الخميس، 20 يونيو 2013

من الشعار إلى الإشهار:أو آليات الحرب اللغوية في الصراع الوجودي المعاصر



من الشعار إلى الإشهار:أو آليات الحرب اللغوية في الصراع الوجودي المعاصر
                                                                   د.إدريس مقبول·
مقدمة:
لا تكون هناك إرادة للتواصل الفعلي والحقيقي بين الأفراد فيما بينهم والجماعات فيما بينها حتى يتحقق شرط متوار خلف سجف النفس المتفاعلة، هذا الشرط هو سعي المتواصلين في فهم مناسب لبعضهم البعض، يدفع عن كل طرف تهمة الالتفاف على الصورة الحقيقية للطرف الآخر بتشويهها بالنقص أو الزيادة. ولا أدل على ذلك من أن اغتصاب التواصل مأتاه من ضعف الأطراف في تحصيل القدر الكافي واللازم من هذا الشرط ذي السمتين الوجودية والأخلاقية. كما أنه في المقابل بالنتيجة السلوكية التدافعية لا تنجر الأمم للخصومات ولا الأفراد للمصادمات إلا إذا صار من يفترض فيهم تصحيح الصورة وضبطها إلى الإسهام في تبديلها وتزييفها.
وأمر نجاح التواصل الحضاري راجع في الأصل إلى عناصر تداولية متنوعة على رأسها العنصر الذواتي الذي يقع تحته ما يسمى بالمعرفة المشتركة Mutual Knowledge بين المتخاطبين، أو ما يسمى بالأرضية المشتركة Common Ground، وهي معرفة بنيوية ذات نسيج معقد التركيب ([1])، هذه المعرفة هي التي تفضي للدلالة البينة، وهي في حقيقتها جملة من الاعتقادات والتصورات عن الذات والغير والأشياء والمعاني، يشترك فيها المتكلم والمخاطب مع جمهور الناطقين، وهي أنواع: لغوية وثقافية وعملية وحوارية([2]). ونحن حين نتحدث عن التواصل اللغوي يعني عندنا أن ثمة إنسانية مشتركة، وأن ثمة ثقة في أنه يمكن توصيل المعنى كما يقول الدكتور عبد الوهاب المسيري، وأن ثمة علاقة بين الذات والموضوع والفكر والواقع وعلاقة بين ما يقال وكيف يقال، وعلاقة بين الدال والمدلول بتأكيد انفصالهما واتصالهما في الوقت نفسه([3]).
وإذا جاز عند بعضهم أن هذه المعرفة المشتركة مجردة حتى أنها لا تتقيد بالأخلاق فلأن ذلك راجع لاعتقادهم في حضارة القول المقطوع عن العمل([4]). وفي ذلك من المضار ما لا يخفى على كل ذي عقل راجح. لأن انقطاع التواصل يشتد ويعبث بالصورة التي يرسمها كل طرف عن الآخر حتى تصير الأذهان حاملة لما تشتهي من أوزار الأوهام والأهواء لا لما هو كائن من الوقائع والمشاهدات.
إن الإنسان المتفاعل بالتواصل والذي يسعى للكمال ينبغي أن يكون متفقدا لجميع أخلاقه وبالخصوص في كلامه، متيقظا لجميع معايبه وبالخصوص ما يمكن أن يعتري سلوك سؤاله وجوابه، متحرزا من دخول النقص عليه في معاملة المخاطبين بما يليق بهم لأنهم في الجوهر مرآته. وكما للتخاطب نحو لغوي هو مجموع القواعد التركيبية التي ينبغي احترامها من قبل المتكلمين، له نحو أدبي وأخلاقي هو مجموع القواعد التداولية والسلوكية التي ينبغي الالتزام بها حتى نتجنب انقطاع التواصل وانصرام الأواصر. 
فأما الطريقة التي توصلنا إلى الكمال وتحفظ علينا الإتمام التواصلي فهي أن نصرف عنايتنا إلى النظر في أصناف الناس ومراتبهم وطباعهم واختلافهم فنجعل غرضنا توفية كل واحد حقه ومستحقه من الأدب الذي يناسبه والأخلاق التي تدفع شره وتجلب خيره. وتستحثه على طلب الاستمرار في التواصل، وتشجعه على تغذيته واستثماره وتطويره لأنه وقف على حسناته التي لا تنحد في الإفادة والاستفادة، بل تمتد لِيُحَصِّلَ من ورائها المتخاطبون فضيلة التعارف، ويدفعوا عن أنفسهم بالتواصل معاطب العزلة وآفات الصمت في الخلوة والانعزال عن عالم الناس.
وإذا كان هذا تصورنا عن مرتبة الركن الأخلاقي في تأسيس حوار حضاري وبناء بين بني البشر جماعات ووحدانا، فإن واقع الحال اليوم ينبي عن خلل خطير في تدشين التواصل ومعرفة من هو أهل له ممن لا يقع تحت الواجب مواصلته ومجاملته وتألفه. فبات الخلط هو سيد الموقف والتضارب هو إمامه، وصار الحال إلى جهل بقواعد التواصل العامة في شقها الوجوبي المحكوم بالأحكام الشرعية كفائيا وعينيا. فأدى الأمر إلى فشو آفتين:
الآفة الأولى الاندماج المضعف ، وهو ضرب من الذوبان في تحيزات الآخر، ويسميه الدكتور المسيري  بالتطبيع المعرفي والتحليلي للظواهر الصهيونية، إذ يهمل كثير من الدارسـين خصـوصية الظاهرة الصهـيونية الإسرائيلية من حـيث هي ظـاهرة استيطانية إحلالية ذات ديباجات يهودية. يتوهمون أن الواقعية تقتضي الاعتراف بالعدو الصهيوني وأن السلام هو الطريق الوحيد للتعايش، وما دروا أن"السلام لا يعقل إلا في سياق تمتع كل واحد من الطرفين بحقوقه كاملة،أما في غير هذا السياق، فلا يكون إلا حربا على الذي نقصت حقوقه منهما"([5])، وهؤلاء المُطَبِعُون هم الذين يتحملون مسؤولية قتل الوجدان واغتيال القدرة على التحرك. فلا ترى لهم نشاطا إلا في تسويغ العجز وتسويغ بقاء من صنعوه في مناصبهم ومواقعهم.
والآفة الثانية الانقطاع المسرف وهو ضرب من التحيز الرديء([6]) المتمثل في التكفير والمدابرة عند نفر آخر. يعتقدون أن الحق لا يغادر ديارهم وأن الصواب لا يبرح حياضهم، وهم في تشنج دائم وإصرار على محاكمة النيات، واتهام الآخرين بغير وجه حق، وفي ذلك من العسف ومصادرة حقوق الآخرين في التفكير ما يوطئ للتكفير أو القتل العمد للفكر واغتصاب التواصل بين الجماعات والأمم.
 إن جانبا كبيرا من التواصل اليوم بين الكائنات الاجتماعية في العالمين الصغير والكبير هو عبارة عن غارات لغوية وتفجير دائم ومستمر لعبوات ناسفة ذات أشكال لسانية .وفي الصراع الدولي يمكن للناظر أن يسجل اعتماد القطب الاستكباري بزعامة أمريكا ومعها إسرائيل استراتيجية عدوانية في ما يمكن أن نسميه بالحرب اللغوية، هذه الاستراتيجية تعتمد ثلاثة أساليب:
الأول:التزوير من خلال عملية التهويد الذي يستهدف طمس مكون التاريخ:
ليس يخفى أن عملية التزوير التي تعد بحق قلبا لنظام الأحداث والوقائع وتشويها لمعالم الأشياء في عالم الناس تكاد تكون أخطر الجرائم القيمية في السلم التصارفي على الإطلاق لانتهاكها الشرط الأخلاقي المميز للفاعلية الإنسانية في وجودها. وإذا تأملنا اشتقاق التزوير من الزور الذي يرتبط بشهادة الباطل فهمنا كيف استوجب هذا الفعل التشنيع والتقبيح.
وقد يقال بان عمليات التزوير ليست سوى تصرف إنساني في حدود التدافع على الحق والمصالح بين بني البشر يبرره تنازع الغلبة والتملك؟
فيقال جوابا على هذا بأن التصرفات الإنسانية التي هي محض اجتهادات في تدبير طرق السلوك والتواصل والتدافع راجعة للمعطى التربوي البيداغوجي، ففيها ما هو أخلاقي مقبول وفيها ما هو غير أخلاقي فهو غير مقبول أيا كانت الأسباب والتعلات.كحال المتنافسين في حلبة السباق، إذ التنافس لا يعطي الحق في اختراق الحق، الذي هو جملة مفروضات وحدود فنية وأخلاقية تضمن شفافية الصراع ونزاهته.
وفي واقع الاحتلال الاسرائيلي والهيمنة الأمريكية تظل آلية التزوير أحد أهم الوسائل الاحتيالية في الحرب على أصحاب الحق، والمثال على ذلك نأخذه من عمليات التهويد Judaization الإسرائيلية المستمرة التي لا تتوقف في حرب إسرائيل على الفلسطينيين؛ متوخية بذلك تطبيع العالم المشاهد لجرائمها اليومية مع مدونتها التهويدية التي أفلحت في كثير من الأحيان في تحقيقها نظرا لسلطة الإعلام في ترسيخ الأباطيل وبناء الأوهام والأكاذيب.
في فلسطين المحتلة عملت إسرائيل الغاصبة على تزوير خبيث لأسماء الأماكن الفلسطينية في اتجاه تهويدها عبر تحريف (دوالها)أسمائها الحقيقية التفافا على معطيات التاريخ والجغرافيا لتمكن لنفسها على الأرض، حتى بات، وللأسف الشديد ، العالم كله منساقا في تحليلاته مع التيار التحريفي وناسيا أو متناسيا أصل الحق الضائع وراء اللغة الجديدة، لقد أحلت عمليات التهويد والتزوير اللسانية نظاما جديدا من الأسماء والألقاب ، أحلت نظاما جديدا مزورا من اللغة المزيفة بدل اللغة الحقيقية وبدل الأسماء الأصلية."ذلك أن تهويد فلسطين يجسد جميع المنطلقات العنصرية والعدوانية للصهيونية، ويكشف محاولات التضليل والخداع التي روجها الصهيونيون حول علاقتهم بأرض فلسطين، بدعم كامل من الدول الأوروبية الغربية , ومن ثم فإن تهويد فلسطين يعبِّر عن الظلم الاستعماري الغربي الذي لحق بالشعب الفلسطيني خصوصاً والأمة العربية بوجه عام"([7]).
ولنقف على هول هذه الجريمة التاريخية ذات البعد اللساني يمكن أن نتأمل جدول أسماء الأماكن التالية ([8]):
الاسم العبري للمدينة
الاسم العربي
الموقع التقريبي
- تسفات
وسط الجليل الأعلى الشرقي
- عكو
عكا
الساحل الشمالي لفلسطين
- طفرياه
طبرية
على الشاطئ الغربي لبحيرة طبرية
- نتسيريت
الناصرة
وسط الجليل الأسفل
- بيت شآن
بيسان
وسط غور نهر الأردن
- كيساري
قيسارية
الساحل الفلسطيني الأوسط
- شفارعام
شفاعمرو
منطقة حيفا
- لخيش
لاشيش
السهل الداخلي الجنوبي(مقاطعة عسقلان)
- يافو
يافا
الساحل الساحلي الأوسط
- أشدود
أسدود
الساحل الساحلي الجنوبي
- اشكلون
عسقلان
السهل الساحلي الجنوبي
- رملاه
الرملة
السهل الداخلي الأوسط
- لود
اللد
السهل الداخلي الأوسط
- حديرا
الخضيرة
السهل الساحلي،جنوب حيفا
- شليم
نابلس
شمالي الضفة الغربية
- جنيم
جنين
شمالي الضفة الغربية
- بيت ليحيم
بيت لحم
جنوب القدس
- حفرون
الخليل
جنوبي الضفة الغربية
- بئير شيفع
بير السبع
شمالي النقب
- ايلات
المرشرش
أقصى جنوبي النقب
- يروشلايم
القدس
وسط البلاد
والثاني من أساليب هذه الاستراتيجية هو ما نسميه:التبرير المراوغ من خلال عملية المبادءة بالعدوان الذي يستهدف السكون في كهوف المظلومية الزائفة والالتفاف الأفعواني على مفهوم الحق. ولعل أوضح مثال على ذلك ما تقوم به إسرائيل من غزو وعدوان مستمر على الفلسطينيين ومؤخرا على لبنان، وما تقوم به الولايات المتحدة الأمريكية هنا وهناك من عمليات ضرب وتهديد ومصادرة لحقوق الشعوب في الوقت الذي تباشر فيه آلتها الإعلامية حملة موازية بل وسابقة ولاحقة للعدوان تعمل على تبرير وجه الظلم بأنه دفاع عن القيم الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والسلم الدولي وما هنالك من شعارات زائفة..ليس أقلها اليوم محاربة الإرهاب الذي بات شماعة تعلق عليها قاذورات هجماتها وجحيم حربها الكونية على كل معارض لسياستها الخارجية أفرادا كانوا أو جماعات.إنها حرب على كل العقول الممانعة في زمن الصمت الذي صنعته أمريكا على عينها وبرعايتها وتصميمها.
في إسرائيل اليوم ينادي كثيرون بأن الدولة العبرية لا تريد سوى السلام مع محيطها الإقليمي، ولهذا فهي لا تدخل أي حرب إلا دفاعا عن حقها في الكينونة. وواقع الحال والتاريخ يثبت أن الكيان الصهيوني كيان استعماري بامتياز ، وهو لا يستطيع أن يعيش إلا داخل نسق الحرب على الآخرين وتجريدهم من حقوقهم، فالفـكرة الصهـيونية تبريرية منذ أن قامت وكما عرفـها المفكرون الصهاينةهي([9]):
أ) إقامة إسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات كهدف إستراتيجي يتم تنفيذه على مراحل.
ب) تنفيذ هذه الفكرة بالحرب العدوانية التوسعية الاستيطانية وضخ سـكان المنطقـة إلى الخارج بالإرهاب وضخ يهود العالم إلى الدولة بالإكراه.
جـ) عدم وضع دستور بالمعنى التقليدي لدولة الكيان الصهيوني والاكتفاء بمجموعة قوانين أساسية وذلك لتفادي وضع حدود للدولة، تقيد العمل من أجل تحقيق إسرائيل الكبرى .

في منطق التبرير –كما يكشف الدكتور المسيري- يصير"اغتصاب أرض فلسطين" إعلان استقلال لإسرائيل"، كما يصير الدور القتالي لجيش الاحتلال «دفاعاً مشروعاً عن النفس» وتتحول علامات ورموز كثيرة عن مراجعها التقليدية الأصلية لتعبر عن مضامين جديدة لا تخدم في الأخير إلا المستعمر الصهيوني..
إن الغرب نفسه الذي ينتصب في كل لحظة وحين ليدافع عن إسرائيل ولم يكن يوما منصفا، ليبرر أيضا موقفه هذا بحق الشعب اليهودي في الدفاع عن نفسه، ويوم اختطفت المقاومة في فلسطين ولبنان  جنديا أو جنديين هب الغرب الممالئ المناوئ ليطالب بصوت واحد بإطلاق سراح المحتلين الأسرى، وهو الذي لم يحرك ساكنا منذ سنين وأطفال الانتفاضة ورجال المقاومة ونساؤها يعتقلون ويحشرون في معتقلات الدولة العبرية ويعاملون بحسب تقارير المنظمة العالمية لحقوق الانسان المحسوبة على الغرب نفسه أبشع معاملة.إنها تحيزات الغرب مرة أخرى في تسطير مفاهيم حقوق الإنسان بحسب مقاسات جاهزة وصارمة لا تتسع للكائن العربي او المسلم، لانه ببساطة خارج الدائرة أو المعيار، بل هو في النموذج الإدراكي المستتر ينتمي لصنف غير "الإنسان" كما تتعارفه المصالح والتقاطعات الغربية، إنه الكائن الغريب المخيف"الإرهابي"، الظالم على الدوام، والذي يشكل حضوره تشغيبا على مسيرة حضارة الغرب "المتحضر".
إن الذي ينبغي معرفته وعدم تجاهله-بحسب التعرية النقدية في الرؤية المسيرية- هو أن إسرائيل درع غربي ومخلب أمريكي في الشرق العربي([10])، وإسرائيل مشروع غربي يحمي مصالحه في المنطقة، يذكر المؤرخ الإسرائيلي تالمون بأن ما يُسمَّى «الحضارة اليهودية» جزء من التشكيل الحضاري الغربي. وهذا الإحساس بالانتماء للغرب أو للحضارة اليهودية أو للحضارة اليهودية الغربية، يجعل وجود إسرائيل في الشرق الأوسط مسألة عرضية غير مرتبطة بجذورها الحضارية وإنما بوظيفتها القتالية. فجذور المستوطنين الصهاينة تضرب في الغرب (وطنهم الأصلي) وفي الحضارة اليهودية، أما وظيفتهم فهي الدفاع عن الغرب في الشرق. فالمُستوطَن الصهيوني يوجد في الشرق العربي ولكنه ليس منه، شأنه في هذا شأن أية جماعة قتالية استيطانية. وهذا الإحساس يُذكِّر اليهودي بأنه منقـول من مكان لآخر، وأنه ينتمي إلى حضارة أخرى، وأن دولته هي دولة الشتات المشتولة([11]).
والثالث من أساليب هذه الاستراتيجية الماكرة هو عمليات التمرير من خلال بناء شعارات عدائية تستهدف النيل من الخصوم بطريقة تعمل فيها اللغة والصورة والسيناريو عملها النفسي في إحداث حالة من الاحباط الردعي المزمن. حيث اللغة لم تعد وسيلة توصيل بريء لمعلومات قصد الإفادة، بل تحولت من هذه المرتبة الدنيا لتصبح وسيلة من وسائل الهجوم في الحرب النفسية. كما تحولت إلى الواجهة التي تعبر فيها عن الخطط المضمرة والمسكوت عنها في الصراع، والآفاق التي تتوجه إليها الآلة في الحال والاستقبال دون أن ننسى ترابط هذا النوع من التركيبات الاسمية الملغومة بسياقات تاريخية تتجاوب فيما بينها على أرضية التصحيح الذاتي والانتقام المتناوب.
فمن أجل تبرير الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية في فلسطين، عمدت الإمبريالية والصهيونية العالمية إلى توظيف السينما الأمريكية ودعمها بأرصدة غير محددة([12])، لإنتاج أفلام دعائية تصور اليهودي مغلوبا على أمره لا يريد إلا العيش بسلام في أرض الأجداد والمعاد! وإزاء ذلك صورت الإنسان الفلسطيني بأنه ينشر الرعب والإرهاب في المنطقة، وهو الذي اغتصب القدس وسواها بعد أن كانت موطناً آمناً لليهود.
وقد أتقنت السينما الغربية إظهار هذه الكذبة الكبيرة بشكل واقعي وأكثر إقناعا. فبعض الأفلام تظهر بطلاً يكابد ويعاني من أجل عقيدته التي يؤمن بها والتي تظل طوال الفيلم غامضة مبهمة... بل وبمشاهد مأساوية تجعل المشاهد يتعاطف مع هذا البطل، وحيناً تُذرف الدموع لاجله...
وقبل أن ينتهي الفيلم للحظات وحينما يقتل هذا البطل يعرف المشاهد أنه يهودي([13]). وبمثل هذه الأفلام استطاعت السينما الأمريكية دعم الصهيونية العالمية والترويج لها و إقناع البعض للتعاطف معها. حرب لغوية وأيقونية يلعب فيها الحوار المدروس دورا دراميا خطيرا تتحول فيه الذئبان الشرسة إلى حملان وديعة تبعث على الشفقة.
وليست استخدامات اللغة بطريقة ماكرة إضمارية مقتصرة على مجال الفنون والآداب الصهيوينة بل هي صلب الخطاب الاستكباري في جميع منافذه ومجاليه وللتمثيل نأخذ الأمثلة التالية حتى نستبين أن اللغة لا توجد في فراغ كما يقول الدكتور المسيري ، وإنما داخل أطر إدراكية تجسد صورا مجازية ونماذج معرفية([14]):
المثال الأول(أمطار الصيف): ردا على العملية النوعية لرجال المقاومة الأشاوس والمسماة"الوهم المتبدد" والتي صدعت أسطورة الجيش الذي لا يقهر ولا ينال منه ،وفي أوج حرارة الصيف (25-6-2006) اندفع الجيش الإسرائيلي ينتقم من الشعب الفلسطيني بأكمله ليطلق سراح الجندي الأسير جلعاد شاليت في الوقت الذي يقبع فيه مئات الأسرى في سجون الصهاينة فسمى تلك العملية (أمطار الصيف)، وفي التركيب استعارة بيئية تستبطن مكونا هزئيا في ظاهره السكون وفي باطنه التوتر المتعدي بحيث لا تكون هذه الأمطار(الحملة العدوانية) إلا فجائية في غير إبانها وهذه الأمطار يحتمل أن تكون طوفانية متلفة لا تحمل رحمة ولا نفعا. إنها الأمطار التي تكسر أفق انتظار المنتظرين بعنفها وجبروتها. إن الصورة الاستعارية في (أمطار الصيف) هي صورة ترتبط عضويا في السياق الكوني ببنية عقائدية أسطورية فوقية  تتغذى بموروث توراتي يستهدف إثارة الانتباه إلى أن الأمطار عقاب إلهي للعصاة خاصة إذا كانت في فصل غير فصلها وعلى خلاف طبيعتها"أمطرهم الله عذابا".
          "أمطار الصيف" في المخيال اليهودي عقاب إلهي لأن"المطر" صورة من صور مشاركة الله في حروب اليهود، وفي الروايات التوراتية تنسب تلك الروح العدوانية إلى " يهوه " الاله المسّمى " ربّ الجنود "، فهي تؤكد على مشاركته في كلّ عدوان، فتغدو الحرب حربه والثأر ثأره والانتقام انتقامه.
المثال الثاني(عناقيد الغضب): هو في الأصل عنوان قصة كتبها الروائي الأمريكي ذو الأصول البولونية جون شتاينبك John Steinbeck (1902 – 1968) كتبها عام 1939 فساهمت في إحرازه على جائزة نوبل سنة 1962، وبين القصة والعملية لا تكاد تجد علاقة دلالية تذكر لأن مسار القصة إنساني، في حين أن العملية الإسرائيلية قمة في التوحش، وإذا تأملنا وجدناها استعارة فوق طبيعية تتفجر انزياحا بتأليفها بين مكونين أحدهما ينتمي لمجال الطبيعة النباتية وتحديدا(فاكهة العنب)، والثاني ينتمي لمجال مختلف تمام، هو مجال النفس الإنسانية في أشد حالاتها اضطرابا وتأججا ، تجلت الوحشية الصهيونية بشكل بارز من خلال العدوان الكبير الذي شنّه العدو على لبنان الشقيق  في الفترة الواقعة بين 11 و26 أبريل 1996م، والذي أطلق عليه العدو اسم حملة (عناقيد الغضب)، وكان الهدف المعلن لتلك العملية نزع سلاح المقاومة ومنع إطلاق الصواريخ على المستوطنات شمال فلسطين المحتلة والتي كانت تطلقها المقاومة لردع العدو وردّاً على اعتداءاته المتكررة على المدنيين اللبنانيين. في الصورة الاستعارية النارية تحديد لطبيعة العملية العدوانية التي تبتدأ ثم تشتد كما يبتدأ العنقود في شكله المخروطي المتصاعد بحبة لتتوالى الحبات متصلة متراصة متكاثفة حتى تستوي عنقودا إلى عنقود آخر إلى آخر فتكون عناقيد(الغارات) المدمرة. والانزياح يترسخ ويتسع من التأليف الذوقي بين طعمين (الحلو البارد)=(العناقيد) و (المر الساخن) =(الغضب).
ولما كان "الغضب" معطى نفسيا مهيئا للحروب وباعثا عليها، فقد وجدنا في الثقافة اليهودية ارتباطه بغضب الرب ففي سفر صموئيل الأوّل نقرأ من الحضّ على العدوان والسلوك العدواني الذي نفّذه شاول وجماعته بتوجيهات من صموئيل النبّي أو الكاهن الذي كان يؤكد دائماً أنّ الاله يهوه يرغب في ذلك ، وهذه الرغبة هي قرار ثابت لامجال للتخّلي عنه أو التردّد في تنفيذه . "فيهوه" منتقم، مرعب ، غيور ، يغضب فوراً غضبا شديدا يسير أمام جنوده ، فيتحول غضبه إلى كارثة حيث يأمر بذبح البشر وتدمير المدن وقتل الشيوخ والأطفال وهو عين ما قامت به إسرائيل في عدوانها الغاشم، هكذا كان يصّوره صموئيل أو يريده، إلهاً غاضباً، قاسياً متعطشاً للعنف والقتل والدماء، وهو في حمأة غضبه يضرب بالوباء ، أو يشقّ الأرض لتبتلع الناس أو يصعق بالموت. أو يسّلط النار لتلتهم النّاس وتأكلهم أو يضرب الناس بالعلل (البواسير)([15]).
          المثال الثالث(ثعلب الصحراء): هي صورة استعارية طبيعية تجمع الطبيعة الحية إلى الطبيعة الميتة لتحيل على الفضاء العربي بالتحديد المجالي. (ثعلب الصحراء) صورة تستبطن إدعاء التفوق في السرعة والمعرفة بالمداخل والمخارج، إنه دهاء ثعلب الصحراء في الصيد وخفته في المناورة وقدرته على التكيف مع المجال الحار...الجندي الأمريكي في هذه الاستعارة ليس غريبا عن فضاء الصحراء، والثعلب رمز المكر والروغان. في منتصف ديسمبر 1998 صعدت الولايات المتحدة من الموقف، وهددت بشن هجمات ضد العراق، وسارع رئيس لجنة (اونسكوم) الجديد ريتشارد باتلر إلى سحب المفتشين من العراق، وحتى تلك اللحظة، لم يطلب العراق من المفتشين مغادرة أراضيه.استمر القصف الأميركي لثلاثة أيام وبدأت في الساعة العاشرة من مساء السادس عشر من ديسمبر 1998 ما أسماها الرئيس بيل كلنتون (ثعلب الصحراء)، وصادفت أول أيام شهر رمضان. يعتقد البعض من محللي الخطاب السياسي أن (ثعلب الصحراء) عملية ماكرة جاءت للتغطية على فضيحة الرئيس الأمريكي بيل كلينتون مع كاتبته مونيكا لوينسكي فيما عرف بـ"فضيحة مونيكا". إنه عمل ثعلبي بالفعل في أن يشغل الرأي العام الداخلي بقضية خارجية عن قضاياه الداخلية الأخلاقية، مثلما يموه الثعلب مداخله إلى وكره بتعديد الثقوب والمخارج..
المثال الرابع(النسر النبيل): يذهب الدكتور عبد السلام المسدي إلى أن كثافة حضور الكائنات الحيوانية في أفعال التسمية حين يكون موضوعها الحروبَ والمنازعات وما يصطلح عليه بالعمليات العسكرية تؤكد بجزم أن المقصود بفعل التسمية يخرج عن غرضه الأول البديهي وهو فعل التعيين، إنّنا بحضرة قصد إرادي من الدرجة العليا، وهو الإصرار على توطين المفاهيم المرومة ودفعها إلى أن تقبع في اللاوعي الجماعي عبر الحامل اللغوي، فكأنها عملية تطويق لمحاصرة إرادة المتلقي مهما يكن موقعه أو انتماؤه، ومهما تكن منطلقاته في الحكم على "فعل الحرب([16]) ففي يوم (17 – 9 – 2001) أعلنت الولايات المتحدة عن قرارها بأخذ الثأر مما حل بها فأشهرت – على أفغانستان أولا ثمّ على "الإرهاب" تاليا – حربا وهبتها اسما فقالت هي (النسر النبيل) فإذا بنا – من جديدعلى درب استدعاء الكائنات الحيوانية للإشادة بنزعة الإنسان العدوانية. و(النسر) من غير شك متجذر في الثقافة الأمريكية إذ هو رمز الدولة المستكبرة المتعالية تعالي النسر في السماوات، والنسر إن كان من الجوارح ومن طبعه الافتراس والنهش والانقضاض فإن الاستعارة تحوله إلى رمز للنبل محاولة إضفاء نزعة أخلاقية على أفعاله. ومسحة إنسانية رفيعة على سلوكاته. إنها الأسطورة اليهودية الأمريكية التي تعلن أنهم أكثر قربا من الإنسانية والنبل من أي إنسان آخر([17])، نزعة عنصرية تعود أصولها إلى مبدأين اثنين : الأول النموذج الإدراكي الدارويني الذي تتأسس عليه الحضارة الغربية والذي انتهى إلى مركزية الإنسان الأبيض في الكون والدفاع عن مصالحه الخاصة وأسبقيته وتفوقه([18]) والثاني التعاليم الموسوية –المحرفة طبعا- التي تصور اليهودي أشرف وأنبل([19])، وهي نفس السياسة الإمبريالية الخبيثة التي تقلب ميزان القيم الطبيعي فتصير الموجودات مفارقة لخصائصها الطبيعية حاملة لقيم مزيفة كاذبة خاطئة.
"النسر النبيل" رسالة مشفرة جاءت رد فعل على رسائل "الارهاب" الذي يفسر ويصنف طبعا من داخل التحيز الغربي الأمريكي تحديدا،هذه الرسالة جعلت سيطرة الأقوياء (النسر)تحول الحق إلى باطل ، والباطل إلى حق ، وتحشد للباطل أجنادا وعتادا ، وتشرعن اغتصاب الحريات ، وفتنة المسالمين الآمنين،وتهديد الشعوب والحضارات بالإبادة، وكلنا يتذكر القرار1377 الذي أعاد دعوة الدول الأعضاء إلى سرعة الانضمام إلى الاتفاقيات والبروتوكولات الدولية ذات الصلة بالإرهاب كما تفهمه أمريكا. والذي ترتب عليه دعوة الدول الأعضاء إلى إفادة لجنة مواجهة الإرهاب Counter-Terrorism Committee ـ والتى تم تأسيسها وفق القرار 1373 ـ بمجالات الدعم المطلوبة ماديا وعسكريا واستخباراتيا ولوجستيا، ودعا اللجنة إلى تحديد الآليات التى يمكن من خلالها تقديم المساعدة لتلك الدول، خاصة فيما يتعلق بتطوير التشريعات والقوانين الداخلية الخاصة بمواجهة الأعمال الإرهابية([20]).وبينما تراجع الدور الديمقراطي المفترض لمجلس الأمن وللمنتظم الدولي وشرعيته، أطلقت الولايات المتحدة يد ها في بناء تحالف دولي يتسم بالكثير من تعاون الدول الأخرى دون أن يمثل ذلك أي قيد على حركتها العسكرية الراهنة أو المستقبلية، سواء ضد أفغانستان أو غيرها من الأهداف التي قد تحددها الولايات المتحدة في مراحل لاحقة، فقد اقتصر دور مجلس الأمن على تشكيل الإطار القانوني لضمان الدعم الفني والمعلوماتى والاستخباراتى للولايات المتحدة الأمريكية في تلك الحرب.
المثال الخامس(عاصفة الصحراء): هي صورة استعارية طبيعية من صلب المجال الذي وقعت فيه احداثها، فالمنطقة معروفة بالعواصف، والمخاطب بالاستعارة يعرف خطورة العاصفة وقسوتها، هي عاصفة الصحراء أو حرب الخليج الثانية و تسمى أيضا بحرب تحرير الكويت وسميت من قبل الحكومة العراقية باسم استعاري يضرب في التاريخ ليؤسس مفصلية التقابل بين الاستعارات المتضادة إنها "أم المعارك" ، "عاصفة الصحراء" هي الحرب التي وقعت بين العراق وائتلاف دولي من 30 دولة بقيادة الولايات المتحدة وبتشريع من الأمم المتحدة. إنها اللغة التي يفهمها المخاطب وإن لم تكن من اللغة الصميمة للمتكلم بالمعنى التداولي. فصانع الاستعارة لجأ لما هو من معتاد مشاهدات المخاطب فركبه تركيبا قاصدا إلى إثارة الرعب في نفوس المتلقين لهذا النوع من الخطاب العدواني.(عاصفة الصحراء) تضعنا أمام ثنائية وجودية ينتصب فيها الإنسان العربي الأعزل في مواجهة سلطة الطبيعة القاهرة التي تبطش به والتي باتت أمريكا وحلفها تتقمصها في رؤية حلولية ومقولات مادية بسيطة إختزالية.
المثال السادس(الحرب العادلة):هي صورة استعارية ملتبسة أشد ما يكون الالتباس لعدم تحققها بالشروط التي وضعها الفقهاء القانونيون الغربيون لصيغتها، (الحرب العادلة) تركيب يرجع في بداياته إلى النقاش الذي دار عقب دخول الولايات المتحدة الأمريكية إلى حرب الفيتنام بين الفلاسفة العلمانيين والمفكرين المسيحيين، ومعايير هذه الحرب في علاقتها بالحرب غير العادلة، تكون الحرب عادلة حين تكون طلبا لحق وحين تكون القوة آخر حل وحين تكون القوة متناسبة، أما والولايات المتحدة تحارب من أجل فرض هيمنتها على العالم وبسط سلطتها على الدول، وإضعاف كل من سواها فهي حرب قذرة غير عادلة.يقول شارل بيغوي" طوبى لمن ماتوا من أجل الأرض، طالما كان ذلك في حرب عادلة، طوبى لمن ماتوا من أجل مأوى، طوبى لمن ماتوا موتا مهيبا"([21]). من"الحروب المقدسة" إلى "الحروب العادلة" يبين التاريخ أن أمريكا الأكثر استعدادا لادعاء الانتساب إلى قضية سامية ونبيلة هي غالبا المسؤولة عن اقتراف أكثر الجرائم مأساوية. (الحرب العادلة) إن صحت لها قواعد واخلاق تحظر الهجمات العشوائية بالأسلحة المحرمة كما تمنع مقاتلة المسالمين وجر البرآء إلى المعتقلات السرية والعلنية وضرب المراكز المدنية الآمنة.
المثال السابع (عدالة بلا حدود): بعد سياسة الصورة الاستعارية(النسر النبيل)جاء السياسيون الأمريكيون إلى الاسم فأبدلوه بعبارة (العدالة المطلقة) فوقعوا في ما هو أشنع لأنهم – بذلك الاسم – أثاروا النعرة الدينية، وأخرجوا حلفاءهم في أفغانستان ذاتها عراة أمام جماهيرهم وسائر الجماهير الإسلامية حتى المتعاطفة نسبيا معهم. عندئذ أقلع أصحاب التدبير عن إضماراتهم الأولى، وجنحوا إلى فعل في التسمية جديد، فقالوا مساء (20 – 9 – 2001) إنّها (عدالة بلا حدود). كيف تكون سياسة التقتيل المستمر للشعوب المستضعفة عدالة وبلا حدود. لو كان أطلق عليها (جريمة بلا حدود) أو(طغيان بلا حدود)لكان ذلك أوفى وألصق بالتركيب الاستعاري في علاقته بمرجعه الواقعي. وإذا جاز أن هناك إرهابا في العالم فإن مواجهته لا تكون بإرهاب مضاد، بل بالنبش في أسبابه وومقدماته وتصحيح أعطابها بترسيخ حرية الرأي والتشارك والمساواة في الحظوظ الإنسانية على السلم الوجودي المختل بفعل الغطرسة وسياسة الهيمنة على المذخرات والعقول. إن سياسة وعملية"عدالة بلا حدود" تعيد للأذهان الحاجة لمعاودة النظر في قضية الحق والباطل، لأن هذه الصورة الاستعارية تهدف إلى ما يشبه قلب نظام الطبيعة والقيم بإصرارها على تفتيت الآخر وإضعافه وسحقه قبل النظر في حقه في الانجماع والكينونة.
"عدالة بلا حدود" وقبلها"الحرب العادلة" صورتان إستعاريتان تمنحان الانطباع بفضل الغزاة، إنها مفارقات رهيبة في زمن بات زمن النهايات السريعة لكثير من الأفكار التي توهمناها في لحظة ما صلبة كفاية. لكننا على كل حال لسنا ممن يشك في أن الديمقراطية تسمح للناس بالتصويت لاتخاذ قرار بشأن من يتولى حكمهم، كما أنها يمكن في ظروف معينة أن تساعد على ظهور قادة سياسيين أكفاء ، وتسمح بقدر معين من الاختيار وهو ما لا يسمح به نظام الحزب الوحيد،كما تسمح بالتداول السلمي على السلطة من خلال الاعتراف بحق الأغلبية في الحكم والقرار، وحق الأقلية في المعارضة والسعي إلى الحكم بالوسائل السلمية نفسها، ومع ذلك تجدنا مضطرين لأن نعلن أن أهم تحد يواجه كل نظرية سياسية هو كيف يمكننا منع الظلم والجور، كيف تصان الحريات العامة، وقبلها حريات الشعوب في تقرير مصيرها واختيار تحيزاتها، ذلك أن أي إنسان يملك سلطة يميل إلى إساءة استعمالها حسب تأكيد مونتيسكيو([22]) فما بالك بقوة دولة غاشمة كالولايات المتحدة الأمريكية تعطي لنفسها حق الإغارة على شعب بدعوى دمقرطته وتحريره.
بعد هذه الجولة في الشطر الخاص بالشعار باعتباره علامة دلالية مركبة تستضمر جانبا من آليات الصراع بيننا وبين الاستكبار الجديد، ننتقل لنعرج على الشطر الثاني الخاص بالإشهار، وهو يمثل من غير شك علامة أعقد تركيبا وهو أخفى لمضمرات الآخر وأكثر تعبيرا عن تحيزاته الماكرة والمغرية.
إضمارات اللغة الإشهارية:
يذهب أمبيرطو إيكو زعيم التيار التأويلي في العصر الحديث إلى أن " التأويل ليس فعلا مطلقا، بل هو رسم لخارطة تتحكم فيها الفرضيات الخاصة بالقراءة، هي فرضيات تسقط، انطلاقا من معطيات النص، مسيرات تأويلية تطمئن إليها الذات المتلقية"([23]).
وفرضياتنا منذ البداية هي الانطلاق من مبدأ استضمار الوسائط التواصلية والأيقونات والصور لخلفيات إيديولوجية-كما يؤكد ذلك البروفيسور المسيري في فلسفته النقدية- مضمرات لا تقل خطورة عن المُصَرَّح به في الأدبيات المكشوفة في عمليات التثاقف والتصارع الأبديين. والوصلة الإشهارية من خلال هذا التصور تطريز عقلاني وتدبير فكراني لحمولة حضارية يراد للمتلقي/المستقبل/المستهلك تناولها والتفاعل مع دوالها البرانية ومدلولاتها الجوانية في تناغم لا يثير الانتباه العادي، بل يزيد من تبلد الحس ويؤصله مادام على استسلامه في اتجاه ترسيخ إواليات الهيمنة المستمرة على العقول والنفوس والأذواق.يقول إجناسيو رامونيIgnacio Ramonet في مقالة مثيرة بعنوان ذي استعارة متفجرة وساخرة"أمريكا في العقول...طغيان لذيذ":  "  بقدر ما يظل الإنسان غافلاً عن الهيمنة التي يخضع لها، بقدر ما تكون هذه الهيمنة أكثر فاعلية  وقوة. لقد أدرك كل من المستعمرين ومستعمَريهم أن الهيمنة لا تقوم فقط على سلطة القوةla suprématie de la force. لقد مضى عهد الرهان على الاحتلال العسكري، ودقت ساعة الرهان على التحكم في العقول sonne l'heure du contrôle des esprits ؛ لذلك فإن دوام سلطة ما على المدى البعيد رهين بمدى قدرتها على تدجين النفوس"([24]).
. C'est pourquoi, sur le long  terme, pour tout empire désirant durer, le grand enjeu consiste à domestiquer les âmes.
ويضيف منبها أنه بات من الْمُستعجل أن نتذكر صيحة الإنذار التي أطلقها "الدوس هيكسلي" (Aldous Huxley) منذ 1931: حين قال"إن الخطر الأكبر الذي يهدد الأفكار والثقافة والعقل – في عهد تحكمه تكنولوجيا جد متطورة – يوشك أن يأتي في ثوب عدو مبتسم بدل عدو مخيف". le plus grand danger pour les idées, la culture et l'esprit risque davantage de venir d'un ennemi au visage souriant que d'un adversaire inspirant la terreur et la haine."
إن أمريكا باعتبارها "سيدة الرموز" maître des symboles تعرض نفسها أمامنا بوجه فاتن، مُقدمةً لنا ـ بسخاء نادرـ كل أنواع الملاهي ووسائل الترفيه البراقة. هذا "الْمُنوِّم المغناطيسي" hypnotiseur الجديد يقتحم أذهاننا ويزرع فيها أفكارًا بعيدة وغريبة عنا، ولم تعد أمريكا تسعى لإخضاعنا بالقوة ولكن بسحرنا، ولا بإصدار الأوامر ولكن برضانا الخالص، ولا بتهديدنا بالعقول ولكن بالرهان على شغفنا بالشهوات([25]).
ومن هذا الشغف الشهوي شهوة الكوكاكولا...ذلك المشروب الذي لا ينفك عن ثقافة المهيمن الأمريكي إلى الدرجة التي انغرس فيها وصار له حقل دلالي خاص به هو حقل معجمي خاص يطلق عليه"الكوكلة".
الكوكلة هذا المصطلح الغريب القلق الذي بات نحتا لسانيا مقابلا للفظة Cocacolarisation ([26]) الإنجليزية والتي تعني من جملة ما تعنيه الاكتساح الثقافي الأمريكي ابتداء بالذوق وانتهاء بتقمص الأدوار والوظائف السلبي في الواقع والانصهار في تحيزات الآخر.
 إن هذا التهديد الذي نستعشره لم يعد يستهدف كياننا - نحن الشرق فقط - بل حتى كيان الأمم الغربية ذاتها، إذ أضحى تيار العولمة والأمركة يسرق من هذه الأمم هويتها واستقلاليتها، بدليل الصرخة المدوية التي أطلقها الرئيس الفرنسي جاك شيراك في مؤتمر الفرنكوفونية المنعقد بالفيتنام أواسط شهر أكتوبر 1997 محذرا العالم من الإمبريالية الثقافية الكاسحة المتمثلة في ثقافة الهمبورغر والكوكاكولا([27] ).
ثقافة المادة الأمريكية المكتسحة عالمنا بمثابة بيت مهدم لم يجد الإنسان الفطري مكانا فيه، ركام أنقاض حياة مزيفة مغتالة فاسدة وميتة، وحده الإنسان الممانع يعيش بوعي شقي ويقظة روحية  يستطيع في هذا الليل العدمي أن يجعل الفجر يطلع، هذا إذا لم ينجح الذين صنعوا النجاسة وزينوها أن يضعفوه ويختطفوا شعلة الأمل من بين يديه أو يطفئوها."ويأبى الله إلا أن يتم نوره"
يذهب (Herbert Schiller) الأستاذ في جامعة كاليفورنيا سان دييجو إلى فضح وتعرية جانب مهم من طبيعة السياسة الإعلامية والإشهارية الأمريكية في محاولاتها تضليل (Manipulation) عقول الملايين من البشر بفعالية وقوة ثقافتها، إذ يقوم خبراء أجهزة الإعلان بوضع أسس علمية تداول الصورة والمعلومات ويعملون على معالجتها وتنقيحها. تلك الصور والمعلومات التي تحدد معتقداتنا ومواقفنا بل وحتى أذواقنا وسلوكاتنا في النهاية ([28]). لتتنمط داخل دوامة الـ(Global) الغربي الأمريكي كل نماذج الـ(Local) الذي يقصد به الثقافات غير الغربية([29]).
يقول أصحاب كتاب «صناعة الجوع "([30]) (Food First) بأن شركات تجهيز الغذاء المتعددة الجنسية تصر ضمن استراتيجيتها التسويقية غزو عالم الفقراء، وليس أفضل من المشروبات الغازية يمكن أن يجلب الملايين منهم، لأنها من جهة لا تكلف شيئا يذكر، إذ مكوناتها سكر وماء في الأساس، ومن جهة ثانية هذه المشروبات ومنها الكوكاكولا تجعل الفقراء يفكرون فيها باعتبارها رموزا للحياة المترفة.
وفي عبارة ساخرة جارحة يعلن (ألبرت ستريدزبرج) عن هول الاختراق الثقافي الذي تمارسه الشركات الأمريكية من خلال منتوج الكوكاكولا حيث يعتقد أنه يجب امتداح معلني كوكاكولا لأن لاجئا فلسطينيا صبيا يمسح الأحذية في بيروت (من بلدان المنفى طبعا)؛ يوفر قروشه من أجل كوكاكولا حقيقية، بضعف ثمن الكوكا المحلية([31]).
ومن سخرية واستغفال الكوكاكولا ومن ورائهما الاقتصاد والثقافة الأمريكيتان لشعوب العالم المتعطشة للمشروب السحري المنعش ما ساقه مؤلفا كتاب «صناعة الجوع «عن الوضعية مثلا في البرازيل حيث أن فانتا البرتقال وهي أكبر منتجات كوكاكولا مبيعا في البرازيل بعد الكوكا ذاتها، ورغم اسمها فإن فانتا البرتقال لا تحتوي على أي عصير برتقال، مع أن البرازيل أكبر مصدر في العالم لعصير البرتقال، فالبرازيل تبيع كل محصول برتقالها للأجانب (بالخصوص للولايات المتحدة)، ولا ينتفع به البرازيليون، في الوقت الذي عانى كثير منهم نقصا في فيتامين C، ويزداد الموقف درامية حين تعلم أن شركة الكوكاكولا من المشترين الرئيسيين لبرتقال البرازيل لتصنع منه منتجات من قبيل سنوكروب (Snow Crop ) وما ينوت ميدا (Minute Maid).
وإذا رجعنا لأفريقيا رمز الاستضعاف، وأخذنا نموذج دولة زامبيا، فقد كتبت مجلة (New Internationaliste)([32]) أن الأطفال الرضع قد أصبحوا سيئي التغذية لأن أمهاتهم كن يطعمنهم الكوكاكولا والفانتا معتقدات أن ذلك أفضل ما يمكن أن يقدمنه لأطفالهن بسبب لغة الإعلانات التضليلية. وتصل نسبة الأطفال الذين يدخولون المستشفى لهذا السبب 54 %.
نترك هذه المعطيات جانبا لنسلط الضوء على اللغة التي تحملها رسائل الوصلات الإشهارية وإعلانات كوكاكولا التي جاءت لتتناغم مع أحد أكبر الملتقيات الكروية في العالم بدولتي كوريا واليابان على اعتبار أن كوكاكولا هو المشروب/ الشركة الأولى المساندة والداعمة لهذه التظاهرة الرياضية.
ويبدو لي في البداية أن أسجل ملاحظة ضرورية وهي أن كوكاكولا كانت وما تزال (أي منذ أكثر من قرن وعقد من الزمن حين ظهرت بأطلنطا ) نموذجا استهلاكيا قائما على الإشهار في فضاءات التنافسية التي كان يخترقها هذا المنتوج في أكثر من مائتي (200) دولة في العالم.
عملية الإشهار هذه التي تسبقها استطلاعات رأي ودراسات تسويق وأبحاث سوسيولوجية وسيكولوجية وغيرها، للتمكن في النهاية من النفاذ إلى قلب الثقافات المحلية والتعشيش فيها.
صور الإشهار هذه خطابات مغالطة من وجهة النظر التداولية المنطقية والواقعية العلمية القانونية، بيد أنها وبمهارة خبراء دقيقي التكوين في مجالات معرفية وتواصلية لا تستطيع مقاضاتها ومتابعتها.
إن غاية التأثير والإقناع والتطويع ([33]) في الخطابات الإشهارية والإعلانات المصورة لكوكاكولا تخفي من ورائها سيكولوجية الغطرسة الأمريكية التي تمسك بقبضة من حديد الإرادات الهشة للإنسان ذي البعد الواحد unidimensionnel ( كما يعبر هربرت ماركوز) ، هذا الإنسان الذي يجد نفسه تحت رحمتها متبنيا سلوكا معينا دون الوعي بأخطاره وخلفياته. إنها اختزال لصورة الذات مع الآخر، إذ الرسالة الإشهارية تنطلق من معطيين تواصليين هما الباث والمتلقي اللذين يمكن ترجمتهما في فلسفة اللغة الوجودية إلى الذات والآخر ، ومفهوم الذات بات لا يتعين إلا بالنسبة لمركز تتصل فيه عمليتا الإنتاج(المادي والرمزي) والتبادل(أو فرض التبادل) وهما عمليتان تصدران اليوم عن الغرب، متجسدا في الولايات المتحدة الأمريكية، في حين يبدو العالم متحصنا وراء ثقافاته القومية وحدوده التاريخية، ولكنه قابل في الوقت نفسه للانخراط في علاقة التبعية والهيمنة، بل ومضطر لذلك لأسباب بنيوية يحتمها انتشار ونفاذية النظام الرأسمالي المتوحش كونيا، وهي عملية ليست اختيارية ولا مجال فيها للتعاقد الإرادي([34]).
إن الرسالة في نظري ليست موجهة لليابان أو كوريا ( مع علمنا بالصراع الدائر فيما يشبه الحرب الباردة بين دول التنين والولايات المتحدة الأمريكية ) ولكنها موجهة لكل متلق شرقي أو غربي غير أمريكي. فما هي يا ترى الدلالات السيميولوجية سواء التعيينية أو الإيحائية لهذه الرسالة ؟ وكيف تنفضح الأنا الأمريكية المتغطرسة المترفة وأيديولوجيتها الرأسمالية المتوحشة ؟ وماذا وراء هذا النوع من الخطاب الإشهاري من مغالطات وتحيزات على ما تقتضيه فلسفة الدكتور المسيري التي نتبنى مقدماتها النظرية والفكرية ؟
إنطلاقا من تقرير كريماس الذي يذهب إلى أنَ الخطاب السيميائي هو خطاب إيحائي يتضمن التعبير عن دلالات أيديولوجية ومعرفية وثقافية ، أي أنَ هذا الخطاب يمثل ـ بالضرورة ـ رصيداً معرفياً ، ومعيناً دلالياً مهماً .
يبدأ الإعلان الإشهاري بظهور رجل شرقي الملامح (صيني أو ياباني) يقف وراء باب يطرقه بأدب ليفتح من الداخل رجل غربي الملامح (أمريكي). يبادر الطارق الشرقي لعرض طلبه في تواضع حيث يرغب في أن يساعده الرجل الأمريكي حتى يصبح معلقا كبيرا لكرة القدم في كأس العالم، يقبل الأمريكي ويبدأ التدريب، حيث يعلّم المعلم الأمريكي تلميذه كيف يصرخ معلنا(Gool) يعني (هدف) بصوت يجمع في تركيبته القوة والقسوة والحشرجة، وأمام إخفاق التلميذ الشرقي في تقليد معلمه الغربي لضعف صوته ورخاوته الذي يبدو لأول وهلة مدعاة للضحك، يشرع المعلم لإحضار قارورتي كوكاكولا تعبيرا عن حفاوة الغرب بالشرق مقدما له إحدى القارورتين بطريقة لا تخلو من اللمسات الهليودية ( يمسكها بين السبابة والوسطى). وبعد لحظة من تذوق المشروب السحري، ومن غير أن يتوقع المعلم ما سيحدث يندهش لسرعة رد فعل التلميذ عقب احتسائه الكوكاكولا، حيث يصرخ و بصوت لا يقل خشونة وقوة وإثارة Gool) (  متقمصا الشخصية الصوتية الأمريكية، لتتعالى أصوات معلقين مختلفي السحنات والانتماءات يرددون على نفس النمط Gool) ( ولتعتلي كوكاكولا عرش آخر الوصلة الإشهارية معلنة عن مفعولها وأثرها الأسطوري. إنها صورة من صور «الكوكلة «Coca-Colarisation. إنها صورة من صور التربية والتدجين على التحيز القسري واللاإرادي في تحيزات الغرب الامريكي. فالتحول والتطور مرتهن في هذا النموذج الإدراكي الذي تختزنه الوصلة الإشهارية بالخروج من تحيز والدخول في تحيز آخر مختلف. فماذا وراء هذا الإشهار من علامات ودلالات؟
أمريكا معلمة العالم :
 لقد بدأ الأمريكيون احتلالهم اليابان كما يقول : ( Patrick Smith)([35]) بخطة لإعادة صياغة اليابانيين، إعادة صناعتهم على الصورة الأمريكية. وانتهوا باستعادة الأشياء نفسها والأشخاص أنفسهم الذين جاءوا للقضاء عليهم واجتثات جذورهم. هذه الحقيقة لم تكن لترضي السيكولوجية الأمريكية بل زادت من انتفاخها وتورمها المرضي لتفهم العالم ومن جملته الشرق الأسيوي أنها حاملة رسالة اجتماعية ومدنية وصاحبة مشروع حضاري لتأهيل العالم.
إن صورة المعلم الأمريكي لا تخلو من تسلط يلغي ركاما من تاريخ الشعوب وخبراتها وحضارتها التي سبقت أمريكا إلى الوجود. فكيف يصح أن يتحول الطارئ على الوجود المقطوع الصلة بخبرات التاريخ المتجذرة إلى معلم ؟ الواقع هو أن الأمريكي هو الذي ينبغي أن يتعلم من الشرق ويجلس لحضرة التاريخ قصد فهم غوامض الحقائق. كتب عزرا فوجل (Ezra Vogel) سنة 1979 ( اليابان رقم1) Japanas as number one وكان هذا الكتاب بمنزلة دعوة مستفيضة كبيرة ومتصلة للأمريكيين لكي يتعلموا من اليابانيين دروسا في فضائل الإجماع ومراعاة «مصالح السياسة العليا "، وتميز المدارس اليابانية، وروح التعاون في المصانع اليابانية([36]).
لقد أمعن الأمريكيون في محاولات إذلال اليابان وثقافتها وتاريخها انطلاقا من الحرب العسكرية التي أذاقتهم المرار وانتهاءا بمحاولات الاختراق الثقافي التي غالبا ما كانت تقابل برد فعل عنيف للتمسك بالأصالة وبالكوكوتاي Ko kutai (الروح القومية).
وصورة المعلم الحضاري هذه تنتقل عبر البصري أكثر من اللغوي، إذ توجه الكاميرات كما يقول دوبري نحو أولئك الذين يملكون مظهرا أفضل، والبصري يكرس سلطة الذين يملكون بيدهم السلطة ([37]). تلك السلطة التي تستهدف عولمة التصفية الروحية:أي عندما يصبح المقلدون يجدون في سيدهم عين المثال الأعلى من الإنسان بحيث يصبح همهم الوحيد أن يكونوا مثله مع الاعتقاد بأنهم لن يصبحوا مثله إلا بنفي كل ما يميزهم عنه وهو ضرب من ضروب الانتحار الروحي الذي تنقله لنا صورة الإشهار ([38])
          صورة "المعلم" التي تختزن مركزية "المعرفة" في القطب الواحد والوحيد هي بمنظار الفلسفة المسيرية ترجمة استعارية لروح الفلسفة الداروينية التي رسخت الواحدية المادية الكونية، ورسخت فكرة التحول عبر آليات النشوء والإقصاء والتثبيت، فالتحول تطور وترق في اتجاه "النموذج" ، وليس في الحياة إلا التحول بالمنطق المادي الصرف، حيث "تؤدي اليرقة إلى القرد، والقرد إلى الإنسان بطريقة آلية كما تتحرك الأجسام تحت تأثير قانون الجاذبية، وكما تتحول الأفكار الجزئية إلى أفكار آلية بطريقة آلية في منظومة لوك"([39])
وأمريكا إن كانت تملك قوة مادية ضخمة فإنها لم تكن لتمحو التاريخ وتقتلع الجذور لأنها عميقة ومتميزة. من يابان يا ماتو إلى يابان شوتوكو إلى يابان الساموراي، ثم يابان الطوائف في عصر إدو وأخيرا يابان العصر الحديث. كلها متصلة الحلقات برباط وثيق.
في كتابه"جغرافية الفكر" يعترف ريتشارد إي. نيسبت Richard E.Nisbett أن الشرق آسيويين أكثر تفوقا من الأمريكيين في الرياضيات على الرغم مما سجله عنهم من ميلهم اللامنطقي، يقول:"إن تعليم الرياضيات في شرق آسيا أفضل، كما أن طلاب شرق آسيا أكثر جدية ودأبا في العمل...ونلحظ في كل من أمريكا وشرق آسيا أن الأطفال ذوي الخلفية الشرق آسيوية يعملون بدأب وجدية أكثر في مجال الرياضيات والعلم من الأمريكيين الأوربيين"([40]).
أمريكا المقياس والمركز :
نستشف هذا حين تطالعنا الإعلانات الإشهارية مركزة على نمط الحياة الأمريكية المترفة الاستهلاكية التي ينعم فيها الإنسان بكل شيء «بالكمال «لدرجة صار معها نموذجا وطرازا (Prototype) يقاس عليه إذ هو معيار التحضر، وهذه الصورة تختزن الأنا المركزية (Egocentrisme) المتضخمة والعمياء عن إبصار الحقيقة.
إن التلميذ الشرقي دون المستوى ما دام بعيدا عن محاكاة الأستاذ الأمريكي في أدائه!!.
فالشرق (فرع) وأمريكا (أصل). وليس لهذا الفرع وجود أو اكتمال إلا باقترابه من الأصل، والخروج عن خصوصيته حتى الصوتية، للصراخ بالطريقة الأمريكية المتميزة ، وباللغة الإنجليزية التي يتغاضى الأمريكي هنا عن حقيقة صادمة مبعثها أن الياباني وإن تعلم لغات أجنبية فهو معتز بلغته اليابانية التي يكتب بها ويفكر بها ويبرمج الحواسيب بها والتي يعتبرها اللساني تادانوبو تسونودا (Tadanobu Tsunodo) في كتابه المخ الياباني (The Japanese Brain) سر الفرادة والتميز الياباني ) Japanese Uniqueness ([41]) يقول : يبدو أنني اكتشفت ما يفسر الأوجه المتفردة العامة للثقافة اليابانية، لماذا ينهج اليابانيون هذا السلوك المتميز؟ وكيف شكلت الثقافة اليابانية ملامحها الخاصة وطورتها ؟ أعتقد أن مفتاح الإجابة عن هذه الأسئلة يكمن في اللغة اليابانية، أي أن اليابانيين يابانيون لأنهم يتكلمون اليابانية التي تختزن تصورهم للعالم ماضيه وحاضره ومستقبله.
سأل فرانسيس غزافيي ([42]Francis Xavier)()، الذي جاء إلى اليابان سنة 1549 : لماذا لا يكتب اليابانيون «بطريقتنا «من اليسار إلى اليمين أفقيا ؟ فأجابه الدليل الياباني الذي كان يرافقه بسؤال كان يمكن أن يفيد فرانسيس لو أجهد نفسه في فهم مضمونه. والسؤال هو : لماذا لا يكتب الأوربيون بالطريقة اليابانية، من اليمين إلى اليسار، ومن أعلى إلى أسفل ؟
إن اليابانيين أكثر الشعوب حرصا على تميزهم وهم على حد تعبير أحد اليسوعيين الإيطاليين «إنهم عالم النقيض لأوروبا "([43])، قال هذا حين بدأت البعثات التبشيرية في غزو اليابان، كان الأوروبيون طوال القامة، بينما اليابانيون قصار، الكنائس كانت عالية، بينما المعابد واطئة، النساء الأوربيات يبيضن أسنانهن، بينما النساء اليابانيات يسودنها. وما يزال في اليابان تقويمهم للتاريخ الخاص المعروف بنظام الجنحو The gengo system القائم على فترات حكم الأباطرة التي يختار لكل منها اسم عند بدايتها، فالعام الأخير من حكم الامبراطور هيروهيتو كان هو العام الثالث والستون من عصر شوا (Showa). ومن شوا بدأت السنة الأولى من عصر هيساي Heisai التي هي بداية فترة الإمبراطور أكيهتو بن هيرهيتو. وتواريخ الصحف، وإيصالات مواقف السيارات مكتوبة وفقا لنظام الجينجو([44]).
ونحن ينبغي أن نستوعب من هذا درسا في قوة التحيز وفاعليته في النهوض بعيدا عن دعارة الارتماء في أحضان النص الآخر والذوبان في حسائه وأحشائه، أو استعارة بهاراته لتذوق طعام لا يستقيم ولا يستوي ولا يستلذ إلا ببهارات شرقية، يقول أبو يعرب المرزوقي منبها إلى هذا المنزلق "إن الاستيراد الميت يصيب الأمم اللواقح بالعقم لكونه يحول دونها والمعاناة التي يتدرج بها الفكر من زاده الخاص إلى الإسهام في تحقيق الزاد الإنساني العام تدرجا مسهما في إبداع هذا الزاد، إذ دون ذلك لا تكون الكونية والكلية بين البشر إلا الاشتراك في الحيوانية طبيعة، والعبودية للسائد تاريخا"([45]).
أمريكا والبراجماتية :
يختزل المعلم الأمريكي مهمة تدريبه للتلميذ الشرقي حتى يصبح معلقا رياضيا كبيرا في أن يصرخ بأعلى صوته ووفق طريقة معينة بكلمة هدف (Gool )، وهذه الصورة تختزن وراءها فلسفة عميقة ترتبط بالثقافة الأمريكية التي أنتجت الفلسفة البراجماتية(النفعية) القائمة على تحديد الأهداف وتحقيقها، والارتباط أكثر بالواقع العيني، وصرخة التعبير عن إحراز الهدف هي في جوهرها وبنيتها التحتية صرخة الثقافة والبربرية الأمريكية في تعبيرها الجنوني عن الانتصار في الواقع. بهذه الروح المتغطرسة التي لا تقبل الهزيمة تسحق أمريكا كل الشعوب الضعيفة. والهدف بما هو أداة من أدوات التفكير الفلسفي البراجماتي فهو يستمد سماته العامة من أصوله النظرية والتطبيقية المتعددة، فهو يتسم بكونه مطبوعا بأصوله العسكرية وبانتمائه لعلوم الإدارة والتدبير بحيث يتصف بالدقة وبأنه قرار مبني على معرفة الأسباب ويتيح التوقع والضبط كما يسمح بمواءمة الوسائل والمشروعات وتعديلها. فهل توقعت أو كانت تتوقع أجهزة الأمن والبنتاغون في الواقع ما أصاب الولايات المتحدة في 11 سبتمبر الشهير؟ والحديث عن الهدف حامل لأسبقية ما هو عقلاني حيث الثقة في التقدم التكنولوجي وفي قدرة الإنسان على التحكم في أنساق معقدة وفي ظواهر غير متوقعة. هكذا تريد أمريكا أن تبدو رمزا لأولوية النظام والتنظيم والتحول والتجديد، والبحث عن الفعالية، والوصول بالمهام والوظائف والمردود الذي تتحقق أهدافه قبل أي نظرية.
ومن وجهة نظر تقنية تأتي الترجمة العربية المرافقة للصرخة والمثبتة في أسفل الشاشة (هدااااااف) لتعبر بصريا عن طريق تكرار المصوت ( ا)عن طول الصرخة التي يمكن أن نقول أنها تدخل في علاقة تكامل مع الصورة والصوت كما تقوم بوظيفة التثبيت بمعنى من المعاني السيميولوجية حيث يتعاضد ما هو بصري بما هو خطي (غرافي) لخدمة الرسالة الإعلانية.
لسنا في حاجة للتذكير أن الفلسفة البراجماتية قد جاءت فلسفة أمريكية في الأساس؛ لأنها الفلسفة التي تتسق مع أسلوب الحياة الأمريكي نفسه؛ أي أنها جاءت لتعبر عما هو واقع بالفعل.
يقول ويلسون آلن في كتابه (الثقافة الأمريكية): "إذا كانت النظرة البراجماتية للحياة سائدة ومبتغاة في الولايات المتحدة بأسلوب أكثر انتشارًا وأكثر صدقًا منه في أي مكان آخر في العالم الغربي؛ فقد كان لها السيطرة الحازمة على أغلبية الأمريكيين لمدة طويلة قبل أن يحاول أحد وصفها بأسلوب الفكر المجرد. وربما كانت الخاصية الطبيعية لهذه النظرة السبب في منع مناقشتها نظريًا، لكن بمجرد أن بدأ هذا فإنه لم يتوقف، وأدى إلى عدد من أكثر الاتجاهات الحاسمة تأثيرًا في الفكر الحديث".
من المقاصد البراجماتية للخطاب الإشهاري هذا التنميط على التقليد،فما إن تظهر صرعة عري أو شذوذ أو تهتك أو عبادة شيطان في الغرب، حتى تجد ترجمتها الفورية لدينا، وبأسوأ وأبشع ممّا لدى الغرب نفسه. في الوقت الذي ظهر برنامج (بوب آيدل) في بريطانيا، طلع لدينا (سوبرستار)، وزدنا عليه القبعة الأكاديمية فأصبح لدينا (ستار أكاديمي)، وقلّدنا حتى برنامج العهر الصريح (بلايند ديت) أو ما يمكن ترجمته إلى (موعد أعمى)،فلم نقصّر في أن نكون أكثر تخلّعاً من أهله. حسناً.. إنّها عولمة، ولا بُدّ لنا أن نلحق بالرّكب (ولو بكشف ما فوق الرُّكب).. لكن ألم يسمع أحد عن البرنامج الكبير ذي الضجّة العارمة الذي نظمته محطة BBC تحت عنوان Big Read The أو (القراءة الكبرى)؟ لقد كان القوم يتنطّطون ويتراقصون على جانب، لكنهم في الوقت ذاته كانوا منهمكين في شأن أدمغتهم على الجانب الآخر، وكانوا يلهثون بنفس الطريقة في سباق ترشيح الكتب التي طالعوها وأثّرت فيهم.
الكوكاكولا : السم الساحر واللذيذ:
يذهب الإعلان الإشهاري إلى إظهار الرضى الأمريكي بعد حصول النتيجة / الهدف إثر احتساء شراب الكوكاكولا، هذا الشراب الذي يأخذ طابعا سحريا في جل الإعلانات عن طريق خرق أفق الانتظار المتوقع وولادة حالة من الانبهار التي تنشأ عقب تذوق الكوكاكولا الساحرة. فمماذا تتكون هذه الوصفة السحرية ؟ وما أثرها على جسم الإنسان ؟
من الحماقة الادعاء بالاطلاع ومعرفة سر تركيبة الكوكاكولا، فلا أحد يعرف ذلك سوى أصحاب القرار هناك في أمريكا، وهي من الأسرار التجارية الكبرى التي تحاط بعناية فائقة، وهي ترسل من هناك في شكل مسحوق يخلط هنا وهناك مع الماء ويعالج بطريقة خاصة ليعطي في النهاية هذا المشروب الساحر.
          إن ارتباط المشروب بالسحر تؤكده الأدبيات الباطنية القديمة، تلك التي تجعل من وصفات بعينها تحتسى فتغير من طبيعة وطبع شاربها، وتقلب حاله وكيانه، وتجعله خارجا عن اعتياده. فينتقل من الضعف إلى القوة، ومن الصغر إلى الكبر، ومن الانفعال إلى الفعل، ومن الهامش إلى المركز، ومن الخمول إلى الجاذبية ، ومن الوحدة إلى الكثرة....
          وطالما نحن المقصودون باستهلاك صورة السحر وسحر الصورة"سنبقى مأسورين باستهلاك الصورة أكانت طيفا مرسلا أم نصا منضدا. الصورة يعاد إنتاجها وتدويرها انتقائيا في توليفة متكاملة من الرهبة والرغبة، من النوستالجيا والاستشراف، وهي ناجحة حتى الآن في اشتغالها المتواصل على استبدال صورة العالم، بالحلول محلها، بمهمة لا تبدو مستحيلة: خفض الممكن الأنطلوجي، وتصعيد التصور"([46])
    الصورة الهوليودية التي باتت رمزا وحمولة وسياسة وديانة تعمل الولايات المتحدة على نشرها ، يقول إجناسيو راموني:" إن الولايات المتحدة باعتمادها على سلطة الإعلام والإعلاميات والتكنولوجيات، وبمشاركة من تهيمن عليهم، وذلك بغفلتهم وعدم مبالاتهم، تمارس ما يمكن أن ننعته "طغيانًا لطيفًا وحُلوًا" un délicieux despotisme ، خاصة إذا استحضرنا ما يرافق ذلك من تحكم في المؤسسات الثقافية وهيمنة على مخيالنا.
والحلاوة واللذة هنا في البنية التحتية والباطنية للخطاب الإشهاري تقتحم النسيج النفسي فتهجم عليه من جانب ضعفه لتجره لوضعية الإدمان على الاستهلاك للمحافظة على وضعية الالتذاذ باعتبارها الحالة النفسية الوحيدة والمبدأ الكوني الوحيد الخلاق مقصية بذلك حالات عقلية ونفسية أكثر سموا وشفافية، إنها أبيقورية EPICURISME ([47])متلبسة تفتك بسلم القيم فلا تبقي ولا تذر منه إلا قيمة واحدة هي قيمة اللذة التي تصير مع تمكنها "الإله البديل"([48])، ومعلوم أن مذهب اللذة الذي تختزله الصورة الإشهارية هو مذهب فلسفي غير أخلاقي ، يرى أن اللذة هي الشيء الخيِّر الوحيد في الوجود.يقول تعالى مُعَيِنًا حالة هؤلاء ممن سفلوا بعبادتهم لأهوائهم ولذاتهم فحجبتهم عن ذوق الحقائق والمعارف"أفرايت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون "(الجاثية:23). وهو سياق فيه تعجيب من جهل من كان هذا وصفه ونعته، فيصير الإنسان الاستهلاكي عبدا للذته([49]) وهواه، أو للذاته بالجمع ، وتسقط إرادته وتتلاشى، فالعبد ما له إرادة مع سيده بل هو بحكم ما يراد به وله من البقاء على السلبية والانبطاح والوعي المزيف. إن الإله(اللذة/الهوى) في هذه الحالة الاستلابية([50]) له من القوة في المألوه (المستهلك)-كما يقول أرباب فلسفة الاتصال- ما يجعله على طريق الاستسلام والخنوع. ومتى تقرر أن اللذة غاية في ظل هذه الفلسفة لزم أن الوسيلة إليها فضيلة مهما كانت وإن صادمت ما صادمت، وحطمت ما حطمت...
إن أمريكا في إطار هذا النسق العام الذي تحكمه اللذة الاستهلاكية وليس غيرها، تجتهد بمهارتها العجيبة، تملأ أيضًا خيالنا بمجموعة من الأبطال السينمائيين المروج لهم على أوسع نطاق. ولِمَ لا، وهي تغرق العالم كله بمنتجات "هوليود" السينمائية في الوقت الذي تشتري من الخارج فقط 1% من أفلامها؟! هذا ناهيك عن الرسوم المتحركة والقصص المصورة والكليبات وغير ذلك ، من غير حديث عن أنماط اللباس والعمران والطبخ، وكلها ترسخ مفهوم اللذة وتدير حوله المفاهيم والأشخاص كما لو صار كعبة مقدسة. وفي أمريكا مراكز تجارية تتحول في بعض المناسبات إلى معابد لتقديس المنتجات وإذكاء حمى الشراء عند المستهلكين. ويتكرر شبه ذلك في كل أنحاء العالم شكلاً ومضمونًا، ويرافق هذا كله منطق بلاغي ساحر، مفاده أن المستهلك حر ومستقل في خياره، مع العلم أن هذا الأخير يظل بشكل مستمر تحت وقع الإشهار الذي يشمل الأشياء والرموز واللغة على حد سواء([51]). وبالمناسبة، فإن تكاليف الإشهار في الولايات المتحدة تتجاوز 200 مليار دولار سنويًّا! إن "عمليات التسويق" (Marketing) مُتقنة ومتأنقة إلى درجة أنها تطمح أن تبيع ليس فحسب "العلامة التجارية" (marque) ولكن أيضًا "الهوية" (Identité)، وهي تطمح أن تبيع، ليس فحسب رمزًا اجتماعيًّا، ولكن أيضًا "الشخصية" امتثالاً لمبدأ: "قل لي ماذا تملك أقل لك من أنت" (Avoir c'est être)"([52]) .
الفلسفة المسيرية من هذا المنطلق جاءت لتحفز العقل من أجل اكتشاف المتواري خلف عمليات بناء الخطابات الدمجية والتسطيحية من واحدية مادية ترسخ تطهير العالم من المطلقات والقيم([53])،كما جاءت هذه القراءة الفلسفية الواعية لتكشف الغطاء عن حجم المغالطات التي نرتكبها حين نستسلم للتطبيع وننخرط في تهويمات لغة التسامح والحوار المزيف بين الحضارات والثقافات. جاءت الفلسفة المسيرية لتؤكد أنه مع التطبيع ومع الهيمنة والاستسلام لعملية الاستتباع الحضاري يأتي فقدان الشعور بالانتماء للوطن أو الأمة أو الثقافة ، وبالتالي إفراغ الهوية الثقافية من كل محتوى. إن مشروع العولمة هو عالم بدون إنسان وبدون دولة، بدون أمة، بدون وطن. إنه عالم المؤسسات والشبكات العالمية، عالم "الفاعلين"، وهم المسيرون، و"المفعول فيهم" وهم المستهلكون للسلع والصور و"المعلومات" والحركات والسكنات التي تفرض عليهم. أما "وطنهم" فهو الفضاء "المعلوماتي" الذي تصنعه شبكات الاتصال برسائلها الواضحة والمشفرة، الفضاء الذي يحتوي –يسيطر ويوجه- الاقتصاد والسياسة والثقافة فالإنسان.
لعلنا في الوقت الراهن أحوج ما نكون إلى إقامة جبهة واسعة ذات بعد كوني لمقاومة الاستبداد الأمريكي، واغتصاب حريات الشعوب، والتدمير التدريجي للقيم الإنسانية والأخلاقية، إننا محتاجون لحلف فضول يجمع كل الشرفاء والفضلاء الإنسانيين وليس الإسلاميين فحسب، ولنكن على يقين أننا لن نكون وحدنا الذين يرفضون انتهاك حقوق الإنسان، وسحق كرامته،واختزاله في نماذج تحليلية مادية،إنها استجابة فكرية واعية لنداء الفيلسوف الكبير عبد الوهاب المسيري"دفاعا عن الإنسان" ضد النزعات المادية(العدمية) التي تحاول تفكيكه ورده إلى ما هو دونه،أي قوانين المادة وحركتها"([54])، وكما يقول الدكتور طه عبد الرحمن فالإنسان:"آية قبل أن يكون آلة"([55]).
ولما كان آية فقد احتاج وجوده إلى الكرامة أو لنقل حفظ الكرامة التي هي مطلوب النفوس العالية التي تأبى الانسحاق والاختزال والظلم، لأجل ذلك فالأمم العظام كما يقول الدكتور أبو يعرب المرزوقي"لا يمكن أن تسهم في التاريخ الكوني من دون تضحيات كبرى تصبح مفهومة إذا تجاوزنا مظاهرها فأدركنا منها الأعماق وربطناها بالدلالات الرمزية التي تحرك الوعي الجمعي ولا نكتفي بالثورة الطلائية التي تبقي الشعوب في نعاس دائم ولا تحرك لها ساكنا مهما مزقوا نسيج جلودها بالسياط اللواذع أو خرقوا أصماغ آذانها بالدعايات القواذع"([56])
          وهكذا يتضح في المقابل أن حقيقة الحوار الحضاري الذي تدعيه الدوائر المتصهينة وإرادة التعايش التي تنادي بها في كل محفل وناد، ليست في جوهرها إلا قشرة رقيقة من الزيف الخطابي والإعلامي يخفي وراءه إرادة الهيمنة، وفرق كبير بين إرادة التواصل وإرادة الهيمنة. لان الأولى في حوار الحضارات والثقافات تستند إلى مبدأ الاعتراف المتبادل، في حين تقوم الثانية على مبدأ الاغتصاب والتواقح الفكري.
          إن حوار الحضارات إن صح له معنى في زمن الهيمنة والتحيزات الغربية المستبدة ينبغي أن يُختَبر من أجل تصحيحه في الواقع والعلم، واختباره ما لم ينته إلى مبدأ الاعتراف بالخصوصية الفكرية والثقافية(نظرية التحيز عند الدكتور المسيري) باعتبارها حقا للأمم في ممارستها حريتها في التفكير والوجود ، فسيكون كل نشاط وكل إعلان ضربا من الدعاية السخيفة للصوت الواحد ولمنطق الغاب.
          وعلى الجملة فإن حوار الحضارات فيما نراه لا يملك أن يقوم مع واقع التواقح الذي يتجلى من خلال إنكار النماذج الإدراكية الاختزالية الغربية وجود فكر مختلف عند الغير يستلزم الاحترام وتستلزم رموزه كما تستلزم مضامينه وأشكاله الثقافية والحضارية أن تحضى بالحق في الوجود، بل إن هذه النماذج الاختزالية  الواحدية تتردى في وقاحة لا تفتأ تثبت معها أنها على حق فيما تعتقد وغيرها على باطل. وهذا الغير ينبغي في أحسن الأحوال تنميطه وعلمنته وحوسلته([57]) على حد تعبير المفكر الكبير عبد الوهاب المسيري. إن الحوار لايكون إلا مع الاحترام، والاحترام لا يكون إلا مع الاعتراف بالحق في الاختلاف.(ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم )(هود: 119-118).فالاختلاف وصف كيفي، والكيف أمر اتصالي ينشأ عنه الإيمان بالتعدد مع التواصل لا مع التقاطع. والتواصل الحق ينبغي أن يقوم أول ما يقوم عندنا على نفي الاستتباع الثقافي بترسيخ نقيضه وهو التحرر الثقافي ، فالشعوب الإسلامية ما زالت لا تتمتع بتمام استقلالها، وهي على فرض أنها تحررت من الاستعمار سياسيا بإلغاء حضوره المادي في أوطانها، فإنها ما زالت تعاني منه ثقافيا باستمرار حضوره المعنوي فيها وزرعه لتحيزاته الظاهرة والمضمرة.


·  أستاذ التداوليات وتحليل الخطاب


[1] - يراجع للمزيد من المعلومات عن المعرفة المشتركة عمل سبيربر وويلسون:
Mutual knowledge and relevance in theories of comprehension. In Smithe, N.V. ED. Mutual knowledge, new york, Academic press, 16-85.
[2] - طه عبد الرحمن: اللسان والميزان أو التكوثر العقلي، المركز الثقافي العربي، ط1، 1998، بتصرف، 152.
[3] - يراجع: عبدالوهاب المسيري: اللغة والمجاز بين التوحيد ووحدة الوجود، دار الشروق، ط1،2002،ص135-136.
[4] -  يعتبر الدكتور المسيري أن ظهور العلم المنفصل عن الأخلاق  وعن الغائيات الإنسانية والدينية والعاطفية والأخلاقية وانفصال الحقائق المادية عن القيمة هو أحد نتائج تطبيق النموذج الإدراكي المادي الواحدي، فتصبح الحقائق المادية(الصلبة أو السائلة) المتغيرة هي وحدها المرجعية المعرفية والأخلاقية المقبولة. يراجع كتابه: الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان، دار الفكر المعاصر،ط2، 2003، ص 39-40.
[5] - طه عبد الرحمن:الحق العربي في الاختلاف الفلسفي، المركز الثقافي العربي، ط1، 2002، 184.
[6] - في أنواع التحيز يميز الدكتور المسيري بين طبقات منه  إنطلاقا من قيد المضمون والقيمة فيرى أن هناك تحيزا للحق في مقابل التحيز للباطل وانطلاقا من قيد الإيمان بالمبدأ فيرى أن هناك تحيزا واعيا وتحيزا غير واع، وانطلاقا من قيد درجة التأثير التي ينتج عنها وجود تحيز حاد وتحيز مخفف، وهناك انواع أخرى جعل يميز فيها بين الجزئي والكلي والتحيز داخل التحيز وهي رؤية غنية تحتاج لاستثمارها في الدراسات المستقبلية لتأسيس علم أو فقه التحيز. يراجع المسيري عبد الوهاب: إشكالية التحيز ، رؤية معرفية ودعوة للاجتهاد، المقدمة:فقه التحيز، منشورات المعهد العالمي للفكر الإسلامي، سلسلة المنهجية الإسلامية،9، ص35 وما بعدها.
[7] - يراجع: إبراهيم عبد الكريم، تهويد الأرض وأسماء المعالم، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 2001.
[8] - يراجع: إبراهيم عبد الكريم، مرجع سابق.
[9] - المسيري عبد الوهاب: موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، 7/5.
[10] - يرى الأستاذ عبد السلام ياسين أن دولة اليهود هي البنت المدللة لأمريكا البروتستانتية الهائمة بالأساطير التوراتية، فهي لا تتردد-مستقوية بجهاز دعايتها الأخطبوطي المتنفذ في أمريكا- في تضخيم أعداد ضحايا هتلر، مقتبسة من الخزان التوراتي المشترك مفاهيم معبئة مثل: الخروج والمحرقة رافعة شعار"أرض بدون شعب لشعب بدون أرض" لتصبح فلسطين أرضا خالية، إرثا ضائعا استرده الشعب المختار. يراجع كتابه: الإسلام والحداثة، مطبوعات الهلال، ط1، 2000، ص 127.
[11] - المسيري عبد الوهاب: موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، 7/33.
[12] - جدير بالذكر أن السينما الصهيونية لا تنتمي مكانيًا إلى إسرائيل فحسب بل هي متغلغلة في العالم أجمع؛ حيث يمتلك اليهود أكبر الشركات السينمائية العالمية منذ بداية القرن العشرين (مترو جولدن ماير- كولومبيا - وارنر -بارامونت - فوكس للقرن العشرين - يونيفرسال).
[13] - قام جورج ميليه أحد الرواد الأوائل لفن السينما بإخراج فيلم "قضية دريفوس" 1899، وهذا الفيلم يحكي قصة الاضطهاد الذي عانى منه اليهود في أوروبا؛ من خلال موقف صغير يعمد المخرج إلى تهويله حتى يجد المتفرج نفسه أمام قضية إنسانية. ثم توالت الأفلام تباعًا منذ ذلك التاريخ لتكرِّس مبادئ الصهيونية من خلال ستار خفي؛ فظهر عام 1900 فيلم "الماعز تبحث عن الحشائش"، وفي عام 1901: "شمشون ودليلة" و"الابن الضال" وكلها أفلام تحكي قصص العهد القديم بلغة ماكرة.
[14] - عبدالوهاب المسيري: اللغة والمجاز بين التوحيد ووحدة الوجود، م.س ،ص 120.
[15] -  يراجع سفر العدد16، وسفر صموائيل6،
[16] - يراجع: عبد السلام المسدي: فعل التسمية بين العمليات العسكرية ومقاصد السياسة
ضمن موقع المجلة الإلكترونية أفكار: http://www.afkaronline.org/arabic/articles/mseddi.html
[17] - يراجع:روجي جارودي: الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية، ترجمة قسم الترجمة بجريدة الزمن، 1996. ص275.
[18] - يراجع ما قاله الدكتور المسيري في الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان، ص106.
[19] - إنّ وصايا موسى لجماعته مشبعة بالعنصرية والانعزال والفوقية والحقد والتعصّب ، والتسلط، واحتقار الشعوب والأمم ، وحتى إبادتها . فلم يكن ليرضى حتى بالشفقة والرأفة، فالقتل والتدمير والحرق والابادة والنهب والسلب هو ما كان يريده من جماعته . ولكي تأخذ صفة الشرعية نسبها كاتب النصّ إلى ربّ الجنود يهوه. يراجع:سفر أشعياء، الأصحاح60
[20] - يمكن في هذا الصدد مراجعة ما كتبه نوام تشومسكي في كتابه: الحادي عشر من أيلول الإرهاب والإرهاب المضاد، ترجمة ريم منصور الأطرش، دار الفكر المعاصر للطباعة والنشر والتوزيع، 2003.
[21] - الأعمال الشعرية الكاملة، باريس كاليمار، 1941، ص 705.
[22] - مونتيسكيو: دولة القانون،42.
[23] - امبرطو إيكو: التأويل بين السيميائيات والتفكيكية، ترجمة و تقديم د. سعيد بنكراد ،المركز الثقافي العربي الدارالبيضاء الطبعة الاولىسنة 2000 الصفحة: 11.
[24] - يراجع مقاله المهم من خمس صفحات الذي نشره في Le Monde Diplomatique ، عدد 554مايو 2000. تحت عنوان: L'Amérique dans les têtes. Un délicieux despotisme.".
[25] - المقال نفسه.
[26] - Peter J. Taylor and Colin Flint. Political Geography. World Economy. Nation - State and locality. Person Education, England, Fourth Edition2000/ P.19-250.
[27] - Yassine Abdessalame. Islamiser la Modernité. Juin 1998.
[28] - Herbert Shiller. - The mind Mangers, Beacom press, Boston, 1974. P.4.
[29] - Fordon R. (Ed). Conterworks: Managing. The diversity of Knowledge. London: Routhldge (1995) 
[30] - ف. مولابيه وج كولنيز. صناعة الجوع. (خرافة الندرة). ترجمة أحمد حسان. عالم المعرفة ع 64 - ص360.
[31] - نفسه. ص 361.
[32] - نفسه. ص 365.
[33] - ينظر : فليب بروطون : الكلام المطوع ،منشورات الاكتشاف، 2000.
[34] - يراجع عبد المنعم المحجوب: ورثة اللوغوس، بصدد الآخر والذات والثقافة، المركز العالمي لدراسات وأبحاث الكتاب الأخضر، ط1، 2004، ص 11.(بتصرف)
[35] - باتريك سميث. اليابان (رؤية جديدة). ترجمة سعد زهران. عالم المعرفة. ع 268. ص 21.
[36] - نفسه. ص 34.
[37] - ريجيس دوبري. حياة الصورة وموتها. ترجمة فريد الزاهي. ص 244.
[38] - يراجع تصنيف المرزوقي أبو يعرب للعولمة في كتابه: آفاق النهضة العربية ومستقبل الإنسان في مهب الريح، دار الطليعة بيروت، ط1، 1999، ص120.
[39] - المسيري عبد الوهاب: الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان، دار الفكر المعاصر،ط2، 2003، ص 39-40.
[40] - ريتشارد إي نيسبت:جغرافية الفكر، كيف يفكر الغربيون والآسيويون على نحو مختلف...ولماذا؟ ضمن سلسلة عالم المعرفة، الكويت،ع 312، فبراير2005. ص173
[41] - باتريك سميث. ص 176.
[42] - مسعود ظاهر. النهضة العربية والنهضة اليابانية. تشابه المقدمات واختلاف النتائج. عالم المعرفة. ع 252. ص 23.
[43] - باتريك سميث ص. 17.
[44] - ينظر: عبدالغفار رشاد. التقليدية والحداثة في التجربة اليابانية. بيروت 1984.
محمد عبدالقادر حاكم. أسرار تقدم اليابان. القاهرة 1990.
محمد عبدالقادر حاكم. التعليم في اليابان المحور الأساسي للنهضة اليابانية. القاهرة 1997
[45] - المرزوقي أبو يعرب: آفاق النهضة العربية ومستقبل الإنسان في مهب الريح، ص71.
[46] - عبد المنعم المحجوب: ورثة اللوغوس، بصدد الآخر والذات والثقافة، ص 120.
[47] - إحدى الاتجاهات الفلسفية اليونانية القديمة نسبة إلى الفيلسوف اليوناني أبيقور، وهي فلسفة تمجد اللذة والانسياق وراء المتع والشهوات ،وقد توارت هذه الفلسفة بسبب الهجوم الذي شنه الرواقيون ضدها وبسبب تعارضها مع تعاليم النصرانية التي تدعو إلى التقشف، ولكنها ظهرت على السطح في القرن الثامن عشر الميلادي، وتبناها كثير من الفلاسفة، وتقبلها الغربيون كبديل عن الأفكار الكنسية لمسايرتها لأهوائهم ورغباتهم.
[48] -Festugire. Chilton. Epicurus and his gods. Oxford 1955.
[49] - وهي في الحقيقة لذات بالجمع لا تنتهي إلى غاية وبعضها يشد بأسباب بعض حتى لا يكاد الواقع في إسارها يخرج منها، ويشهد لمدلول الجمع في الألوهية الاستهلاكية أنه قرئ أيضا"آلهته هواه" بالجمع على أنها أنواع، أي كلما مال طبعه إلى شيء اتبعه وذهب خلفه، فكأنه اتخذ هواه آلهة شتى يعبد كل وقت واحدا منها.كما قرئ أيضا"إلهة" بالتأنيث، وفيها أيضا معنى لطيف يحتاج للتأمل في ارتباط الأنوثة والجنس بالألوهية عند الأبيقوريين.
يراجع ما قاله:الرازي:مفاتيح الغيب، دار الفكر بيروت لبنان،ط2002، 14/269، وأبو حيان الأندلسي: البحر المحيط،راجعه صدقي محمد جميل،ط1992، دار الفكر بيروت لبنان،8/110.
[50] - الاستلاب في الفلسفة يشير إلى «غربة الإنسان عن جوهره وتنزُّله عن المقام الذي ينبغي أن يكون فيه»، كما يشير إلى «عدم التوافق بين الماهية والوجود»، فالاغتراب نقص وتشويه وانزياح عن الوضع الصحيح.
-[51]يراجع:
- Benjamin R. Barber, "Culture MC World contre démocratie", Le
 Monde diplomatique, août 1998.
[52] - يراجع المقال السابق الذكر لإجناسيو راموني في العالم الدبلوماسي. L'Amérique dans les têtes. Un délicieux despotisme.".
[53] - يراجع: المسيري عبد الوهاب: الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان، دار الفكر المعاصر، ط2، 2003، ص39.
[54] - يراجع الكتاب الذي يعتبر محطة أساسية في مشروع الدكتور الفيلسوف المسيري:دفاع عن الإنسان، دراسات نظرية وتطبيقية في النماذج المركبة، دار الشروق، ط1، 2003، ص 8.
[55] - حوارات من أجل المستقبل:132.
[56] - المرزوفي أبو يعرب: آفاق النهضة العربية ومستقبل الإنسان في مهب العولمة، دار الطليعة بيروت، ط1، 1999، ص202.
[57] - يراجع  العمل الرائد للدكتور عبد الوهاب المسيري في جزئيه النظري والتطبيقي: العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة، دار الشروق،ط1، 2002.ص2/463.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق