultural Syndromes، حيث يقصد به الأنماط المشتركة من الاتجاهات والمعتقدات
والتفضيلات والعادات والقيم التي تنتظم في إطار يؤمن به مجموعة من الناس؛ يتكلمون
لغة واحدة ويعيشون في بقعة محددة. وطالب تريندز بوجوب مراعاة التباين في الأنماط
الثقافية والحضارية.
كما أن ثمة محاولات بحثية أدت
إلى نشوء حركة بحثية تؤمن بمبدأ "التنوع الثقافي / الحضاري"[38]
Multiculturalism
، ويلمس القارئ لأدبيات هذه الحركة
الوليدة أن لها بعداً سياسياً[39]
واضحاً حيث تطالب بمبدأ المساواة بين الحضارات ووجوب الإقرار أن لا فضل لثقافة أو
لحضارة على أخرى بناء على معايير مسبقة (أو ما يسميها البعض حتى من مثقفينا
بالمعايير العالمية)، وإنما هناك تلون ثقافي وتنوع حضاري.
بل تعدى الاهتمام بهذه القضية
مجرد بحوث تنشر في الدوريات العلمية، إلى بلورة حقول معرفية متكاملة لها فلسفتها وأهدافها، وهي حقول تعنى بقضايا
تأثير الثقافة والحضارة على السلوك الإنساني، وتفكيره وإداركه، ودوافعه ومشاعره،
وآلية التطوير الذاتي والتفاعل الاجتماعي. ومن ابرز هذه الحقول حقل "علم
النفس الثقافي المقارن"[40]
Cross-Cultural
Psychology.
ولكن وعلى الرغم من تلك البحوث
الجادة، نشير إلى حتمية تلبسنا بقناعة بل إيمان أكيد بخصوصيتنا الثقافية والحضارية
في إطار الانفتاح الواعي على دوائر الحكمة الإنسانية المشتركة. كما أنني أعتقد أنه
آن الأوان لكي نجلي ونحدد أبعاد ومجالات وشروط تبني مبدأ "البعد الإنساني
المشترك" في فضاء التثاقف مع الآخر. هذا المبدأ الذي تضخم في عقول ووجدان بعض
الباحثين العرب وتماهى مع دوائر الخصوصية، لدرجة أن بعضهم ينفي وبطرق مختلفة حتمية
الخصوصية ويعدها وصمة عار وتخلف.
ونحن بدورنا هنا نتساءل عن قدر
الانفتاح التثاقفي للحضارة الغربية، ثقافة الرجل الأبيض؟ بمعنى آخر نتساءل:
هل تتوفر الحضارة الغربية على
درجة من الانفتاح الثقافي مع ما تسميه بـ "العالم الثالث"[41]؟
ما هي الثقافية العالمية،
أدباً، وفناً، وفكراً؟
أليست الثقافة العالمية دائماً
هي ثقافة الرجل الأبيض (عدا في حالات ترويجية رخيصة!)؟
ولذا نقول لتلك الفئة من
الباحثين والمثقفين العرب أرونا الفلسفة ذات الطابع العربي الإسلامي التي التصقت
برحم الفلسفة الغربية الحديثة التي خالطت ثقافتنا العربية الإسلامية لعدة قرون!
أين هي في مختلف مجالات الفلسفة؟ أين هي في (الانتولوجيا)؟ أين هي في (الابستمولوجيا)؟ أين هي في
(الميثدولوجيا)؟
ويتعين علينا أن نسترعي
الانتباه إلى أننا حينما سقنا بعض مظاهر النشاط البحثي الغربي حول مسألة وجوب
مراعاة الخصوصية الثقافية والحضارية، لم يكن سوقنا لذلك من باب التأسيس المنهجي
الذي نصير به إلى نتائج حاسمة كتلك التي تتعلق بمسألة الخصوصية، وإنما كان ذلك
السوق من باب الاستئناس الذي نستجلب به بعض الأدبيات الغربية التي قد نحتاجها مع
بعض الباحثين والمثقفين العرب الذين أخذتهم "سكرة" الفكر الغربي وتورطوا
بـ "عضلات" قوية تدفعهم لنقل نتاج ذلك الفكر، نعم نحتاج لتلك الأدبيات
لإيقاظ أولئك من تلك السكرة بما يفهمونه أو بما يقدرونه أو بما يحسنونه، حيث أنها
تمثل الأداة الوحيدة التي تجسّر قناة التواصل معهم، وبعد أن يستيقضوا يمكننا إيراد
أدلتنا وشواهدنا ومبرراتنا نحن، حينها نتفاءل أن ثمة لغة مشتركة قد تأسست أدواتها
وبنيت دلالاتها.
ولعلنا نختم باقتراح بعض
الأفكار التي تجعل من "الأنفة الثقافية" أداة لاستكشاف نوعية التحيز
وقياس كميته في فضائنا البحثي والفكري. فمن ذلك أن نحلل نوعية/كمية المراجع في
الأبحاث العربية في العلوم الاجتماعية، ونصل إلى الكشف عن أسرار تعلق بعض باحثينا
ومثقفينا بالمصادر الغربية بل والافتخار بها، ونرى أهمية توجيه بعض الجهود البحثية
للكشف عن أنماط شخصياتهم وأنماط تفكيرهم وطبيعة تخصصاتهم ونوعية القيادات العلمية
في أقسامهم وكلياتهم ومؤسساتهم التي ينتمون إليها ونحو ذلك.
ولولا أن البحث العلمي – في نظر
البعض - يصعب تقنينه وفق معايير محددة، لأقترحت إيجاد ما يشبه شهادة
"الأيزو" في الأبحاث العربية، بحيث نمنحها للباحثين الذين ينشطون في
ممارسة الإبداع في نطاق تراثهم مع الاشتغال بالتنقيب عن تحيزاتنا التي تخصنا
وتفحصها وفرزها ومعالجتها بحسب نوعيتها وطبيعة آثارها، مع الإفادة من الخبرات
الإنسانية والتي لا تتأخذ من الفكر الغربي "قبلة" أو مرتكزا مرجعياً
نهائيا ولا حتى مفضلا، بل هو خبرة ضمن خبرات، يجري العقل فيها معايير التقييم وفق
المنهجية العلمية لا غير.
ومن المؤشرات الإيجابية لما
ننشده من الأبحاث وفق تلك الرؤية، كثرة ونوعية عدد الإحالات المرجعية إلى الدراسات
والأبحاث العربية[42]، وذلك لتشجيع الإنضاج المتبادل لمخرجات الفكر العربي سواء كان ذلك
في شكل مفاهيم أو مصطلحات أو نظريات أو نماذج أو فرضيات، مما يعلن تدشين مرحلة
التراكمية – المنشودة المفقودة – في العملية البحثية والفكرية العربية؛ تلك
التراكمية التي تعد شرطاً رئيساً لأي فكر إنساني ينشد أصحابه تطويره وبناء أو
تقوية إطاره المفاهيمي والفلسفي والمنهجي والإجرائي والعلمي، ويمكن أن نضع اسماً
لذلك النوع من الباحثين، ونمنحهم سلة من التفضيلات البحثية وربما التمويلية، لنشجع
الآخرين على اقتفاء آثارهم، بالإضافة إلى وضع شعار يطبع على كافة الكتب والمجلات
التي تتبنى ذلك النفس الإبداعي وتقريرها في كلياتنا وأقسامنا العلمية، كل ذلك في
محالاوت جادة لكي نمهد السبيل لأن ننتقل من: "تفكير الآذان" إلى
"تفكير الأذهان"[43]، حينها يمكننا أن نوقع مع ذواتنا على معاهدة البدء بمرحلة
الانعتاق من التخلف والجمود والتبعية إلى النهضة والتجديد والإبداع، وذلك أننا
بتنا نمتلك الكلفة وندرك الشفرة!
· قسم إدارة الأعمال – جامعة القصيم –
السعودية.
[1] د. عبدالوهاب المسيري
(1418هـ)، فقه التحيز، المقدمة، ط 3، هيرندن ، فيرجينيا: المعهد العالمي للفكر
الإسلامي، ص 30.
[3] استخدم مصطلح الاستلاب هنا
ليعكس الحالة النفسية الفكرية التي تقود الإنسان إلى أن يعادي فيها مكونات ذاته
الحقيقية ويتخذ حيالها موقفاً متشنجاً أو متعصباً أو إقصائياً، وينبع ذلك الموقف
عادة من موقف مرجعية الآخر والذي قد يكون معادياً أو مهمشاً له.
[5] د.هادي الهيتي (2003)، إشكالية المستقبل في الوعي العربي، بيروت: مركز دراسات
الوحدة العربية، ص 42.
[6] د. سهيل عناية الله، (1999)، استشراف مستقبل
الأمة، إسلامية المعرفة، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، السنة 5، ع 17، ص 43-88.
- Galtung, J. (1988), Essays in peace
research, vols. 1-6, Copenhagen:
Christian Ejlers.
-
Nandy, A. (1987), Tradations, tyranny and utopias, Delhi: Oxford University Press.
[8] د.هادي الهيتي ، مرجع سبق ذكره.
[9] د. سهيل عناية الله، مرجع سبق ذكره.
[11] أنظر: المقدمة التي كتبها
د. طه جابر العلواني، فقه التحيز، د. عبدالوهاب المسيري (المحرر) مرجع سبق ذكره، ص
10-11.
- Tashakkori, A. and Teddlie, C.
(1998), Mixed methodology, Thousand Oaks, London: Sage
Publications.
- Urmson, J. and Ree,
J (1996), The Concise encyclopedia of Western philosophy and philosophers, London, NY:
Routledge.
- Klee , R. (ed.) (1999), Scientific inquiry, NY, Oxford: Oxford University
Press.
-
د. خالد سليمان (2003)، المناهج النوعية والكمية: قراءة أولية في المنطلقات
المعرفية، إسلامية المعرفة، س 9، ع 33-34، ص، 181-222.
- د. رجاء أبو علاّم (2001)، مناهج البحث في العلوم النفسية
والتربوية، القاهرة: دار النشر للجامعات.
- د. أنور الشرقاوي
(1994)، "الابتكار لدى تلاميذ مراحل التعليم قبل الجامعي في البحوث
العربية- دراسة تحليلية من أجل نموذج للابتكارية" ندوة دور المدرسة والأسرة
والمجتمع في تنمية الابتكار، قطر.
- د. ضياء
الدين زاهر (1996)، "البحث العلمي الاجتماعي العربي: دراسة تحليلية نقدية " مستقبل التربية العربية، م 2 (6-7)،
ص 13-50.
-
د. عبدالله البريدي، (2004)، الإنتاج الإبداعي للأستاذ الجامعي في محيط تخصصه
باعتباره شرطاً للتجديد في العلوم الاجتماعية: بحث في بواعث المشكلة وتجلياتها،
ورقة بحثية مقدمة لندوة تنمية أعضاء هيئة التدريس في مؤسسات التعليم العالي-
التحديات والتطوير، كلية التربية – جامعة الملك سعود، الرياض.
[19] د. عبدالله البريدي، الإدارة العربية والتغيير: من النقل
الميكانيكي للأفكار إلى الصناعة الإبداعية (الملتقى الإداري الثالث للجمعية
السعودية للإدارة ، جدة، 29-3-/3/2005).
[20] Jang, S. and
Chung, M. (1997), Discursive contradiction of tradition and modernity in Korean
management practices, A case study og Samsung’s new management, in Cultural
complexity in organizations, Sackmann, S. (ed.), Thousand Oaks: Sage
Publications.
[23] نحن لا نطرح النموذج
الكوري ولا الياباني على أنه النموذج
الأرشد في هذا المجال، وإنما باعتباره نموذجاً مميزاً يستحق الدرس والتأمل.
د. حسين حريم (1997)، السلوك التنظيمي، عمان: دار زهران.
[26] وهو ما يطلق عليه الباحث
مسألة كيمياء الإيمان، أنظر سلسلة
المقالات التي نشرها الباحث في جريدة الجزيرة السعودية بعنوان:" المثقفون
الكارهون ذواتهم"، الأعداد: 12017- 12036-12041-12048
[30] Applbaum
K. (2006) Pharmaceutical Marketing and the Invention of the Medical Consumer.
PLoS Med 3(4): e189, (http://medicine.plosjournals.org).
- Frontline( 2004), Neuromarkting: Is It Coming to a Lab Near
You?, http://www.pbs.org
- Douglas R. ushkoff, (
2004). Reading the Consumer Mind: The age of
neuromarketing has dawned, http://www.cognitiveliberty.org
[32] ريم مهنا (2004)، اللعب في الدماغ .. أحدث صيحات
التسويق، الاسلام أون لاين www.islamonline.com)).
[33] من أمثال فيليب كوتلر Philip
Kotler والذي يعد
"شيخ التسويق"، واذكر بأن زميلاً عربياً ذكر لنا في مجلس القسم في
الجامعة كيف أنهم استطاعوا أن يظفروا بذلك الشيخ في عاصمة بلدهم وكيف كانت الروعة
والجمال في تلك السويعات التي قضوها معه والتي كلفتهم ما يقارب 70 ألف دولار، فكيف
يمكن لمثل هولاء الأخوة أن يفطنوا أصلاً لوجود قضية أسمها تحيز، فضلاً عن التنقيب
عنها!
[35] يستخدم د. عمر هارون الخليفة (2005) مصطلح
"الحساسية الثقافية" والذي يعكس عملية الشعور بالثقافة المحلية أو
الاستجابة الثقافية أو رد الفعل الثقافي أو القابلية أو الإيحائية للثقافة
المحلية، ويعتبر "الجمودية الثقافية" – بحسب تعبيره – مقابلاً للحساسية
الثقافية، ومن الواضح أن ثمة تقاطعات مع مصطلح الأنفة الثقافية الذي نتبناه، أنظر
بحثه بعنوان: توطين علم النفس في العالم العربي-
دراسة تجريبية لأبحاث الإبداع والذكاء والموهبة، في المؤتمر العلمي العربي لرعاية الموهوبين والمتفوقين، عمان، الأردن.
[36] Shiraev E. and
Levy D. (2001), Introduction to Cross-Cultural Psychology: Critical
Thinking and Contemporary Application , MA:
Allyn & Bacon.
[37] Hofstede, G.,
Culture's consequences: international differences in work-related values, Beverly Hills, CA:
Sage, 1980.
Triandis, H., The psychological
measurement of cultural syndromes, American Psychologist, vol. 51 (4), 1996,
pp. 407-415.
- Fowers, B.
and Richardson,
F. (1996), Why is multiculturalism good?, American Psychologist, vol. 51, pp.
609-621.
- Sears, D (1996), Presidential address: reflections
on the politics of multiculturalism in American society, Political Psychology,
vol. 17(3), pp. 409-420.
- Berry, J., Segall, M. and Kagitcibasi, C. (eds.),
Handbook of cross-cultural psychology: social behaviour and applications, Needham Heights, MA:
Allyn and Bacon.
- Shiraev, E. and Levy, D. (2001), op., cit.
[41] مصطلح مهين، ويكشف عن جانب من الاستعلائية
"الحضارية" لثقافة الرجل الأبيض! الرجل الأبيض الذي لا يكاد يرى أي
حسنات أو إيجابيات في ما يسميه بالعالم الثالث!
[42] في دراسة د. عمر الخليفة بعض الخطوات المنهجية
الإجرائية التي يمكن الإفادة منها في اختبار نوعية الإحالات المرجعية في الأبحاث
العربية وتفسير دلالاتها، مرجع سبق ذكره.
[43] تفكير الآذان وتفكير الأذهان مستقاة من مقولة
للدكتور عبدالوهاب المسيري حين قال بأننا نفكر في آذاننا، مرجع سبق ذكره.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق