الإعجاز الترجمي في القرآن الكريم
نحو بناء نظرية بيانية لترجمة معاني القرآن الكريم
|
عبد الحميد زاهيد
مركز ترجمة معاني القرآن الكريم وتكامل المعارف
كلية الآداب والعلوم الانسانية
مراكش- المملكة المغربية
|
ملخص
يكشف هذا البحث النقاب عن وجه جديد من وجوه إعجاز القرآن الكريم، إنه الإعجاز الترجمي لكتاب الله، فكما أعجز الله العرب عن الإتيان بمثله في لغة الأصل، أعجز الخلق عن الإتيان بمثله أو من مثله في لغة الهدف. أما وجوه الإعجاز الترجمي في القرآن الكريم فيمكن إثباتها على المستويين النظري والإنجازي، فعلى المستوى النظري، برهنا في المقال على إفلاس النظرية الترجمية في استيعاب الفعل الترجمي في القرآن الكريم، ومثلنا لذلك بمفاهيم الترجمةTranslation والتكييفAdaptation والمعادلة التفاعلية Dynamic Equivalence والربح والضياع Loss and gain. أما وجوه الإعجاز الترجمي في القرآن الكريم على المستوى الإنجازي، فقد أثبتنا أن لغة الهدف، مهما كانت، فهي عاجزة عن أداء الوظيفة البيانية التي تؤديها لغة التنزيل. وأن مبدأ البيان في لغة الهدف لايمكن ملامسته إلا في إطار نظرية بيانية تقوم على أربعة مطالب وهي: مطلب الوعي الترجمي والمطلب اللغوي والمطلب الشرعي والمطلب الثقافي. تلك إذن مطالب أربعة ندعو مترجم القرآن إلى تبنيها لتحقيق مبدإ البيان الترجمي، وهو مبدأ تقوم عليه النظرية البيانية للقرآن الكريم، التي تتخذ من الإعجاز الترجمي للقرآن معتقدا لها وإطارا نظريا لها، وتعتبر القول الثقيل قولا معجزا لا يحاكى، والقول الخفيف قولا يضاهى.
Abstract
This research exposes the wondrous un-translatability of the Holy Quran. Just as Allah has challenged mankind to make up a similar book in Arabic language, He has similarly defied them to elaborate its translation replica in any target language. The aspects of the Holy Quran miraculous un-translatability can be determined both on the theoretical and practical levels. The fiasco of the translation theory to incorporate the translation act in the Holy Quran is theoretically demonstrated in this article. In doing so, illustrations are provided with respect to the concepts of Translation, Adaptation, Dynamic Equivalence and Loss virus gain. On the practical level, however, the Holy Quran miraculous un-translatability is correlated with the failure of any target language to execute the "albayaniya" (Thruth) function executed by the language of revelation. The concept of "albayan" can be perceived only in the light of "albayaniya" theory based on four requirements. These include the translator consciousness as well as the various linguistic, cultural and theological genres of knowledge. The translator of the Holy Quran is to be equipped with these four prerequisites in order to achieve "albayan attarjami" (Translation generated truth) which upholds the alabyaniya theory of the Holy Quran. The wondrous un-translatability of the Holy Quran constitutes the core and the theoretical frame of such theory which considers on the one hand, Allah opaque utterance in the Holy Quran as Devine-specific to be man simulated and the human being words as too shallow to allow imitation, duplication or replication processes, on the other.
لقد أثبت القرآن الكريم على مر العصور أنه كتاب معجز، أما وجوه إعجازه فقد تعددت مناحيها وتنوعت فصولها، فقد أعجز القرآن مخاطبيه بأصواته وتأليفه ولغته وغيبياته وأخباره وأمثاله وناسخه ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه ومجمله ومفصله وأمثاله وإيجازه وإطنابه وبراهينه وأدلته وتناسب آياته وسوره، وقد آن الأوان للحديث عن وجه إعجازي آخر: إنه الإعجاز الترجمي وهو وجه جديد من وجوه إعجاز القرآن، لم يتقص الباحثون غاياته قديما وحديثا.
إن الإعجاز الترجمي وجه من وجوه إعجاز كتاب الله لا يقل أهمية عن الإعجاز العلمي، بل يمكن عدهما معا من وجوه إعجاز هذا العصر، أما الإعجاز العلمي فالقول فيه بين، والكلام عنه ظاهر، على خلاف الإعجاز الترجمي، فموضوعه أنف لم تجتذب القدامى والمحدثين دواعي التأليف فيه والإبانة عن أركانه وشعبه وأسئلته ومشكلاته. إن الفشل الذريع الذي منيت به كل الترجمات السابقة، والذي سوف تمنى به كل الترجمات اللاحقة، لدليل يؤكد ما اصطلحنا عليه ب "الإعجاز الترجمي" لكتاب الله، وشاهد على أن الله أعجز العرب عن الإتيان بمثله، كما أعجز الخلق عن الإتيان بترجمة معانيه ودلالاته.
مظاهر الإعجاز الترجمي:
لا أحد يستطيع أن يدعي بأنه قادر على الإتيان بترجمة للقرآن الكريم تغني القارئ عن القرآن في لغته، وكل من ادعى ذلك فادعاؤه مردود عليه لأمرين:
- أولهما: أن العرب عجزوا عن الإتيان بمثله أو من مثله في لغة التنزيل، وهو أسهل منالا من الإتيان به في غير لغته. وبلغة الترجمة نقول: إذا ثبت العجز في لغة الأصل، فالعجز من باب الأولى والأحرى ثابت لا محالة في لغة الهدف.
- ثانيهما: أن من ادعى أنه قادر على الاتيان بترجمة للقرآن الكريم، فكلامه مردود عليه أيضا لأمرين:
الأمر الأول: أن لغة الهدف تعجز مهما بلغت أعلى درجات البيان عن استيعاب الكلام الإلهي، أما الحجة في ذلك، فكما يقول الفيلسوف طه عبد الرحمان: "أن القول الثقيل قول متعال، لا متناه وكوني"([1])، أما الترجمة التي يقدمها المعترض ف"لا يمكن إلا أن تكون قولا خفيفا، والقول الخفيف هو ما كان قائله غير متعال ومضمونه متناهيا ومتلقيه غير كوني"([2]).
الأمر الثاني: لو سلمنا جدلا بصحة دعوى المعترض، للزم من ذلك أن ترجمة القرآن تغني القارئ الهدف عن الأصل، وهذا ما لم يقدر أحد من المترجمين على فعله أو ادعائه، فترجمة القول الثقيل لا يمكن تسويتها بترجمة القول الخفيف. فترجمة القول الخفيف إلى قول خفيف يغنيك عن الأصل، أما ترجمة القول الثقيل إلى قول خفيف فلا يغنيك عن الأصل أبدا، وهو تحد قائم على مر العصور، يؤكد مشروعية ما ذهبنا إليه من أن "الإعجاز الترجمي" وجه من وجوه إعجاز كتاب الله.
ويمكن تلخيص وجوه الإعجاز الترجمي في مستويين، نظري وإنجازي.
المستوى النظري:
يمكن القول إن كل النظريات السائدة في حقل الترجمة لا تصلح أن تكون إطارا نظريا لترجمة القرآن الكريم، بل هي عاجزة عن القيام بذلك. فإذا كانت هذه النظريات ناجحة في التنظير لترجمة القول الخفيف، فإنها مفلسة في القول الثقيل، وبيان ذلك على سبيل التمثيل، أن النظرية الوظيفية (Nord 1991) تعتبر الفعل الترجمي تداخلا ثقافيا بين النص الأصلي والنص الهدف، وأن على المترجم تكييف النص الأصلي لشروط ومقتضيات لغة الهدف. فإذا كان هذا الكلام مقبولا ومجديا ومثمرا في الكلام البشري لما بين الناس من تجارب إنسانية مشتركة، وقواسم ثقافية متداخلة، فإنه غير ذلك في الكلام الإلهي، وذلك لأن القرآن نزل ليبين للناس أمور دينهم ودنياهم ليتمثلوه ويقتدوا به، فالأولى بالمترجم أن يتشبت بالأصل لا بالفرع.
أما النظرية التواصلية (Hatim 1997) فتسعى إلى خلق معادلات ثقافية في لغة الهدف وتدعو المترجم إلى الاهتمام بنصية Textuality النص والحفاظ على روحه في لغة الهدف. إن العمل بمقتضيات هذه النظرية مربح في الكلام البشري لما يحققه من تقارب بين الشعوب والثقافات، أما القرآن فقد نزل ليسعى الناس إليه ويلتفوا حوله ويعتصموا بحبله، ولو أجزنا العمل بمقتضيات هذه النظرية، لتعددت أرواح النص القرآني تعدد الأقوام والشعوب وصار لكل قوم قرآنه حسب ما تقتضيه ثقافته وعاداته. وهذا سر من أسرار هذا الإعجاز الترجمي الذي ندعو إلى التأمل فيه.
هذا كلام مقتضب عن بعض الاتجاهات النظرية في حقل الترجمة، أما على مستوى المصطلحات، فسنتوقف عند بعضها لنبين قصورها عن استيعاب النص القرآني، وهو قصور يكرس عجزها أمام قول لا يشبه باقي الأقوال، وأمام مضمون قول لا يشبه مضامين باقي الأقوال.
1- الترجمة Translation / التكييف Adaptation
تقوم نظرية الترجمة على ثلاثة مرتكزات أساسية: وهي المعنى Meaning والهدف Purpose والقصدية Intention، فيختص مصطلح الترجمة بالمعنى، ومصطلح التكييف بالهدف والقصدية. فقد ورد في موسوعة الترجمة "أن مصطلح الترجمة يقتصر على المعاني، في حين يهدف التكييف إلى نقل أهداف النص والإفصاح عن قصدية المتكلم"([3]).
إن ما يجري في عملية نقل معاني القرآن الكريم أكبر مما يمكن لمصطلحي الترجمة والتكييف وصفه، فلا يمكن الزعم أن ما يقوم به مترجم القرآن ترجمة، لأن معاني القرآن الكريم لا يمكن الإحاطة بها لا في ذواتها ولا في صيرورتها، وبالتالي ما يفعله المترجم، هو نقل لبعض هذه المعاني وليس كل المعاني. كما لا يمكن الزعم أيضا أن ما يقوم به المترجم هو تكييف، لأن هناك آيات محكمات في القرآن لا يمكن تكييفها، كما أن مراد الله (القصدية) لا يمكن لأحد أن يدعي قدرته على الإفصاح به، وبالتالي ما يمكن للمترجم فعله هو نقل لبعض أهداف هذا النص، وبعض من مراده عز وجل. أضف إلى ذلك أن الترجمة والتكييف هما نوعان من إعادة كتابة النص الأصلي في لغة الهدف، وإعادة الكتابة لا تفسد النص في الكلام الخفيف ولكنها متلفة مضللة في القول الثقيل.
ثبت فيما سبق قوله أن في مصطلحي الترجمة والتكييف عجزا ملحوظا عن الوصف والتنظير لكيفية نقل معاني القرآن الكريم، وهذا ضرب من الإعجاز الترجمي الذي ندعو إلى النظر فيه، ولكن ما السبيل إلى نقل معاني القرآن الكريم؟
السبيل إلى ذلك هو بناء نظرية ترجمية تولد من رحم القرآن، تتبنى الإعجاز الترجمي إطارا نظريا لها، وتنطلق منه لتأسيس آليات نظرية تعكس الإعجاز الترجمي، وتسعى إلى تقريب القرآن الكريم إلى القارئ الهدف لتحسيسه بحيلولة الإعجاز الترجمي دون إدراك مغازي القرآن في لغة الهدف، وأن الإدراك الحقيقي لا يتمثل إلا في لغة الأصل، وهذا ضرب من ضروب الإعجاز الترجمي، لا يقوى على الوصول إليه قول من الأقوال الخفيفة.
ولذلك نرى أن الوصف الأنسب للفعل الترجمي لمعاني القرآن الكريم، والذي يتماشى مع مفهوم الإعجاز الترجمي، هو استبدال مفهومي الترجمة والتكييف بمفهوم الاقتباس الذي يعكس عجز المترجم والفعل الترجمي في آن واحد عن الإحاطة بالنص القرآني.
لقد وضع الفيلسوف طه عبد الرحمن آلية الاقتباس لمواجهة فعل الاختلاس الذي يتصف بهما كل من مصطلحي الترجمة والتكييف، فالاقتباس مقوم من مقومات الترجمة التأصيلية ومفاده: "أن يخرج الناقل عن الشعور بأنه يترجم القول الثقيل نفسه إلى الشعور بأنه يترجم عن القول الثقيل" ([4])، وشتان بين الترجمة والتكييف اللذين يدعي فيهما المترجم ترجمة المعنى والهدف والقصدية، وبين مفهوم الاقتباس الذي يفيد أن المترجم يترجم عن القرآن وليس القرآن، ففي الأقوال الخفيفة يستطيع المترجم أن يدعي أنه يمارس الفعل الترجمي، وأنه ينقل مراد الكاتب وقصده، ولكنه لا يستطيع ادعاء ذلك في القرآن الكريم. فالقول بالاقتباس اعتراف بالإعجاز الترجمي للقرآن الكريم.
2- المعادلة التفاعلية Dynamic Equivalence
جاءت نظرية المعادلة التفاعلية لتحقق طفرة نوعية في شروط الفعل الترجمي، فقد طرح (Nida 1969) تساؤلا عن جدوى ترجمة الإنجيل ترجمة لا تخلق في القارئ الهدف استجابة شبيهة باستجابة القارئ الأول؟ فَهَمُّ المعادلة التفاعلية كما يقول Nida هو أن تقدم "في لغة الهدف نصا معادلا في معناه وأسلوبه يكون أقرب إلى التماثل من النص الأصلي"([5]).
وإذا كان هذا هو نهج ترجمة الإنجيل، فالأمر ليس كذلك بالنسبة إلى القرآن الكريم. فلن تستطيع أي ترجمة الإحاطة بمعناه، وكذلك لن تستطيع أي ترجمة مضاهاة أسلوبه، سواء في لغة المصدر أو لغة الهدف على حد سواء. وأقصى ما يمكن للمترجم فعله هو ترجمة اقتباسية لبعض معانيه في لغة لا تروي ظمأ القارئ الهدف. فيكون هدف الترجمة الاقتباسية هو تحقيق ما ندعو إلى تسميته ب "المعادلة التحفيزية"، ولذلك ندعو إلى استبدال المعادلة التفاعلية بالمعادلة التحفيزية، إيمانا منا بأن البيان الحقيقي لا يتأتى إلا في لغة الأصل، أما البيان الترجمي فللإستئناس والتحفيز لا غير، وإيمانا منا أيضا بعجز المعادلة التفاعلية عن ترويض القارئ الهدف، واستحالة تطبيقها على القرآن الكريم، وهذا ضرب من ضروب الإعجاز الترجمي الذي ندعو إلى النظر فيه والكشف عن تجلياته ومظاهره.
إن دعوتنا إلى استبدال المعادلة التفاعلية بالمعادلة التحفيزية تجد في كلام الفيلسوف طه عبد الرحمن ما يؤصل لها ويدعمها ويضفي عليها الحجة العقلية والمنطقية، وذلك في دعوته إلى قلب التصور القديم لطبيعة الأصل والنقل باعتبارها آلية من آليات مواجهة فعل الاختلاس الترجمي. يقول الفيلسوف طه: "يسود الاعتقاد بأن النص الأصلي الذي ينقله المترجم يمثل "الآخر" أو "الغير" أو "الغريب"، بينما تمثل ترجمته "الأنا" أو "الذات" أو "القريب"([6]). إن هذا الطرح القديم يصلح تبنيه في الأقوال البشرية، ولكنه حسب الفيلسوف طه "لا يصح في حق علاقة القول الثقيل بالقول "البروميثي" بل العكس هو الصحيح، إذ القول الثقيل هو الذي يكون محل "الذات" في حين يكون القول "البروميثي" هو محل "الغير"([7]). والسبب في ذلك هو أن القول الثقيل قول متعال لا متناهي وكوني.
فإذا كان هدف المعادلة التفاعلية "هو نقل النص الأصلي على الوجه الذي يوفي بمقتضيات المجال التداولي للمتلقي"([8]) وهو أمر غير مقدور عليه لما يوجد في القرآن الكريم من إعجاز ترجمي يحول دون تحقيق تلك المعادلة، فإن هدف المعادلة التحفيزية هو "نقل المتلقي نفسه إلى مستوى الوفاء بمقتضيات النص الأصلي"([9]).
3- الربح والضياع: Loss and gain
إذا كان "الربح والضياع" مفهوما واصفا بامتياز لما يجري في عملية النقل الترجمي في القول الخفيف، فإن الأمر ليس كذلك في نقل معاني القرآن الكريم. فإذا جاز لنا الحديث عن الربح والضياع بين لغة الأصل ولغة الهدف، فالأمر ليس كذلك في القول الثقيل بأي حال من الأحوال، وذلك لأن ما يعرض للقرآن الكريم عند نقله إلى لغة الهدف هو الضياع والضياع لا غير، وهذا ضرب من ضروب الإعجاز الترجمي لكتاب الله.
إن الضياع الترجمي في عملية الترجمة ليس ضياعا بمفهومه المطلق، وإنما هو ضياع سرعان ما يتحول إلى ربح (gain) في لغة الهدف. تقول (1996) Bassnette:«إن مقاربة مفهومي (الضياع والربح) في عملية الترجمة مرتبط باستحالة التماثل بين لغتين. إن ما أخذه مفهوم الضياع من مناقشة بين المهتمين أثناء نقل النص الأصلي من لغة المصدر إلى لغة الهدف هو علامة أخرى من علامات أزمة الحقل الترجمي، إذ يتم إغفال ما يمكن للنص المترجم أن يربحه من لغة المصدر، وذلك أن المترجم يكون مضطرا إلى إغناء النص الأصلي وتوضيحه في لغة الهدف باعتباره نتيجة للعمل الترجمي؛ إضافة إلى ذلك، أن ما يمكن اعتباره (ضياع) من لغة المصدر يمكن تعويضه في لغة الهدف»([10]).
إن أشكال هذا الربح تتعدد بتعدد اللغات، وتختلف باختلاف طبائعها. يحدد (2002) Sandor بعض أنواع الربح الذي تكتسبه لغة الهدف من الضياع الذي يلحق بلغة المصدر في: الإيجاز في التعبير، وشعرية الأسلوب، وتفادي الغموض، وتوسيع الحقل الدلالي أو تضييقه([11]).
ويضيف (2002) Dickins متحدثا عن الربح الترجمي (Translation gain) أنه قد يكون ذا طبيعة نحوية، وأن أسلوب لغة الهدف قد يكون، في بعض الأحيان، أجمل وأسهل في التعبير من لغة المصدر([12]). ويخلص Dickins قائلا: إن كل أشكال «الربح هي أمثلة لأشكال الضياع في لغة المصدر»([13]).
إن المترجم، كما يقول (2002) Sandor، يسعى في عمله الترجمي أن يرجح كفة الربح على كفة الضياع؛ وذلك لأن المعادلة (Equivalence) تعد الدرجة الصفر في الترجمة، و(الربح) قيمة إضافية في النص المترجم و(الضياع) قيمة سلبية في النص الأصلي([14]).
إذا كان مفهوما الربح والضياع يفضيان بالمترجم إلى خلق معادلة تحتفظ بروح النص في حلة جديدة، فإن الأمر بخلاف ذلك في النص القرآني، فما يحكم ترجمة القرآن هو مفهوم الضياع وهو مفهوم يعكس أولا عجز المترجم عن خلق أي شكل من أشكال الربح في لغة الهدف، فترجمة القرآن ليست إعادة الكتابة كما في الكلام البشري؛ ويعزز ثانيا مفهوم الإعجاز الترجمي في الفعل الترجمي لكتاب الله، وأن ما يصلح تطبيقه على الكلام البشري لا يصلح بالضرورة تطبيقه في الكلام الإلهي. ولذا، وجب على المترجم أن ينصب تفكيره في أشكال الضياع التي ستلحق بالنص القرآني، وليس في أشكال الربح، لأنه عاجز عن تحقيقها، ولو ادعى ذلك لتحول الربح المزعوم إلى تحريف للأصل وإتلاف لمعاني القرآن الكريم، وهذا ما تشهد به كثير من الترجمات.
المستوى الإنجازي:
إن مظاهر الإعجاز الترجمي لا تنحصر فقط على مستوى نظرية الترجمة، بل يمتد أيضا إلى ما اصطلحنا عليه بالمستوى الإنجازي، وهي المرحلة العملية التي يباشر فيها المترجم الفعل الترجمي لمعاني القرآن الكريم. إن للفعل الترجمي لكتاب الله خصوصية متفردة تعكس إعجازه الترجمي على المستوى الإنجازي، وهذا الفعل لا يؤتى إلا في إطار ما وسمناه في مقالات مختلفة بالنظرية البيانية لترجمة معاني القرآن، وهي نظرية تجعل من تربة القرآن منبتها، ومن علوم القرآن مسقاها، ومن فروع اللغة أغصانها، ومن وعي المترجم ثمارها، إنها نظرية تعتمد مبدأ البيان غاية، لتكون ترجمة القرآن الكريم في حكم التنزيل. ﮋ$uZø9¨tRur øn=tã |=»tGÅ3ø9$# $YZ»uö;Ï? Èe@ä3Ïj9 &äóÓx«ﮊ [النحل: 89].
ومبدأ البيان في المستوى الإنجازي لا يتحقق إلا من خلال أربعة مطالب:
1- مطلب الوعي الترجمي:
لم نعثر في نظرية الترجمة على ما اصطلحنا عليه بالوعي الترجمي باعتباره مطلبا أساسيا في المترجم، وإنما ركز المنظرون كلامهم على اللغة والثقافة، وعدوهما الركيزتين الأساسيتين في مباشرة الفعل الترجمي، وكل ما دار من نقاش حول شروط المترجم فهو لصيق باللغة والثقافة لا يخرج عنهما.
إن اللغة والثقافة مطلبان أساسيان في الفعل الترجمي للقول الخفيف، ولكنهما غير كافيين في القول الثقيل. ولذلك اشترطنا في مترجم القرآن ما اصطلحنا عليه ب"الوعي الترجمي" وهو المقدرة على تمثل النص القرآني والإحاطة به في ذاته وسياقه، إحاطة لغوية وثقافية وشرعية، إحاطة تقتضي من المترجم وعيا ترجميا بخصوصية الفعل الترجمي للقرآن الكريم، وهو مطلب لا يتأتى إلا بشرطين أساسين:
أولهما: الإيمان بأن القول الثقيل قول معجز ومتميز عن باقي الأقوال. إن الإيمان بإعجازية القرآن تجعل المترجم واعيا بإعجازه الترجمي الذي هو وجه من وجوه إعجازه. فشرط الإيمان يجعل المترجم يستشعر هول الفعل الترجمي حتى إذا أقبل عليه كان كمثل من أقبل على البحر يطلب منه حاجته من الماء، فمهما أخذ منه لم ينقص منه شيئا.
وما يلاحظ في حقل ترجمة القرآن الكريم أن المترجمين يتفاوتون في درجة الوعي الترجمي. فكلما كانت إحاطتهم أشمل باللغة والثقافة والشريعة، ازدادوا قربا من مطلب الوعي الترجمي، وكلما ضعفت إحاطتهم بلغة القرآن وثقافته وشريعته، ازدادوا بعدا من هذا المطلب. وقد يصل هذا الضعف إلى حد الجهل أو الفهم الفاسد مما يترتب عليه ترجمات فاسدة تحرف مراد الله. إن الوعي الترجمي الذي ندعو إليه لا يكتمل في الأفراد، فقد نشأت علوم كثيرة لفهم القرآن الكريم، وكتبت مؤلفات عديدة على مر العصور للنظر فيه، فأنى للفرد والفرد الواحد أن يجمع ما عجزت على الإحاطة به والحسم فيه علوم وعقول.
ثانيهما: الإحاطة بالقرآن الكريم في ذاته وسياقه، وهو ركن أساسي يتحقق به الوعي الترجمي. ورب معترض يعترض قائلا: إن هذا الشرط أساسي أيضا في القول الخفيف ولا يكتمل الفعل الترجمي إلا به، وإذا ثبت ذلك ينتفي تميز القرآن عن غيره فتحصل المساواة. والجواب عن ذلك بأن يقال: صحيح أن الإحاطة بالنص الأصلي شرط في الفعل الترجمي، ولكن الإحاطة بالقول الثقيل ليست من جنس الإحاطة بالقول الخفيف.
وبيان ذلك، أن ما يحتاج إليه مترجم القول الخفيف هو قراءة النص الأصلي مرات عديدة حتى يتحقق له الفهم، ثم ينطلق للقراءة عن النص حتى يتحقق له شرط الإحاطة كما أسلفنا الذكر، وهذه الأمور تعرف في نظرية الترجمة ب Stratigic decisions. أما الإحاطة بالنص القرآني وسياقه فأمر آخر، فلم يسبق في التاريخ أن نشأت علوم اتخذت من نص مدارا لها، ولا سبق أن ظهرت معارف اتخذت كتابا محورا لها، ولم يحدث أن حشدت الطاقات والعقول، وفتقت الفنون والعلوم من أجل كتاب، إلا مع القرآن الكريم. فنشأت علوم لغوية وشرعية تبحث في النص القرآني بغية فهمه في لغة التنزيل. فإذا كانت هذه العلوم مدخلا للفهم في لغة الأصل، فإنها واجبة قطعا في اقتباسه إلى لغة الهدف. لأن الفهم شرط في النقل، وبهذا تميز الدكتور ابن شقرون عن كثير من المترجمين، فاستوفى مطلب الوعي الترجمي الذي اشترطناه في كل مترجم مقبل على الترجمة عن القرآن.
ويبدو هذا الوعي الترجمي في منهجيته عندما وصف عملية ترجمة القرآن الكريم بأنها معقدة "تتداخل فيها وتتكامل فيها أنواع شتى من المعرفة الأساسية العميقة الملائمة للظروف الماضية والحالية والمستقبلية من لغة ونحو وصرف وبلاغة وفقه وأصول (أصول الدين وأصول الفقه) وتاريخ ومذاهب التفسير فضلا عن علوم القرآن المتعلقة بأسباب النزول والناسخ والمنسوخ ومعاني الحروف والمحكم والمتاشبه والمقيد والمطلق والخاص والعام والمجمل والمفصل"([15]). وهذه حقيقة لم ينتبه إليها أغلب مترجمي القرآن، بل لا نكاد نجد إشارة لها في مقدمات ترجماتهم، وكأن القرآن الكريم رواية تؤخذ من رف خزانة أعجب بها قارئها فأقبل على ترجمتها.
إن ما نص عليه الدكتور ابن شقرون ليدل بصدق على أن الوعي الترجمي حاضر عند الرجل ببعديه الإيماني الذي يتمثل في إعجاز القرآن، والفقهي الذي يتمثل في الإحاطة -حسب المستطاع- بكتاب الله في ذاته وسياقه.
وحتى نستدل على صحة ما ذهبنا إليه من أن النظرية البيانية بمبدئها البياني ومطالبها الأربعة قادرة على فتح الطريق أمام كل من أراد أن يقتبس من القرآن الكريم، وأمام كل من أراد أن يساهم في بناء ترجمة اقتباسية لكتاب الله تبين للقارئ الهدف بعضا من مراده لتحفزه وتنقله إلى رحاب القرآن ليطلع على حقائق التنزيل في مظانه، لجأنا إلى مقارنة بين ترجمة الدكتور محمد ابن شقرون والمترجمة Denis Masson لنتبين مدى قرب الترجمتين أو بعدهما عن النص الأصلي، ومدى قربهما أو بعدهما من مطلب الوعي الترجمي وتمثلهما لمطالب الترجمة الاقتباسية التي ندعو إليها.
2- المطلب اللغوي:
يعتبر المطلب اللغوي مطلبا أساسيا في الترجمة الاقتباسية وهو مطلب يتفاوت فيه المترجمون، فلا يكفي في المترجم أن يكون عارفا بالعربية معرفة تمكنه من الفهم فقط، بل هو ملزم بالإلمام بلغة القرآن وقواعدها، وبعادات العرب في كلامها، والفروق الدقيقة بين معاني الكلمات، وبالمشترك والمتضاد...وبالجملة، على المترجم الإلمام ليس فقط بالعربية كما هو الحال عند أغلب المترجمين في أحسن الأحوال بل عليه العلم والإلمام بعلوم العربية أيضا لأنها المفاتيح والمداخل إلى فهمه، وذلك لأن القرآن نزل بلسان العرب جريا على عاداتهم ﮋ!$¯RÎ) çm»oYø9tRr& $ºRºuäöè% $wÎ/ttã öNä3¯=yè©9 cqè=É)÷ès?ﮊ [يوسف: 2].
لقد كان الدكتور ابن شقرون واعيا بالمطلب اللغوي، فقد أشار إلى أهمية تلك العلوم اللغوية التي تبحث في لغة القرآن، ولم يذخر وسعا في توظيف هذه العلوم في ترجمته الاقتباسية، عكس Masson التي توقفت معرفتها عند العربية دون علومها، وستلحظ ذلك من نفسك إن تأملت ترجمة كل منهما لقوله تعالى: ﮋtA$s% Éb>u ÎoTÎ) z`ydur ãNôàyèø9$# ÓÍh_ÏB @yètGô©$#ur â¨ù&§9$# $Y6øx©ﮊ [مريم: 4].
"Il dit: seigneur, mes os sont affaiblis et les cheuveux, sur ma tête, comme enflamée, s’allument de blancheur" ابن شقرون: ج5 ص 233
"Il dit: Mon seigneur, mes os sont affaiblis, ma tête a blanchi" T 2: p 371.
يقول الزركشي معلقا على الآية الكريمة: "وأصل الكلام أن يقال: واشتعل شيب الرأس وإنما قلب للمبالغة، لأنه يستفاد منه عموم الشيب لجميع الرأس، ولو جاء الكلام على وجهه لم يفد ذلك العموم، ولا يخفى أنه أبلغ من قولك: كثر الشيب في الرأس، وإن كان ذلك حقيقة المعنى، والحق أن المعنى يعار أولا ثم بواسطته يعار اللفظ" ([16]).
إن المتأمل في الترجمتين، وإن كانت معرفته باللغة الفرنسية متواضعة ليدرك بلا عناء أن ما تحدث عنه الزركشي من أن الكلام في الآية قلب للمبالغة غائب تماما في ترجمة Masson، بل إن ترجمتها أرجعت بناء الآية إلى أصله (شاب رأسي)، فأفرغت الآية من إعجازها الترجمي، وجردت الآية من قوة التصوير، وانتزعت منها المبالغة المقصودة نزعا، وصار وصف شيب الرأس في لغة الهدف وصفا غير ذي بال.
أما الدكتور ابن شقرون فقد كان لديه من الوعي الترجمي ما أهله لاقتباس قبس من تلك المبالغة المنصوص عليها في الآية، فجاهد واجتهد وحشد كل طاقات اللغة المتاحة في لغة الهدف، من تعجب وتكرار comme enflamée, s’allument de blancheur"" ليقرب المعنى من القارئ الهدف، لعل هذه الصورة الفجة، وهذا الخيال غير المكتمل، يدفع بالقارئ الهدف ليعود إلى النص الأصلي فيتذوق حلاوة وطعم الصورة، ويفقه ما قاله الجرجاني وهو يفسر قوله تعالى: ﮋ@yètGô©$#ur â¨ù&§9$# $Y6øx©ﮊ "فتجلى لك منها الإعجاز وبهرك الذي ترى وتسمع"([17]). حقا إنه الإعجاز اللغوي الذي يفضي حتما إلى الإعجاز الترجمي.
دليل آخر نستدل به على إحاطة الدكتور ابن شقرون بالمطلب اللغوي، هو ترجمته الاقتباسية لقوله تعالى: ﮋtûïÏ%©!$#ur (#ÿrãxÿ2 öNßgè=»uHùår& ¥>#uy£x. 7pyèÉ)Î/ çmç7|¡øts ãb$t«ôJ©à9$# ¹ä!$tB #Ó¨Lym #sÎ) ¼çnuä!$y_ óOs9 çnôÅgs $\«øx©ﮊ [النور: 39].
"Les actions des mécréants sont semblables à un mirage dans une vaste étendue de terre déserte que l’assoiffé prend pour l’eau. Mais quand il y arrive, il s’aperçoit que ce n’était rien" ابن شقرون: ج 6: ص 94
"Les actions des incrédules sont semblables à un mirage dans le plaine, celui qui est altéré croit voir de l’eau. Mais quand il y arrive, il ne trouve rien" Masson. T 2 p 436.
يقول البغدادي صاحب (الجمان في تشبيهات القرآن): "القيعة جمع قاع... والقيعة ما انبسط من الأرض ولم يكن فيه نبات، والذي يسير فيه يرى كأن فيه ماء يجري، وذلك هو السراب"([18]).
شبه القرآن أعمال الكفار بسراب بقيعة، فقد ترجمت Masson (القيعة) ب (le plaine) وهو اختيار يكشف عن قصور المطلب اللغوي عند المترجم مما جعل ترجمته فاقدة لما اصطلحنا عليه بالوعي الترجمي. فالقيعة أرض منبسطة ممتدة خالية من النبات، وهي أوصاف لم تقدر كلمة (le plaine) على استيعابها، لأن الكلمة الفرنسية تعني تارة الأرض المنبسطة وتارة المتموجة وليست بالضرورة خالية من النبات.
أما ترجمة ابن شقرون، فقد كان واعيا بالمكونات الدلالية ل (قيعة)، فحشد لها من الكلمات في لغة الهدف ما يقرب به المعنى (vaste étendue déserte) ليقتبس بعضا من المعنى دون أن يتوقف على دلالة الباء، لأن لغة الهدف لا تسعفه في ذلك.
هكذا يبدو جليا التفاوت الملحوظ بين المترجمين في درجة الوعي الترجمي، فكلما ارتقى المترجم في سلم الوعي الترجمي، استعظم الفعل الترجمي، واستزاد علما ومعرفة بمطالب البيان الأربعة، وهو أمر كان واضحا دون مراء في الترجمة الاقتباسية للدكتور ابن شقرون. وهكذا يبدو جليا أن ما يتصف به القرآن من إعجاز ترجمي يجعل منه كتابا متفردا لا يحاكى في لغة الأصل ولا يترجم إلى لغة الهدف، وأن إعجازه الترجمي يفرض على من يترجم عنه أن يقتبس منه، فالإقتباس اعتراف من المترجم بعجزه عن ترجمته. فكما عجز العرب عن الإتيان بمثله في لغة الضاد، عجز المترجمون عن الإتيان به في لغة الهدف، وهذا ضرب من ضروب الإعجاز الذي ندعو إلى التأمل فيه والكشف عن تجلياته.
3- المطلب الشرعي:
لا غنى لمترجم القرآن عن الإلمام بالعلوم الشرعية كالتفسير والفقه والأصول والسنة والآثار والمناسبة والناسخ والمنسوخ والمحكم والمتشابه وأسباب النزول وغير ذلك مما يدور في فلك القرآن. إن مطلب العلوم الشرعية مطلب أساسي في الترجمة الاقتباسية، والتسلح بهذا المطلب يعطي المترجم زادا إضافيا لكشف خبايا معاني القرآن، وهو أمر يجهله المترجمون من غير المسلمين خاصة، وقل من ينتبه إلى أهميته من المترجمين المسلمين.
إن تحقق المطلب الشرعي في المقتبس من القرآن الكربم يسمو بالمترجم درجات في الوعي الترجمي ويجعل اقتباساته ذات دلالات في لغة الهدف، ولقد تميز الدكتور ابن شقرون بوعيه بأهمية هذه العلوم في الفعل الترجمي للقرآن الكريم، مما جعله يقدم المعاني المقتبسة في لغة محفزة للقارئ الهدف تدعوه إلى السؤال أكثر مما تمده بالجواب، كما في ترجمته لقوله تعالى: ﮋ÷íyô¹$$sù $yJÎ/ ãtB÷sè? ﮊ [الحجر: 94].
"Dit tout haut, publiquement, ce qui t'est ordonné" ابن شقرون: 5 ص 52
"Proclame ce qui t'est ordonné" Masson: T 1 p 322
يقول الرماني معلقا على الآية الكريمة: "حقيقته فبلغ ما تؤمر به، والاستعارة أبلغ من الحقيقة، لأن الصدع بالأمر لا بد له من تأثير كتأثير صدع الزجاجة، والتبليغ قد يضعف حتى لا يكون له تأثير فيصير بمنزلة ما لم يقع، والمعنى الذي يجمعهما الإيصال، إلا أن الإيصال الذي له تأثير كصدع الزجاجة أبلغ"([19]).
وورد في السيرة النبوية شرحا للآية الكريمة أن الرسول "ص" أقام ثلاث سنين "يدعو إلى الله سبحانه مستخفيا ثم نزل عليه ﮋ÷íyô¹$$sù $yJÎ/ ãtB÷sè? óÚÌôãr&ur Ç`tã tûüÏ.Îô³ßJø9$#ﮊ [الحجر: 94]، فأعلن "ص" بالدعوة وجاهر قومه بالعداوة واشتد الأذى عليه وعلى المسلمين حتى أذن الله لهم بالهجرتين"([20]). فالله سبحانه وتعالى لم يأمر نبيه بالتبليغ بل أمره بالصدع وهو تبليغ وزيادة، إنه خروج من السرية إلى العلن، إنه الانتقال من الدعوة في البيوت إلى الدعوة جهارا أمام الناس، دلت على ذلك اللغة والسيرة النبوية على حد سواء.
إن ترجمة Masson لكلمة (فاصدع) بكلمة Proclame فيها التباس مريب، وذلك لأن الجهر بالكلام ليس شرطا فيها، فجاءت ترجمتها فارغة من المطلب الشرعي الذي يؤرخ لانتقال الدعوة من السر إلى العلن، والذي يفيد الصدع الذي نتج عنه هجرته عليه السلام.
أما الدكتور ابن شقرون، فقد كانت ترجمته الاقتباسية واعية بالمطلب الشرعي، فاقتبس جزءا من معنى الصدع وعبر عنه بكلمتين محفزتين للقارئ الهدف: (publiquement)، (tout haut) وهما تدفعانه إلى السؤال: لماذا أمر الرسول "ص" بالكلام بأعلى صوت وأمام الناس؟ إنه سؤال يدفع بالقارئ الهدف إلى رحلة العودة إلى النص الأصلي، رحلة يكتشف فيها ما عجز المترجم عن نقله، وما عجزت اللغة عن التعبير عنه، رحلة يكتشف فيها الإعجاز الترجمي لكتاب الله.
4- المطلب الثقافي:
يعتبرالمطلب الثقافي رافدا من الروافد الأساسية التي تزيد من وعي المترجم بما يترجم، فالقرآن نزل جريا على عادات العرب في كلامها، فعبر عن عاداتهم بعاداتهم، فأقر بعضها وألغى أخرى، ولم يكن القرآن أبدا غريبا عن بيئتهم، فمن شبه جزيرة العرب شق طريقه ليكون رسالة للعالمين. فلا مناص إذا للمترجم أن يكون على إلمام بالثقافة العربية، لأنها مدخل لفهم القرآن ولغة القرآن وشريعة القرآن.
فكلما كان المترجم على إلمام واسع بالمطلب الثقافي، كان وعيه الترجمي عميقا بالنص القرآني، وكانت مقاربته واعية بالمخزون الثقافي للقرآن الكريم، وإلا فإن أقصى ما يمكن أن يصل إليه المترجم الفاقد للوعي الترجمي هو الدلالات السطحية للمفردات مجردة من حمولتها الثقافية. وقد كان الدكتور ابن شقرون من خير من تحقق فيه هذا الوعي الترجمي بثقافة لغة التنزيل، ونضرب مثالا لذلك بقوله تعالى: ﮋöÉRr&ur y7s?uϱtã úüÎ/tø%F{$#ﮊ [الشعراء: 214].
"Avertis ceux qui comptent parmis les plus proches de toi.[de ton cercle élargi]"ابن شقرون ج 6 ص 173
"Avertis tes partisons les plus proches" Masson: T2 p462
يقول الدكتور كريم زكي متحدثا عن مفهوم العشيرة: "تشير بعض المصادر العربية إلى العشيرة بدلالة أهل الرجل الذين يتكثر بهم ويصيرون له بمنزلة العدد الكامل، وذلك لأن العشرة هو العدد الكامل، والعشيرة على ذلك كل جماعة من أقارب الرجل الذين يتكثر بهم، وهم الذين بهم التناصر والغلبة"([21]). فمفهوم العشيرة يشكل محور الحياة القبلية، وذلك أن القبيلة تتكون من مجموعة من العشائر التي تجمعها قرابة الدم عن طريق الرجل، فتنقسم العشيرة إلى عدة خشوم، وينقسم كل خشم إلى عدة أسر([22]).
فالدكتور ابن شقرون لم يأل جهدا، وبلغة محفزة دائما، في اقتباس مفهوم العشيرة في لغة الهدف، فقد كان واعيا باستحالة وجود معادل لمفهوم العشيرة، فحشد كلمات علها تقرب المعنى المقصود إلى القارئ، وقد كان ذكيا في إضافة بين معقوفتين [de ton cercle élargi] وذلك لأن الأمر مقصور على حلقة ضيقة من المقربين كما يدل على ذلك مفهوم العشيرة.
أما Masson فقد استسلمت لثقافة القرن العشرين وترجمت العشيرة ب partisons، وكأن الأمر صار نصرة لحزب سياسي، أو تشجيعا لتجمع خطابي أو رياضي، فأفرغ مفهوم العشيرة من قرابة الدم، فصار القريب كالبعيد.
إن ترجمة Masson فارغة من المطلب الثقافي، خالية من أي وعي ترجمي مما أدخل فعلها الترجمي في الاختلاس وأبعدها عن الاقتباس.
تلك إذن مطالب أربعة ندعو مترجم القرآن إلى تبنيها لتحقيق مبدإ البيان الترجمي، وهو مبدأ تقوم عليه النظرية البيانية للقرآن الكريم، التي تتخذ من الإعجاز الترجمي للقرآن معتقدا وإطارا نظريا وخلفية مرجعية لها، وتعتبر القول الثقيل قولا معجزا لا يحاكى، و القول الخفيف قولا يضاهى.
المراجع:
- البرهان في علوم القرآن: بدر الدين محمد بن عبد الله الزركشي (794 ه)، تحقيق. محمد أبو الفضل إبراهيم، المطبعة العصرية، بيروت، 2006.
- تفسير القرآن الكريم وترجمة معانيه: الدكتور محمد بن شقرون المطبعة والوراقة الوطنية، 2001.
- ثلاث رسائل في إعجاز القرآن (للرماني والخطابي وعبد القاهر الجرجاني)، حققها وعلق عليها: محمد خلف الله أحمد ومحمد زغلول سلام، دار المعارف، الطبعة الخامسة. 2008.
- الجمان في تشبيهات القرآن: أبو القاسم عبد الله بن محمد بن ناقيا البغدادي (485هـ)، حققه وشرحه: الدكتور محمد رضوان الداية، دار الفكر، دمشق، الطبعة الأولى، 2002م.
- دلائل الإعجاز: عبد القاهر الجرجاني: تحقيق محمود محمد شاكر، مكتبة الخانجي للطباعة والنشر، القاهرة، الطبعة الثانية، 1989.
- زاد المعاد في هدي خير العباد: ابن القيم الجوزية (751هـ)، تحقيق: شعيب الأرنؤوط وعبد القادر الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 2007.
- القرابة: دراسة أنثرولغوية لألفاظ وعلاقات القرابة في الثقافة العربية: كريم زكي حسام الدين. مكتبة الأنجلومصرية، الطبعة الأولى، 1990.
- معاني القرآن وإعرابه: الزجاج (311هـ)، شرح وتحقيق: د عبد الجليل عبده شلبي، دار الحديث، القاهرة، 2004.
- معترك الأقران في إعجاز القرآن: جلال الدين السيوطي، (911هـ)، ضبطه وصححه وكتب فهارسه: أحمد شمس الدين، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، الطبعة الأولى، 1988.
Bibliography:
- Bassnett, S. (1991) Translation Studies, Revised Edition. Routledge.
- Bell, R. (1991) Translation and Translating. Longman.
- Catford, J.C. (1965) A Linguistic Theory of Translation. An Essay in Applied Linguistics, London: Oxford University Press.
- Delisle, J. (1998) Translation Terminology, John Benjamin publishing company.
- Dickins, J and Hervey,S and Higgins, I. (2002) Thinking Arabic Translation. Routledge.
- Encyclopedia of Translation Studies (1998) London and Newyork.
- Fawcett, P. (1997) Translation and Language. ST Jerome Publishing, Manchester, UK.
- Gutt, E. A. (2000) Translation and Relevance Cognition and Context. ST Jerome Publication.
- Hatim, B and Mason, I. (1997) The Translator As Communicator. Routledge, London and New York.
- House, J. (1997) A Model for Translation Quality Assessment, Tübingen.
- Newmark, P (1988) A Textbook of Translation. Prentice Hall.
- Newmark, P (1986) Approach to Translation. Pergamon, Institute of English.
- Nida, E.(1975) Language Structure and Translation, Stanford, University Press, California.
- Nida, E. and Charles, T. (1969) The Theory and Practice of Translation. Leiden: Brill.
- Nida, E. (1964a) Towards a Science of Translation. Leiden: E. J. Brill.
- Nord, C. (1991) Text Analysis in Translation. Amsterdam- Atlanta, GA.
- Masson,D. (2006) Traduction du Coran. ed Gallimand.
- Sandor, H and Ian, H (2002) Thinking French Translation, A Course in Translation Method: French to English, Routledge.
- Schäffner, C. (1999) The Concept of Norms in Translation Studies, In Translation and Norms Multilingual Matters Ltd. Clevedan. Philadelphia. Toronto.
- Steiner, G. (1975) Aspects of Language and Translation. Oxford University Press.
- Toury, G. (1980) In Search of a Theory of Translation. Tel Aviv: The Porter Institute for Poetics and Semiotics.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق