|
موقف
التيارات السلفية من الفلسفة
المعاصرة
من الفلسفة
الدكتور/ رحمة عثمان
محمد فضل الكريم
جامعة السودان المفتوحة
مقدمة:
تُشكل قضايا الفكر
مواقف تباين بين التيارات الفكرية قديماً وحديثاً، وتُعد الفلسفة من أكبر الجدليات
في تاريخ الفكر الإسلامي، وانتقل الجدل حول الفلسفة إلى عصرنا هذا فتصالح البعض مع
الفلسفة، واتخذها وسيلة لحل المشكل النظري في العلوم والاجتماع والسياسة والقانون،
ورفضها البعض الآخر، باعتبارها موضوع دخيل على الفكر الإسلامي، مما شكل تيارين
مختلفين على موضوع الفلسفة، ومن أبرز هذه التيارات التيار السلفي الذي نحن بصدد
مناقشة موقفه من الفلسفة.
وتنبع أهمية هذا
الموضوع من أهمية التيارات السلفية ودورها في تشكيل الفكر الإسلامي المعاصر، وكذلك
لأهمية الفلسفة ودورها في الفكر الإنساني، ويهدف الموضوع لتوضيح موقف التيارات
السلفية المعاصرة من الفلسفة.
مشكلة الدراسة:
ويمكن صياغة مشكلة
الدراسة في الأسئلة التالية:
·
ماموقف
التيارات السلفية الممعاصرة من الفلسفة؟
·
ما
أسباب هذا الموقف؟
·
هل
تتخذ التيارات السلفية مواقفها من الفلسفة كمفهوم عام أم لديها موقف من بعض
القضايا الفلسفية؟
·
ما
أثر موقف التيارات السلفية من الفلسفة على الفكر المعاصر؟
منهجية الدراسة:
تستخدم الدراسة المنهج
الاستقرائي التحليلي
مصطلحات الدراسة:
التيارات السلفية
المعاصرة
هي الجماعات السلفية
المعاصرة التي تتبع منهج العلماء المسلمين الذين كانوا مشتغلين بدراسة علم الحديث،
وعلم العقيدة، وتعتمد هذه الجماعات السلفية ظاهر النص بعيداً عن التأويل.
الفلسفة
مأخوذة من الكلمة
الإغريقية فيلا صوفيا والتي تعني "حب الحكمة" وموضوع الفلسفة هو الوجود.
وعلم الفلسفة يهتم بدراسة الوجود[1]،
حيث ناقش الفلاسفة قضايا الوجود بالنظر العقلي، والعقل عندهم يستخدم لحل المشكلات،
ويؤدي لمعرفة الحقائق، والفلسفة هي دراسة المشكلات العامة المتعلقة بالوجود
والمعرفة والقيم والأسباب والعقل واللغة، وتعتمد على البرهان العقلي[2] وكذلك هي دراسة تسعى لاكتشاف المبادئ الأساسية
للعلوم.
“Study
that attempts to discover the fundamental principles of science. The arts and
the world that the science and arts deal with” [3]
فإذا كانت الفلسفة
نشاط ذهني عقلاني يناقش الوجود والمعرفة فأين يكمن المشكل مع التيارات السلفية؟
واذا كانت الفلسفة نشاط ذهني عقلاني يصل إلى تحديد مفاهيمه واحكامه عن طريق
البرهان والنظر العقلي، وعن طريق التأمل والتدبر،[4]
كيف يتعارض هذا مع منهجية التيار السلفي؟ ومامفهوم العقل عند السلف والفلاسفة؟
المراد بمفهوم السلف
هنا العلماء المسلمين الذين كانوا منشغلين بدراسة علم الحديث وعلم العقيدة، ودراسة
الفرق الإسلامية، في فترة مابعد حركة الترجمة ومن هؤلاء ابن يتمية[5]،
وأشهر من انتقد الفلاسفة وصنف في ذلك هو الامام ابو حامد الغزالي[6] في
كتابه "تهافت الفلاسفة" ورد ابن تيمية على الفلاسفة في كتابه "الرد
على المنطقيين" وانتقد المنطق في كتابه "نقد المنطق"، فالغزالي وابن
تيمية لم تكن مواقفهما من الفلسفة متطابقة بل لكلٍ رؤيته ومنهجه، ويظهر ذلك جلياً
في مؤلفاتهما المتعلقة بالفلسفة والمنطق. وفي تعريفهما للعقل يقول الغزالي
"أما العقل فهو اسم مشترك تطلقه الجماهير والفلاسفة والمتكلمين لمعان مختلفة،
والمشترك لا يكون له حد جامع. فهو عنده لا جوهر ولا عرض لأنه من علم المكاشفة فلا
يليق ذكره بعلم المعاملة، ويرى أن هنالك أمور تسمى خواص لا يدور تصرف العقل
حواليها أصلاً، فهو معزول عنها كعزل السمع عن إدراك الألوان والبصر عن ادراك
الأصوات وجميع الحواس عن ادراك المقولات"[7]
ويتضح الاتجاه الفلسفي عند الغزالي في تعريفه للعقل والاتجاه الشرعي في الأمور
التي سماها خواص، ويقصد بها تفاصيل الامور الإلهية[8] أما
ابن التيمية فيرى "أن العقل لا يكون دليلاً مستقلاً في تفاصيل الأمور الإلهية،
واليوم الآخر فلا يقبل مايدل عليه إن لم يصدقه الشرع ويوافقه"[9]
وهذا الحد في الوصف يوضح موقف ابن تيمية من وسيلة الإدراك الأساسية والنهائية عند
الفلاسفة. ورغم اختلاف المنهجية بين الغزالي وابن التيمية في الحديث عن العقل إلا
أن هنالك التقاء في علاقته بالشرع، وبأنه ليس دليلاً مستقلاً في تفاصيل الأمور
الإلهية وهنا نقطة الخلاف بينهما وبين الفلاسفة. إلا أن الغزالي طريقته أقرب
للفلاسفة من حيث موقفه من المنطق في مؤلفاته، ومن حيث منهجه في النقد، لذا فإن
التيار السلفي المعاصر لا يعتبره مرجعية رغم نقده للفلسفة في "التهافت"،
وذلك لموقف التيار السلفي المعاصر من مؤلفات الغزالي "كالأحياء" "والمنقذ
من الضلال" التي تعتبر مرجعيات للفكر الصوفي النقيض للتيار السلفي. فالتيار
السلفي المعاصر متمثل في جماعة انصار السنة المحمدية والجماعات الاسلامية السلفية
الأخرى تلتزم غالباً منهج شيخ الاسلام ابن تيمية في العقائد وبالتالي تأثرت بموقفه
من الفلسفة.
التيارات السلفية
المعاصرة والفلسفة:
تعتمد التيارات
السلفية المعاصرة، في مواقفها الفكرية، على التراث الفكري لابن التيمية ومن ذهب
مذهبه من حيث المنهج والموضوع، وتعتمد هذه التيارات مؤلفات ابن تيمية مرجعيات
للعقائد، وأدلة للحكم على الفلسفة والمنطق والتصوف، ورغم أن الغزالي انتقد الفلسفة
في كتابه "تهافت الفلاسفة" فغالباً مايحسب الغزالي من
الفلاسفة، وأن السلف المعاصر لا يعتبره مرجعية حتى في نقض الفلسفة فيعتبر الغزالي
ناقداً للفلسفة في قضايا محددة ابرزها قول الفلاسفة بقدم العالم، وأن الله لا يعلم
الجزيئات بل يعلم العالم بعلم كلي وقولهم أن المعاد بالأرواح دون الأجساد[10]
هذه هي المسائل الثلاث التي انكرها الغزالي على الفلاسفة الاسلاميين (الفارابي، اابن
سينا ومن لف لفهم)[11]
والغزالي اذاً لا يعارض الفلسفة على اطلاقها، وانما يعارض بعض النظريات التي قال
بها بعض الفلاسفة وهذا مايجعل السلف المعاصر يركّز على منهجية ابن تيمية تجاه
الفلسفة: ويجذم السلف المعاصر بأن الفلسفة ذندقة، أي ان الفلسفة تؤدي إلى الكفر
والزندقة، وهذا القول له جذور ضاربة في تاريخ الفكر الإسلامي فهو موقف يضع الفلسفة
في دائرة حرجة فشكلت هذه المواقف التاريخية من الفلسفة آراء كلية للسلف رافضة
لموضوع الفلسفة، لا تزال تجد انصاراً حتى عصرنا هذا مما أحدث جفوة بين السلف
والفلسفة، فآراء الفلاسفة لا تجد الدراسة والنقد الموضوعي من السلف، وذلك للاعتقاد
بعدم جدواها، وأنها مدعاة للمروق من الدين، حتى أن هنالك بعض الجامعات الإسلامية
في عالمنا الاسلامي تدرِّس "نقض المنطق" فتبدأ بتعليم الطالب أن
"المنطق" علم مذموم فيجب أن ينقض ولعل هذا الرأي مستلهم من نقض ابن تيمية
للمنطق فهو يراه علماً غير ضرورياً ناهيك عن وجوبه (ومن المعلوم أن القول بوجوبه
قول غلاته وجهال أصحابه ونفس الحذاق منهم لا يلتزمون قوانينه في كل علومهم بل
يعرضون عنها إما لطولها أو عدم فائدتها أو لفسادها واما لعدم تمييزها ومافيها من
الاجمال والاشتباه فإن فيه مواضع كثيرة هي لحم جمل غث على رأس جبل وعر لا سهل
فيرتقي ولا سمين فينتقل، ولهذا ماذال العلماء المسلمين وأئمة الدين يذمونه ويذمون
أهله)[12]
وأن كان هذا رأي ابن تيمية في المنطق فهو رأي متقدم على رأي السلف المعاصر، متقدم
في أنه قد تناول المنطق بالنقد فهو على إلمام بهذا العلم رغم رفضه له (وأما علم
مابعد الطبيعة وإن كانو يعظمونه ويسمونه العلم الإلهي فالحق فيه من المسائل قليل
نذر وغالبه علم بأحكام ذهنية لا حقائق خارجية وليس على أكثره قياس منطقي[13]
فإن ابن تيمية على إلمام واسع بالمنطق وبعلم ماوراء الطبيعة أو العلم الإلهي كما
يسميه الفلاسفة، ورأيه في المنطق استخدم في اثباته طرقاً منطقية بلغة العرب، أما
السلف المعاصر فهم لا يدرسون المنطق ولا الفلسفة على عكس سلفهم، بل ينأون عن ذلك وينهون
عنه، لذا فإن كتاباتهم عن الفلسفة والمنطق لا تكاد تذكر، باعتبار أن السلف قد
حكموا على علم الفلسفة ولا داعي للخوض فيما هو منهى عنه. فلو أخذنا مثالاً لذلك
جماعة أنصار السنة المحمدية المعاصرة فهي ذات اهتمام بالغ بمناهضة الفكر الصوفي من
حيث الاعتقاد والممارسة، ولا تلقي بالاً للحديث عن الفلسفة حتى في جدل الكلام
"علم الكلام" في مناظراتهم فإنها تتعامل بالنصوص الظاهرية اعتماداً على الآيات
القرآنية والأحاديث النبوية وآراء السلف، ولا تلقي بالاً للاستشهاد بآراء الفلاسفة
المسلمين إلا على سبيل النقد للفلسفة كما تعتقد الجماعة "جماعة أنصار السنة
المحمدية" أن هناك صلة بين الفلسفة والتصوف، وهذا مايجعل الشقة بينها وبين
الفلسفة كبيرة، وهذا مايعتقده بعض العلماء من غير المنتمين للجماعات السلفية في
العلاقة بين الفلسفة والتصوف، (فإن هنالك صلة بين الفلسفة والتصوف تتمثل في أن
للمتصوفة نظرية خاصة في تحديد معاني الألفاظ ودلالاتها يمكن النظر فيها ومقارنتها
مع الآراء الفلسفية المختلفة في هذا المجال، ولا يعني هذا أن ماذكرنا من صلات بين
الفلسفة والتصوف يمثل كل الصلات المختلفة بين التصوف والفلسفة ولكن يمثل في
اعتقادنا أهم الصلات)[14]
فهذه الصلات بين الفلسفة والتصوف تعتبر من عوامل رفض السلف المعاصر للفلسفة، إضافة
إلى أن قدوتهم من علماء السلف كانوا يذمون الفلسفة والمشتغلين بها لاعتقادهم بأنها
تقدم العقل على النقل، وقد ألف في ذلك ابن تيمية مؤلفاً من عدة مجلدات أطلق عليها
"درء تعارض العقل والنقل" وموضوع الكتاب (قول القائل: إذا تعارضت الأدلة
السمعية والعقلية أو السمع والعقل، أو النقل والعقل، أو الظواهر النقلية والقواطع
العقلية، أو نحو ذلك من العبارات. فإما أن يجمع بينهما، وهو محال، لأنه جمع بين
النقيضين، اما أن يُردّا جميعاً، واما أن يقدم السمع، وهو محال، لأن العقل أصل
النقل، فلو قدمناه عليه كان ذلك قدحاً في العقل الذي هو أصل النقل، والقدح في أصل
الشىء قدح فيه، فكان تقديم النقل قدحاً في النقل والعقل جميعاً، فوجب تقديم العقل،
ثم النقل إما أن يتأول وإما أن يفوض. وأما إذا تعارضا تعارض الضدّين امتنع الجمع
بينهما، ولم يمتنع ارتفاعهما)[15].
هذا هو القول الذي أوجب تأليف الكتاب ويقول ابن تيمية (إن هذا "قانون
كلي" عند الرازي وأتباعه وإن طائفة قد سبقتهم إليه منهم الغزالي والقاضي
أبوبكر بن العربي والجويني والباقلاني وهؤلاء المتكلمة أهون شأناً من الجهمية
والفلاسفة الذين يزعمون أن نصوص الأنبياء غير مطابقة للحقيقة وأنما كذبها الأنبياء
على العوام لأن مصلحة العوام أن يخاطبوهم بما يوافق عقولهم. وقد وضع الفلاسفة
قانونهم على هذا الأصل)[16] هذا
الوصف السابق للفلاسفة في مسألة العقل والنصوص الظاهرة أصبح فهماً سائداً
ومتداولاً بين السلف المعاصر، الذين يعتمدون تراث ابن تيمية مرجعيات معتمدة،
فتشكلت المفاهيم عن الفلسفة من نقد ابن تيمية للفلسفة ومنطقها، فلم يكن لهم مجالاً
للدراسة المحايدة للفلسفة ونقدها والاستفادة منها، بل ارتبطت الفلسفة عندهم بقضايا
اعتقادية تجافت فيها مناهج الفلاسفة والسلف مما كوّن حاجزاً فكرياً بين السلف
والفلاسفة إلى هذا العصر، حيث يعتبر السلف أن مناهج الفلسفة مناهج منحرفة فهي زيف
وضلال (فإذا عد أئمة الفكر الاسلامي، والمجتهدون فيه عبر تاريخ المسلمين الحافل
بالخير والعطاء فيأتي في مقدمتهم شيخ الاسلام الإمام ابن تيمية رحمه الله الذي نذر
حياته في سبيل الله وتصدى للطوائف المنحرفة عن المنهج الحق، فبيّن مالديها من زيف
وضلال)[17]
يقصد المعاصرون بالطوائف المنحرفة الفلاسفة، لا سيما وأن ابن تيمية ينتقد في كتابه
المشار إليه "درء تعارض العقل والنقل" ينتقد أقوال الفلاسفة خاصة ابن
سينا والرازي في قضايا الالهيات، فيصفهم بأنهم "دهرية" وأن قولهم هذيان[18]
فرأى المعاصرين من السلف في الفلسفة مستمد من رأي ابن تيمية إلا أن الفارق ان ابن
التيمية ناقش الفلسفة في كثير من قضاياها، وانتقد المنطق، وكان كل ذلك من منطلق
معرفة تامة بآراء الفلاسفة واتجاهاتهم في الجدل، على عكس السلفيين المعاصريين الذي
رفض الفلسفة من منطلق الاعتماد على آراء مشايخهم كابن تيمية، وهذا يؤكده النظر في
كتابات السلفيين المعاصرين فهي محصورة في قضايا العقيدة الإسلامية المرتبطة بظاهر
النص، وليس لهم تأليف في مجال الفلسفة، ويعتبرون الحديث عنها ضرب من الزندقة،
استناداً على آراء سلفهم وهذا عام عندهم في الفلسفة اليونانية أو ماجاء بعدها من
الفلسفة الإسلامية.
ورفض السلفيون للفلسفة
يمكن رده إلى أنهم اهتموا بالنظر إلى مبحث الإلهيات في الفلسفة وغضوا الطرف عن
المباحث الأخرى المتعلقة بالفلك والطب والحساب والسياسة والقانون بما في ذلك العدالة
والحرية والمعرفة. وقصروا موضوع الفلسفة في مبحث الالهيات وحده، وهذا هو سبب رفض المعاصرون
منهم للفلسفة. ويمكن التعميم بأن كل التيارات السلفية على موقف موحد رافض للفلسفة
فيما يتعلق بمبحث الإلهيات سواء في الفلسفة اليونانية أو في الفلسفة الإسلامية،
أما موضوعات الفلسفة الأخرى فهم غير منشغلين بها وليس لديهم اهتمامات بمباحث
الفلسفة ويمكن استقراء هذا من خلال مؤلفاتهم، والتي غالباً ماتقتصر في التعريف
بالعقيدة وفروع العلم الشرعي ولا تنحى منحاً عقلياً آخر متعلقاً بالعلم الطبيعي أو
الرياضي، وهذا التعميم لا يشمل الاتجاهات الإسلامية المتمثلة في الحركات الإسلامية
المعاصرة كالحركة الإسلامية في السودان والحركة الإسلامية في تركيا والحركة
الإسلامية في تونس هذا على سبيل المثال لا الحصر فهذه الحركات ذات التوجه الإسلامي
تشتغل بالفلسفة وتمارسها في النقد الفكري والسياسي والمعرفي وغيره.
أسباب رفض التيارات
السلفية للفلسفة:
إن التيارات السلفية
ذات اهتمام كبير بالعقيدة الإسلامية "علم التوحيد" وجل اهتمامها ينصب
حول تنقية العقيدة الإسلامية مما تعتبره شركاً خفياً كان أم جلياً، ولدى هذه
التيارات خصومات كبيرة مع الفرق الإسلامية مثل الأشاعرة والمعتزلة، حيث تعتبر هذه
الفرق مبتدعة وأنها تنحى منحاً عقلياً وتأويلياً (فأما تحريف التأويل: فكثير جداً،
وقد أبتليت به طوائف من هذه الأمة)[19]
وامتدت هذه الخصومة منذ القرن الخامس الهجري إلى يومنا هذا، إذا كان هذا هو موقف
التيارات السلفية من الفرق الإسلامية التي تلتقي معها في قضايا كثيرة من حيث
الموضوع، فإن موقفها من الفلسفة أكثر رفضاً لاختلافها مع الفلسفة في الموضوع
والمنهج والوسائل. فموضوع الفلسفة هو الوجود وتستخدم المنهج الاستنباطي
والإستقرائي ووسيلتها لذلك العقل.[20]
بينما تعتمد التيارات السلفية موضوعات جزئية متعلقة بالعقيدة خاصة، والتشريع
الإسلامي عامة وتعتمد ظاهر النص وتقتدي بشروح السلف في هذا المجال، وذلك بالرغم من
نهي السلف عن التعصب والتقليد (مع أن دين الإسلام يوجب اتباع الحق مطلقاً، رواية
وفقهاً. من غير تعيين شخص أو طائفة غير رسول الله صلى الله عليه وسلم)[21]
وهذ دعوة صريحة من ابن تيمية للتفكير الحر الذي ينأي عن التقليد الأعمى والتعصب
المذموم.
إذا تحدثنا عن
الاختلاف المنهجي بين التيارات السلفية والفلسفة، فإن الأمر يبدو جلياً من الوهلة
الأولى فبدءً التيارات السلفية تعتمد ظاهر النص والفلسفة تعتمد على العقل، فلا
يمكن الجمع بين المنهجين في حزب واحد، بل هذا الاختلاف ينتج تفرقة حتمية.
الأمر الثاني: تهتم
التيارات السلفية بموضوع العقيدة الاسلامية وبعض فروع الفقه الأخرى فيما تهتم
الفلسفة بدراسة الوجود وهذا افتراق بين كلّي وجزئي.
ثالثاً: في إطار دراسة
الفلسفة للوجود تتم مناقشة قضايا الطبيعة والرياضة والطب، وهذا ليس مكان اهتمام
لدى التيارات السلفية، ويتضح ذلك من ملاحظة لموضوعاتهم المطروحة، وكتاباتهم
المنشورة، فهي محصورة في جانب تصحيح العقيدة الاسلامية وتذكية النفس.
رابعاً: إن مبحث
الالهيات عند الفلاسفة جاء بمنهجية تختلف جملة وتفصيلاً مع المنهج السلفي من حيث
مناقشة مسائل الوجود والصفات وقدم العالم، عن طريق النظر العقلي، سواء كان ذلك عند
الفلاسفة الالهيين، أو الفلاسفة المسلمين فالسلفيون يعتبرون أن الفلاسفة اليونان
غير مؤمنين ولا عقيدة لهم، فلا يؤخذ بقولهم، وأن الفلاسفة المسلمين، متّبعين ومقّلدين
لفلاسفة اليونان (إن أول من قال بقدم العالم أرسطو[22] صاحب
التعاليم الفلسفية وأرسطو وأصحابه القدماء يثبتون العلة الأولى ويقولون أن الفلك
يتحرك للتشبه بها فهي علة بهذا الاعتبار ولم يقل أرسطو أن العلة الأولى أبدعت الأفلاك
والفلك عندهم ليس ممكن بل هو قديم)[23] ويقرأ
من هذا النص أن مسألة قدم العالم هي من مسائل الفلسفة اليونانية، وأن الفلاسفة
المسلمين اتبعوا منهج من كان قبلهم من اليونان. وهذا المبحث "الالهيات"
هو نقطة الخلاف الأساسية والفاصلة بين التيارات السلفية والفلاسفة حيث يتناول الفلاسفة
والتيارات السلفية موضوع "الالهيات" ويظهر الخلاف واضحاً وجلياً في هذا
الموضوع حول المفهوم والمنهج. وتتمسك التيارات السلفية بقضايا العقيدة الاسلامية
واعتماد ظاهر النص، والتسليم به من غير تأويل منهجاً أوحداً لها، واصطدامها بمنهج
فلسفي مغاير تماماً شكل عاملاً نفسياً ضد الفلسفة، فأصبحت الفلسفة مرفوضة عند
السلفية باعتبارها كفر وضلال، وعمم هذا الرفض على مباحث الفلسفة الأخرى.
أثر موقف التيارات السلفية
من الفلسفة على الفكر المعاصر:
لا شك أن التيارات
السلفية لها أثر كبير في الفكر المعاصر، على سبيل بناء المفاهيم، وصياغة
اتجاهاتها، لاسيما وأن تلك التيارات تمثل انتماءً حقيقياً للفكر الاسلامي، كما أن
الفلسفة ذات أهمية بالغة للفكر الانساني باعتبارها (المعرفة الشاملة أو العلم
الشامل في مقابل العلوم الجزئية والعلم الشامل هو العلم الذي يسعى للإحاطة
بالحقائق الكلية في الوجود والانسان والسلوك، تلك الاحاطة التي لا تسعفنا بها
العلوم الجزئية كالجغرافيا أو التاريخ أو الفيزياء أو الكيمياء، فالفلسفة انما
تسعى إلى اعطاء تفسير شامل، تفسير اجمالي للكون والانسان والمحسوس، وتستند في ذلك
على مبادىء عامة كلية تجاوز كل التفسيرات التي تعنى بها العلوم الجزئية)[24]
اذا كان هذا هو تعريف الفلسفة ومفهومها، وذاك هو ثقل التيارات السلفية في الفكر
المعاصر، فإن هذا الثقل لاريب في أنه ذو تأثير مباشر على المشتغلين بالفلسفة،
باعتبارها المعرفة الشاملة وهذا التأثير ينطلق من مبحث الفلسفة المتعلق بالالهيات،
ليعمم على بقية المباحث التي لا يحصل بها تأثيم ولا تضليل، ومن أبرز أنواع الهجوم
على الفلسفة القول بأن الفلسفة تؤدي إلى الكفر والزندقة، وكلمة الكفر ذات وقع خاص
ومؤثر سلباً في الوجدان المسلم، فلا يحب أحد أن يطلق عليه هذا المصطلح، فسيعمل
جاهداً لتفادي العمل الفكري الذي يجعله عرضة للرمي بالكفر، حتى لو كان على قناعة
برسوخ ايمانه وصحة عقيدته، ويُرجّع البعض إلصاق الزندقة بالمفكرين بأنه نتاج
للاضمحلال الحضاري (عندما اضمحلت الحضارة الاسلامية، اصبحت حضارة تخاف العقل
وتخشاه وتحرم الفكر الحر والرأي المستقل وللأسف الشديد انقلبت الحضارة على روحها
الأصلية وعلى طبيعتها البكرة إذ كانت أصلاً حضارة قائمة على الدعوة إلى القرآءة
والتأمل والفكر والتدبر).[25]
إن القرآن الكريم قد
دعا إلى التأمل والتدبر واعمال العقل )إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ
وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ﴿190﴾ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ
قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ
فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ((191).[26]
إن التقليد وعدم اعمال العقل مذموم في الاسلام إلا انه لا يعني حرية العقل بلا
ضابط، كما أنه لا يؤيد الجدل السوفسطائي ولا المراء، بل القرآن يدعو للفكر الحر
المنضبط بالموضوع والغاية الملتزم بشروط الاستخلاف التي تنأى عن الفساد في الأرض،
وبما أن التقليد الأعمى يعتبر تحجراً وسجناً للعقل وإلزاماً له باتباع من سلف بلا
تفكير، فهو كذلك ممقوت في اتباع نظريات الفلسفة في مباحثها المختلفة الالهيات
وغيرها، من غير فكر وروية، فالتقليد عجز لم يأمر به الشرع.
إذا راجعنا العمل
الفلسفي المعاصر نجده متأثراً بالموقف السلفي وشبيه بموقف الفلاسفة المسلمين
الأوائل من حيث التبرير للاشتغال بالفلسفة كما هو عند ابن رشد[27]
في مؤلفه فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال والذي يبين فيه أن
الفلسفة والتي هي الحكمة لا تناقض الشريعة، بل مكملة لها، وماحمله على هذا إلا
المعارضة الشديد والهجوم الذي تتعرض له الفلسفة من التيارات السلفية آنذاك. وكذلك
الحال عند المؤلفين المسلمين المعاصرين في كتاباتهم عن الفلسفة فتجدهم يتحدثون عن
جدوى الفلسفة[28]
تبريراً للاشتغال بها وهذا التبرير أيضاً ناتج من الهجوم الذي تتعرض له الفلسفة في
عصرنا هذا وموقف التيارات السلفية منها، وهذا الموقف يؤثر كثيراً على الفكر
المعاصر بحجب شريحة كبيرة عن النظر العقلي نفوراً من الفلسفة، أو تقليداً لمن
يعتبرونهم قدوة حسنة، وبذلك تحجب معارف كثيرة ليس لها تعلق بمباحث الالهيات، بل هي
معارف يستفاد منها في مجالات الحياة المختلفة.
الخاتمة:
إن الجفوة القائمة بين
التيارات السلفية المعاصرة والفلسفة تستند إلى الموروث التاريخي من موقف بعض علماء
السلف من الفلسفة في فترة مابعد حركة الترجمة. ظل موقف التيارات السلفية من
الفلسفة موقفاً رافضاً لكل ماورد في مبحث الالهيات باعتبار أن هذا المبحث هو محور
التنظير عند التيارات السلفية اعتماداً على النص المنقول من غير تأويل، وأن
الفلسفة خاضت غمار البحث استناداً على العقل، كما أن نشأة الفلسفة في البيئة
اليونانية قبل الميلاد رسخ مفهوم اللادينية في مخيلة التيارات السلفية وبالتالي
فهم يرون أن الفلاسفة المسلمين مقلدون لفلاسفة اليونان، وهذا غير مقبول عندهم. كما
ترى تلك التيارات أن الفلسفة لا حاجة لها أصلاً، فإثبات العقائد والشرائع مصدره
الكتاب والسنة وليس في الفلسفة ماينفع في هذا المجال. إذا كان هذا هو رأيها في
مبحث الالهيات فهل ينطبق هذا الرأي على المباحث الأخرى للفلسفة؟ إن مباحث الفلسفة
الأخرى ماعدا مبحث الالهيات ليست محل اهتمام لدى التيارات السلفية، فالمباحث الطبيعية
والرياضية وحتى مباحث الفلسفة الحديثة لا تشكل لديها أهمية حتى تبحث في قضاياها
ومناهجها ونقدها وتحليلها، لأن موضوع البحث عندها محصور في بيان العقيدة الاسلامية
والدفاع عنها، وشرح الأحاديث وتفسير الآيات، إضافة إلى ابواب العبادات والمعاملات
في الفقه، فهذه هي دائرة الاهتمام لديها فهناك حاجزاً نفسياً بين التيارات السلفية
والفلسفة فيما يتعلق بمبحث الالهيات، وتعمّق هذا العامل النفسي حتى شمل كل موضوعات
الفلسفة، فأصبحت الفلسفة مرفوضة لذاتها، بغض النظر عن موضوعها. إن أي محاولة
لاقناع التيارات السلفية المعاصرة بموضوع الفلسفة لا بد أن تبدأ بتجاوز المبحث
الأهم "مبحث الالهيات" وتتعداه لغيره من المباحث الطبيعية والرياضية
التي لا توسم بالفسق أو الضلال من حيث النظرية والتطبيق، ولكن سيظل مبحث الالهيات
موضوعاً للاختلاف بين التيارات السلفية والفلسفة ويصعب الالتقاء حول هذا المبحث لاختلاف
المناهج الباحثة فيه عند الفريقين.
المراجع:
القرآن الكريم
المراجع باللغة العربية:
1.
ابن تيمية، مواقفة صحيح المنقول لصريح المعقول ج 1 تحقيق "محمد
محي الدين عبد الحميد، محمد صالح، الفقي" مطبعة السنة المحمدية 1951.
2.
ابن تيمية، درء تعارض العقل والنقل، الجزء الأول تحقيق "محمد
رشاد سالم" ط الأولى 1982.
3.
ابن تيمية، اقتضاء الصراط المستقيم، دار الفكر للطباعة والنشر
والتوزيع، د.ت.
4.
ابن تيمية، نقض المنطق، بيروت لبنان، دار الكتب العلمية، د.ت.
5.
ابن تيمية شرح حديث النزول، ط الخامسة، المكتب الإسلامي، 1977.
6.
ابو حامد الغزالي المنقذ من الضلال، تحقيق (مصطفى ابو العلاء-محمد
محمد جابر)، مصر مطبعة سيد الحسين.
7.
ابو حامد الغزالي، تهافت الفلاسفة، طبعة الرابعة، القاهرة دار المعارف،
385هـ.
8.
زكريا بشير امام، نشأة الفلسفة وجدواها ط الأولى، الخرطوم، مارس 2005.
9.
زكريا بشير امام، نشأة الفلسفة وجدواها، الخرطوم ط الأولى 2005.
10.
عبد الله حسن زروق، أصول التصوف، المركز العربي للانتاج الإعلام، الخرطوم
1995.
11.
محمد لطفي جمعة، تاريخ فلاسفة الإسلام، د.ت.
المراجع باللغة الإنجليزية:
1. Aristotle. Metphysics, Moscow,
1934, “in Russian” from problem of the history of philosophy.
2. Awilate from http://dictionary-refrence.com brose
philosophy
3. A vailable from:
http://en.wikipedia.org/wiki/philosophy.
[1]
Aristotle. Metphysics, Moscow, 1934,pp.113-114 “in Russian” from problem of the
history of philosophy.
[2]
A vailable from: http://en.wikipedia.org/wiki/philosophy.
[3]
Awilate from http://dictionary-refrence.com
brose philosophy
[5] ابن يتمية هو أحمد ابن عبد الحليم ابن عبد السلام ابن الخضر ابن محمد
ابن الخضر ابن يتمية الحراني الدمشقي ولد بحران سنة "661" وتوفي سنة
"728هـ"
[6] ابو
حامد الغزالي هو: محمد ابن محمد ابن محمد ابن احمد الغزالي ولد بطوس بخرسان سنة
"450هـ" وتوفي سنة "505هـ" الزركلي الاعلام جـ 7 ط 3 1969 ص
247.
[8] ابو
حامد الغزالي، المنقذ من الضلال، تحقيق (مصطفى ابو العلاء-محمد محمد جابر)، مصر
مطبعة سيد الحسين د-ت ص 64
[9] ابن التيمية، مواقفة صحيح المنقول لصريح المعقول ج 1 تحقيق "محمد
محي الدين عبد الحميد، محمد صالح، الفقي" مطبعة السنة المحمدية 1951 ص 133
ارسطو (384-322 ق.م) هو أرسطو طاليس بن نيقو ماخس، كان أوحد في الطب
غلب عليه علم الفلسة تعلم على افلاطون وبرع في المنطق حتى لقب صاحب المنطق، له كتب
شريفة في جميع العلوم الفلسفية انظر الذوزني بتاريخ الحكماء ص86-91 ص159
[27] ابن رشد
هو ابو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن رشد الفيلسوف الشهير بالشارح والحفيد
(520-595) انظر ابن الابار التكملة للكتاب الصلة ج 2 ص55
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق