مدخل إلى الاتصال الاجتماعي
معالجة
أولية لدور الاتصال ووسائطه في قيام ونمو المجتمعات البشرية
ورقة إطارية
مقدمة لقسم الاتصال الجماهيري بجامعة الجزيرة
د. محود محمد قلندر
مقدمة
الاتصال، في كل زمانٍ ومكانٍ، خاصٌ؛
هكذا تقول هذه الورقة.
وخصوصية الاتصال ترتبط بالمكان ومعطياته، والزمان
ومستجداته. فالمكان بيئةٌ إنسانية، والزمان تطورٌ وتبدلٌ في الحال والمآل. ومن ثم
لايمكن ولاينبغي، أن نسحب واقع مكانٍ وزمانٍ على واقع مكانٍ وزمانٍ آخرين. ومن
يفعل، إنما يسلك سبيلاً لا يسمن من معرفة ولا يغني من فهم، فلا استيعاب لخصائص السلوك البشري الاجتماعي ودقائق
الفعل الإنساني المنْفَرِد أو المجْتَمِع ، إذا ما تم تعميم خصائص مكان أو زمان،
على زمان أو مكان بعيدين كل البعد عن بعضهما.
تعبر هذه الورقة عن موقف أكاديمي يعتبر
الاتصال أساساً لنشوء وتطور المجتمعات الإنسانية،
ويربط حركة التطور في وسائط الاتصال، بما فيها المخترعات الاتصالية، بواقع
النمو والتطور في المجتمعات
الإنسانية. وتعتبر الورقة حركة التفاعل الإنساني داخل كل مجتمع، بما
تنتجه من خصائص اجتماعية وثقافية ذات تفرد محتسب بكليته لمصلحة ذلك المجتمع، أساساً
لتبلور واقع اتصالي عالي الخصوصية،
بمعطيات وظواهر يصعب نسخها أو تكرارها في المجتمعات الأخرى، حتى ولو تشابهت تلك
المجتمعات في بعض جوانبها.
إن الاتصال هو في الواقع لب وركيزة
وجود المجتمع الإنساني على إطلاقه. فلا ينشأ مجتمع إنساني إلا بتواصل أفراد جمعتهم
الرقعة الواحدة، فاستبانوا معنى الوجود المتشارك من خلال اتصال تداخل فيه
الاستيعاب الإنساني لمعطيات المكان وعلاقات الإنسان، بتطوير أسلوب للتفاهم
والتقارب، خلص بتلك المجتمعات إلى تعايشها وترابطها عبر وسيط الاتصال المستند على خصائص ذلك المجتمع.
الفكرة
والغرض
إذا كان
الاتصال سلوكاً إنسانياً خاصاً بخصوصية المجتمعات، كيف إذن يمكن الاقتراب من بحثه
ثم تعليمه في كل مجتمع بحساسية واعية بالخصائص الثقافية والقيمية لذلك المجتمع ؟
إن
الإرث الذي ينهل منه اليوم طلاب علم الاتصال على اختلاف بيئاتهم زماناً ومكاناً، هو
نتاج ثقافة وبيئة واحدة، هيمنت بخصائصها
ومعطياتها الإنسانية الفكرية والسلوكية على واقع العلم، فاختارت اتجاهاته، ورسمت
نماذجه وبنت نظرياته على قواعد صلحت للزمان والمكان اللصيقين بتلك الثقافة. وبذلك
فإن طالبي هذا العلم البعيدين عن الثقافة المبتَدِرة، إنما يتلقون –حين يدرسون-
علماً قد تصلح بعض معطياته للتعميم، ولكن جزء كبيراً من مستحدثاته يقوم على خصوصية البيئة التي تجعل نمذجة
التجارب والنظريات، وقبولها في غيرها من
البيئات خطاً يرقى في بعض حالاته إلى الخطيئة.
إن طلابنا في العالم العربي والاسلامي، درسوا ويدرسون
علم الاتصال بما ساد من نظرياته في زمان ومكان بعيدين كل البعد عن عالمهم وواقعهم
الثقافي. لقد ازدحمت قاعات الدراسة في كليات الإعلام في العالم العربي والإسلامي
بحفظة نظريات الصحافة الأربع، وتلاة نماذج بيرلو،وشرام، وشانون، ودعاة الإيمان
بتأثير وسائل الإعلام السحري المباشر كالرصاصة، وغير السحري وغير المباشر المتعدد
المراحل، ولاحقا ببناة فكر اتصالي لحمته
وسداه نماذج المدرسة النقدية المولودة من رحم المدرسة الفرانكفورتية.
والوقع
أن سيادة النماذج والفكر الغربي في مجال الإعلام والاتصال، لا يقع وزره على زملائنا
الجيل الأول من أساتذتنا الاتصاليين، بقدر وقوعه في عُبِّ الساسة والمفكرين العرب
والمسلمين. فالذي سيَّد الفكر الاتصالي الغربي، هو سيطرة الفكر السياسي ونهج
الاقتصاد الغربيين في أوطاننا، حنى صار نمط الحياة والسلوك موازياً في كل شيئ لذلك
الغربي منهما. ولم يكن الإعلام ،مهنة
وعلماً، بعيداً عن الفكر اللبرالي الرأسمالي، فالاتصال في أساس الفكر الغربي هو الناقل للفكر والباسط لمحاسن الفعل والسلوك،
فلا تقوي فكرة فيه أن تسري، أو سلوك أن يسود إلا باتصال مؤمن بالفكر، ومتفاعل مع الفكرة.
التداخل
الإبيستيمولوجي بين الاقتصاد والاتصال
إن
نموذج التكامل المعرفي بين الاقتصاد
والاتصال –في منظومة الفكر الغربي- نموذج مشهود له من المفكرين والمنظرين في كلا الحقلين. فلا
إنكار لتلك الصلة الوثيقة بين نمو المدارس الفكرية الاتصالية في حضن الاقتصاد
الرأسمالي وارتباط التطورات الفكرية في علوم الاتصال بمناهج المدراس الاقتصادية
الغربية القائمة على الملكية الفردية ومبدأ
سوق التنافس الحر.
وتلخيصاً
لواقع العلاقة بين الاقتصاد والاتصال في منظومة الفكر الغربي، يمكن القول بأن
الاتصال نما في حضن الاقتصاد الذي شكل له المهد في حركة التنظير الفكري. وهناك
مثال شديد الوضوح لمثل هذه الصلة الفكرية بين الحقلين تقدمه لنا نظرية افتصادية
غربية شهيرة سادت في حقبة الستينات هي نظرية النمو الاقتصادي للمفكر وليم روستاو ،
وهي النظرية التي قدمها صاحبها كنموذج للنمو الاقتصادي المنافس للنموذج الشيوعي
الذي كان مطروحاً بقوة وقتها.
لقد
جاءت نظرية روستاو في كتاب شهير: مراحل التطور الاقتصادي stages of economic growth ،طرح فكرة التنمية الاقتصادية بوجهها الرأسمالي
باعتبارها حتمية تاريخية لا يمكن الإفلات منها. وتكمن فكرة روستاو في أن كافة المجتمعات لابد أن تمر بمراحل خمسة على
طريق تطورها، هي:
1- مرحلة المجتمع التقليدي Traditional stage
2- مرحلة ما قبل الانطلاق pre take off stage
3-
مرحلة الانطلاق take
off stage
4- مرحلة النضج maturity stage
5- مرحلة الاستهلاك الجماهيري
mass consumption
stage
ويتضح
من خلال مراحل هذا النموذج النظرة الاستعلائية الغربية West-centric ، التي سادت الفكر الغربي منذ منتصف القرن الماضي،
والتي اعتبرت المجتمعات التقليدية (حالة تخلف) ينبغي الفكاك منه بالانطلاق إلى
رحاب "النضج" حتى الوصول إلى المبتغى وهو حالة المجتمع الاستهلاكي
الشامل. و كان عدد من مفكري العالم الثالث قد بدأوا في نقد هذه النظرية منذ نهاية
ستينيات وبداية سبعينيات القرن الماضي، باعتبارها دعوة لسلوك دول العالم الثالث
طريق التطور الرأسمالي عبر التمسك بنموذج التنمية الاقتصادية الغربي القائم على
نمط المجتمع الاستهلاكي. وقد اعتبرت أفكار روستاو مظلة لتيار الهيمنة الغربية الذي
ساد من بعد انحسار حقبة الاستعمار ، وهي الأفكار التي نادت بوجوب اتباع الدول
المستقلة حديثاً نمط نظام سياسي غربي تسود فيه الأحادية في الاقتصاد والسياسة
والاجتماع، وتتخلص فيه الدول الحديثة من
أنماط الثقافات والقيم ومناهج السلوك الجمعي السائدة، لتتجاوزها إلى رحاب نظام سياسي واقتصادي واجتماعي مقلد للنظام
الغربي يضمن لهذه الدول نمواً ونهضة، وتقدماً اقتصادياً تسود فيه الكفاية وتتمدن
فيه القرى وتتحضر فيه البوادي. ولكي يحقق مثل هذا الاختيار أهدافه في نهضة
المجتمعات الجديدة، فإن القيم والثقافات
التي تتعارض مع النمو الاقتصادي ينبغي أن تستبدل ويحل محلها فكر قابل للتطور، يتبني
سياسات تقوم على هدم القديم ونبذ التقليدي باعتباره معوقاً لحركة الانطلاق.
لقد
كان نموذج روستاو هذا أحد دعامة الفكر الإمبريالي الذي نادى بأن المجتمعات
المتخلفة لا ينبغي أن تترك لكي تنمو نمواً طبيعيا متدرجاً، بل ينبغي أن يتم فيها التدخل intervention ، لكي يحدث النمو الاقتصادي عاجلا
وبإرادة القوى المهيمنة. وقد صار نموذج روستاو إنجيل الاقتصاديين الغربيين الذين
بدأوا في التخطيط لدول العالم الثالث (أو النامي) في ستينيات القرن الماضي، فخرجوا
لها بوصفة تقوم على بناء اقتصادها على خطى الاقتصادي الغربي، القائم على التصنيع الثقيل باعتباره
سبيل النهضة الاقتصادية. وقد صارت أفكار روستاو وأشباهه من الاقتصاديين، هي الوصفة
السحرية التي قدمتها الدول الغربية إلى مستعمراتها المستقلة حديثاً، فنهض في تلك
الدول جهد محموم سعى لبناء اقتصاد يقاربها من اقتصاد الغرب القائم على التصنيع، ولما
لم تكن تلك الدول تمتلك مقومات التصنيع، فقد اعتمدت على المستعمر السابق في
التخطيط والتنفيذ حتى نمت علاقة اعتماد تام من قبل دول العالم الثالث على الدول المستعمرة، عرفت في القادم من
حقب بعلاقة الاعتمادية dependency.
وكانت
فكرة التحديث modernization هي وسيلة التحول من المجتمع التقليدي traditional إلى المجتمع الحديث modern،
ولكنها جاءت وصفة غربية قائمة على فكرة تغيير
واقع الوجود ، بتمدين القرى ، وتسييد نمط سلوك غربي، يتم من خلاله، حسب مفهوم روستاو، القفز من مرحلة المجتمع التقليدي،
إلى مرحلة التحضر الذي يسود فيه نمط الاستهلاك كأحد وجوهه الاقتصادية.
نموذج
ليرنر الاتصالي
ولكن
كيف يمكن للغرب بيع فكرة النمو الاقتصادي ذي الملامح الغربية إلى جمهور العالم
النامي؟ فصحيح أنه لم يكن لدي الغرب كثير مشكل في بيع النموذج الاقتصادي للصفوة
من أبناء تلك المجتمعات التي تعلمت وعملت وكونت
فكرها في البيئة الغربية، ومن ثم صارت تلك الصفوة هي المبشرة بالنموذج الغربي باعتباره
وسيلة الخلاص من إسار القديم المتخلف، والانطلاق إلى رحاب الجديد المتحضر.
لقد
جاء ذلك في إطار نموذج اتصالي تلى
نموذج روستاو، وقدم للغرب الوصفة المناسبة لبيع أفكار روستاو للجمهور العريض من أبناء العالم النامي.
كان
دانييل ليرنر هو صاحب النموذج المتوافق مع نموذج روستاو، فقد بني ليرنر على فكرة التحديث
modernization المأخوذة من الفكر الاقتصادي
الروستافي ، فكرة العصرنة والتحديث التي قدمها في نموذجه الاتصالي. فحسب نموذج
روستاو، لن تتحقق التنمية إلا إذا تم الفكاك
من إسار المجتمع التقليدي والانطلاق إلى رحاب المجتمع الحديث، ولكي يحدث ذلك لابد
من الالتزام بالنمط الماثل نموذجاً، وهو النمط الغربي. باختصار، كان التحديث يعني
الغربنةwesternization .
لقد
رأي ليرنر في وسائل الاتصال الجماهيري الوسيلة الأكثر قدرة على تحقيق أهداف
التحديث كما قدمها روستاو وأشباهه من المفكرين الاقتصاديين. فهي يمكن أن تكون وسيلة
الانتقال من المجتمع القليدي (المرحلة الأولى في النموذج الروستافي)، إلى المجتمع
الاستهلاكي (المرحلة الأخيرة). ولكن لن يحدث ذلك إلا بالتخطيط الدقيق، فالوسيلة
وأثرها موثوق بهما بحكم النظرية الاتصالية الأكثر سيادة وقتها – سمها الرصاصة
السحرية أو الأثر المباشر- ، وكان مطلوباً أن يتم التخطيط ليكون محتوى الوسيلة
متجهاً نحو هدف التحديث. اعتبر ليرنر وسائل الإعلام الجماهيرية وسيلة نقل
المجتمعات المتخلفة والتي تناولتها دراسته (تركيا، مصر، لبنان، سوريا الأردن إيران)
من التقليدية إلى العصرنة. وتركزت أفكاره حول وجوب التدخل لإحداث التغيير (عبر
وسائل الإعلام) في أنماط الفكر والسلوك في أفراد المجتمع التقليدي، باعتبار أن ذلك
التدخل يشكل الظروف المساعدة لحدوث الانطلاق التي وصفها روستاو. "فالظروف
المساعدة" تكمن في ذلك الوعي الذي تخلقه وسائل الاتصال الجماهيري وسط الجمهور
بحتمية الخروج من التقليدي من أجل الوصول إلى نموذج الحداثة.
نموذج
ليرنر: الاتصال في خدمة الفكر اللبرالي
لقد
كان من الطبيعي والمنطقي أن يغرق نموذج ليرنر في بيئته؛ فالفهم الغربي الأوروبي
للنهضة الاقتصادية –حسب روستاو- هو في
سيادة الاقتصاد الحر واعتماد التصنيع الثقيل، في إطار فكر سياسي لبرالي. ومن ثم
فإن النموذج الاتصالي المنبثق من مثل هذا الفكر،لا يمكن أن يكون إلا نموذجاً يثبت أركان اللبرالية القائمة على اقتصاد السوق الحر.
لهذا
فقد ارتبط نموذج ليرنر الاتصالي – في فكرته المركزية- بترويج الفكر السياسي
اللبرالي وتثبيت دعائم الاقتصاد الرأسمالي. إن دانييل ليرنر في أساسه هو مفكر
اجتماعي قبل أن يكون باحثاً في علم الاتصال، تماما كما هو الحال بالنسبة لهارولد
لاسويل الذي يعتبره الكثيرون الأب الشرعي لعلم الاتصال، والذي جاء اهتمامه
بالاتصال وأدواته (الإعلام) من واقع اختصاصه في علم الاجتماع السياسي. والواقع أن
كلا المفكرين يقدمان لنا النموذج الأمثل لحالة ارتباط الفكر الاتصالي بالواقعين
السياسي والاقتصادي الغربي، فالإثنان بنيا إسهامهما في مجال الاتصال على قاعدة
وجودهما وانتمائهما للفكر اللبرالي. وقد بنى من تلاهم من مفكرين فكرهم قريبا من
ذلك، إلا في حالات قليلة - كحالة إيفريت
روجرز كما سنوضح بعد قليل.
لقد
بنى ليرنر نموذجه على فرضية أساسية مستلهمة من فكر روستاو وهي : أن المجتمع
التقليدي سيزاح لمصلحة المدنية والتحضر عندما يحدث وعي اجتماعي بقيمة التحديث
وأثره، وذلك من خلال تعرض المجتمع إلى
وسائل اتصال جماهيرية تمكنه من المقارنة بين التقليدي والحديث، وتؤدي به في
المنتهى إلى الانحياز نحو الحداثة بل وإلى
تقمصها.
لا
يحتاج القارئ لكثير تمعن ليعرف أن نموذج
ليرنر منحاز بكامله لفكرة التحديث في إطارها الغربي: نظام سياسي ومنهج اقتصادي وسلوك اجتماعي. والنموذج يعتبر وسائل الاتصال الجماهيري (أو
وسائل الإعلام) وسيلة التوعية بالنموذج الغربي للتحديث وسط أفراد المجتمع، ويرى أن
ذلك لن يحدث إلا بوجود "تدخل" intervention ، يتم التخطيط له عبر سلطة مركزية تتطلع إلى إحداث التحديث كما هومأمول.
بمعنى آخر يجب أن تكون أدوات الاتصال في
يد السلطة التي تخطط لإحداث التغيير.
وبذلك يكون هذا النموذج قريباً جدا من نموذج الدعاية الهتلرية المعروف
بالبروباقاندا propaganda النازية.
ومن
نافلة القول اليوم أن نعيد التذكير بأن هذا النموذج، نموذج ليرنر، صادف هوى
ومزاجاً عند عدد من قادة العالم الثالث في بدايات الستينيات من القرن الماضي،
سنوات كان الأفارقة والأسيويون والعرب على أبواب الاستقلال أو في أتون معاركه. فقد
وجد قادة تلك الشعوب في النموذج مبررا منطقياً لدعوتهم لبقاء وسائل الاتصال في يد
السلطة -وهم هي- ، لتكتمل بذلك لهم أدوات السيطرة على المجتمع:
صادف النموذج هوى لدى ساسة ذلك الزمان، فوسائل
الإعلام هي أدوات تغيير المجتمع الموثوقة
النتائج ، وهي أدوات التعبئة لاستنهاض الامة لبناء ذاتها، وهي أدوات التعليم
والبناء السياسي،
بمثل
هذه المهام الجسام، كيف لأدوات تغيير المجتمع النامي أن تكون في يدٍ غير يد
السلطة،..
وكيف
يمكن أن تترك دون تسييجها بالقوانين التي تمنع توجيهها لغير هدف التغيير، حتى ولو
أدى ذلك إلى الحد من حريتها في النشر والنقد والتوجيه.
لقد
فتح نموذج التحديث لدانييل ليرنر أبواباً واسعة لولوج أفكار سلطوية إلى قلب الفكر
اللبرالي الذي أراد له أساطينه أن يسود. فقد تبنى ساسة عديدون في العالم الثالث
النموذج باعتباره وسيلة لبناء مجتمع ناهض حديث تسيطر فيه الصفوة ، وتوجه وسائل
الإعلام فيه وجهة آحادية انتهت بالسيطرة السياسية لتلك الصفوة، دون أن تبلغ غايات
النمو الاقتصادي المنشود للمجتمع. وكان من ناتج تلك السيطرة الصفوية أن تململت قوى
المجتمع، وعبرت عن نفسها بسبل شتى كان بعضها عنيفاً عصف بسيطرة الصفوة السياسية
وخلخل أركان النظام الاجتماعي.
نموذج روجرز
: استلهام المجتمع وسائل تغييره
لم
يكن نموذج الاتصال الاجتماعي الذي طوره إيفريت
روجرز، بعيداً عن حركة التململ التي عصفت ببعض أركان المجتمعات في دول العالم
الثالث. فقد فشلت نظريتا ليرنر وروستاو في وضع العالم الثالث على منصات الانطلاق
الاقتصادي، بل وتفاقمت مشكلات المجتمعات النامية التي جعلت من نبذ التقليدي من
أنواع التفكير ومناهج السلوك وأنماط العيش، طريقاً للتحديث. وقد عاد روجرز- بعد
رؤيته لمآل أفكار ليرنر- ليحمل لواء الدعوة
إلى استلهام المجتمعات التقليدية، وليس المجتمع الغربي، مقومات السلوك المفضي إلى
النمو والتقدم. وصار عصب الفكر عند روجرز
هو في سبر غور المجتمعات التقليدية للوقوف على مفاتيح التأثير فيها، واختيار
مناهج التأثير الأكثر مواءمة لكل مجتمع
وبيئة. وجاءت نظريته انتشار المبتكرات Diffusion of Innovations مستلهمة عدة نماذج من بيئات ثقافية واجتماعية متباعدة: من تنزانيا
، إلى الهند ، فالصين، فكوريا ، طرح من خلالها رؤيته لانتشار أفكار التغيير
الاجتماعي في مثل تلك المجتمعات عبر مراحل اتصالية متداخلة ومتوالية، تلعب فيها
الفئات الاجتماعية المختلفة دورا أساسياً. لقد بنت نظرية انتشار المبتكرات لإيفريت
روجرز فكرتها المفصلية على أن الاتصال الاجتماعي المباشر له موقع القوة في تدفق الرسالة عبر النسيج
الاجتماعي من مستوى إلى آخر. وسعت
النظريةإلى وضع البيئة الاجتماعية في قلب
حركة الاتصال، ودفعت بوجوب استلهام ثقافة وقيم البيئة أساليب ووسائل الاتصال والاقتراب:
بالرقص في مكان..بالغناء في آخر، بالشعر في جهة، وبالخطابة في أخرى.. بالتلفزيون
هنا، بالإذاعة هناك.. وهكذا.
التغيير
إذن –حسب مفهوم روجرز- رهن بخصائص المجتمع وثقافته، والتحديث لا يكون بالدفع من
علٍ. والناس –عند روجرز- درجات في
استيعابهم للأفكار والمعلومات، ودرجات في استجابتهم للمحفز. والوصول إلى مفاتيح
التأثير على الناس، إنما رهن بالقدرة على استلهام واقع المجتمع وثقافاته أدوات
تحفيز الأفراد لتغيير واقعهم.
ورغم أن روجرز يبدو مقترباً
بطرحه هذا، بما ننادي به هنا، إلا أنه لم يبتعد كثيراً عن رؤية التغيير
والتقدم رهنا بنمط الحياة والسلوك الغربيين.
ولا تثريب عليه في ذلك، فهو بن بيئته.
دراسات
الاتصال والمجتمع
لقد
استعرضنا فيما مضى من الفقرات، نظرية
واحدة لنبرهن أن الاتصال ودراساته ونظرياته غربي المنبت، وأن تطبيقاته على غير
الغربي لا يلقى الرضى والاستحسان، حتى من أصحاب الفكر الغربي، كما رأينا في حالة
روجرز.
وقد
نقترب أكثر من غرضنا لو وصلنا حديثنا بدراسات الاتصال والمجتمع، بحثاً عن إمكانات التعميم الممتد -زمانا ومكاناً - في مثل تلك الدراسات. فدراسات الاتصال والمجتمع التي يتعرض لها طلاب هذا
العلم، متفرعة ومتشعبة، بعضها يقوم على تحليل دور الاتصال في بقاء ونمو
وازدهار المجتمعات، وبعضها يتعلق بأثر الوسائل على أفكار وآراء ومواقف
ومعتقدات أعضاء المجتمع، منفردين او
مجتمعين. وبعض تلك الدراسات يتصل بأثر المجتمع - واقعه وخصائصه السياسية والاجتماعية - في دور ومكانة المؤسسات
الاتصالية، وفي ملكيتها ومحتواها.
وبذلك
تنقسم هذه الدراسات بين نوعين: نوع يتناول
أثر وسائل الاتصال في المجتمع، وآخر يتناول
أثر المجتمع في محتوى وممارسة الوسائل. مثالنا في ذلك مجموعتان من النظريات، هما مجموعة
نظريات الاثر media effect theories، ومجموعة النظريات المعيارية normative media theories . فالأولى تعكس دور
الوسائل في المجتمع، والثانية دور المجتمع في شكل وممارسات الوسائل.
من
أمثلة المجموعة الأولى- نظريات الأثر: نظريات الرصاصة السحرية، وترتيب الأجندة، والاستخدامات
والتشبع، والحصاد الثقافي، والتأطير. ومن أمثلة الثانية- النظريات المعيارية:
نظرية نماذج الصحافة الأربعة، نماذج وليم رو للصحافة العربية، نموذج وليم هاشتن، ونموذج
ميريل ولوينشتاين.
تصلح
النظريات المعيارية لقياسها بمقياس
صلاحيتها للتعميم واتخاذ النموذج الذي نترافع ضده في هذه الورقة. ودعنا نبدأ بنظرية
أنظمة الصحافة الأربعة التي يعرف كل مطلع
في العلم أنها بنيت على دراسة تاريخية وصفية تناولت الصلة بين التطورات السياسية
التاريخية في أوروبا منذ عصر التنوير،
مروراً بالثورة الفرنسية، ووصولاً إلى التطورات السياسية التي تلت الحرب الأهلية في الولايات المتحدة وقيام الثورة
البلشفية التي أدت إلى قيام الاتحاد السوفيتي.
بنى
أصحاب النظرية الثلاثة، أربعة أنظمة صحفية اقترحوها في ارتباط وثيق بالواقع السياسي الذي
ساد في تلك الفترات التاريخية المذكورة.
وظلت النظريات الأربعة تحكم الواقع النظري لعلاقة الإعلام (أو الصحافة)
بالمجتمع ممثلا في نظام الحكم فيه لزمان طويل. وظلت علاقات وسائل الإعلام بالمجتمع
على المستوى النظري الأكاديمي، مجمدة في هذا القالب الذي صنعته نظرية الصحافة ذات
الأربعة أشكال، حتى نهاية الخمسينات حين تدخل عدد من الباحثين مقترحين نماذج أخرى.
من
أولئك الباحثين رالف لوينشتاين وجون ميريل، واللذان اقترحا نموذجا يستوعب تطورات
الفكر السياسي والممارسة السياسية في الغرب، فاقترحا ثلاثة نماذج: نموذج صحافة
حكومية، وصحافة خاصة، وصحافة حزبية، تستند على خمس فلسفات: سلطوية، اجتماعية
سلطوية، حرية، اجتماعية حرة، واجتماعية وسيطة. ثم عاد ميريل وقدم – فيما بعد- نموذجا
آخر ربط فيه بين التطورات الفكرية
السياسية الغربية وبين تطور علاقة وسائل الإعلام بالمجتمع، فمن الفكر السلطوي
المطلق وحتى حالة الفوضى، هناك مكان ودور لوسائل الإعلام تصنعه الفلسفة السياسية،
وتسيِّجُه الدولة (المجتمع) بالقوانين.
أما
وليم هاشتن، فقد قدم في بداية السبعينيات، نموذجاً استوعب فيه نواقص نماذج
السابقين عليه، فأدخل نموذجين جديدين هما
نموذج الصحافة الثورية، والصحافة التنموية. وقد عكست هذه التحولات في النموذجين
الرغبة في إدخال العالم الثالث في منظومة النظم الصحفية الغربية، وذلك بالنظر من
زوايا الفكر السياسي والفلسفة السياسية الغربية.
وليم
رو و"متقلب" النظام الصحفي العربي:
من
بين النماذج التي نراها تستحق المعالجة المتأنية في سياق هذا الورقة هو مجهود
الدبلوماسي الامريكي السابق وعضو معهد الشرق الأوسط والخبير في أمور منطقة الشرق
الأوسط وخاصة صحافتها، وليم رو.
والواقع
ان نموذج رو – بل قل نماذج رو- يقدم لنا من ضمن ما يقدم، الدليل على خطأ وخطل التفصيل المسبق للأنظمة
والعلاقات الاتصالية داخل الأنظمة الاجتماعية. كما يقدم دليلاً شديد الدلالة على أن التمثل بالنماذج الغربية قد لا يفضي إلى
سواء السبيل. لقد بدأ وليم رو دراساته عن الصحافة العربية في كتابه
الأشهر الصادر عام 79، فاقترح فيه نموذجا ذي ثلاثة فصائل لفهم وتحليل الإعلام العربي هي الصحافة التعبوية،
والصحافة الموالية، والصحافة المتنوعة. وقام في ذلك الكتاب بتصنيف الدول العربية
إلى تلك الفصائل الثلاثة.
بعد
عشر سنوات من طبعة كتابه الأول، عاد رو عام 89 وأعاد ترتيب العالم العربي ليستوعب
متغيرات حقبة من الزمان، فاحتفظ في إصدارته الجديدة بالأصناف الثلاثة، ولكنه أعاد
ترتيب مواضع الدول في المجموعات الثلاثة.
في
عام 2004 أعاد وليم رو كتابة مؤلفه الأول حول الصحافة العربية تحت مسمى جديد:
"وسائل الاتصال الجماهيري في العالم العربي: الصحافة والإذاعة والتلفزيون في
السياسة العربية". وقام فيه بإعادة
النظر في نموذجه الأصلي، بعد أن أعلن أن العالم العربي صار أكثر تعقيداً من أن يتم
استيعاب تنوع وسائل إعلامه في ثلاثة نماذج، فرفع عدد أنواع الصحافة إلى أربعة،
وقام بإعادة ترتيب المجموعات بنقل دول من مجموعة إلى أخرى، كما ناقش باستفاضة
التحولات السياسية التي اكتنفت المنطقة خلال عقدي الثمانينيات والتسعينيات.
استلهام
نماذج الآخرين: ميراث الفشل
ليس
هناك شك في أن فشل نموذج وليم رو في ثبات
التفسير الصائب للواقع الإعلامي العربي، هو دليل على فساد الالتزام بالمعايير والمقاييس
الغربية عند قياس الآخرين. فقد فشل نموذج رو لأن العالم العربي بات شديد التغير،
سريع الانتقال من واقع إلى آخر حتى صعب على وليم رو وأمثاله من الباحثين، استيعاب متغيرات البيئة
العربية، فلم يجد إلا أن يقترح نمطاً
صحفيا رابعا سماه (الصحافة الانتقالية) ليفسر به نوع العلاقة بين الصحافة والدولة في
عدد من الدول العربية منها مصر وتونس
والجزائر والأردن. ولعله ليس صعباً على الدارس لواقع الصحافة العربية في تلك الدول
خلال فترة ما قبل الربيع العربي في 2011، لا يصعب عليه ملاحظة غياب أي رابط
يربط صحافة تونس بصحافة الأردن أو مصر، إلا تلك العلاقة المتعلقة بمدى اقتراب الأنظمة
السياسية في مجموع هذه الدول من شكل النظام الصحفي اللبرالي الغربي ( نظام الحرية).
وإذا صحت تلك الملاحظة، فإنه بذلك يتأكد تمركز الفكر الغربي في عمومه حول حالة الاستعلائية
الغربية باستمرار طرحها لنماذجها الصحفية –
من حيث مساحة الحرية ونوع الملكية- نماذج قياس للاحتذاء benchmarking models .
ويمكن بذلك القول أن باحثاً مثل
رو يعتبره الكثيرون مرجعاً في فهم السياسة
والصحافة العربية، فشل في رؤية الواقع العربي بيئة وديناً وثقافة، كافياً لتقديم
نموذج عربي أصيل لا يجتر بالضرورة من نماذج
الغرب قواعده، وإنما يستلهم – في معطياته
واتجاهاته - خصائص بيئته العربية
الإسلامية.
خطأ التعميم في نظريات الاتصال
إن
أي دعوة للحديث عن كونية universality الفكر الاتصالي
دعوة قابلة للتجريح.
فالنقل
المسطري من تراث علماء الاتصال إلى غير بيئتهم، والتطبيق الحرفي لمناهج بحث علوم
الاتصال في كل مكان، والتمسك بشمولية أثر وسائل الاتصال على كل بيئة، أمرٌ يشوبه
الكثير من ضيق الأفق الفكري، وينم عن ضعف الحساسية الأكاديمية تجاه خصوصية البيئة الاجتماعية
.
دعنا
نأخذ واحدة من النظريات الأكثر تناولا في فصول الدراسة في العالم الغربي، والعالم
العربي والإسلامي أيضاً: نظرية ترتيب الاجندة.
دون
الخوض في استعراض ممل للنظرية دعونا نعتبر جوهرها الذي يقول أن وسائل الإعلام هي
التي تحدد للمجتع ما يفكر فيه، ومن ثم تجعل موضوع التفكير "مسألة
مجتمعية" يمكن –حسب الفكر الاتصالي الغربي -أن تكسر أو تصنع ساسة وحكومات.
إذا سلمنا -استناداً على
جدلية الفكر الغربي- أن الوسائل الإعلامية يمكن أن يكون لها مثل ذلك الأثر، فإن
أخذنا بمثل تلك الجدلية وقبولنا بها لقياس
الأثر في مجتمعاتنا العربية الإسلامية، هو خطأ إبيستيمولوجي وفكري. يجب أن نتذكر أن الباحثين الغربيين الذين بحثوا
في قضية الصحافة ودورها في ترتيب الأجندة، اسبعدوا أثر الجماعة في تكوين "رأي
المجموعة"، لأنه، أصلاً، ليس للجماعة
في منظومة الفكر الاجتماعي الغربي كبير
اعتبار. وذلك سببه القواعد الفلسفية التي
يقوم عليها الفكر الغربي من حيث إعلائها للفردية وارتهانها لسعادة الإنسان بوجوده
الحر، المحاط بأقل قدر من القيود في إطار الجماعة. ولهذا فإن اخذ الاتصاليين العرب
والمسلمين- وغير العرب وغير المسلمين في العالم غير الغربي- بنهج الفكر الغربي واعتبار مجتمعاتهم قائمة على
الأحادية والفردية، أمر يبعث على
الاستغراب.
وبمثل
هذا الفهم يصبح السؤال المشروع هو: من يرتب الأجندة السياسية في عوالمنا غير
الغربية؟
هل
حقاً لوسائل الإعلام ذلك الدور المحيط الذي يصبغه الفكر الغربي لها في المجتمعات
الغربية؟
هل
حقاً وسائل الإعلام هي محور وركيزة التفكير السياسي الجمعي على نحو ما طرح
الاتصاليون السياسيون الغربيين من أمثال إليزابيث نويلا نويمان، في رؤيتها للولب
الصمت الذي تسهم في تعميق لولبيته الوسيلة
ومحتواها، أكثر من تواصل وتفاعل البشر؟
ثم
ما هو ما هو دور الجماعات – في المجتمعات غير الغربية- في ترتيب أجندة الوسيلة
نفسها؟ أليست هموم وقضايا الناس هي التي تشكل اهتمامات الوسيلة في مجتمع تتماسك
فيه الجماعة وتجد المؤسسات الإعلامية- بمالكيها ومحرريها- نفسها جزء من
"الجماعة"؟
وإذا
كان الحال كذلك، فإن سطوة وسائل الإعلام المنظَّر لها في المجتمع الغربي، قد لا
تنطبق بحرفها ونقطتها في غير العالم الغربي، خصوصاً إذا ما أخذنا في الاعتبار بعض
المعطيات والمتغيرات الاجتماعية المهمة، من تعليم ودخل وتعرض للوسائل الإعلامية،
والتي يقاس من خلالها -عادة- أثر الوسيلة الإعلامية.
يمكن
بالطبع القول بأن الصفوة الاجتماعية في المجتمعات التقليدية لها موقع الريادة في
قيادة الرأي الاجتماعي، وقد يقول الذي يود أن يحتج بقوة أثر الإعلام في ترتيب
الأجندة، إنها تقود الرأي بما هو في
الوسيلة. ولكن ذلك عندي غير صحيح، فالصفوة في عوالمنا صفوة قامت وتقوم على مبادئ ومواقف فكرية مسبقة، لا يغير منها
محتوى وسيلة إعلامية كثيراً. وبذلك يصبح القول بأثر الوسيلة في قيادة الرأي قولاً يصعب وضع البراهين عنه أمام المحتج عليه.
البحث العلمي في الاتصال
وغير الاتصال
وليس
أمر ضعف الحساسية الأكاديمية تجاه خصوصية البيئة الاجتماعية، وقفاً على تطبيق
نظريات الاتصال في غير محلها. بل هو الحال
هو عينه في مجالات البحث العلمي في عدد من العلوم الاجتماعية، والتي أهلك السعي
نحو العلمية فيها ظهرها، حتى صارت مسخاً مشوها يكرر فيه غير الأهل ذات الفرضيات
ويعددون ذات المتغيرات ، ويقدمون نفس التعريفات إجرائية وعملية. فيصلون إلى ذات النتائج: أثر من بعد فعل، ونتيجة من بعد تجربة، ويضربون بصدقية النتائج
فيها مهما تغيرت العوالم.
إن
المتأمل في أمر البحوث الاجتماعية بحساسية،
لا يفوته أن يسأل غيره من فاقدي الحساسية الأكاديمية:
ما
هو مكان منهج بحثي غربي كالمسح الاجتماعي في مجتمعات شرقية تترابط قواها وتقوم أركان دعائمها على اللحمة. في مثل تلك
المجتمعات التي يغيب فيها الفرد في خضم الجماعة، ويذوب الخاص في محيط العام، هل
تصلح "العينة"، على اختلاف
أنواعها، مقياساً لأثر فعلٍ ما، أو متغيرٍ ما ، على تلك الجماعة؟
هل
تصلح أنظمة العينات عشوائية كانت أو عمدية، بسيطة كانت أو مركبة، لتكون دليلاً على قوة الموضوعية وثبات الصدقية في مجتمعات أهم
خصائصها الكلية قبل النسبية، والتجمع قبل التشتت؟
هل
تصلح المقابلة – كنوع من أنواع المسح – لاستخراج المعلومات الصادقة من أفراد مجتمع
متماسك حتى يصير الفرد الواحد قليل الإحساس بقيمته منفصلاً عن الآخرين؟
لا
ينبغي اعتبار كلامي هذا دعوة للتطرف
الثوري الأكاديمي ، أو للانقلاب الفكري على كل نهج من مناهج الفكر الغربي. فذلك
بالقطع غير مجد وغير علمي،
الدعوة
هي في استلهام واستنباط واقعنا، واعتبار مناهج حياتنا، وأنماط فعلنا وسلوكنا، لوضع أسس الفكر الاتصالي الأصيل، وهي بذلك دعوة
لا تلغي الفكر العلمي الغربي، بل تبني عليه. وفي بنائها على الفكر الغربي،
تأخذ من معطيات فكرنا، وتستلهم تراثنا
لتقدم نموذجاً ذي هجنة فكرية تقوي منه وتجعله صالحاً للتعبير عن واقع مجتمعاتنا
وغير بعيد عن ساحة الفكر الاتصالي العالمي.
تهجين
الفكر الاتصالي: الاتصال والمجتمع نموذجاً
ربما
يكون المخرج من شراك البقاء في قوقعة الفكر الاتصالي الغربي، هو في ابتداع أساليب
للمقاربة والمعالجة لا تنقل –بالمسطرة- النماذج الغربية الاتصالية- نظريات وفرضيات
وبحوث- لتطبقها على واقعنا، بل تستنبط من فكرنا وتراثنا ما يعين على الفكاك من هذه
القوقعة.
ولا تجد الورقة مفكراً يعين
عمله الفكري على استنباط تراثنا الأصيل من أجل التنظير والبحث في مجال الاتصال
والمجتمع، أكثر من المفكر العربي المسلم
عبد الرحمن بن خلدون. فقد اعتبر بن خلدون،
الوجود الاجتماعي، ما أسماه ( العمران )، مقترناً أيما اقتران بمؤسسة الاتصال
الإنساني الراكزة، وهي اللغة. فهو يعتبر اللغة
أحدى مقومات العمران البشري في انتقاله من حالة البداوة إلى الحضارة. ويرى اللغة (أو الاتصال) أحدى أهم وسائل الحفاظ
على روح العصبية بين أفراد المجتمع.
فاللسان الواحد هو عنصر الاستمساك بالقيم الرواسخ، ووسيلة بث روح العصبية
والانتماء الجامع. ويمضي بن خلدون ليصف حال الانتقال من عمران البداوة إلى عمران
الحضارة، فيرى اختلافا بين لغة البداوة و
لغة الحضارة، ويجلي رؤيته أكثر بالقول إن أولى الأمر في عمران البداوة، يسهل عليهم
بناء العصبية على قاعدة لغة البداوة المشتركة، فإذا ما دخلوا عمران الحضارة
وجب عليهم استبدال المعطيات اللغوية لتثبيت دعائم العصبية في عمران الحضارة. وبذلك فإن اتصال البداوة الذي تتماسك به عصبية
المجتمع (العمران) مختلف عن اتصا ل عمران الحضارة، ففي كل تسود معان ومفردات
متشربة ألوان محيطها، ومغروسة جذورها في البيئة التي هي فيه. ويرى بن خلدون في
الانتقا ل من عمران البداوة إلى عمران الحضارة انتقالاً ضخماً تتخلخل فيه الثوابت
، وتتبدل فيه المراجع، حتى يصعب لغير الموجود في تلك البيئة استكناه معنى الأقوال
وتفسير فحوى الأفعال.
وقد استدل بن خلدون في
مقدمته على أثر البيئة في تكوين وتلوين ذخيرة الاتصالي، بقصة الشاعر علي بن الجهم
مع الخليفة المتوكل، والذي انتقل من بيئة بداوة جعلته لا يرى عيبا في مدح الخليفة
بالكلب والتيس والدلو، إلى بيئة حضارة في ضفاف دجلة وفي حضن العمران، جعلته يصف
العيون والهوى والعشق بما جعل المتوكل يصيح فيمن حوله "أوقفوه فإني أخشي أن
يذوب رقة".
لقد أفرد بن
خلدون فصلاً كاملاً في مقدمته للحديث عن اللغة ومكانها في تماسك المجتمع ونموه؛ فهو
يقول إن أهل الأمصار يستمدون التعبيرات والمعاني من واقعهم، حتى يضحى الاتصال
عندهم قائماً على خصائص أمصارهم، وطبائعهم الذاتية لكون وجودهم في تلك الأمصار. وبذلك يكون بن خلدون أول من
جعل البيئة عاملاً أولاً في تكوين الرسالة وفي فهمها، وهو في ذلك لا شك سابق كافة كتاب
ومنظري الاتصال الثقافي intercultural communication من أمثال قيرت هوفستيد Geert Hofstede و وإيدوارد هال Edward Hall الذان ابتدعا مفاهيم الأحادية والجمعية،
وأفكارا مثل المجتمعات ذات العتبات العليا
High threshold ، والمجتمعات ذات العتبات الدنيا low
threshold ، ومبدأ الزمن ذي البعد
الواحد monochronic والزمن متعدد الأبعاد polychronic وغيرها. ولا أريد أن أقطع بأن أفكارهما مستمدة
من فكر خلدوني، ولكني بالقطع قائل بأن مبدأ التراكمية في العلم الذي
جعل أفكار بن خلدون ملهمة لعلم الاجتماع،
يمكن لها أن تلهم أفكار باحثين وكتاب في واحد
من علوم الاجتماع.
وعلى صعيد المعطى النفسي في الاتصال، أجد بن خلدون قد طرق - منذ ستة قرون- أسس نظريتين من نظريات
علم نفس الاتصال، هما نظرية التنافر المعرفي cognitive dissonance لليون فستنقر، ونظرية الاستخدامات
والتشبع uses and
gratification، لجورج
قيربنر. لقد تحدث بن خلدون منذ ستة قرون، عن تعامل المتلقي مع الرسالة الاتصالية (الخبر)
قائلاً:
"... فإن
النفس إذا كانت على حالة من الاعتدال في قبول الخبر أعطته حقه من التمحيص والنظر
حتى يتبين صدقه من كذبه. وإذا ظاهرها تشيع لرأي أو نحلة، قبلت ما يوافقه من
الأخبار لأول وهلة، فكان ذلك الميل والتشيع غطاءً على عين بصيرتها من الانتقاء
والتمحيص، فتقع في قبول الكذب (الخبر) ونقله"[1].
يشير بن خلدون
هنا إلى أهمية الواقع النفسي للمتلقي في
تحديد أثر الرسالة. كما يشير إلى أن الرسالة المتوافقعة مع المعطى النفسي
للمستقبل، تلقى القبول والاستيعاب، حتى وإن كانت الرسالة كاذبة. وبذلك ضرب بن
خلدون بضربة واحدة كبد نظريتين ظن
صاحباهما أنهما الآتيان الأولان بهما. تقول الأولى أن المرء يتخير من محتوى
الوسائل ما يتوافق مع حاجاته النفسية العقلية، وتقول الأخرى أن عقل المرء يلفظ ما
يتناقض ومحتواه من المعرفة ويتقبل ما يتفق ومحتوى العقل.
نحو نموذج أولي لقياس أهداف وسائل الاتصال في المجتمع
لعله يمكن الآن الاختتام بطرح نموذج نريد أن نلخص به
فكرة استلهام البيئة والواقع في البحث والتنظير في علوم الاتصال.
ولا بد من التأكيد هنا
أن النموذج المطروح لا يستوعب كافة
مجالات الاتصال، و لا يصلح لمعالجة كل القضايا في هذا الحقل. بل هو نموذج نرمي به إلى
معالجة ما تم طرحه في بدايةهذه الروقة، وفي كثير من الكتب والمراجع حول خطل التعميم في علم الاتصال، وخصوصاً التعميم ذي
الصلة بالنظريات، وأهمها المعيارية ذات الصلة بالنظم الصحفية ، وعلاقات الصحافة
بالنظم السياسية والاقتصادية.
لقد
تم تطوير هذا النموذج ليلخص بشكل شامل حتمية
استلهام البيئة والواقع، لفهم واستيعاب مكانة ودور الاتصال وأدواته في المجتمع. وفي
سبيل ذلك يقدم النموذج مقترحا لتحليل خصائص المجتمع بشموليتها، مع المعطيات
الاتصالية يقوم على نموذج ذي خمسة
مقومات تشكل في تفاعلها النهائي معطيات النظام
الصحفي وشكل العلاقة بين المجتمع وأدوات اتصاله ودورها فيه.
يبدأ
النموذج بتحديد المعطيات الرئيسة للمقوم الأول (المجتمع) ذات الأثر الأساس في
بلورة ملامح العلاقة بين القوى المسيطرة
في أي مجتمع وبين وسائل الاتصال في ذلك المجتمع، ويفصل تلك المعطيات (أو المتغيرات)
تفصيلاً دقيقاً، ثم يقسم تلك المعطيات
الأولية تقسيماً سوسيولوجيا يحدد
المعالم التالية:
النظام
السياسي
النظام
الاجتماعي
النظام
الاقتصادي
النظام
الديني
المعطيات
الثقافية
البيئة
الجغرافية
ثم
يقوم النموذج بتشريح كل واحدة من هذ المعطيات ساعياً إلى تحديد ملامحها المميزة في المجتمع
تحت الدراسة، باعتبار أن المعرفة المتعمقة لهذه المعطيات هي الأساس في اختيار
المقوم التالي وهو مقوم النظام الإعلامي؛ وبدورها تفضي دراسة ملامح النظام
الإعلامي من حيث الفلسفة الاتصالية ونماذج
الملكية إلى تحديد المقوم الرابع، وهو السياسات الإعلامية، من حيث أهداف الدولة من
إعلامها، تغييراً للمجتمع وتنمية له، أو تثبيتاً لدعائم الاستقرارالسياسي
والاجتماعي فيه. أما المقوم الرابع فهو
مقوم الوسائل المختارة في تناسب وتناغم مع
ما تم تقديره من خصائص المقومات السابقة، ثم المقوم الأخير وهو مقوم الممارسات
الفعلية للاتصاليين، اعتماداً على ما تم تقريره من خصائص للمجتمع، وسياسات إعلامية
مبنية على النظام الإعلامي. وبذلك يتداخل النموذج ليقدم الصورة المتكاملة لتأثير
خصائص المجتمع في الخيارات الاتصالية الشاملة: أهداف وسياسات ووسائل وممارسات.
ثم
يتوج النموذج ليتم تطويره إلى آلية قياس predictor ، تمكن كل مستخدم من التنبؤ بأساليب
وأهداف وخصائص الاتصال في كل مجتمع ، ويسهل من التعرف على أنجع الوسائل المساعدة على
تحقيق الأهداف القومية للمجتمع.
|
|
|
|
|
|
|